الفصل 18: ملك أورشليم وابن داود

ملك أورشليم وابن داود

1- أختار الربّ داود

حين رأى أشعيا الربّ، رآه بشكل ملك تملأ أذيالُه الهيكل ، ويملأ السماء والأرض بحضوره. فالملك على الأرض رمزٌ لحضور عمل الله في شعبه وفي كل الشعوب. اختار الرب داود، وجعل داود أورشليم عاصمة مملكته، فنقل إليها تابوت العهد بانتظار أن يبني ابنُه سليمان الهيكل الذي يُلغي جميع الهياكل التي اعتاد العبرانيّون أن يؤمّوها في فلسطين.

ولكن هذا الملك فشل، كما فشل غيرُه من الملوك. داود دنّس يديه بالدماء التي سفك، فجعل في فمه ما قيل في مز 51:16: »تجنّي من الدماء، يا الله«. وسليمان أزاغت قلبَه نساؤه، فبنى لهنَّ الهياكل. فما تميّزت أورشليم، مدينة الله، عن المدن الكبرى التي كان لكل إله فيها هيكله. ولن نتكلّم عن رحبعام بن سليمان الذي بسببه انقسمت القبائل شمالاً وجنوباً. وملوك المملكة الشماليّة، بعاصمتها السامرة، لم يعد يذكرهم كتاب الأخبار بسفريه، لأنه لم يصنعوا القويم في عين الربّ.

ولم تكن الحال أفضل في زمان اشعيا وهو الذي عاصر عدداً من الملوك. دعاه الله »في السنة التي مات فيها الملك عزيا« (6:1) أي سنة 740 ق م. وعرف الملك يوتام. ولكنه تعامل بشكل خاص مع احاز (735، 715) الذي أراد أن يغطّي فشله بأبنيةٍ قام بها في أورشليم، من جرِّ مياه وتقوية الأسوار. ولكن إن هو استند إلى الله فلا حاجة إلى كل هذا. وإن هو استند إلى الأشوريين، تلك القوّة الضاربة، يمكنه أن يستغني عن مثل هذه التحصينات في وجه العدو الآتي من أرام أو افرائيم. أضاع الشعبُ عبادة الربّ، وأراد قسم منهم أن يتبع الملك في التحاقه بأشور وبآلهته القويّة، كما سيلتحق بعض المرات حزقيا بمصر التي سيدعوها اشعيا »القصبة المرضوضة التي هي عكّاز: إذا استند أحد إليه غرز في كفّه وثقبها« (36:6).

ويقول التقليد إن اشعيا مات في زمن منسّى، الملك الكافر، الذي دام حكمُه طويلاً بحيث تساءل الناس عن حكمة الله في إطالة عمر هذا الذي ازدرى بالله وما حسب حساباً للشعب فحاول أن يُلغي العبادة للربّ. في أي حال، بدا النبيّ وكأنه يحلّ محلّ الملك. لا بما هو شخص فرد، ولكن بما هو نبيّ، أي حامل كلام الله. خاف أحاز. خاف شعبه وارتجف. فدعاهم اشعيا إلى الإيمان. خاف حزقيا من تهديدات أشور. »فلما سمع الملك حزقيا، مزَّق ثيابه« (37:1). لكن اشعيا قال له: »لا تخف ممّا سمعته من تجديف عليّ من صعاليك ملك أشور« (آ 6).

2 - اختار الربّ الملك العتيد

فشل الملوك الواحد بعد الآخر. طلب سليمان »عقلاً مدركاً لأحكم شعبك وأميّز الخير من الشرّ« (1 مل 3:9). ولكنه في النهاية، استَعبد شعبه من أجل أمجاده، وما اختلف عن سائر الملوك، مع أن الله قال له: »أعطيك قلباً حكيماً راجحاً لم يكن مثلُه لأحد قبلك، ولا يكون مثله لأحد بعدك« (آ 12). وتحيّر ابنه رحبعام بين حكمة الشيوخ وحكمة الشبّان. ولم يكن الوضع مختلفاً مع احاز وغيره. فتهدّد اشعيا المدينةَ الخاطئة. قال: »حكّامك قومٌ متمرّدون، وشركاء لقطّاع الطرق« (1:23). هم »صبيان« (3:4) لم يصلوا بعد إلى التمييز بين الخير والشرّ (7:16). والسفهاء أسيادٌ على شعب يعيش في الضياع (3:5). ويعلن النبيّ أمام الجميع: »شعبي ظالموه أولاد، وحاكموه نساء. آه، يا شعبي! قادَتُك هم يضلّلونك ويمحون معالم طريقك« (3:12). من أجل هذا، عاد الربّ إلى أرضه ليختار الملك الذي يحمل الخلاص. والصور التي قدّمها اشعيا لم تنطبق على ملك من ملوك الأرض. بل على ذاك الذي جاء يعلن اقتراب ملكوت الله. إنه يسوع المسيح.

في قلب الظلام الذي حلّ بالبلاد بعد مرور الجيوش، لا بدَّ من بصيص نور. في جوٍّ من الموت يسيطر على الناس، كانت الحاجة إلى قائد يسير بهم إلى الحياة. فالله الذي عمل في الماضي بواسطة الضعفاء، ما زال يعمل الآن.

»الشعبُ السالك في الظلمة رأى نوراً ساطعاً. والجالسون في أرض الموت وظلاله أشرق عليهم النور« (9:1). في مسيرة التاريخ، تجلّى ملكوتُ الله. وهو يفعل الآن. ولكن بواسطة من؟ فيتابع النبي: »وُلد لنا ولد، أعطي لنا ابن، تكون الرئاسة على كتفه« (آ 5). قابلت »لنا«، نحن المؤمنين، »لكم« في 7:14، أي الذين يحيطون بأحاز. ولنا أي تلاميذ النبي. أو جماعة السماء التي أقام اشعيا في وسطها حين أُرسِل إليه النداء. من يعطي هذا الولد؟ الله نفسه. والسلطة التي على كتفه تقابل النير الأشوريّ، الخشبة التي يكسرها الربّ، وقضيب المسخرين (9:3). وهي سلطة من عند الله، لا من عند البشر ذهب أحاز يتسوّلُها لدى تغلت فلاسر.

وما يكون هذا الملك؟ »يُسمّى باسم عجيب، ويكون مشيراً، وإلهاً قديراً، وأباً أبدياً، ورئيس السلام« (آ 5). الله هو من يعطيه الاسم. وبالتالي يدعوه لعمل جديد. هو العجيب. والله وحده العجيب، لا في ما هو، بل في ما يعمل. وهذا »الملك« هو عجيب في ما يفعل على مستوى المشورة الفهم (28:29). وفي المعنى الكامل، هذا الابن الذي وُلد من الله يعمل عمل الله. وهو »الجبار«، القدير. هذا لقب الله كما في 10:21، حيث يتوازى مع الربّ القدوس. ما استطاع العهد القديم أن يصل إلى »لاهوت« ذاك الملك. أما العهد الجديد فعرف أن الابن والآب واحد. وهذا الملك هو »أب«. هو لقب يدلّ على حماية الله لشعبه كما قال أي 29:16: »أب للمساكين«. هو أبٌ أبديّ، يدوم إلى الأبد. ملوك الأرض يزولون في الزمن. أما يسوع المسيح الذي فيه يتمّ هذا الكلام فهو ذاك الحاضر في شعبه إلى انقضاء الدهر (مت 28:20).

مثلُ هذا الملك الذي لا يعود إلى داود، بل إلى ما قبل داود، إلى يسّى، يبدو كأنه داود جديد، وبداية حقبة جديدة، قطعتْ كلَّ اتصال بالحقبة القديمة. في أي حال، جاء سقوط أورشليم سنة 587 وذهاب الملك الداودي إلى المنفى حيث يموت، ينهي تاريخاً ويهيّئ الطريق لتاريخ آخر. حلَّ الكاهنُ الأعظم محلّ »الملك«. ولن يكون للعالم ملكٌ إلاّ في شخص يسوع المسيح الذي جاء يشهد للحقّ، لأنه هو الحقّ (يو 18:37 - 38). هذا الملك يحلّ روحُ الربّ عليه. »روح الحكمة والفهم والمشورة. روح القوّة والمعرفة والتقوى. ويبتهج بمخافة الربّ«. (11:2 - 3). فالروح البشريّ أضعف من أن يقوم بعمل الربّ، أما روح الله الذي يحوّل الذئب إلى حمل، والشبل إلى عجل، ويجعل الثور مع الأسد، فهو من يساعد هذا الملك الجديد أن يُتمّ مقاصد الله. هذا ما قاله يسوع بعد أن قُرئ في المجمع نصّ أشعيا (61:1 - 2: روح الربّ عليّ، الربّ مسحني): »اليوم تمّت هذه الكلمات التي تُليت على مسامعكم« (لو 4:21).

3 - من أجل عالم جديد

حين يتدخّل الله، لا يمكن أن يبقى العالمُ كما كان. الضعيفة، مدينة أورشليم، صارت أقوى من حلف كبير. الظلمة التي عمّت البلاد صارت نوراً يمشي الشعبُ على ضيائه، كما كان الوضعُ في مسيرة الخروج (خر 13:21). والحرب التي تركت وراءها الموت والدمار، حلّ محلّها السلام، فاجتمعت الشعوب المتناحرة، وأُحرِق كلُّ ما يشير إلى القتال وسفك الدماء. وكل هذا يتمّ بفعل ذاك الولد الذي وُلد لنا.

هنا نقرأ في سفر اشعيا أكثر من رؤيا، تشبه إلى حدّ بعيد ما نجده في رؤيا يوحنا. أهيَ قيلت في الماضي أو كُتبت، وأعيدت قراءتها؟ أم ألَّفها أحد تلاميذ اشعيا البعيدين مستوحياً ما تعلّمه في المدرسة الاشعيائيّة؟ الأمر سيّان. المهم أننا نقرأ في ف 24 - 27 الرؤيا الأولى التي تبدأ بالكلام عن الدمار قبل إعادة البناء. »ها الربّ يخرّب الأرض، يُخليها ويقلب وجهها ويبدّد سكّانها« (24:1). ولكن هذا الشعب المشتّت سوف يجتمع، ولن يعود بعدُ مشرَّداً وسط الأمم (27:22 - 23). والجميع »يسجدون للربّ في الجبل المقدّس، في أورشليم« (آ 13). هو كلام ينطبق في درجة أولى على أرض فلسطين مع الصلوات الليتورجيّة: »سرنا على أحكامك، يا ربّ، وفيك جعلنا رجاءنا. إلى اسمك وذكرك، يا ربّ، تشتاق نفوسُنا« (26:8). وينطبق في النهاية على الأرض كلها، »من مجرى الفرات إلى وادي مصر«، على الأرض المعروفة في ذلك الوقت.

والرؤيا الثانية نقرأها في ف 34 - 35. هي تصوِّر حروب الربّ الأخيرة قبل الانتصار في أورشليم. نقطة الانطلاق ترتبط بالتاريخ والجغرافية مع ذكر ادوم، ولكن النهاية تصوّر لنا الكون الذي يبدو بشكل فردوس جديد، يتفوّق بجماله على الفردوس الأول بأنهاره وأشجاره. كما في كل رؤيا، الله يبدأ فيدمّر. وأدوم هو نموذج الأمم المعادية للربّ. إليها يتوجّه النبي: »اقتربوا واسمعوا، أيها الأمم، أصغوا إليّ، يا جميع الشعوب! لتسمع الأرضُ وكلّ ما فيها، العالمُ وكلُّ ما يُخرجه. الربّ غاضب على الأمم، ساخط على كل جيوشهم« (34:1 - 2).

ولكن غضب الرب لحظة، ورضاه إلى الأبد (مز 30:6). فهو لا يقتل لكي يقتل، بل ليُحيي. وهو لا يدمّر ليُبقي الأرض دماراً. فهو ينظر من خلال الدمار إلى الأرض الجديدة والسماوات الجديدة (65:17). لهذا جاء كلام النبيّ يفهمنا أن الصحراء ستتحوّل إلى جنّة، لأن الربّ يمرّ فيها. يقيم فيها. »تفرحُ البرية والبادية، ويبتهج القفرُ ويزهر، كالنرجس يُزهر إزهاراً، ويبتهج ويرنّم طرباً. مجدُ لبنان أعطي له، وبهاء الكرمل والشارون. فيرى كلّ بشر مجد الله، وبهاء الربّ إلهنا« (35:1 - 2). لا يدَ مسترخية بعد اليوم. لا ركبة مرتجفة. لا موضع للفزع ولا للخوف. لا حزن ولا نحيب، بل السرور والفرح. ما عاد الأعمى، أعمى ولا الأصمّ أصمّ. الله هو هنا. إله الخلاص يفعل »فتنفجر المياه في البريّة، وتجري الأنهار في الصحراء، وينقلب السراب غديراً، والرمضاء ينابيع ماء« (35:6 - 7).

الخاتمة

بهذه اللوحة الرائعة نُنهي كلامنا  عن الله سيّد التاريخ. وما أعلنه أشعيا هنا من انتظار لشعب فلسطين، بل لشعوب العالم كلّه، سيتحقّق في سفر الرؤيا: »رأيتُ سماء جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى زالتا، وما بقي للبحر (= لعالم الشرّ) من وجود. وأنا يوحنا رأيتُ المدينة المقدّسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، من عند الله، كعروس تزيّنت واستعدّت للقاء عريسها« (رؤ 21:1 - 2) الذي هو الملك العتيد، الآتي ليجمع في شخصه ما في السماوات وما في الأرض (أف 1:10). هذا يفترض أن يسمع المؤمنون نداء الإيمان، ويتركوا أصنامهم القديمة والجديدة. وأن يتعلّقوا بذاك الولد الآتي، لا من دنيا البشر فحسب، بل من عند الله. فهو وحده ملك أورشليم كما نادوا به يوم دخلها متواضعاً على جحش ابن اتان. خرج من شعب خاص ليصل إلى جميع الشعوب. ووُلد في أرض محدودة لتنطلق تعاليمه فتصل إلى كل أرض. كان من قرية مطمورة، ولكنه كان في الواقع سيّد المسكونة والربّ الذي أنشد له الملائكة: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM