الفصل 17: أورشليم مدينة الله

أورشليم مدينة الله

منذ الفصل الثاني، يُنشد اشعيا أورشليم فيقول: »يكون في الأيام الآتية أن جبل بيت الربّ يَثبتُ في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال. إليه تتوافد جميع الأمم، ويسير شعوب كثيرون. يقولون: لنصعد إلى جبل الربّ، إلى بيت إله يعقوب، فيعلّمنا أن نسلك طرقه«. أجل، »من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الربّ« (آ 2 - 3).

1- أطلبوا السلام لأورشليم

هذا ما نقرأ في مز 122:6. وهذا ما يريد اشعيا لمدينة تقدّست بحضور الله في هيكلها. هي مدينة لا تُؤخذ. الله في داخلها فلا تتزعزع. تحيط بها الجبال كما يحيط الربّ بشعبه (مز 125:2). لهذا يكون السلام في أسوارها والسعادة في قصورها (مز 122:7). وفي أي حال، لا سلاح فيها، بعد أن ألغى الله عدّة الحرب. فالله لا يحتاج إلى سلاح كما ملوكُ الأرض. حضوره يكفي لكي يجتذب الشعوب والقبائل. فهو أبوها جميعاً.

لا ملك أشور هو السيّد. ولا الفرعون هو »الإله«. »الربّ وحده يحكم في الأمم، ويقضي لشعوب كثيرين. فيصنعون سيوفَهم سككاً ورماحهم مناجل. فلا ترفع أمّةٌ على أمّة سيفاً، ولا يتعلّمون الحرب من بعد« (2:4). الله هو الذي يُنهي الحروب، ويحطّم الأسلحة (هو 2:20؛ زك 9:10)، أما هنا فالأمم تعلّمت لدى الربّ، فحطّمت سلاحها، أو بالأحرى حوّلته إلى أدوات من أجل الفلاحة والحصاد. وهكذا يتحقّق معنى أورشليم: مدينة السلام.

وفي الإطار عينه، يقدّم لنا النبيّ صورة هي من عالم الخيال والشعر، لا من عالم الواقع. ولكنها صورة السلام الكونيّ بعد أن تمرّدت الخليقة على الخالق، والحيوان على الانسان. فمع الملك الجديد، »يسكن الذئب مع الحمل، ويبيتُ النمر بجانب الجدي. ويرعى العجلُ والشبل معاً، وصبيّ صغيرٌ يسوقها. وتصاحب البقرةُ الدبّ، ويبيتُ أولادهما معاً، ويأكل الأسد التبن كالثور. يلعبُ الرضيعُ على وكر الأفعى، ويضع يده في مكمن الثعبان« (11:6 - 8). لا، ما انتصر ملكٌ على ملك. بل انتصر الله على جميع الملوك من موضع سكناه. دعاهم إلى معرفته، فما عادوا يُسيئون ويُفسدون. ملأهم من معرفته كما تملأ المياهُ البحر، فزال الشرّ من وسطهم.

تذكّر سكان أورشليم يوم مديان وانتصار جدعون، ويتذكّرون الآن ما يفعله الأشوريّون: ماذا نفعت هذه الحرب سوى الموت؟ وماذا تركت سوى الدمار؟ انتشرت الشدّة في كل مكان، والظلمة عمّت الأرض (8:22)، بعد أن زال السكان منها فصارت مقفرة. لهذا، أحرق الربّ »نعال العدوّ في المعركة، أحرق كلّ ثوبٍ ملطّخ بالدماء« (9:4).

2 - الحرب الأشوريّة

ولكن أين هو السلام الذي يُنشده النبي؟ فأورشليم هدّدها الحلفُ المناوئ لأشورية. ولكنها بقيت ثابتة. خسرت بعض ذهبها وفضّتها، ولكنها لم تدمَّر كما دُمّرت المدن المجاورة. أما الخطر الأهم فحمله الملك الأشوريّ العائد من حربه على مصر، سنة 701. انتصر على مصر، والتفّ على يهوذا. فأخذ مدنها وحاصر أورشليم فصارت »مثل عصفور في قفص«، كما قال سنحاريبُ الملك الأشوريّ. كان حزقيا، في ذلك الوقت، قد مال إلى مصر، رغم تحذير اشعيا. ولكنه تخلّص في الوقت المناسب، بعد أن تحالف مع ملك أشدود الذي خسر مدينته سنة 711. »ولولي، يا أبواب، واصرخي، يا مدينة. ذوبي من الخوف، يا كلّ فلسطية! لأن جيشاً يأتي من الشمال« (14:31).

لبث اشعيا ثابتاً في موقفه. وتعلّق الملك بأذيال الربّ: »والآن، أيها الربّ إلهنا، خلّصنا من يديه (= ملك أشور) لتعلمَ ممالكُ الأرض كلّها، أنّك أنت الربّ الاله وحدك«، (2 مل 19:19). استجاب الربّ لنبيّه وملكه. ونجت أورشليم وحدها، بعد أن دُمّرت جميعُ المدن حولها. فما الذي حدث؟

يبدو أن الوباء حلّ بالجيش الأشوريّ، »فانصرف سنحاريب، ملك أشور، راجعاً إلى عاصمته نينوى« (2 مل 19:35 - 36). وفي أي حال، سيموت هذا الملك بيد ولديه، كما يقول كتاب الملوك (آ 37) والنصوص الأشوريّة المعاصرة. أما يحقّ للنبيّ أن يُنشد ما حمل الله إلى شعبه من خلاص سيكون في الواقع انتصار الله على الأصنام (2 مل 19:18)، وانتصار مدينة السلام على مدينة الحرب التي اشتهرت بوحشيّتها؟

»تزدريكَ وتسخر منك، البتول ابنةُ صهيون. تهزّ رأسها وراءك بنتُ أورشليم! من عيَّرتَ وعلى من جدّفتَ؟ على من رفعتَ صوتك، وإلى من تطلّعتَ شامخاً بعينيك« (37:22 - 23)؟ ذاك ما قاله اشعيا لسنحاريب. وقال لحزقيا في شأن ملك أشور: »لن يدخلَ هذه المدينة ويرمي عليها سهماً. ولا يتقدّم عليها بترس، ولا ينصب عليها مترسة، ولكن في الطريق التي جاء منها يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل. فأحمي هذه المدينة وأخلّصُها من أجلي ومن أجل داود عبدي« (33:35).

3 - الحكم على الأمم

حكمت أورشليم على الأشوريين. فالربّ لا يريد الحرب، بل السلام. ومن أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ، كما قال الربّ (مت 26:52). ترك سنحاريب وراءه القتل والدمار، فمات هو بالسيف في معبد نسروخ إلهه. »قتله ابناه أدرملك وشرّأصر« (آ 38). وحكمتْ على الأمم بلسان نبيّها. هذا ما نقرأه في ف 13 - 23. على بابلَ أولاً. »انصبوا رأية على جبل أقرع، إرفعوا الصوت، أومئوا للعدوّ ليدخلَ أبواب مدينة العتاة. أمرتُ جنودي الذين اخترتُهم، ودعوت جبابرتي ليوم غضبي« (13:2 - 3). ثم على الفلسطيّين وعلى رأسهم أشدود التي نظّمت حلفاً على الأشوريّين، مستندة إلى مصر. وعلى موآب »يصرخ قلبُ النبيّ«، وعلى الهاربين الملتجئين إلى صوغر (15:5)، حيث التجأ لوط بعد دمار سدوم. ودمشق تكون »رجمة من الحجارة. مدنُها تُهجَر إلى الأبد، فتكون مربضاً للقطعان ولا أحد يرعيها« (17:1 - 2). وفي النهاية، كوش ومصر.

وما نلاحظ في هذا التهديد، هو التوبة التي يعيشها الناس. ففي معرض الكلام عن دمشق يقول النبيّ: »في ذلك اليوم يلتفت الانسان إلى خالقه. وتنظر عيناه إلى القدوس. ولا يلتفت إلى معابد الأوثان، صنعة يديه، ولا ينظر إلى ما صنعت أصابعه« (آ 17 - 18). وهتف النبي إلى كوش: »يا جميع سكّان العالم وقاطني الأرض! إذا رُفعت الراية على الجبال فانظروا. وإذا نُفخ في البوق فاسمعوا« (18:3). ماذا يكون الجواب؟ »في ذلك الزمان تقدَّم عطايا للربّ القدير ويحملها الشعبُ الطوال الجرد، الشعب الذي يهابُه القريب والبعيد... إلى مقرّ اسم الربّ القدير« (آ 7).

وينظر اشعيا إلى اهتداء مصر وأشور. مملكتان تركتا العنف. تركتا عبادة الأصنام. وتطلّعتا إلى الله. وما عرفه الشعب العبراني في مصر، سيعرفه المصريون مع الهجمة الأشوريّة: يرتعدون، يرتجفون من يد الربّ المرفوعة عليهم. فمن خلال جيش أشور، هو الله يفعل فيدعو الأمم للعودة إليه. والسلام سوف يعمُّ الأرض بعد أن يلتقي الشعبان: »في ذلك اليوم، يكون طريق من مصر إلى أشور، فتجيء أشور إلى مصر ومصر إلى أشور، وتعبدُ مصرُ الربّ مع أشور« (19:34). فهم الشعب العبرانيّ أن الله هو في النهاية إله الرحمة. وسوف تفهم الأمم أيضاً. شعب مصر هو مبارك. هو شعب الله. وأشورية صنعها الله بيده. اهتمّ بها. اعتنى بها. هو يصنع للأمم كما صنع لشعبه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM