الفصل الثالث: ترتليان القرطاجيّ في ردِّه على مرقيون

الفصل الثالث

ترتليان القرطاجيّ في ردِّه على مرقيون

توفِّي مرقيون(1) قبل حكم الإمبراطور الرومانيّ مارك أوريل (161 وفي180). هذا يعني أنَّ ترتليان لم يعرفه معرفة مباشرة، بل من خلال كتاباته، وفي التقليد الهراطقيّ(2)، وفي اتِّصالات مع المرقيونيّين في قرطاجة. فقد أُعطيَ له في العاصمة الإفريقيَّة أن يقدِّر عِظَمَ الخطر الذي تشكِّله هذه الهرطقة للكنيسة: »الزنابير تصنع أقراصها (للعسل) والمرقيونيّون يصنعون كنائسهم« (4/5: 3). إذن، لن نندهش إن وجَّه انتباهه باكرًا نحو المرقيونيَّة، وإن امتدَّت حربه على هذه الهرطقة عدَّة سنوات في حياته.

منذ ألَّف الدفاع(3) سنة 197-198، لمَّح بشكل غير مباشر إلى المرقيونيّين حين أبرز عرفان الجميل الذي يحمله المسيحيّون لإلههم، الربِّ الخالق، وهم »لا يرفضون ثمرة أعماله« (الدفاع 42: 2). بعد وقت قليل، وفي سنة 200-202 بدأ حربَه على مرقيون في التقادمات(4) (أو: حقّ اكتساب بمرور الزمن). لا شكَّ في أنَّ هذا المؤلَّف لم يكن مخصَّصًا لمرقيون. فترتليان ربطه بهرطوقيّ آخر هو ولنطين، في ردٍّ عام على الهرطقات حيث قدَّم براهين موجَزة دون الدخول في العمق مع هذه التعاليم الهرطوقيَّة وامتدادها. غير أنَّ هذا المقال قدَّم عددًا من الثيمات(5) (أو: الموضوعات) والإشارات الحربيَّة، سوف يعود إليها ترتليان. وانتهى الكتاب بإعلان أجوبة منفصلة لبعض هذه التعاليم (التقادمات 45: 14). جاءت الهجومات هنا عديدة على مرقيون(6) ممّا يعني أنَّ الردَّ على المرقيونيَّة كان أوَّل اهتمامات مرقيون. من هذا الإطار خرج المؤلَّف: الردّ على مرقيون وظهر الكتاب (أو: المقال) الأوَّل سنة 207-208.

الردّ على مرقيون دُوِّن في مراحل عديدة، ولاسيَّما الكتب الثلاثة الأولى. روى الكاتبُ تاريخ ما دُعيَ بشكل غير ملائم، ثلاث إشارات الردّ على مرقيون. أوَّلاً في توطئة الكتاب (1/1: 1-2)، ثمَّ في الكتاب الثاني (1: 1) وأخيرًا في الكتاب الثالث (1: 1)، حين نضمُّ هذه الإشارات إلى إشارات أخرى نجدها في جسم »الكتاب«، ونستعين ببعض الاستنتاجات والفرضيّات الملموسة، فنستطيع أن نكوِّن فكرة كيف بُنيَ هذا المقال الكبير ضدّ مرقيون(7).

بدأ ترتليان محاولته بشكل متواضع بكتاب وحيد(8)، على مثال ما كتب ضدّ هرموجين(9) وضدّ الولنطينيّين. ويبدو أنَّ هذا المؤلَّف الصغير(10) عالج ما اعتبره أصالة النهج المرقيونيّ: وجود إلهين: الإله السامي والإله الخالق. وربَّما لامسَ الكرستولوجيّا(11)، ولكنَّه لم يهتمّ بالنظر إلى الكتب المقدَّسة كما استعملها مرقيون. وما نلاحظ هو أنَّ الكتابين 4-5 في المؤلَّف النهائيّ، وهما يعالجان كتاب الإنجيل وكتاب الرسائل(12) لدى المانويَّة، لا يشيران إلى إعادة صياغة ولا إلى إضافة. دعا ترتليان هذا المؤلَّف الأوَّل »متسرِّع«(13). ربَّما دوَّنه ساعة كان يدوِّن التقادمات، أي سنة 203-204. وربَّما ضمَّ مرقيون إلى هراطقة آخرين في تدوين الفصول التي سوف تشكِّل بشريَّة المسيح(14): حين كتب 1: 2-5: 10 من هذا المؤلَّف لم تكن له عن المرقيونيَّة إلاَّ معرفة عامَّة، غامضة، كما نقرأ في التقادمات(15). مهما يكن من أمر، فهذا العمل الأوَّل الموجَّه على مرقيون بشكل خاصّ سُلِّم إلى النشر مرَّة أولى لم تصل إلينا. ربَّما يكون ترتليان أعاد الكتاب إلى مقطع من العلاج ضدَّ عضَّة العقرب(16) الذي يبدو أنَّه دُوِّن باكرًا(17).

ما هو أكيد هو أنَّ هذا الجواب السريع ترك الكاتب غير راضٍ عن عمله. فعزم على استعادة العمل في ملء التأليف(18). نستخلص من هذه العبارة أنَّنا أمام عمل أوسع، وهذا ما يبرِّر الفرضيَّة التي تقول بأنَّ الكتاب صار كتابين: واحد للألوهة الواحدة(19) وآخر للمسيح(20). ثمَّ إنَّ مثل هذه الفرضيَّة تستند إلى إشارة أوَّليَّة في الكتاب الثالث، النهائيّ، حيث التفحُّص المنفصل للمسيح المرقيونيّ، أعطيَ من أجل اتِّباع آثار(21) التأليف الثاني. فيتَّضح إذًا أنَّ هذا التأليف أعطى قسمًا كبيرًا ومميَّزًا للكرستولوجيّا عند مرقيون. غير أنَّه ترك جانبًا مسألة الكتب المقدَّسة. متى تمَّ هذا؟ يبدو أنَّ ترتليان عاد سريعًا بعد النشرة الأولى، فما طال الوقت أكثر من سنة أو سنتين لكي يعطي الصياغة في جزئين (205-206). وفي الوقت عينه ألَّف ترتليان الأصناميَّة(22) وفيها يشير إلى الصراع المرقيونيّ حول الحيَّة النحاسيَّة.

ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان: سُرقت هذه الصياغة الثانية من الردّ على مرقيون، قبل أن تُنسَخ بيد مسيحيّ سوف يجحد إيمانه فيما بعد (1/1: 1). هذا الأخ الكاذب أخذ مقاطع ونشرها، وهكذا قدَّم نشرة أجزائيَّة، في الخفية، فأجبر الكاتب أن يتبرَّأ منها بسبب الأخطاء الكثيرة(23). فما حُسب النشرة الثانية للردّ على مرقيون هو في الواقع نشرة مقرصنة، مسروقة، ناقصة. ولكن لم يصل إلينا شيء منها.

دارت هذه النسخات الأجزائيَّة والمليئة بالأخطاء بجانب ما بقي من النشرة الأولى، فوجب على ترتليان أن يقوم بالعمل من جديد، بعد أن ضاعت الصياغة الثانية. رفض أن يصحِّح الأخطاء، وراح في صياغة ثالثة. كان الكتابان الأوَّلان واحدًا، فصارا(24) اثنين من أجل البرهان على »الإله الوحيد«. وكانت إضافات دلَّت على تطوُّر فكر ترتليان الدينيّ وانتمائه إلى المونتانيَّة(25). وأخيرًا، كانت دراسة معمَّقة ومكرَّسة للكتب المقدَّسة لدى المرقيونيّين، فظهر الكتابان 4-5. أُعلن عن كتاب الرسائل (أبوستوليكون) في 1/15: 1 في عبارة تدلُّ على مستقبل يصعب الوصول إليه(26). وينتهي الكتاب الأوَّل مع وعد بتفحُّص كلِّ الموادِّ الكتابيَّة المعاكسة، ولكن هذا يُحفَظ لوقته(27).

وخلال سنة 207-208، بدأ ترتليان مشروعه الكبير، في السنة الخامسة عشرة لحكم سبتيم سيفير (193-211)(28). في تلك السنة نُشر الكتابُ الأوَّل (حول إله مرقيون). ثمَّ نُشرت سائر الكتب(29). الكتاب الثاني حول الإله الخالق، والكتاب الثالث حول مسيح مرقيون، تبعا الكتاب الأوَّل بعد أن أعيدت صياغتُهما. وطال الوقت قبل أن يظهر الكتاب الرابع (إنجيل مرقيون): هو عمل جديد كلُّه، وكبير جدٌّا ومتأثِّر بالمونتانيَّة(30). ربَّما دُوِّن سنة 209. أمّا الكتاب الخامس (حول مرقيون الرسول) فامتدَّت كتابته، لأنَّ ترتليان أُخذ بأشغال أخرى: في النفس De anima، بشريَّة المسيح، القيامة. انطلاقًا من استنتاجات(31) نستطيع القول إنَّ الكتاب الخامس دُوِّن سنة 211-212، في نهاية حقبة من الهدوء النسبيّ للكنيسة، سبق اضطهاد سكابولا، في صيف سنة 212.

مع الكتاب الخامس ينتهي ردٌّ على تعليمٍ لن يعود إليه ترتليان، بعد أن اجتذبته صراعات مرتبطة بمواقفه المونتانيَّة، وواجهته مسائل تعليميَّة مثل الهرطقة الانتيثالوثيَّة(32)، كما واجهته مسائل تنظيميَّة كتلك التي تفصل الكنيسة عن »النفسيّين« (الأعراس الثانية، الصوم، التوبة). لهذا لن يذكر بعدُ المرقيونيَّة إلاَّ ببعض التعلميحات (بركسياس 16: 4-5): ما ذكر اسم مرقيون، بل ذكر حرب هذا الأخير حول »دناءات« الإله الخالق، واستفاد لكي يقدِّم برهانًا لخصومه الآن. وفي مؤلَّفه حول الصوم، ميَّز بين النسكيَّة المونتانيَّة وبين نسكيَّة مرقيون وهراطقة أخرى مثل تاثيان وجوفيان الذين توجَّهت »قطاعتهم المتواصلة«(33) ضدَّ أعمال الخالق فشجبها الرسول مسبقًا (1 تم 4: 3؛ في الصوم 15: 1). وهكذا لبث ترتليان على موقفه تجاه مرقيون، فقال بعد خمسة عشر عامًا ما قاله في الدفاع ضدَّ أعداء الشريعة.

وها نحن ندخل في مقدِّمة إلى الكتابين الأوَّل والثاني.

1. تماسك بين الكتابين

شكل الكتابين 1-2 كلاٌّ واحدًا، كما سبق وقلنا، وفُصلا في المرحلة الثالثة من التدوين. جَعل مرقيون فوق الخالق، إلهَ اليهود والعهدِ القديم، إلهًا ساميًا، كلُّه صلاح، أوحيَ به في يسوع المسيح. تجاه هذه النظرة الغنوصيَّة، قدَّم هذان الكتابان »دفاعًا« عن المونوتاويَّة (عبادة الإله الواحد) في درفتين. فترتليان الذي لم يغُصْ بعدُ في القانون (اللائحة) الكتابيّ لدى الهرطوقيّ والذي نال توثيقه من النقائض(34)، اهتمَّ بتدمير لاهوت مرقيون الثنويّ، قبل أن يردَّ، في الكتاب التالي على الكرستولوجيّا الظاهريَّة. وما يميِّز هذين الكتابين هو نهج جدال عقليّ مؤسَّس على براهين منطقيَّة، تاركًا تحليل الأسانيد الكتابيَّة لهذا التعليم، إلى ما بعد.

أُوضح هذا النهجُ في 1/16: 2: »بوسائل أفكار سويَّة وبراهين صادقة نُعدُّ الإيمان للاستماع إلى نداء الكتب المقدَّسة، وهو نداء يأتي فيما بعد«. واللجوء المتواتر إلى ألفاظ مثل حدَّد definere (ثبت، وضع مبدأ) وتحديد definito، تبيِّنُ المسيرة التي سارها الكاتب(35). هكذا أشرفت التقسيمات الثابتة على التوسُّع. والحاجة إلى وضوح منطقيّ اقتاد ترتليان، في الصياغة الأخيرة، إلى أن يقدِّم للقرّاء كتابين مختلفين يعالج فيهما إلهَيْ النهج المرقيونيّ، »وهكذا قسَّم المادَّة«. تكرَّس الكتاب الأوَّل لإله سامٍ مزعوم: ثبَّت ترتليان أنَّ هذا الإله غير موجود كلِّيٌّا. وهكذا دمَّر نظريَّة الخصم في وجهتها الإيجابيَّة. وجاء الكتاب الثاني دفاعًا عن الخالق وإعادة اعتبار لمن انتُقد ظلمًا، وهكذا أعاده إلى كرامة الإله الوحيد (2/1: 1). غير أنَّ الوحدة الأوَليَّة للدرفتين اللتين شكَّلتا كتابًا واحدًا في المرحلة الثانية من الصياغة، برزت من واقع يقول إنَّ الجزء الأوَّل من الكتاب الأوَّل (ف 3-7) حول الإلَهيْن، فلبث خارجيٌّا وبشكل توطئة لتفحُّص صفات الإله المرقيونيّ (ف 8-29) وللهجوم على الخالق (الكتاب الثاني) كما تدلُّ الانتقالة في 1/1: 7، التي هي بقيَّة من التصميم القديم حيث كان الكتابان كتابًا واحدًا.

وهذا التماسك الوثيق يتأمَّن أيضًا بوجود ثيمات جوهريَّة في الكتاب الثاني، داخل الكتاب الأوَّل: إنَّ الدفاع عن الكون المخلوق في وجه الانتقاد المرقيونيّ (1/13-14)، اتَّصل مع 2/4 في مديح لهذه الخليقة بالاستناد إلى سفر التكوين. وتبرير وجود عواطف في الله، والفكرة القائمة بين الصلاح والعدالة لا ينفصلان (2/16: 4-5)، فنقرأهما في 1/25: 6-7؛ 26: 1-5. وأبرز ترتليان الرباطات بين الكتابين بالاستباق والتذكير(36).

2. تنظيم الكتابين

أ- تصميم الكتاب الأوَّل

هذا الكتاب الذي هو ردٌّ على وجود إله وضعه مرقيون فوق الخالق، ينتظم بحسب تصميم متين، يُبرزه الكاتبُ بواسطة انتقالات واستعادات (3: 1؛ 7: 7؛ 29: 9). وهو يقوم على التمييز بين عدد الآلهة، الذي هو موضوع الجدال الأوَّل (ف 3-7)، وعلى الصفات المميَّزة للإله المرقيونيّ (ما تبقّى من الكتاب). غير أنَّ تفحُّص هذه الصفات ينقسم بدوره إلى مجموعتين كبيرتين تستقلُّ الواحدة عن الأخرى، وتتمتَّعُ بحركة خاصَّة بها: جديد هذا الإله الذي لبث مجهولاً من البشر مدَّة طويلة. وصلاح هذا الإله الذي يكون الصلاح صفته الأساسيَّة. وهكذا يتوزَّع الكتاب عبر سلسلة من ثلاث مسائل: رفض العدد(37)، سؤال حول الإله الجديد والمجهول(38)، سؤال حول الإله الصالح(39).

مبدأ هذا المخطَّط يعود إلى التعارض الأرسطاطاليّ بين poson وpoion كما قال بيل(40). وردّ سيدار(41) على بيل فتحدَّث عن تصميم مثلَّث في نطريَّة الأسئلة البلاغيَّة: ما هو، هل هو، كيف هو(42)؟ إذا استطاع هذان السؤالان الأخيران، كما قال ترتليان (1/7: 2) أن يتحدَّثا عن العلاقة بين الجزء الثاني (مسألة الإله الجديد والمجهول قديمًا) والجزء الثالث (مسألة الإله الصالح)، فنحن لا نرى أنَّ تفحُّص عدد الآلهة يقابل حقٌّا السؤال ما هو quid sit. فالمنطق البسيط فرض على ترتليان أن يعالج في البداية نهج الإلهَين، قبل أن ينتقل إلى ميزاتهما. فرفْضُ العدد retractatus numeri يبدو بشكل توطئة بالنسبة إلى الجدالات اللاحقة في الكتابين الأوَّل والثاني.

كيف ينتظم الكتاب الأوَّل؟ يبدأ بتوطئة َpraefatio (1: 2) تشير إلى النشرة الثالثة والنهائيَّة (1: 1-2). ثمَّ يأتي المطلع بحصر المعنى (1: 3-5؛ 2: 1ي) الذي يقدِّم قطعة بلاغيَّة حول بربريَّة مرقيون، وأخيرًا يذكر هرطقته وبداية ثنويَّته اللاهوتيَّة.

* القسم الأوَّل (ف 3-7) يعالج شرعيَّة إلهين ويختم بشكل سلبيّ في ثلاث مراحل:

- الوحدانيَّة جزء من تحديد الله (ف 3).

- ردّ على الإلهَين المتساويين (ف 4-5).

- ردّ على الإلهَين المختلفين، كما يقول مرقيون (ف 6-7).

* القسم الثاني (ف 8-21) يعالج الإله الجديد والإله المجهول :

deus novus et retro ignotus

بعد مقدِّمات على الجديد والحقيقة، عن الإله المجهول والإله اللاأكيد (8: 1-9: 24)، نقرأ جزءًا كبيرًا أوَّل فيه يدور الجدالُ حول الخلق، والوسيلة الوحيدة اللائقة بأن يعرف هذا الإلهُ عن نفسه كخالق (9: 4-17: 12). وجزء ثانٍ تطلَّع إلى الظروف الخاصَّة بالوحي التي ينسبها المرقيونيّون لإلههم (17: 13-21: 6). كلُّ هذا القسم المركزيّ يلعب دور اعتراض مُسبَق بالنسبة إلى التالي: ما ينتج عن ذلك لإثبات إله، لا وجود، إله لم يَخلق شيئًا، لم يُنتج شيئًا. وما تجلّى في يسوع هو المسيح ممثِّل الخالق الوحيد.

* القسم الثالث (ف 22-29)

يتخصَّص لما سوف يشكِّل شخصيَّة ذاك الإله الصالح deus optimus، ولصلاحه : توسُّع أوَّل (ف 22-24) يثبت لا أهليَّة صلاح لا يتجاوب من معيار من معايير اللاهوت الثلاثة: الأزليَّة. العقلانيَّة. الكمال. والتوسُّع الثاني (ف 25) يحمل جوابًا نافيًا لسؤال يُطرَح: هل الصلاح وحده، دون سائر العواطف، يليق بالألوهة؟ والتوسُّع الثالث (26: 1-29: 8) حيث يرتفع الصوت، فيبيِّن عبثيَّةَ perversitas, vanitas إله يَفرض على مؤمنيه قواعد خلقيَّة قاسية، فلا هو ديّان ولا هو معاقِب: ينتهي هذا التوسُّع بمقابلة مع المسيحيّين في »الكنيسة الكبرى« بالنسبة إلى تحريم الزواج لدى المرقيونيّين، ممّا يُتيح ردّ البرهان على هذا الإله بتهمة القساوة والقتل المنسوبة إلى الخالق.

وتستعيد خاتمة قصيرة البراهين وتحيلنا إلى ولْي المؤلَّف بالنسبة إلى النقاط التي رُسمت رسمة سريعة(43).

ب- تصميم الكتاب الثاني

جاء أيضًا في ثلاثة أقسام نكتشفها عبر إشارة قدَّمها الكاتب(44). موضوع هذا الكتاب هو »دفاع«، أبّولوجيّا(45) إله اليهود والمسيحيّين ضدّ نقائض مرقيون. وأخذ هذا الدفاعُ عن الخالق سلسلةً من أسئلة واعتراضات من عند الهراطقة(46)، ترتَّبت بحسب ما أراد ترتليان أن يبيِّن: الصلاح المرفوض للخالق لدى الخصوم، والعدالة التي صارت شرٌّا في نظرهم، اتَّحدتا اتِّحادًا متناسقًا فيه ووَهبتا ملءَ اللاهوت وبالتالي وحدانيَّة الله.

يتذكَّر المطلع الصياغة وموضوع هذا الكتاب الثاني (ف 1). ويتحدَّث عن الاعتداد الهرطوقيّ (ف 2). ثمَّ يأتي تنبيه مسبق(47) إلى صلاح الخالق »الإله المعروف« (ف 3-4). عندئذٍ يأتي جسمُ الكتاب الموزَّع على ثلاثة أقسام:

* القسم الأوَّل (ف 5-10)

يبرِّئ الخالق من مأساة سفر التكوين: هذا الإله لا يُحسَب مسؤولاً عن خطيئة آدم ولا عن خطيئة إبليس. في صلاحه، خلقَ الإنسانَ وإبليس ومنحهما حرِّيَّة الاختيار. كلاهما فسدا حين استعملا هذه الحرِّيَّة استعمالاً سيِّئًا. إذًا، هو لا يُحسَب على خامتهما. هذه البرهنة تتوزَّع في خمس مسائل مرقيونيَّة، مع جواب على كلِّ سوال: تحاليل حول حرِّيَّة الاختيار، صورة الله في الإنسان، صفة النفس qualitas animae التي هي نسمة الله وأدنى من الروح.

* القسم الثاني (ف 11-19)

هو مركز الكتاب. يعالج ترتليان عدالة الخالق منذ خطيئة الإنسان حتّى الشريعة الموسويَّة: يتفحَّص »كلّ نظام الإله العادل«(48) ليُثبت أوَّلاً أنَّ العدالة والصلاح لا ينفصلان منذ الخلق، وثانيًا أنَّه يجب أن نميِّز بين شرِّ الخطيئة والشرّ القضائيّ الذي هو خيرٌ حين يوجَّه نحو الخير، وثالثًا أنَّ العدالة الإلهيَّة تمارَس بواسطة العواطف (مثل الغضب) التي ترتدي في الله شكلاً لا يفسد. وبعد ذلك، وبعد تذكير بالرحمة وبالصبر لدى إله العهد القديم، يقومُ بتبرير »قساوات« الشريعة (شريعة المثل، سن بسنّ وعين بعين. المحرَّمات الطعاميَّة، الذبائح)، ثمَّ يقدِّم موجزًا لتعليم الأنبياء يبيِّن صلاح الخالق.

* القسم الثالث (ف 20-27)

هو تفحُّص الملفّ، قطعة قطعة، الذي شكَّله مرقيون لكي »يدمِّر الخالق«: ويمرُّ الغشُّ المرتَّب ضدَّ المصريّين في سرقة آنيتهم المنزليَّة (ف 20)، ولاتماسكُ إلهٍ وُصف بمتحرِّك وغير ثابت(49)، يجعل نفسه في تعارض مع الشريعة (ف 21-22)، يتراجع عن حكمه ويندم (ف 23-24)، له صغارات وحقارات (ف 25-26). ويأتي شرحٌ »موجز« فيختم هذه المجموعة مقدِّمًا تفسيرًا لاهوتيٌّا لهذه »الحقارات« التي يجب أن تُعادَ لا إلى الله الآب، اللامنظور في بهائه، بل إلى ابن الله الكلمة الذي استعدَّ منذ البدء إلى التنازل والتجسُّد (ف 27).

وتأتي خاتمة طويلة (ف 28-29) فتردُّ على مرقيون نقائضه الخاصَّة: قدَّم ف 28 »تناقض تناقضات« anti-antithèse تبيِّن أنَّنا نستطيع أن نقدِّم »اللوم« للإله المرقيونيّ، ذاك الذي قدِّمه للخالق. وبيَّن ف 29 وحدانيَّة الإله الصالح والعادل انطلاقًا من النقائض، وأنكر للهرطوقيّ حقّ استعمال المفهوم اللائق بالخالق وحده، استعمالاً مشروعًا.

3. المصادر

إنَّ ردَّ ترتليان في هذين الكتابين كما في الكتاب الثالث، يستند أساسًا إلى تناقضات ألَّفها مرقيون ليجعل إله العهد القديم في مواجهة مع إله العهد الجديد. انطلق من هذا المؤلَّف الذي أورده في 1/9: 4(50) وحلَّله، حيث الإله الخالق هو إله دنيء، قاضٍ قاسٍ، محارب، فظّ، جاهل لوجود إله سامٍ، غيور، شرّير، غير ثابت ومتقلِّب وأخذ من النقائض ما قيل عن الإله السامي، الكلّيّ الصلاح، العذب والهادئ الذي »انحدر« لكي يتجلّى في يسوع المسيح، في السنة الخامسة عشرة لملك طيباريوس قيصر. ومن المرجع عينه أخذ المسائل والاعتراضات التي تشكِّل ملفٌّا ضدَّ الخالق. واستعمل ترتليان أيضًا رسالة لمرقيون عرفها وحده، وفيها يتحدَّث الهرطوقيّ عن ارتداد في الكنيسة الكبرى(51). قد يكون وجد فيه إشارة 1/2: 2(52) مع تقارب بين لو 6: 43 (الشجرة الجيِّدة لا تحمل ثمرًا رديئًا) وإش 45: 7 (أنا مبدع النور وخالق الظلمة)، في أصل نظرته إلى إلهين. وفي ما يتعلَّق بالكتب المقدَّسة عند المرقيونيّين، من الواضح أنَّه حتّى الصياغة الأخيرة، لم يتمَّ هذا التفحُّص وإن نظر إليه وأُعلن (1/15: 1؛ 16: 2؛ 2/3: 4): لا تحمل كتبُنا أيَّة إشارة إلى معرفة دقيقة لهذا القانون (اللائحة) الكتابيَّة. فهي تكتفي بتأكيدات عامَّة حول تشويه الكتب المقدَّسة بيد مرقيون، أو حــول رفضـــه إنجيل الحقيقة Evangelium veritatis.

ويصعب علينا أن نعرض دَين ترتليان بالنسبة إلى الأدب الكنسيّ، لأنَّه ما ترك لنا أيَّة إشارة في هذا الموضوع. فنحن نعرف أنَّ كتابات كثيرة توجَّهت في منتصف القرن الثاني ضدّ المرقيونيَّة، إمّا وحدها وإمّا مع هرطقات أخرى. قدَّم هرناك لائحة في كتابه مرقيون (ص 238-250). يبدو أنَّه كان كتاب ليوستين ضدّ مرقيون استعمله إيرينه (الهراطقة 4/6: 2) وذكره أوسيب في التاريخ الكنسيّ (4/11: 8ي)، وكتاب ضدّ الهراطقة لإيرينه، لاسيَّما وأنَّ يوستين وإيرينه مذكوران في الردّ على الولنطينّيين (5: 1) ونجد في لائحة هرناك تيوفيل الأنطاكيّ الذي ألَّف كتابًا قيِّمًا ضدَّ مرقيون. استفاد ترتليان من كتاب تيوفيل إلى أوتوليكوم في الدفاع (أبولوجيتيكوم)، كما من كتاب ضدّ هرموجين في كتابه الردّ على هرموجين السابق للردّ على مرقيون. من المؤسف أنَّه لم يبقَ في حوذتنا سوى مؤلَّف إيرينه.

ما الذي أخذه ترتليان من سابقيه؟ سنة 1943 قدَّم جيل كويسبال أطروحة فرضت نفسها (Brounen). قال: إنَّ النشرة الأولى للردّ على مرقيون monobiblos حول الإله المرقيونيّ انطلقت من إيرينه. في مرحلة ثانية، عاد الكاتب إلى يوستين في كتاب مكرَّس للكرستولوجيّا. سوف يصبح الكتاب الثالث في الصياغة الأخيرة، وكان تيوفيل في أساس الكتاب الثاني. هو طرحٌ بارع ولكن لا يمكن التحقُّق منه لأنَّنا لا نعرف شيئًا عن كتابَي يوستين وتيوفيل. فيبقى اتِّصال ترتليان بالجماعات المرقيونيَّة في قرطاجة.

4. اللجوء إلى الكتاب المقدَّس

قيل الكثير عن لجوء ترتليان إلى الأسلوب المنطقيّ والعقلانيّ في جداله حول اللاهوت. ولكن هذا لا يمنع أن يعود إلى الكتب المقدَّسة من أجل فكره الخاصّ، وإمّا للردّ على اعتراضات مرقيون الذي استند في نقائضه على شهادة العهد القديم لكي يهاجم »إله اليهود. لهذا كانت العودة إلى البيبليا ثلاثة أضعاف في الكتاب الثاني(53) ممّا هي في الكتاب الأوَّل(54).

إنَّ النصوص الكتابيَّة الواردة بمعزل عن مرقيون، دخلت كلُّها في البراهين. وهي تسعى بشكل عامّ لتُثبت السلطة الإلهيَّة للحقائق الفوطبيعيَّة مثل وحدانيَّة الله (1 كو 8: 4 في 1/3: 1) وتساميه (إش 40: 25 في 1/4: 2) وكماله (مت 5: 48 في 1/24: 1). أو لبعض نقاط السلطة التعليميَّة: صلاح الخلق (تك 1-2 في 2/4 و2/11: 22) سقوط إبليس (حز 28: 11-16 في 2/10)، طبيعة الملائكة (مز 104: 4 في 2/28: 2-2/10: 1) الحكم على الهرطقات وغرائبها (إش 40: 13-14؛ رو 11: 33 في 2/2: 4)، عبور من »الأمور القديمة في الشريعة« إلى جديد الإنجيل (مز 2: 1-3 في 1/21: 1). وهنا نقدِّم ملف »الشهادات« testimonia كما نقرأه في 1/20: 4-5، وذلك في إطار حادثة أنطاكية:

4 ومع ذلك، كعلامة الوحدة في الكرازة -هذا ما نقرأ قبل هذا المقطع- ضمّا أيديهما، وبتوزيع المهمَّة توافقا حول جماعة الإنجيل (غل 2: 9). ونقرأ في موضع آخر: »سواء أنا سواء هم، هذا ما نكرز به« (1 كو 15: 11).

إن هو ذكر الإخوة الكذبة الذين تغلغلوا (غل 2: 4) لينقلوا الغلاطيّين إلى إنجيل آخر، فهو يبيِّن أنَّ تشويه الإنجيل توخّى لا أن يُدخل الإيمان بإله آخر ومسيح آخر، بل أن يُثبّت ممارسة الشريعة، لأنَّه وبَّخ الذين طالبوا بالختان ومارسوا الأوقات والأيّام والأشهر والسنين في الاحتفالات اليهوديَّة (غل 5: 2-13؛ 4: 10)، التي وجب أن يعرفوا إلغاءها بحسب الترتيبات الجديدة للخالق، الذي أعلن منذ زمان الأمر بواسطة أنبيائه. هكذا في إشعيا: »الأشياء القديمة عبرت وأنا أصنع الآن جديدًا« (إش 43: 18-19). وفي مقطع آخر: »أقيم عهدي لا كما أقمتُه مع آبائكم حين أخرجتُهم من أرض مصر« (إر 31: 31-32). وأيضًا بواسطة إرميا: »تجدَّدوا في تجدُّد جديد واختتنوا من أجل إلهكم وانتزعوا قلفة قلوبكم« (إر 4: 3-4)

5 فإذ أكَّد مثلَ هذا الختان وهذا النوعَ من التجدُّد، مال الرسول بالغلاطيّين عن الاحتفالات القديمة التي أعلن ذاتُ الإله الذي خلقها، أنَّها تزول في يوم من الأيّام. وذلك بفم هوشع: »أُبطلُ كلَّ سرورها وأعيادها ورؤوس شهورها وسبوتها وكلَّ احتفالاتها« (هو 2: 13). وأيضًا بفم إشعيا: »لا أحتمل رأس شهوركم وسبوتكم ويومكم العظيم. نفسي كرهت احتفالاتكم وصومَكم وأيّامَ أعيادكم« (إش 1: 13-14).

هذا بالنسبة إلى العهد الجديد. وبالنسبة إلى العهد القديم، بدا ترتليان قريبًا من التفسير الصوَريّ والنبويّ: إن بداية مز 2 رُبطتْ برفض عبوديّات الشريعة. كلام حزقيال حول رئيس صُور فُهم كنبوءة عن إبليس. وإن استعمل خبر تك 1-2 في المعنى الحرفيّ للدلالة على صلاح الخالق، إلاَّ أنَّ آيتين فُسِّرتا تفسيرًا صوريٌّا: تك 2: 8 (عبور من العالم إلى الكنيسة)، تك 2: 18 (خلْقُ حوّاء بالنسبة إلى مريم والكنيسة). في كلِّ هذه الحالات، تسلَّم ترتليان تفاسيره »الروحيَّة« من التقليد الكنسيّ. ولكن حصل له أن يمدَّ هذا النمط من التأويل إلى البعيد. مثلاً تعجُّب إش 40: 13-14 (من أرشد روح الرب) مع صداه في رو 11: 33 (ما أعمق غنى الله)، صار بالنسبة إليه نبوءةً عن الاعتداد الهرطوقيّ، بحسب ثيمة اعتاد عليها. وعرف أيضًا أن يستفيد من تفصيل ما: »الدينونة« في رو 11: 33 صارت له برهانًا للكلام عن »إله ديّان«.

ولكن غالبًا ما يخضع اللجزء إلى البيبليا لاستعمال مرقيون لمساندة طروحاته، وهنا يكون ترتليان ممثِّل التفسير التقليديّ في الكنيسة. غير أنَّه يبتعد بعض المرّات عن هذه الفطنة لتأويلات ظرفيَّة تتجاوب مع أهدافه »الحربيَّة« أو حاجته لكي يزيد البرهان برهانًا. برَّر مرقيون نهجه اللاهوتيّ ذاكرًا الشجرة الصالحة والشجرة الرديئة في مَثَل لو 6: 432، حيث رأى صورة إله الصلاح والخالق. عارض ترتليان هذا التفسير الغريب بتأويل صحيح (1/2: 1) يعيد هذه الآية المفهومة بشكل كلام بسيط simplex capitulum إلى سياقها (تعليم يسوع الأخلاقيّ) الذي يعطيها بُعدَها الحقيقيّ (حول الإنسان وأعماله). ولكن بعد ذلك لا يتردَّد المبرهن في حماسه في أن يستعيد التأويل الذي رفضه ليستغلّ المقطع عينه ضدّ خصمه، بعد أن فهمه في شكل معاكس: بمناسبة مقاطع كتابيَّة أخرى (مز 44: 2؛ يون 4: 2)، رأى أنَّ ثمرة الشجرة الصالحة تدلُّ على الكلمة ابن الله (2/4: 2)، أو في هذه الشجرة الصالحة عينها، الخالق (2/4: 3). استعمل مرقيون »المشادَّة في أنطاكية« (غل 2: 11-21)، ليبيِّن اختلافًا تعليميٌّا بين بطرس وبولس، وليشرِّع الاقتطاعات التي يقوم بها في العهد الجديد. أمّا ترتليان فاستعاد ما قاله في التقادم 23-24 ليقدِّم ضدّ مرقيون شرحًا دقيقًا، قاسيًا لهذا المقطع: كان الخلاف حول مسائل من الحياة العمليَّة conversatio، لا حول مسألة لاهوتيّة. وأضاف صورة عن بولس الجديد في إيمانه ورسالته، أخذها من الرسالة إلى غلاطية (2: 1). وتجاه هذا التصرُّف قدَّم موقفًا لاحقًا (2 كو 9: 19-20) سيكون موافقًا لموقف بطرس: وهكذا يُدمِّر برهانُ مرقيون المؤسَّس على خلاف مزعوم (1/20: 2-3).

وتظهر المراعاة »للتاريخ« أيضًا بمناسبة العهد الجديد، حيث المواجهة كانت خطيرة جدٌّا. فمرقيون استعمله لكي يتَّهم من دعاه الفاطر، الباري، Demiurge أو »إله اليهود«. من أجل هذا تبنّى تفسيرًا حرفيٌّا للأنتروبومورفيّات (تشبيه الله بالإنسان) البيبليَّة، كما رفض (في خطِّ المجمع اليهوديّ) كلَّ لجوء إلى الشرح »الروحيّ« الذي نجده في العهد الجديد الذي هو تتمَّة »الصور« أو »النبوءات« في العهد القديم. لام ترتليان خصمَه لأنَّه لا يقبل هذا النمط من الشرح(55). ويعطي أمثلة(56) أو يشير تعريضًا(57). ولكنَّه يَصدُقُ حين يأخذ بالتأويل الحرفيّ، التاريخيّ الذي يدعوه مرقيون بساطة الحقيقة(58). ولكن حيث يقدِّم الهرطقوقيّ تفسيرًا متحيِّزًا وسيّئ النيَّة، يقدِّم ترتليان تفسيرًا يستعيد فيه إلهُ العهد القديم مكانته. هو يستند إلى حرفيَّة البيبليا دون أي استعارة أو بحث عن الأليغوريّا.

فنصّ إش 45: 7 (أَخلقُ الشرور). جعله مرقيون إقرارًا من قبل يهوه بأنَّه صانع الشرّ. فقدَّم ترتليان تمييزًا بين »الخطيئة« و»العقاب«. لا يُنسَب إلاَّ العقاب (الذي هو في الواقع خير) إلى ذاك الذي بيَّن تك 1-2 أنَّه صلاح صالح، مع تكرار »صالح« و»خير« (2/14: 2-3).

ورأى مرقيون في اللامائت 32: 39 (أَضرب وأَشفي) برهانًا عن لاتماسكات الخالق (1/16: 4). أمّا ترتليان فرأى في هذه الآية وظيفة الأبُ والسيّد التي هي وظيفة الله (2/13: 4-14: 1).

كلُّ خَبرِ خلْق الإنسان وسقطته، المفهومُ في المعنى الحرفيّ، استعمله مرقيون ليبيِّن حالة إجرام الفاطر Demiurge. احتفظ ترتليان بالتفسير عينه فبيَّن مسؤوليَّة الإنسان الكاملة. وشكَّلت آيتان بيبليّتان فهمتا في دقَّة الألفاظ، تك 1: 26 (الإنسان على صورة الله ومثاله)؛ تك 2: 7 (إعطاء الإنسان نسمة، لا الروح) عُقدةَ شرْحة ونقطةَ جدليَّته: الآية الأولى بيَّنت في الإنسان خليقة مميَّزة وقويَّة بفضل حرِّيَّة الإرادة. والآية الثانية بيَّنت كائنًا معرّضًا للسقوط (2/5: 5-9: 9).

وأعاد ترتليان إلى الكتاب مكانته، مع براهين عقليَّة، وفي السياق التاريخيّ، في أحداث جرَّمها مرقيون: الطوفان، حريق سدوم، ضربات مصر، عقابات للشعب اليهوديّ، موت الأطفال الذين هزئوا بإليشاع (2/14: 4)، وأخيرًا حين سرق العبرانيّون المصريّين عند انطلاقهم (2/20: 2-4). والتعارضات التي ندَّد بها الهرطوقيّ بالنسبة إلى السبت وتحريم الصور، تزول ساعة نميِّز موضوع هذه النظم أو الفرائض: توقُّف الأشغال البشريَّة في حالة، إيقاف الميول الأصناميَّة في حالة ثانية (2/21: 2؛ 22: 1-2).

وفي ما يتعلَّق بتنظيمات الشريعة اليهوديَّة المتَّهمة (الجزاء الاجتماعيّ في خر 20: 5)؛ شريعة المثل، المحرَّمات الطعاميَّة، الذبائح، التفاصيل في ما يتعلَّق بالآنية البيتيَّة)، فتبرَّر بحسب الشرح التقليديّ: تربيةُ الله لشعبه »القاسي الرقاب« الذي يجب إعداده من بعيد للحقبة الإنجيليَّة (2/15: 1-2؛ 18؛ 19: 1؛ 22: 2-4). ومسألة »الندامة« الدى إله العهد القديم، تجد حلاٌّ في جدليَّة رائعة تركم ثلاثة مقاطع تُفهَم في المعنى الحرفيّ: 1 صم 15: 11؛ يون 3: 10؛ 1 صم 15: 29. هذا النصّ الأخيرُ يُبرز بشكل صريح أنَّ ندامة الله وعواطفه الأخرى، هي خاصَّة به ولا علاقة لها بالندامة لدى البشر (2/24). أخيرًا، هزئ مرقيون من بعض الأنتروبومورفيّات: جهلُ يهوه حين سأل آدم (تك 3: 9) وقايين (تك 4: 9)، حلفُ الله. فاستعاد ترتليان هذا التفسير »المحقِّر« ورأى في هذه الأفعال عملَ المشييئة الإلهيَّة التي تريد أن تعلِّم الإنسان، أن تكوِّن إيمانه، أن تقدِّم له أمثلة يسير فيها أو أخرى يتجنَّبها (2/ 25: 1-5؛ 26).

هذه القراءة »التاريخيَّة« للعهد القديم، امتدَّت أيضًا إلى نصوص أغفلها مرقيون عمدًا، فذكَّره بها ترتليان: فرائض الدكالوغ (الوصايا العشر) المتعلِّقة بحبِّ القريب (2/ 13: 25؛ 17: 4)، أعمال الرحمة والتوبة التي تسلِّفُ أسفار الملوك الإله التوراتيّ (2/17: 2). وأخيرًا تعليم الأنبياء الأخلاقيّ والدينيّ، وتعليم المزامير الذي يحملُ المواعيد« التي تتمُّ مع الحقبة الإنجيليَّة (2/19: 2-4). هذا المثل الأخير يبيِّن بسيهولة أنَّه إلى التفسير »البسيط« يُضاف التفسير »الروحيّ« الذي اعتادت عليه الكنيسة لتحدِّد موقع العهد الجديد في اتِّصال بالعهد القديم.

ولكنَّ هذا التقييم للعهد الجديد بالنظر إلى تأويل حرفيّ وتاريخيّ، دون أن يكون حصريٌّا، أراده ترتليان دقيقًا ليغلب خصمه بسلاحه. وهو يتوَّج بشرح لاهوتيّ يحمل الحلّ الإجماليّ والحاسم لجميع المسائل التي تطرحها الأنتبوربومرفيّا وسائر »حقارات« الإله البيبليّ. هو لجوء إلى لاهوت الابن الكلمة. ساعة أعلن مرقيون لاهوتًا شكليٌّا modaliste بحسبه تجلَّت الألوهة مباشرة في يسوع(59)، قامت »الكنسة الكبرى« بتمييزات في الكائن الإلهيّ: الآب والابن والروح القدس. وكلّ المجهود اللاهوتيّ في القرن الثاني منذ يوستين، اهتمَّ بتحديد »الإله الثاني«، الابن الكلمة، وبصياغة نظريَّة تسعى إلى شرح تيوفانيّات العهد القديم: هذه الظهورات الإلهيَّة لا يمكن أن تُنسَب إلى الآب الذي تحدَّثت البيبليا عنه أنَّه لا يُرى. إذًا، جُعلت للابن الكلمة، الذي عمل مشيئة الآب وتجلّى وحده للعالم. وهكذا أرى الله أناسًا نفسَه قبل أن يتجسَّد في يسوع المسيح.

هنا اكتفى ترتليان بأن يستعيد نظريَّة سابقيه، ولاسيَّما تيوفيل وإيرينه، ليمدَّها إلى كلِّ »الحقارات« التي تحدَّث عنها مرقيون: إنَّ تصرُّفات الخالق »البشريَّة« يجب أن تُنسَب إلى الابن الكلمة وحده، الذي جعل نفسه في متناول البشر فهيَّأ تجسُّدَه وعلَّم البشريَّة كيف تستقبله (2/27: 3-6). تأثَّرت الأنتروبومورفيّات بمتطلِّبات التدبير الخلاصيّ فهاجمها المرقيونيّون. ولكنَّها وَجدت من وجهة أخرى شرحًا »يليق بالله« (2/27: 7). هذا التوسُّع الجميل الذي يُنهي قراءة »مصحَّحة« للعهد القديم، فهمه بعضُهم بشكل خاطئ: رأوا فيه نظريَّة لاهوت »تبعيّ« subordinatien. في الواقع، لا أثر للامساواة جوهريَّة بين الآب والابن. كمما ضخَّموا الفرق بين ما يقوله ترتليان عن الابن الذي يُرى، وبين ما سوف يقوله في الردّ على بركسياس (ف 14) حيث يقول إنَّ الابن يُرى بما أنَّه ابن، ولكن بما أنَّه كلمة وروح، فهو يقاسم الآب في صفة تجعله لا يُرى(60).

وننهي كلامنا بهذا المقطع من الكتاب الثاني (27: 3-6)

3 أما يجب على هذه الصغارات منذ الآن أن تجعلنا نظنُّ أنَّ المسيح الذي واجه الآلام البشريَّة، كان مسيحَ الإله الذي تلومون عنده علامات الضعف البشريّ. فنحن نُعلن بأنَّ المسيح عمل دومًا باسم الله الآب، وكان له نشاط قريب منّا منذ بداية العالم، وقارب الآباء والأنبياء، هو ابن الخالق وكلمته، الذي جعله ابنَه حين تفوَّه به من ذاته، كما جعله رئيسًا على كلِّ عملِ تدبيره ومشيئته حين أحدره قليلاً عن الملائكة، كما كُتب في كتابه (مز 8: 6).

4 وبالنظر إلى هذا الانحدار، جعله الآب أيضًا في هذه الأوضاع التي تلومونه عليها لأنَّها بشريَّة: كان يتمرَّن منذ البدء، وقبل تأنُّسه، على ما سيكونه في النهاية. هو الذي نزل (تك 18: 21)، هو الذي سأل (تك 3: 9). هو الذي طلب (إش 45: 23). هو الذي أقسم (خر 32: 10). ما من أحد رأى الآب، ذاك ما يشهد له الإنجيل المشترك بيننا وبينكم، بحسب كلام المسيح: »ما من أحد رأى الآب سوى الابن« (لو 10: 22).

5 فهو الذي في العهد القديم أعلن:»لا يرى أحد الله ويحيا« (خر 33: 20). هكذا حدَّد الآبَ اللامنظور. فتحتَ سلطته وباسمه صار هو الإله الذي يُرى، ابن الله، وما نفهم في شخص المسيح هو الممسوح الذي نفهمه نحن أيضًا.

6 إذًا، كلُّ ما تطلبونه على أنَّه لائق بالله يُوجَد في الآب الذي لا يُرى، الذي لا يُقرَب منه، المسالم. وهو إله الفلاسفة. ولكن كلُّ ما تنتقدونه فيه على أنَّه غير لائق بالله، يُنسَب إلى الابن الذي رأيناه وسمعناه واقتربنا منه. هو الفاعل وخادم الآب الذي امتزج فيه الناسوت واللاهوت، إله في عجائبه، إنسان في صغاراته لكي يعطي الإنسان كلَّ ما يأخذ من الإله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM