الفصل الثاني :«التناقضات» عند مرقيون

الفصل الثاني

«التناقضات» عند مرقيون

هذا الكتاب الذي ننسبه بلا شكّ إلى مرقيون، تحدَّث عنه ترتليان على أنَّه يجعل تعارضًا بين أقوال خالق العالم وأعماله، وبين أقوال الإله الصالح وأعماله، بين الشريعة كما في العهد القديم، وبين الإنجيل. هو كتاب هجوميّ ودفاعيّ، يُميَّز فيه إلهان متعاديان، بحيث يكون الإنجيل مستقلاٌّ كلَّ الاستقلال عن العهد القديم، وهو جديد كلَّ الجدَّة بالنسبة إلى التوراة.

قال ترتليان: »الفصل بين الشريعة والإنجيل يشكِّل المؤلَّف الرئيسيّ لمرقيون: لا يستطيع تلاميذه أن يُنكروا ما يكوِّن بالنسبة إليهم هذا الكتاب الساميّ، الذي فيه يتنشَّؤون في هرطقتهم ويتَجذّرون. هو تناقضات مرقيون أي التعارضات اللامتوافقة التي تحاول أن تقيم خلافًا بين الشريعة والإنجيل، وهكذا يستنتجون من تعارض الفكر بين كتابين إلى تعارض بين إلهين« (ضدّ مرقيون 1/19).

وواصل ترتليان كلامه في 4/6: 1-2: »نحن نعود كما وعدنا سابقًا، إلى إنجيل مرقيون، لكي نبرهن هنا أنَّه تعهَّر. ففي الحقيقة، كلُّ ما صاغه حتّى في بناء أوَّل لـ»التناقضات« وجَّهه بالقوَّة نحو هذا الهدف: الإعلان، عبر التعارض بين العهد القديم والعهد الجديد، أنَّ المسيح أيضًا ينفصل عن الخالق وكأنَّه من إله آخر، وكأنَّه غريب عن الشريعة والأنبياء! ولهذا السبب، حذف (مرقيون) كلَّ النصوص التي تعارض نهجه، تلك التي تتوافق مع الخالق، وهي نصوص مزعومة أقحمها مشايعو الخالق. مقابل هذا، احتفظ بنصوص تسير في خطِّ نهجه«.

وفي 4/1: 1-2: »لكي يثبِّت الإيمانَ بإنجيله، منحَهُ شرحًا من عنديّاته: فالمؤلَّف الذي دعاه تناقضات لأنَّه وضع التعارضات وجهًا لوجه، والتي وجَّهها بالقوَّة نحو فصل الشريعة عن الإنجيل، بمعنى أنَّه ميَّز إلهين متعارضين أيضًا، يعود كلٌّ منهما إلى إله »أداة« أو »عهد«، كما اعتاد أن يقول، لكي يُفصِّل إنجيلاً يجب أن نؤمن به أيضًا في خطِّ التناقضات. وهذه التناقضات كنت سوف أدمِّرها في حرب مواجهة، أي أستعيد اعتراضات رجل البنطس، اعتراضًا بعد اعتراض، لو لم يكن المناسب أن أردَّ عليها في (ومع) الإنجيل ذاته بعد أن وُضعت في خدمته«.

وفي 4/4: »إذا كان الإنجيل الذي ننسبه إلى لوقا، ولا يهمُّنا إن كان أيضًا لدى مرقيون، هو ذاته الذي يتَّهمه مرقيون على مدِّ التناقضات على أنَّ المتشيِّعين للعالم اليهوديّ حرَّفوه ليكون جزءًا لا يتجزَّأ من الشريعة والأنبياء ممّا يُتيح لهم أن يصوغوا مسيحًا من هذا المزج، فهناك واقع أكيد: ما كان باستطاعة مرقيون أن يتَّهم سوى إنجيل واحد وجده أمامه«.

وفي 2/29: »تسعى التناقضات، انطلاقًا من صفات استعداداتها الخلقيَّة أو شرائعها أو معجزاتها، لكي تميِّز، وهكذا تفصل من الخالق المسيح، فيتغرَّب صلاحُه الكبير عن هذا الديّان، ووداعتُه عن المتوحِّش، ووظيفته الخلاصيَّة عن هذا المهلك«.

* * *

* ماذا تقول مقدِّمة التناقضات؟

رَذلت الأربعة الأناجيل في الكنيسة الكبرى، على أنَّها كاذبة، ووضعت حدٌّا لرسل العالم اليهوديّ ولتلاميذهم، ومنحت قيمة فقط لبولس الرسول الذي دُعي بوحيٍ خاصّ. ماهت بين إنجيله والإنجيل الثالث الذي أعطيَ بشكل مباشر من لدن المسيح، ولكنَّه صار غريبًا عن لوقا بعد أن تخلَّص من التحريفات المتهوِّدة.

وهكذا بدأ الغربال يفعل فعله في العهد القديم. وكان لهذا »الغربال« هدفان: الأوَّل، أن يُبرز »عدالةً« لا رحمة فيها، وقساوةً في العقاب، والقساوة والحسد والغضب لدى الفاطر démiurge. ثمَّ تفضيلاته الشرّيرة وحقارته وحدوده، وتقلقله الذي لا يتوقَّف، ووصاياه وفرائضه التي هي مثال جدل في وجهة خلقيَّة. ويصل هذا النقد إلى ذروته حين يبيِّن أنَّه »صاحب الشرور« والمحرِّض على الحروب، والكاذب في مواعيده والشرّير في أعماله.

والهدف الثاني أن يبيِّن أنَّ كلَّ مواعيد خالق العالم كانت أرضيَّة وزمنيَّة. وإذا لم تكن كذلك، فقد تمَّت في تاريخ الشعب اليهوديّ أو هي ستتمّ في المستقبَل. لهذا كان المسيح الموعود ملكًا حربيٌّا أرضيٌّا سوف يأتي في الحقيقة. والإنباءات التي تشير إليه ليست بالكثيرة، لأنَّ معظمها تمَّ في داود وسليمان وغيرهما، وفُسِّرت تفسيرًا كاذبًا بالنسبة إلى المسيح الآتي.

* وبماذا تتميَّز التناقضات؟

أوَّلاً اللفظ المفتاح هو »جديد«، ممّا يشرح صرخة الابتهاج التي بها تبدأ. نقرأ عند ترتليان: »الإله الجديد«. وعند أوريجان: »الألوهة الجديدة«. ثمَّ »الملكوت الجديد« و»الملكوت الجديد الذي لم يُسمَع به« عند ترتليان. فالمسيح يخلق جديدًا لأنَّه كوَّن ذاته (إيرينه). »المسيح الجديد هو ربُّ العناصر وسيِّدها« (ترتليان). ونقرأ في ترتليان عن »التعاليم الجديدة ليسوع الجديد«، أو »معجزات المسيح الجديدة«، أو »الوثيقة الجديدة« عن قدرة المسيح وصلاحه حين أقام ابن أرملة نائين. و»الفريضة الجديدة« بأن »يغفر دومًا، من جديد، الخطايا«. »فالغفران لجميع الإخوة هو أمر جديد«. »نظام المسيح الجديد« في إلغاء وصيَّة السبت. »طول الأناة الجديد« الذي انكشف في وصايا المسيح الجديدة. »حنان المسيح الجديد«. وهناك طريقة جديدة في الكلام لدى المسيح حين يقدِّم الأمثال. حين يجيب على الأسئلة«. »بولس كاتب جديد ومحامٍ جديد«، »الروح، جديد العهد«. وأخيرًا الخليقة الجديدة كما في 2 كو 5: 17 والقدّيس أوغسطين.

ثانيًا، في التناقضات أعادنا مرقيون بشكل خاصّ ومرّات عديدة إلى بعض نصوص العهد القديم: »العظام التي تأكلون«. في العهد الجديد أعادنا إلى المقاطع التي تتحدَّث عن الشجرة الصالحة والشجرة الرديئة، عن الثوب الجديد والثوب العتيق، إلى لو 10: 22 (»وحده الابن يعرف الآب«). ونقرأ عند ترتليان: »هراطقة آخرون استندوا أيضًا إلى هذه الآية. وإلى غل 2: 1ي: »أهم رسالة ضدّ اليهود«. إلى التطويبات: »وآتي الآن إلى لائحة مرتَّبة لأقوال تُتيح له أن يُدخل تعليمه الخاصّ، أن يُدخل قرار المسيح بحصر المعنى« (كما قال ترتليان). وأعادنا إلى لو 18: 19 (»ما من صالح إلاَّ الله وحده«). قال أوريجان: »يرى المرقيونيّون في هذا القول رايةً أُعطيت لهم بشكل خاصّ«. وقال ترتليان في هذا المجال: »الله الصالح هو سعيد وغير فاسد ولا يخلق ولا يخلق عائقًا لنفسه ولا لغيره. تلك هي الفكرة التي يجترُّها مرقيون«. وأعادنا إلى لو 16: 16 (»الشريعة والأنبياء لم تصل إلى يوحنّا«) وإلى 2 كو 3: 3-13. »العهد الجديد الذي يبقى في المجد، وعلى العهد القديم أن يُخليَ المكان«.

* * *

وها نحن نقدِّم التناقضات:

* عُرف الفاطر لدى آدم والأجيال اللاحقة، أمّا أبو المسيح فلم يُعرَف كما قال المسيح نفسه بهذه الكلمات: »ما من أحد عرف الآب من دون الابن«.

* لم يعرف الفاطر أين كان آدم. لهذا صاح: أين أنت؟ ولكنَّ المسيح عرف حتّى أفكار البشر.

* احتلَّ يشوع الأرض بالعنف والقساوة. أمّا المسيح فمنع كلَّ عنفٍ وكرز بالرحمة والسلام.

* ما أعاد اللهُ الخالق النظرَ إلى إسحاق الأعمى، أمّا ربُّنا الذي هو صالح، ففتح عيون العميان الكثيرين.

* تدخَّل موسى، دون أن يدعوه أحد، في خلاف بين الإخوة وواجه الذي يتصرَّف تصرُّفًا سيِّئًا: لماذا تضرب قريبك؟ فردَّ عليك ذاك: من جعلك قاضيًا أو سيِّدًا علينا. أمّا المسيح، ومع أنَّ أحدهم طلب منه أن يلعب دور الوسيط في مسألة إرث بينه وبين أخيه، فرفض مشاركته حتّى في قضيَّة عادلة - لأنَّه مسيح الإله الصالح، لا مسيح الإله الديّان - وقال: من جعلني عليكم قاضيًا؟

* الإله الخالق أعطى موسى هذه المهمَّة، ساعة الخروج من مصر: كونوا مستعدِّين. لتكن أوساطُكم مشدودة ونعالكم في أرجلكم وعصيِّكم في أيديكم وجرابكم على كتفكم واسرقوا الذهب والفضَّة وكلّ ما يملكه المصريّون. أمّا ربُّنا، الإله الصالح، فقال لتلاميذه حين أرسلهم إلى العالم: لا نعال في أرجلكم، لا جراب، لا ثوبٌ ثانٍ، لا فضَّة في مناطقكم!

* نبيّ الإله الخالق (موسى) صعد إلى قمة الجبل ساعة كان الشعب في المعركة، فبسط يديه إلى الله لكي يقتل أكبر عدد من الناس في الحرب. ولكن ربّنا الإله الصالح، يبسط يديه على الصليب، لا ليقتل البشر بل ليخلِّصهم.

* قيل في الشريعة: عين بعين وسنّ بسن. أمَّا ربنا الإله الصالح، فقال في الإنجيل: من ضربك على خدِّك الأيمن فمدّ له الآخر.

* قيل في الشريعة: ثوب مقابل ثوب. أمَّا ربنا الصالح فقال: من طلب منك ثوبك فخلِّ له الرداء.

* إنَّ نبيّ الإله الخالق إذ أراد أن يقتل أكبر عدد ممكن في المعركة، أوقف مسيرة الشمس لئلاَّ تغيب قبل أن يَفنى أعداءُ الشعب. أمَّا الرب الإله الصالح، فقال: لا تغربِ الشمس على غضبكم.

* واجه العميان داود حين إحتلال صهيون وقاوموه ساعة الدخول إلى المدينة، فقتلهم داود. أمّا المسيح فراح بنفسه إلى العميان وأعانهم.

* خالق العالم أرسل عقاب النار حين طلب منه إيليَّا. أمّا المسيح فمنع التلاميذ من طلب نارٍ من السماء.

* نبيّ الإله الخالق أمر الدبب أن تخرج من الغابة وتفترس الأطفال الذين التقاهم. أمّا الربُّ الصالح فقال: دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأنَّ لمثل هؤلاء ملكوت السماء.

* إليشع، نبيّ الإله الخالق، لم يطهِّر سوى أبرص واحد، نعمان السوريّ، بين عدد كبير من البرص في بني اسرائيل. أمّا المسيح ومع أنَّه »الغريب« فشفى اسرائيليٌّا ما أراد ربُّه أن يشفيه. احتاج إليشع إلى المادَّة (أي الماء) من أجل الشفاء، و(الغطس) سبع مرات. أمّا المسيح فشفى بكلمةٍ واحدةٍ بسيطة. شفى إليشع أبرصَ واحدًا فقط. أمّا المسيح فشفى عشرة وهذا بالرغم ممّا تتطلَّب الشريعة. تركهم بكلِّ بساطة يمضون في طريقهم لكي يُظهروا أنفسهم للكهنة. وطهَّرهم وهم بعد في الطريق، دون أن يلمسهم، دون أن يقول لهم كلمة. شفاهم بقدرة صامتة فقط لأنَّه أراد.

* قال نبيّ خالق العالم: أقواسي مشدودة وسهامي موجَّهة عليكم. أمّا الرسول فقال: البسوا سلاح الله لكي تقدروا أن تُفلتوا من سهام الشرير المشتعلة.

* قال خالق العالم: لا تسمعون بآذانكم. أمّا المسيح فقال: من له أذنان سامعتان فليسمع.

* قال خالق العالم: ملعون من عُلِّق على خشبة. أمّا المسيح فقاسى الموت على الصليب.

* إنَّ خالق العالم أرسل مسيح اليهود فقط لكي يجمع الشعب اليهوديّ المشتّت. أمّا مسيحنا فكلّفه الإله الصالح بأن يحرِّر مجمل الشعب البشريّ.

* الصالح صالحٌ نحو الجميع. أمّا خالق الكون فلا يعِد بالخلاص إلا للذين يطيعونه... الصالح يخلّص الذين يؤمنون به ولكنَّه لا يدين الذين لا يطيعونه. خالق الكون يخلِّص المؤمنين به ويدين الخطأة ويحكم عليهم.

* اللعنة سمة خاصَّة بالشريعة. والبركة سمة خاصَّة بالإيمان (بالإنجيل).

* أمرَ خالق الكون بأن يعطي الواحدُ إخوته (فقط). أمّا المسيح فأمرنا بأن نعطي جميع الذين يطلبون.

* قال خالق الكون في الشريعة: أنا صنعت الغنيّ والفقير. أمّا المسيح فطوَّب الفقراء وحدهم.

* في شريعة الديّان تعطى السعادة للأغنياء والتعاسة للفقراء. أمّا في الإنجيل فعكس ذلك.

* في الشريعة، قال الله (خالق العالم): يجب أن تحبَّ من يحبُّك وأن تَبغض عدوَّك. أمّا ربُّنا الإله الصالح فقال: أحبُّوا أعداءكم وصلّوا للذين يضطهدونكم.

* خالق العالم أمر بممارسة السبت، أمّا المسيح فألغاه.

* خالق العالم رذل العشَّارين لأنَّهم أناس لايهود ودنيويون. أمّا المسيح فاستقبل العشّارين.

* تمنَعُ الشريعة لمس امرأةً تتألَّم من نزف دمها. أمّا المسيح فما اكتفى بأن يلمسها، بل شفاها.

* سمح موسى بالطلاق. أمّا المسيح فمنعه.

* وعد مسيح العهد القديم لليهود بأن يعيدوا الحالة السابقة بفضل استعادة الأرض، كما وعدهم بعد الموت بملجأ في الشيول في حضن ابراهيم. أمّا مسيحنا فشيَّد ملكوت الله الذي هو خيرٌ أبديّ سماويّ.

* لدى خالق العالم موضع العقاب والملجأ، يتحدَّد موقع كليهما في الشيول للذين يرتبطون بالإيمان وبالأنبياء. أمّا المسيح والإله الذي يرتبط به، فعندهما مرفأ وموضع راحة سماوية لم يُعلنه يومًا خالقُ العالم.

* * *

حسب مرقيون، يجب أن نقرأ الإنجيل والرسائل والعهد القديم في وجهة واحدة، وجهة الجديد في تعليم اله الحبّ الفادي، وفي سمة الخوف والبكاء لإله قاسٍ وعادل، إله العالم وإله الشريعة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM