الفصل 8: تعليم حول الطاهر والنجس

تعليم حول الطاهر والنجس

تكرّس الكاهن، تقدّس، فعليه أن يجعل القداسة تنتشر في الشعب وعلى الأرض. لذلك، لا بدّ له أن يميّز ما هو طاهر وما هو نجس. نحن بعيدون عن تمييز عرفه الكتاب في بدايته، بين الخير والشرّ. ولكن لا ننسَ أننا في التقليد الكهنوتيّ مع طقوسه وممارساته.

ترتبط النجاسة أول ما ترتبط بمفهوم المحرّمات (تابو في اللغة العلميّة)، الذي نجده عند مختلف الشعوب. هي تفترض بأن الانسان يريد أن يحيا حياة هادئة بعيدة عن كل خطر. حياة تحيط بها قواعدُ ثابتة، وتكون محميّة من قلق المجهول. فكل ما هو شواذ، غير عاديّ وخارج عن القاعدة. كل ما هو تبدّل وعبور من حالة إلى أخرى. كل هذا يشكّل خطراً: هو ظهور قوّة تَقلبُ القواعدَ المعروفة وتَدخل في حياتنا. هي نجاسة يجب أن نحمي نفوسنا منها أو نتحرّر منها حين نتطهّر ونغتسل.

أورد سفرُ اللاويين لائحة بالحيوانات الطاهرة التي يمكن أن تُؤكَل: »جميع ما هو مشقوق الظفر ويجترّ من البهائم« (11:3). ولكن لا يؤكل الجمل لأنه يجترّ ولكنه غير مشقوق الظفر. ولا يؤكل الغرغور والأرنب والخنزير. »من لحمها لا تأكلوا ولا تمسّوها ميتة، فهي نجسة لكم« (11:8). وهناك سمك لا يُؤكل، وطيور وحشرات. من تنجّس بها يبقى نجساً حتى المغيب.

حاول بعضهم أن يبحث عن أصل هذه النجاسات؟ لماذا لا يؤكل الخنزير مثلاً؟ الجواب: لأن الرعاة لم يعرفوه، وهو الذي يقيم في الاحراج. ثم هو لا يوافق المناخ الحار الذي تعرفه أرضُ فلسطين. وأخيراً، يرتبط الخنزير بالآلهة السفلى. مثل هذه المسبّبات لا تكفي. فنحن نلاحظ أولاً أن الخنزير كان مرفوضاً في الشرق الأوسط كله. ففي لويحة تعود إلى السنة السادسة لعهد سرجون الثاني (716 ق م ) نقرأ ما يلي: »الخنزير نجس... يوسّخ مؤخرته، يجعل الرائحة الكريهة في الشارع، ينجّس البيوت. الخنزير لا يليق بالهيكل. ينقصه الحسُّ. لا يُسمَح له أن يمشي على البلاط، فهو رجس لجميع الآلهة، وممقوت لدى إلهه، وملعون بفم شمش (الشمس)«. هذا النصّ الآرامي يجعلنا في العالم السامي الغربي، أي ذاك الواقع غربيّ الفرات. ونجد عند الحثيّين كلاماً مماثلاً عن الخنازير والكلاب التي هي حيوانات نجسة. لهذا طُلب من خدّام المعبد أن يطردوا مثلَ هذه الحيوانات ولا يسمحوا لها بأن تقف عند باب كسر الخبز. يُرذل الخنزير هنا لسبب عباديّ، لا جماليّ. فهو ينجّس الآنية التي فيها كانوا يقدّمون الطعام للآلهة.

نشير هنا إلى أن النجاسة ليست، في ذاتها، خطيئةً وفعلَ شرّ. فواجبات الحياة اليوميّة تجعل الانسان، بغير عمد، في حالة من النجاسة تمنعه من المشاركة في شعائر العبادة، وبالتالي من الاتحاد بالاله القدوس. نذكر هنا الأمومة وما يرتبط بها من ولادة. والموت وما يجب على الانسان أن يفعل لكي يُغسل مَيْتَهُ ويدفنه. في هذا الإطار يُذكر البرص الذي يجعل صاحبه نجساً، مع العفن الذي يصيب البيوت. كما تُذكر العلاقاتُ الجنسيّة وسيلان الدم لدى المرأة.

ولكن النجاسة تكون خطيئة حين يتصرّف الانسان النجس وكأنه في حالة الطهارةِ. حينئذ يموت في نجاسته (15:31). تحدّث النبي حزقيال عن النجاسة، فوصف خطيئة أورشليم، ولا سيّما تلك التي تخالف خلقيّة الشريعة. فقد رأى أن الخطيئة هي النجاسة الكبرى التي تُفسد العلاقة بين الانسان والله. في وقت من الأوقات، انفصلت حياة العبادة عن الحياة الخلقيّة، فندّد الأنبياء بهذا الوضع، بحيث بدوا وكأنهم لا يريدون بعدُ شعائر عبادة. غير أنهم في الواقع، أرادوا العودة إلى عهد سيناء مع ما فيه من متطلّبات من أجل حياة تتوافق مع وصايا الله وفرائضه في الوجود اليوميّ. قال هوشع: »أنا أريد طاعة (للوصايا) لا ذبيحة، معرفة الله أكثر من المحرقات« (هو 6:6). هذا لا يعني أن النبيّ يرفض الذبائح والمحرقات. بل هو يجعل في أساسها حياة من الطاعة تدلّ على أننا نعرف الله ونسير في طرقه. ورأى إرميا كثرة الداخلين إلى الهيكل، وكأنهم يريدون أن يبرّروا سلوكهم. يتعلّقون بالهيكل ويعتبرون أن هيكل الرب يحميهم. لا، هذا لا ينفعهم. قال لهم النبيّ: »بل بالأولى أَصلِحوا طرَقكم وأعمالكم، واقضوا بالعدل بين الواحد والآخر، ولا تجوروا على الغريب واليتيم والأرملة، ولا تسفكوا الدم البريء« (إر 7:5 - 6). وقال إرميا في الفصل عينه: »أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون بالزور... ثم تجيئون وتقفون بين يديّ في هذا البيت« (آ 9 - 10)؟ هذا البيت صار مغارة للصوص في عيونكم (آ 11).

وسيسير يسوع في خط الأنبياء هذا، فيورد ما قاله هوشع عن الرحمة والذبيحة. كما يعتبر أن لا شيء نجس سوى ما نعتبره نحن نجساً. وقال: »ما من شيء يدخل الانسان من الخارج ينجّسه. ولكن ما يخرج من الانسان هو الذي ينجّس الانسان« (مر 7:15). أجل، الطعام، مهما كان، لا ينجّس الانسان، بعد أن رأى الله جميع ما خلقه فرآه حسناً. بل ينجّس الانسانَ ما يخرج من قلبه من أفكار شرّيرة: »الفسق والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث« (آ 21 - 22). فاستخلص الانجيليّ من كلام يسوع: »جعل الأطعمة كلها طاهرة« (آ 19).

جمع سفرُ اللاويّين كلّ هذه المحرمات في ف 11 - 15. هذا يعني أنها بدأت تضيع لدى الشعب الذي لم يعد يأخذ بها في حياته العاديّة. هذه المحرّمات جاءت من العالم الوثنيّ، فأخذ بها العبرانيون في الأصل، مقتدين بشعوب الشرق الأوسط. غير أن الكاتب الملهَم ربطها بإله العهد الذي هو سيّد الحياة. من أجله، يجب أن نكون أطهاراً فنبتعد عن كل نجاسة على المستوى الخلقيّ كما على المستوى العبادي. وهكذا نسمع كلام الرب: »أنا الربّ إلهكم، فتقدّسوا وكونوا قديسين لأني أنا قدوس. ولا تنجّسوا أنفسكم... فأنا الربّ الذي أخرجكم من أرض مصر لأكون إلهاً لكم. فكونوا قدّيسين لأني أنا قدّوس« (11:44 - 45).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM