الفصل 7: تكريس الكهنة

تكريس الكهنة

»وقال الربّ لموسى: ''خذ هرون وبنيه معه والثياب وزيت المسح« (8:1). هكذا يبدأ الكلام، في سفر اللاويين، عن تكريس هرون ورسامته كاهناً. وكما كُرِّس هرون، كذلك سوف يكرَّس أبناؤه من بعده. في الواقع، هي رجعة إلى الوراء، بعد أن جُمعت فئتان كهنوتيان في نسل هرون، أخي موسى. على مدّ التاريخ، كانت هناك أكثر من فئة كهنوتيّة وصلت إلى اثنتين في زمن داود وسليمان: ابياتر وصادوق. ولكن حلّ هذا في المكان الأول دون أن يُلغى دور ابياتر الذي عزله سليمان لأنه ساند أخاه ادونيا في طلب الملك (1 مل 2:26 - 27). كيف تتمّ هذه الرسامة؟ يُغسَل الكاهن العتيد، يُمسح بالزيت. يُلبسونه القميصَ والجبّة. ويشدّون الأفود بزنّار. وتُوضع العمامة على رأس هرون والصورة التي تدلّ على النور والكمال. كل هذا يرافقه ذبحُ عجل الخطيئة الذي يُرَشّ من دمه على قرون المذبح في أربع زواياه. هذا العجل الذي وضع عليه هرون يده، هو بمثابة صلة تدلّ على أنه يستعدّ لكي يضحّي بحياته. أما الدم فعلامة الحياة الآتية في النهاية من عند الله الذي يرمز إليه المذبح.

رمزَ الأفودُ إلى الكون كله، وكُتبت عليه أسماء بني اسرائيل الاثني عشر. هو يُجعل على صدر عظيم الكهنة وقُرب قلبه. والصدرية كانت تحمل الاوريم والتميم، مصدر أقوال الله حين يُسأل الكاهن. يلبس رئيس الكهنة هذه الصدريّة دوماً، ليدلّ على أنه مسؤول دوماً عن دينونة شعبه، عن سلوكهم بحسب كلام الله. وصفيحة الذهب التي تُجعل على العمامة، ترمز إلى الملكيّة بتاج يُزهر (مز 132:18). أما المحرقة المذكورة هنا، فهي أول ذبيحة تقدّم على المذبح، بحسب التقليد الكهنوتيّ. كانت ذبيحةٌ عن الخطيئة، فتحرّرَ المذبحُ من طابعه الدنيويّ وصار قدساً للربّ. ثم كان طقسُ الغفران مع كبش أوّل وتكريس هرون مع كبش ثانٍ. بعد ذلك استطاع بنو هرون أن يقدّموا الذبائح، أن يمارسوا كهنوتهم حسب القواعد المفروضة. وإذ فعل ناداب وابيهو، ابنا هرون، عملاً خارج هذه الطقوس، أكلتهم نارُ الربّ.

ما فعله موسى هنا كان تنفيذاً لما أمر الربّ به موسى في سفر الخروج: »وتُقدّمُ هرون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع وتُغسلهم بالماء، وتأخذ الثياب وتُلبس هرون...« (خر 29:4 - 9). مثلُ هذه الطقوس وُجدت مثلاً عند الحثيّين مع ترتيب للباس بحسب استعماله. فالقميص أو »الكتونة« كما يُقال في اللغة العاديّة، لفظ قديم عرفته الأكاديّة والأراميّة واليونانيّة، بل السومريّة. هذه القميص تُصنع من الكتان الناعم. والأفود كلمة مصرية (ي ف د) يدلّ على لباس الآلهة ،وقد استُعمل في أوغاريت والعالم الأكاديّ. عنى اللباسَ الملوكيّ والغالي الثمن. أما في شعب اسرائيل، فهو لباس خاص بشعائر العبادة. والصدريّة لباس ملكيّ في الشرق القديم، يغطّي الصدر من الشمال إلى اليمين. يُصنع من الذهب والحجارة الكريمة. كان لهذه الصورة هدفان: من جهة تحمل ذكراً متواصلاً للقبائل الاثنتي عشرة قدّام الربّ. كان هناك اثنا عشر حجراً كريماً ونُقش اسم كل قبيلة على حجر. فحمل هرون هذه الأسماء في قلبه. ثم جُعل فيها الكلام الذي يُقرّه الربّ من أجل شعبه. نذكر هنا سؤال القبائل: من يصعد أولاً؟ وكان الجواب: يهوذا أولاً (قض 1:1 - 2؛ 18:20).

ذاك كان عظيم الكهنة في سفر اللاويين، وقد وجد جذوره في هرون، أول كاهن قدّم ذبيحة على اسم الربّ، بانتظار بنيه. ولكنه لن يجد أعماله كاملة إلاّ في شخص يسوع المسيح. فإذا تحدّثنا عن العلاقة مع الله، فيسوع يحمل لقب عظيم الكهنة: »تأمّلوا الرسول والحبر الذي نعترف به، يسوع الذي هو أمين لمن أقامه« (عب 3:2). هو أهل للثقة. إذا كان موسى أميناً بحيث تأسّست سلطته على أنه يمثّل الله (عد 12:1 - 8)، فبالأحرى يسوع المسيح الممجّد الذي »حُسب في المجد أفضل من موسى« (عب 3:3).

للمسيح ملء السلطة الكهنوتيّة. هو يقيم لدى الله، ويكلّمنا بكلام الله. فعلينا أن نتقبّل كلامه في الإيمان، لأن هذا الكلام يُدخلنا في راحة الله. هنا نلاحظ كيف أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين ربط ربطاً وثيقاً بين موضوع كلام الله وكهنوت المسيح. وهذه الخدمة لا تعود إلى الماضي وتتوقّف عنده، بل هي حاضرة، آنيّة. فالمسيح، الآن، هو عظيم الكهنة الذي يمجّده الله ويرضى عنه، وهو ينقل إلينا كلمة الله القادرة على حمل الكلام الذي نتقبّله بإيمان.

والمسيح الذي يقيم في السماء، عن يمين الآب، قد يبدو بعيداً بحيث لا يهتمّ بالبشر الضعفاء الخاطئين. فهل يستطيع بعد ذلك أن يقوم بدور الوساطة؟ في الواقع، إن الاتحاد بالله في المجد لا يكفي لكي يكون أساساً للكهنوت. فلا بدّ من وجود أمر آخر هو امكانيّة تقبّل البشر لدى ذاك الذي هو المجيد والقدوس. لا شكّ في أن هذه الامكانيّة ليست غائبة عند المسيح الممجّد كما تقول عب 4:15 - 16: »فإن الحبر الذي لنا ليس عاجزاً عن الرثاء لأسقامنا، بل هو مجرَّب في كل شيء، على مثالنا، ما خلا الخطيئة. فلندنُ إذن في ثقة إلى عرش النعمة، لننال رحمة«. فمنذ جلس المسيح على عرش الله، لم يعد هذا العرشُ موضعاً نخاف الاقتراب منه، بل صار »عرش النعمة« لأن المسيح أخانا يعرف ضعفنا فيقف بجانبنا لكي يُعيننا.

هنا يقدّم الكاتب تحديداً للحبر، لكل عظيم كهنة (عب 5:1 - 4). ثم يطبّق هذا التحديد على المسيح (عب 5:5 - 10). بعد وجهة السلطة التي أشار إليها، ها هو يشير إلى وجهة التضامن. فعظيم الكهنة »يُؤخذ من البشر ويُقام من أجل البشر في علاقتهم مع الله« (عب 5:1). في هذا المنظار، تحدّث النصّ عن تقدمة الذبائح، فكشف في فرائض الطقوس القديمة، إشارة إلى تضامن عميق بين الحبر والشعب. فالحبر هو من نسل المؤمنين مع ضعفه وخطاياه. لهذا يَطلب منه الكتابُ أن يقدّم ذبيحة عن خطيئته ثم عن خطيئة الشعب (عب 5:3؛ لا 9:7 - 8؛ 16:6 - 11). وفي هذا المنظار أيضا، يذكر الكاتب ضرورة دعوة يتلقّاها الكاهن من الله (عب 5:4). فهو لم يُسمِّ نفسه كاهناً. هو لم يرتفع ويتشامخ فوق سائر البشر. فالاقتراب من الكهنوت يتطلّب تواضعاً أمام الله يجعل المدعو متّحداً بسائر البشر، إخوته. طبَّقت الرسالة كل هذا على المسيح. هو شارك البشر في شقائهم. ثم حوّل الوضع في تقدمة وذبيحة، وهكذا صار المسيحُ الحبرَ الكامل. تحوّلت بشريّته بانتظار أن يحوّل البشر أجمعين. إلى مثل هذا الكاهن نحتاج. يكون وسيطاً على مثال موسى. ولكنه يتعدّى موسى بمقدار ما الابن يتعدّى الخادم، والله يتجاوز الانسان.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM