الفصل الأول: مرقيون في قراءة الكتاب المقدَّس

 

الفصل الأول

مرقيون في قراءة الكتاب المقدَّس(*)

حين نقرأ ما بقي لنا من آثار مرقيون، نكتشف أنَّ هذا الذي أسَّس كنيسة تقابل الكنيسة الكاثوليكيَّة، ما زال حيٌّا حتّى اليوم. فهو يرفض العهد القديم باسم العهد الجديد، ويفصل إله موسى عن إله يسوع المسيح. بل يعتبر أنَّ أسفار العهد الجديد، ولاسيَّما الأناجيل، قد دخلتها أمور يهوديَّة. لهذا يجب أن نطهِّر العهد الجديد من شوائب علقت به بسبب اليهوديَّة المسيطرة. وهو ينطلق من بولس الذي نال وحيًا خاصٌّا، ومن لوقا الذي هو تلميذ بولس، وهكذا يكوِّن ديانة خاصَّة نجد آثارها اليوم لدى عدد من الذين يسمُّون نفوسهم »بحّاثة« مع أنَّهم ينطلقون من أمور مسبَّقة فيسخِّرون نصَّ الكتاب المقدَّس من أجل أغراضهم الشخصيَّة التي قد لا تكون بعيدة عن حبِّ المال الذي اعتبره بولس أصلَ كلِّ الشرور (1 تم 6: 10).

أوَّلاً: سيرة مرقيون ومصادر معرفتنا له

1. سيرة مرقيون

وُلد مرقيون في سينوب، في البنطس، على شاطئ البحر الأسود(1) نحو السنة 85 ب.م. كان والده أسقفًا وانتمت أسرته إلى أرقى طبقة اجتماعيَّة في هذا المرفإ وهذه المدينة المهمَّة. حرمه والده لأنَّه دنَّس فتاة عذراء(2). قد نكون هنا أمام خبر يريد أن يطبع بطابع السواد شهرة هذا »الهرطوقيّ«. وإن يكن في عمل مرقيون ردَّة فعل سيعرفها عدد من الذين خرجوا على الكنيسة ليدلُّوا على تحرُّرهم وربَّما على فلتانهم. واعتبر بعضهم أنَّ الخبر رمزيّ: دنَّس مرقيون الكنيسة حين ترك إيمانه(3). فقال ترتليان في هذا المعنى: »وماذا يقول أولئك الذين دنَّسوا (إيماننا) بزيِّ الهرطقة، هذا الإيمان الذي هو عذراء سلَّمها لنا المسيح«(4).

كان مرقيون صاحب سفن في المدينة فجمع ثروة واسعة. وجاء إلى رومة سنة 140 تقريبًا، في عهد أنطونين التقيّ (86-161ب.م.). فانضمَّ أوَّلاً إلى جماعة المؤمنين هناك، غير أنَّ تعاليمه ما عتَّمت أن أثارت مقاومة عنيفة. عندئذٍ طلبت منه سلطات الكنيسة أن يؤدِّي حسابًا عن إيمانه. وكانت النتيجة أنَّه حُرم سنة 144. وهكذا حُرم مرَّة ثانية بعد أن لقي مقاومة في موطنه سينوب.

هنا نعود إلى المطلع الأنتيمرقيونيّ لإنجيل يوحنّا. حين ترك مرقيون سينوب ليتابع عمل سفنه، كان يقدِّم في المدن التي يمرُّ فيها رسائل توصية جاء بها من إخوته في البنطس. هذا يدلُّ على أنَّ عددًا من الناس في موطنه تعاطفوا معه، تجاه الذين قاوموه. وهكذا حاول مرقيون أن يجعل الناس يأخذون بتعليمه في كلِّ موضع نزل فيه. ويروي هذا المطلع(5) أنَّ يوحنّا الإنجيليّ طرد مرقيون بعد جدال مع بابياس. قد نكون أمام يوحنّا آخر الذي طرد مع شيوخ أفسس مرقيون كما يقول فيلاستريوس(6).

وهكذا يكون مرقيون حُرم مرَّة أولى ومرَّة ثانية. نجد صدًى لذلك في خبر أورده إيرينه، أسقف ليون في فرنسا (130-202) عن لقاء بين مرقيون وبوليكرب. قال مرقيون: »اعرفنا« (أي اعرف من نحن). أجاب بوليكرب: »أعرفك أنت، يا بكر إبليس«(7). إنَّ التعارض بين صيغة المتكلِّم الجمع (نحن) وصيغة المخاطب المفرد (أنت) تفترض أنَّ مرقيون كان أسَّس في ذلك الوقت حزبًا أو كنيسة. تمَّ هذا اللقاء بين بوليكرب ومرقيون في آسية الصغرى (أي تركيّا الحاليَّة).

حين جاء مرقيون إلى رومة ليتفلَّت من محيط سينوب، بدأ فقدَّم إلى الجماعة المسيحيَّة هناك هديَّة(8) تتألَّف من 200 ألف سسترس(9). يروي ترتليان في كتابه ضدّ مرقيون أنَّ مرقيون قدَّم هذه الهديَّة السخيَّة »في حرارة إيمانه الأولى«(10)، وأنَّه ما صار هرطوقيٌّا إلاَّ بعد أن تتلمذ لقردون(11) وخلفَه في هرطقته(12).

يتحدَّث القدّيس إيرينه عن قردون هذا وتأثيره على مرقيون فيقول:

»وانطلق قردون هو أيضًا من تعليم الذين حول سيمون (الساحر المرتبط اسمه بالغنوصيَّة). أقام في رومة في أيّام هيجين(13) الذي كان تاسع من تسلَّم الوظيفة الأسقفيَّة بالتسلسل من الرسل، وعلَّم أنَّ الإله الذي أعلنته الشريعة والأنبياء ليس أبا ربِّنا يسوع المسيح، فالأوَّل عُرف والثاني لا يُعرف. واحد هو عادل والآخر صالح«(14).

بسبب هذه التلمذة لقردون، لم يعد هناك اتِّفاق بين آراء مرقيون وآراء كنيسة رومة. وكان جدال حاسم في شهر تمُّوز 144. حسب هيبوليت، دار الجدال حول لو 6: 43 الذي يقول: »الشجرة الرديئة لا تحمل ثمرًا جيِّدًا«. وحسب إبيفان، حول لو 5: 36-37 حيث نقرأ:

»ما من أحد ينتزع قطعة من ثوب جديد لترقيع ثوب عتيق، لئلاَّ يُشقَّ الثوب الجديد وتكون الرقعة التي انتزعها منه لا تلائم الثوب العتيق. وما من أحد يضع خمرًا جديدة في أوعية جلد عتيقة، لئلاَّ تشقَّ الخمرُ الجديدة هذه الأوعية، فتسيل الخمر وتُتلف الأوعية«.

يقول ترتليان في هذا المجال:

»قدَّم لنا البنطيّ (أي مرقيون ابن البنطس) إلهين... الإله الذي ما استطاع أن ينكره أي الخالق، أي إلهنا، والإله الذي لم يستطع أن يبرهن عنه أي إلهه. والذي ألهم التعيسَ هذا الافتراض، مقطعٌ بسيط من تعليم ربِّنا، حين يطبِّقه على البشر، لا على الآلهة، مثَل الشجرة الصالحة والشجرة الرديئة: الشجرة الصالحة لا تحمل ثمرًا رديئًا، والشجرة الرديئة لا تحمل ثمرًا جيِّدًا« (لو 6: 43)«(15).

ما اقتنع مرقيون بما قالته كنيسة رومة. فطُرد بعد أن أُعيد إليه ماله(16)، ومضى يؤسِّس كنيسة موازية للكنيسة الكاثوليكيَّة. هنا يختلف مرقيون عن سائر الغنوصيّين. اكتفوا هم بتأسيس المدارس. أمّا هو فأسَّس كنيسة خاصَّة به. وأقام فيها أساقفة وكهنة وشمامسة. وشابهت الاجتماعات الليتورجيَّة فيها مشابهة دقيقة لتلك التي تُمارَس في الكنيسة الرومانيَّة. وهكذا كسب عددًا كبيرًا من المتشيِّعين لم يصل إليه أيُّ مفكِّر غنوصيّ. ويقول يوستين:

»بعد عشر سنوات على حرم مرقيون، امتدَّت كنيسته في مجمل البشريَّة. وفي منتصف القرن الخامس ظلَّت الكنائس المرقيونيَّة عديدة في الشرق، ولاسيَّما في سورية، بل إنَّ بعضها لبث حيٌّا في نهاية القرون الوسطى«(17).

2. مصادر معرفتنا له

انتشر تعليم مرقيون انتشارًا كبيرًا منذ منتصف القرن الثاني، وطرح على الكنيسة المسيحيَّة أسئلة خطيرة. لهذا كانت ردَّات الفعل عديدة وواسعة. وما يدلُّ على ذلك عدد الكتّاب الذين حاولوا مجابهة هذه الهرطقة التي امتدَّت في الشرق والغرب(18).

نبدأ فنقول إنَّه لم يبقَ شيء من مرقيون ومن تلاميذه المباشَرين. فجميعُ كتاباتهم أُتلفت إتلافًا تامٌّا. أمّا أقدم ردٍّ فيعود إلى يوستين صاحب كتاب ضدّ جميع الهرطقات(19). وترك لنا يوستين أيضًا كتابًا ضدّ مرقيون ضاع الآن(20). ولكن استعمله إيرينه(21)، وأشار إليه أوسيب في التاريخ الكنسيّ(22). وردَّ أيضًا على مرقيون مودست(23) ورودون(24) وديونيسيوس الكورنثيّ(25) ومليتون السرديسيّ وغيرهم.

ولكن في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث، ساعة كانت المرقيونيَّة في أوجِّها، انبرى ثلاثة كتّاب عظام فقدَّموا لنا جوهر معلوماتنا: الأوَّل هو إيرينه في كتابه ضدّ الهراطقة(26)؛ والثاني هو ترتليان في خمسة كتب: تقادمٌ (أي حقّ مكتسب بمرور الزمن)، ضدّ الهراطقة(27)، جسد المسيح(28)، ضدّ مرقيون(29)، في القيامة(30)؛ والثالث هو هيبوليت(31).

في الإسكندريَّة ناقش كليمان أفكار مرقيون الخلقيَّة والنسكيَّة في موشَّياته(32)، وتوقَّف أوريجان عند طريقة تعامله مع الكتاب المقدَّس(33). وجاء كتّاب لاحقون أخذوا عن سابقيهم. نذكر حوارات أدامنتي(34)، وخطب أفرام ضدَّ ماني ومرقيون وبرديصان(35)، وتفسيره للإنجيل(36)، وأزنيك كولبي الأرمنيّ وتيودوريه القورشيّ.

ونورد هنا نصٌّا يُجمل فكر مرقيون كما نقرأه في إيرينه، ضدّ الهراطقة(37):

»خلفه (= قردون) مرقيونُ البنطيّ (الذي من بنطس) الذي توسَّع في تعليمه وجدَّف بوقاحة على الإله الذي أعلنته الشريعة والأنبياء (أي العهد القديم): في رأيه، هذا الإله هو كائن مسيءٌ يحبُّ الحرب، ومتقلِّبٌ في أحكامه، ومتضارب مع نفسه. أمّا يسوع فمن الآب الذي هو فوق الإله الذي صنع العالم. جاء إلى اليهوديَّة في زمن الوالي بونسيوس بيلاطس، وكيل طيباريوس قيصر. ظهر بشكل إنسان لسكّان اليهوديَّة، فألغى الأنبياء والشريعة وكلَّ أعمال الإله الذي صنع العالم والذي يسمِّيه مرقيون »كوسموكراتور« (ضابط الكوسموس أو الكون). بالإضافة إلى ذلك، شوَّه مرقيون الإنجيل بحسب لوقا، فأزال منه كلَّ ما يتعلَّق بولادة الربّ، وحذف أيضًا عددًا من تعاليم الربِّ، ولاسيَّما تلك التي يقرُّ فيها بأوضح عبارة أنَّ خالق هذا العالم هو أبوه. وهكذا أقنع تلاميذه أنَّه أهل للتصديق أكثر من الرسل الذين كتبوا الإنجيل، ووضع بين أيديهم، لا الإنجيل، بل جزءًا صغيرًا منه. وشوَّه أيضًا رسائل الرسول بولس فألغى جميع النصوص التي فيها يشير الرسول إلى نبوءات تعلن مسبَّقًا مجيء الربّ«.

»حسب مرقيون، لا خلاص إلاَّ للأنفس التي تعلَّمت تعليمه. أمّا الأجساد التي أُخذت من التراب، فلا تشارك في الخلاص...«.

جعل إيرينه مرقيون مع الغنوصيّين الذي يشدِّدون على المعرفة الباطنيَّة، ويعتبرون المادَّة شرٌّا بحيث لا يكون للكلمة أن يتجسَّد، أن يلبس المادَّة. لا شكَّ في أنَّ مرقيون لامس الغنوصيَّة، ولكنَّه في الواقع لم يكن غنوصيٌّا مثل باسيليد وولنطين وهرقليون وغيرهم. فهو يُعتبر أوَّل »مصلح« في الديانة المسيحيَّة، ومعيدَ الاعتبار إلى تعليم بولس الذي سيصبح في القرن التاسع عشر مؤسِّسَ المسيحيَّة، مع أنَّه يُسمّي نفسه »عبد يسوع المسيح« وخادمه.

في الواقع، ما أراد مرقيون أن يربط اللامحدود بالمحدود عبر سلسلة من الكائنات، كما فعل الغنوصيّون. ولا اهتمَّ بالتنظير في أسباب الفوضى التي تسيطر على العالم المنظور. واختلف أيضًا عن الغنوصيّين حين ترك الاستعاريَّة في تفسير الكتب المقدَّسة. ومع ذلك، فلاهوت مرقيون يكشف ذات المزيج من أفكار وثنيَّة ومسيحيَّة كما في الغنوصيَّة. ومفهومه لله مفهوم غنوصيّ. فهناك تمييز حقيقيّ بين الإله الصالح الذي يعيش في السماء الثالثة والإله العادل الذي هو أدنى منه. ونجد الطابع الغنوصيّ في نظرته إلى الكون، في الكوسمولوجيّا. فالإله الثاني الذي خلق الكون والإنسان هو »داميورغس« (خالق العالم) الشيع الغنوصيَّة. وهو لم يخلق الكون من العدم، بل كوَّنه انطلاقًا من مادَّة أزليَّة هي مبدأ كلِّ شرّ. وماهى مرقيون هذا الإله الثاني مع إله اليهود، إله الشريعة والأنبياء. هو عادل، ولكن عنده نزواته: فهو يغضب سريعًا وينتقم. وهو صاحب كلِّ شرٍّ مادِّيٍّ ومعنويّ. كما أنَّه محرِّك جميع الحروب في العالم.

وتعكس كرستولوجيَّة مرقيون هذا الاتِّجاه الغنوصيّ عينه. فالمسيح ليس الماسيّا (أو: المشيح) الذي أنبأ عنه العهد القديم. هو ما وُلد من العذراء مريم. وما عرف ولادة ولا نموٌّا، كما لم يعرف حتّى ظاهر النموّ. في السنة الخامسة عشرة من حكم طيباريوس قيصر، ظهر فجأة في مجمع كفرناحوم. وكان له منذ ذلك الوقت مظهر بشريّ احتفظ به حتّى موته على الصليب. وحين سفك دمه افتدى جميع النفوس من سلطة خالق العالم (داميورغس)، وألغى سلطانه بكرازته ومعجزاته. نلاحظ هنا أيضًا فكرة غنوصيَّة. فحسب مرقيون، ينحصر الفداء في النفس، لأنَّ الجسد يظلُّ خاضعًا لسلطة الخالق وعرضة للدمار.

على ماذا أسَّس مرقيون هذه التعاليم المتقلِّبة؟ أما شعر أنَّ لا منطق في براهينه؟ ذاك هو وضع الأشخاص الذين يضعون أفكارًا مسبَّقة ويفرضونها على الناس. ومرقيون نفسه ما رأى أنَّه يجب عليه أن يشرح أصل إلهه، إله العدل، وهو لم يقل لماذا ترتدي ذبيحة الصليب كلَّ هذه الأهميَّة في نظره مع أنَّها ذبيحة شبح وخيال(38).

ثانيًا: مشروع الخلاص بالنسبة إلى الإنسان

بعد هذه النظرة السريعة إلى فكر مرقيون وارتباطه بالعالم الغنوصيّ، وقبل التوقُّف عند اتِّجاهه بالنسبة إلى الكتاب المقدَّس، نعالج تعليمه حول خلاص الإنسان (أو السوتيريولوجيّا)، وحول تكوين الإنسان (أو الأنتروبولوجيّا).

1. مرقيون والخلاص في المسيح

نبدأ فنقرأ هذا المقطع من ترتليان في كتابه ضدَّ مرقيون(39). فهو يعطينا نقطة الانطلاق في تعليمه حين يحاول أن يطرح مشكلة الشرّ:

»تألَّم مرقيون، شأنه شأن عدد كبير من الناس ولاسيَّما الهراطقة، بسبب مشكلة الشرّ، أصل الشرّ. وضعفت عيناه بسبب إفراطه في الفضوليَّة. عندئذٍ وجد كلمة الخالق(40): »أنا الذي خلقتُ الشرور« (أش 45: 7). وبقدر ما ظنَّ أنَّ الخالق هو صاحب الشرِّ مستفيدًا من براهين أخرى تقنع العقول الفاسدة في هذا الاتِّجاه، قدر ذلك فهم في تفسيره أنَّ هذا الخالق هو الشجرة الرديئة التي تحمل ثمارًا رديئة، أي الشرور. وهكذا اعتقد أنَّه يجب أن يوجد إله آخر يقابل الشجرة الصالحة التي تحمل ثمارًا صالحة. وهكذا اكتشف في المسيح تدبيرًا آخر مصنوعًا كلَّه من الصلاح، لأنَّه يعارض تدبير الخالق. فاستنتج بسهولة وعن طريق البرهان، إلهًا جديدًا وغريبًا كشف عن نفسه في مسيحه«.

أ- نقطتان أساسيَّتان: في أساس نهج مرقيون، هناك نقطتان أساسيَّتان(41)، كما يقول ترتليان: معارضة بين الشريعة والإنجيل. ثمَّ، مجّانيَّة الخلاص المطلقة في المسيح. لا علاقة للشريعة بالإنجيل، لأنَّها ترتبط بإله يختلف كلَّ الاختلاف عن إله الإنجيل. فالعهد القديم كلُّه يقف على مستوى العدل، على عدالة مخيفة تفرض على الإنسان عبوديَّة تسحقه. والإله الخالق في هذا العهد القديم، هو إله اليهود الذي يضرب الأبرار والخطأة معًا. أمّا إله العهد الجديد، فهو غير هذا الإله. هو إله صالح، وغريب عن عالمنا، وغريب عن الذي خلق العالم. هذا الإله يعرف كلَّ شيء، ولاسيَّما شقاء الإنسان. وما توقَّع أحد كيف يكون لو لم يكشف عن نفسه. إذن، ما انتظره أحد ولا تصوَّره إنسان.

غير أنَّ هذا الإله تطلَّع إلينا بشكل مجّانيّ، وظهر لنا في ابنه. لكنَّ الرسل ما استطاعوا أن يفهموا، فأعادوا الإنجيل إلى الشريعة، وطبعوه بطابع يهوديّ. لهذا غضب بولس على أهل غلاطية:

»أيُّها الغلاطيّون الأغبياء! من الذي سحر عقولكم، أنتم الذين ارتسم المسيح أمام عيونهم مصلوبًا. أسألكم سؤالاً واحدًا: هل نلتم روح الله لأنَّكم تعملون بأحكام الشريعة أم لأنَّكم تؤمنون بالإنجيل؟ هل وصلت بكم الغباوة إلى هذا الحدّ؟« (غل 3: 1-3).

وهكذا تميَّز بولس عن سائر كتّاب العهد الجديد، وامتازت رسائله عن نصوص الإنجيل. فهو وحده من علَّمه الله بشكل مباشر، فما احتاج إلى الرسل، وما احتاج إلى التقليد الكنسيّ الذي يتحدَّث عنه في 1 كو 11: 23؛ 15: 3 (ذاك هو موقف الغنوصيّين أيضًا). بل شهد عن نفسه فقال:

»أنا بولس، رسولٌ لا من الناس ولا بدعوة من إنسان، بل بدعوةٍ من يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات« (غل 1: 1). ثمَّ قال في آ11-12: »فاعلموا، أيُّها الإخوة، أنَّ البشارة التي بشَّرتكم بها غير صادرة عن البشر. فأنا ما تلقَّيتُها ولا أخذتُها من إنسان، بل عن وحيٍ من يسوع المسيح«.

وهكذا أدرك بولس وحده تعليم يسوع، وندَّد بقوَّةٍ بالرسل الكذبة، الذين يعتبرون نفوسهم رسلاً من الدرجة الأولى. إذن، ليس هناك سوى إنجيل واحد، هو الإنجيل الذي تسلَّمه بولس من الله لا من تقليدٍ بشريّ. هذا هو الإنجيل الذي يجب أن نعيده إلى الكنيسة بعد أن فقدته.

لماذا كتب بولس ما كتب إلى أهل غلاطية؟ لأنَّ خصومه تحدَّثوا عنه كرسول من الدرجة الثانية، كشخص جاء متأخِّرًا فتسلَّم سلطته من البشر لا من يسوع المسيح(42). كلام هؤلاء الناس فيه يتضمَّن نوايا خبيثة. وإذا كان الذين يعتبرون أنفسهم سائرين تحت راية يعقوب وبطرس(43)، أرادوا أن يهاجموا بولس الذي لم يعرف يسوع خلال حياته على الأرض، فسيقول لهم الرسول إنَّه تسلَّم دعوته من المسيح كما تسلَّمها سائر الرسل. وسيقول في 1 كو 15 إنَّه رأى المسيح القائم من الموت كما رآه بطرس ويعقوب وغيرهما. وهكذا لا يعني كلام بولس أنَّه تعلَّم بشكل مباشر من يسوع، بل هو التقى الربَّ يسوع، فوجب عليه أن يعود إلى الكنيسة المحلِّيَّة. أوَّلاً، مضى إلى شخص مغمور هو حنانيا فقبل منه التعليم والعماد (أع 9: 17-19). ثمَّ عاش في كنائس »العربيَّة« أي منطقة حوران، فتعلَّم الكثير عن يسوع في هذه الجماعات المسيحيَّة الأولى (غل 1: 17). وأخيرًا بدأ يبشِّر بيسوع الذي هو ابن الله (أع 9: 20).

أجل، تسلَّم بولس رسالته من المسيح. وكما تعلَّم سائر الرسل من يسوع خلال رسالته في الجليل وفي اليهوديَّة، تعلَّم بولس من الكنيسة التي هي جسد المسيح. وإن هو رفض الارتباط بأيَّة سلطة بشريَّة، فليس ذلك تكبُّرًا واحتقارًا، بل تشديدًا على أنَّ رسالته هي على مستوى رسالة الرسل الآخرين، وعلى أنَّ الكنائس التي أسَّسها توازي الكنائس التي أقامها بطرس ويوحنّا ويعقوب. وأمّا ما كتب بولس فهو لم يكتبه وحده. ففي الرسالة إلى تسالونيكي مثلاً، كتب مع سلوانس وتيموتاوس (1 تس 1: 1). وقد يكون طلب من أحد أعضاء الجماعة بأن يكتب باسمه وباسم الكنيسة. فالرسالة إلى غلاطية وقَّعها بيده (غل 6: 11). والرسالة إلى رومة كتبها ترتيوس (رو 16: 22). أترى الرسول أملاها؟ أترى كتب ترتيوس فعبَّر عن تفكير الجماعة وتأمّلها؟ وفي أيِّ حال، كُتبت الرسالة إلى أفسس بعد موته(44)، مستوحية الرسالة إلى رومة والرسالة إلى كولوسّي. وهكذا نستغني عن هؤلاء البحّاثة الكذبة الذين يربطون الديانة المسيحيَّة ببولس. فبولس قال: »حياتي هي المسيح« (فل 1: 21). ونحن نتبع المسيح، لا بولس. وإن كنّا نقتدي ببولس (1 كو 4: 16) فلأنَّه يقتدي بالمسيح (1 كو 11: 1) الذي لأجله حسِب كلَّ شيء كالزبل ليربح المسيح (فل 3: 8).

ب- تعليم عن الخلاص: إنَّ »أبا المراحم وإله كلِّ تعزية« (2 كو 1: 3) جاء في يسوع المسيح(45) يعلن إنجيل المحبَّة لجميع البشر، لا لعدد قليل(46) كما يقول مرقيون، بعد أن يلغي من البشريَّة اليهود المرتبطين بالإله الخالق. ولا نتمثَّل المسيح بشكل ماسيّا ينتظره اليهود فتحمل رسالتُه في كلِّ مكان تسلّط الشريعة(47). وبما أنَّ يسوع هو تجلّي الآب، أو بما أنَّ الآب يتماهى مع يسوع بعد أن تجرَّد من بشريَّة مستعارة، فهو يكاد لا يتميَّز عنه(48). هو ما وُلد من امرأة، وما عرف النموَّ البشريَّ البطيء، بل ظهر فجأة، ناضجًا كلَّ النضوج في مدينة كفرناحوم(49). من أجل هذا، سيحذف مرقيون إنجيل الطفولة من لوقا، ويبدأ الإنجيل الخاصَّ به في الفصل الثالث من إنجيل لوقا.

ومع ذلك، أراد المسيح حقٌّا أن يحتمل الآلام، فاختار الموت على الصليب لكي يتحدَّى الخالق الذي لعن الصليب(50). غير أنَّ جسد يسوع لم يكن مصنوعًا من عناصر مادِّيَّة مثل أجسادنا. بل كان يظنُّ أنَّه من لحم ودم(51). كان خيال الجسد(52)، روح الخلاص(53). اشترى يسوع الإنسان بموته. هو ما افتداه، لأنَّ الفداء يفرض التضامن. ولكنَّ يسوع ظلَّ غريبًا عن الإنسان. فيردُّ ترتليان على مرقيون:

»المسيح أحبَّ هذا الإنسان، هذا الدم (المتجمِّد) الذي تكوّن في الحشا وسط القذارات، هذا الإنسان الذي جاء إلى العالم بواسطة الأعضاء النجسة. من أجله نزل. من أجله بشَّر. من أجله تنازل بكلِّ تواضع حتّى الموت، بل موت الصليب (فل 2: 8). في الظاهر، أحبَّ ذاك الذي افتداه بثمن كبير (1 كو 6: 20؛ 7: 23). إن كان المسيح جاء من الخالق، وجب عليه أن يحبَّ ما يخصُّه. ولكن إن جاء من إله آخر، فيحبُّه حبٌّا أكبر بعد أن افتدى فيه غريبًا. وهكذا أحبَّ في الوقت عينه، الإنسان، وأحب ولادته، وأحبَّ لحمه ودمه«(54).

مات يسوع ونزل إلى الجحيم لينتزع من هناك أولئك الذين اعترفوا به مخلِّصًا، أمثال قايين وبني سدوم والمصريّين، وعاكسوا هابيل وإبراهيم وموسى فرفضوا أن يخضعوا للإله المنتقم كما في الشريعة القديمة(55). وفي المستقبل، يخلِّص الذين قبلوا الإنجيل. ولكنَّهم لم يكونوا عددًا كبيرًا. فأكثر الناس سيسقطون تحت نير الإله الديّان، ولا يطلبون التبرير بالإيمان في إله محبٍّ لا يدين. وفي اليوم الأخير، يُفصل المؤمنون عن الآخرين: تكون الحياة الأبديَّة للمؤمنين. أمّا الآخرون فستدركهم نار الخالق(56). وأخيرًا، يدمِّر خالقُ الكون نفسه، ويدمِّر العالم إلى الأبد. هذا ما يقول إزنيك كولبي في منتصف القرن الخامس(57).

2. تعليم مرقيون عن الإنسان

إذا أراد الإنسان أن يدخل الملكوت، وجب عليه أن يحيا بحسب روح التطويبات(58)، التي تعارض معارضة جذريَّة الشريعة القديمة. لهذا برزت الحاجة لنسك قاسٍ جدٌّا، من أجل تدمير أعمال الخالق واحتقارها ولعنها. هذا ما يورده ترتليان في كتابه حول الصوم (15: 1) فيتبعه إيرونيم في ردِّه على يوفينيان (2: 16): هناك العفَّة الدائمة(59) والصوم كلَّ سبوت السنة(60). بالإضافة إلى ذلك، يجب الامتناع عن ممارسة الحياة الجنسيَّة لئلاَّ يتواصل عمل الخلق. وهكذا نكون في قلب الحركة التعفُّفيَّة(61). والزواج هو تجارة الفحش والفجور(62). هو زنى وتعدٍّ على الآخر.

هنا نقرأ ما قاله إيرينه في كتابه على الهراطقة (1/28: 1):

»هناك أناس يستلهمون ساتورنين ومرقيون، ويسمَّون المتعفِّفين. يُعلنون رفض الزواج، ويتخلَّون عمّا جبله الله في القديم (الإنسان)، ويتَّهمون بشكل غير مباشر ذاك الذي صنع الرجل والمرأة من أجل الإنجاب (رج تك 1: 27-28). أدخلوا العفَّة (الامتناع) عمّا يسمُّونه »حيوانيّ«، وأنكروا جميل الإله الذي صنع كلَّ شيء. كما أنكروا خلاص الإنسان الأوَّل... أعلن (تاتيان) في خطى مرقيون وساتورنين أنَّ الزواج فساد وفجور واعتبر أن الكلام عن خلاص آدم يعارض نفسه بنفسه«(63).

ونقل ترتليان عن مرقيون كلامه الفجّ في الحبل والولادة:

»تكلَّمْ بإطناب عن أعمال الطبيعة هذه، المقدَّسة والجديرة بالاحترام، هاجمْ كلَّ ما أنت فيه، أُهدمْ أصلَ الجسد والنفس، سمِّ بطن الأم مجرورًا، مع أنَّه الموضع الذي ينتج هذا الحيوان النبيل الذي هو الإنسان. هاجمْ بقوَّة عذابات المرأة، حين تضع طفلها... وبعد أن تدمَّر كلَّ هذا وتثبِّت أنَّ هذا لا يليق بالله، لن تكون الولادة أقلَّ قدرًا من الموت، ولا الطفولة من الصليب، ولا الطبيعة من العذاب، ولا الجسد من الحكم: فإن كان مسيحك تألَّم حقٌّا كلَّ هذه الآلام، فلم يكن هذا أقلَّ خطرًا له لو لم يولد. وإن لم يتألَّمها إلاَّ كذبًا وبصفته شبحًا، فقد كان بالإمكان أيضًا أن يولد كذبًا«(64).

هنا نتوقَّف عند الفصل الرابع في كتاب ترتليان جسد المسيح: بما أنَّ التجسُّد ليس مستحيلاً على الله، يبقى أنَّ مرقيون يراه غير لائق بالله. ولكنَّ المسيح لم يهتمَّ بقذارة الحبل والولادة، فأحبَّ الإنسان حبٌّا لكي يخلِّصه. وإن أراد أن يختار جسد حيوان، فلا يحقُّ لنا أن ندينه، لأنَّ الله اختار ما هو جهالة في نظر العالم ليخزي حكمة العالم(65).

في هذا الإطار نفهم أنَّ الخلاص هو للنفس فقط. فلا يمكن أن نتخيَّل قيامة الأجساد. والإنسان لا يقدر أن يخلُص إلاَّ إذا تخلّى عن أن يكون صورة الخالق. وهكذا حكم مرقيون على الإنسان، ومعه حكمَ على الأمور الأرضيَّة التي تضرّنا لأنَّها تسند تدبير خالق العالم ونظام الشريعة، والتي ستزول زوالاً كاملاً في اليوم الأخير، فلا يبقى سوى مملكة المحبَّة. ولكن نطرح السؤال: ماذا يعني حبُّ الله هذا إن كان يتضمَّن تدمير كلِّ ما يعطي الإنسان كيانه؟ هنا نقرأ ما كتبه إيرينه في ردِّه على الهراطقة(66):

»فهذا الحبُّ هو أوَّل الوصايا وأعظمها. والوصيَّة الثانية هي الحبُّ تجاه القريب. علَّمه الربُّ فقال إنَّ الشريعة كلَّها والأنبياء ترتبط بهاتين الوصيَّتين (مت 22: 37-40). وهو نفسه لم يأتِ بوصيَّة أكبر من هذه، بل جدَّد هذه الوصيَّة عينها وأوصى تلاميذه بأن يحبُّوا الله من قلبهم، وقريبَهم مثل أنفسهم. فلو نزل من عند أب آخر، لما كان استعمل الوصيَّة الأولى والعظمى في الشريعة: كان سعى بكلِّ الوسائل لكي يأتي بوصيَّة أعظم من عند آب كامل، ولما كان استعمل وصيَّة أعطاها صاحب الشريعة«.

في هذا الإطار، نفهم الأخلاقيَّة التي يقدِّمها مرقيون. إنَّ الخلقيَّة التوراتيَّة، خلقيَّة العهد القديم، تلهمها العدالةُ والخوف. أمّا خلقيَّة الإنجيل فتختلف عنها كلَّ الاختلاف. فإله يسوع المسيح لا يدين أحدًا ولا يعاقب أحدًا. وإن كان التلميذ يخضع، فلأنَّه يؤمن ويحبُّ، لا لأنَّه يطلب المجازاة ويتجنَّب العقاب. بعد أن خلُص بالحبّ، صار أبعد من التعلُّق الدقيق بالشريعة. ارتبط بالتطويبات وما عاد يهتمُّ بالعذاب بعد أن تخلَّى عن كلِّ ما يتعلَّق بالجسد(67).

ثالثًا: نظرة مرقيون إلى الكتاب المقدَّس

اتِّجاه مرقيون في هذا المجال اتِّجاه غنوصيّ، ولاسيَّما حين ينقّي نصوص العهد الجديد من كلِّ شائبة، فينزع منه كلَّ المقاطع التي تربطه بالعهد القديم. ألغى مرقيون التماهي بين أبي المسيح وخالق الكون، بين المسيح وابن الله الذي صنع السماء والأرض، بين أبي يسوع المسيح وإله اليهود. ومنذ البداية، رذل العهد القديم كلَّه لأنَّه يرتبط بإله اليهود هذا الذي لا يمكن إلاَّ أن يكون شرّيرًا ومنتقمًا.

اعتقد مرقيون أنَّ اليهود حرَّفوا إنجيل يسوع الأصليّ، فأدخلوا فيه عناصر من عندهم. لهذا حاول المسيحُ أن يعيد الإنجيل إلى شكله الأوَّل. ولهذا أيضًا دعا الرسولَ بولس. غير أنَّ الرسائل نفسها حرَّفها أعداءُ بولس. من أجل هذا، ألغى مرقيون أناجيل متّى ومرقس ويوحنّا. ورذل كلَّ ما اعتبره تحريفًا يهوديٌّا في إنجيل لوقا الذي يرى أنَّه يتضمَّن جوهر إنجيل المسيح. واستبعد مرقيون من الرسائل البولسيَّة الرسائل الراعويَّة والرسالة إلى العبرانيّين. كما أزال بعض المقاطع من الرسائل التي قبِل بها. وهكذا صارت الرسالة إلى غلاطية الرسالة الأولى. وتبعتها الرسالة إلى أفسس التي صارت الرسالة إلى لاودكية. وفي النهاية حصرتْ إعادةُ النظر هذه العهدَ الجديد في وثيقتين إيمانيَّتين هما الإنجيل والرسول. ونضيف إليهما كتاب النقائض الذي فيه يبرِّر رفضه للعهد القديم بتكريس جميع المقاطع التي هي موضوع جدال والتي تتيح له أن يبيِّن الطابع الشرّير لإله اليهود. كما يعرض أيضًا في هذا الكتاب اعتراضاته على الأناجيل وأعمال الرسل(68).

1. الوثيقة المرقيونيَّة

بعد هذه النظرة السريعة إلى مرقيون وتعامله مع الكتاب المقدَّس، ولاسيَّما العهد الجديد، نتوقَّف عند الوثيقة التي كانت أداة عمل بين يديه فتألَّفت من الإنجيل (إنجيل لوقا) الذي تنقَّى من كلِّ الشوائب اليهوديَّة، ومن الرسول الذي نقرأه في رسائل دون أخرى، بعد أن ننزع عنها كلَّ ما يربطها بالعهد القديم.

أ- نقطة الانطلاق: انطلق مرقيون من فكرة تقول إنَّ القدّيس بولس فهمَ وحده فكرَ يسوع الحقيقيّ، وحافظ عليه ونقله. وما يفسِّر هذا الموقف نجده في الرسالة إلى غلاطية، وهو أمر أشرنا إليه أعلاه: فالذي دعا بولس إلى الرسالة لم يكن إنسانًا من الناس، بل يسوع المسيح (غل 1: 1). والإنجيل الذي علَّمه بولسُ لم يأتِ من عند البشر، ولم يتقبَّله الرسول من البشر، ولم يتعلَّمه من الناس، بل تلقّاه بوحي من عند يسوع المسيح (غل 1: 11-12). فلا حاجة بعد ذلك للبحث والتفتيش. وسائرُ الرسل هم رسلٌ كذبة، فما استطاعوا أن يتخلَّصوا من التأثير اليهوديّ. بل هم ظلُّوا أمناء للممارسات اليهوديَّة(69) بحيث إنَّ بولس قاوم بطرس وجهًا لوجه. إذن، لا إنجيل إلاَّ إنجيل بولس. فإن كرز واحد بطريقة أخرى، ولو كان ملاكًا من السماء، فليكن محرومًا (غل 1: 8-9).

غير أنَّ الإنجيل الذي كرز به بولس لم ينتقل بطريقة شفويَّة. فبقي على مرقيون أن يكتشف هذا الإنجيل الحقيقيّ كما كُتب تحت نظر بولس وبموافقته(70). ولكنَّ هذا الإنجيل موجود وهو إنجيل لوقا. أمّا الأناجيل الثلاثة الأخرى فاستلهمت التعليم اليهوديّ، فلم يتوقَّف عندها هذا »المُصلح« الذي أراد أن يعود إلى جذور الأناجيل، حيث لم يصل تشويهٌ ولا تحريف. وإنجيل يوحنّا نفسه الذي يصوِّر اليهود كأعداء للمخلِّص، يخطئ حين يسمّي اليهود شعبه حسب يو 1: 9: »جاء إلى خاصَّته«. لهذا، استبعده مرقيون دون أن يتفحَّصه. وبما أنَّ لوقا كان تلميذ بولس، وعاش معه مدَّة طويلة، فنحن متأكِّدون أنَّ إنجيله هو الإنجيل الصحيح(71).

غير أنَّ إنجيل لوقا نفسه تشوَّه وتحرَّفَ، فتضمَّنَ عددًا من المقاطع »اللابولسيَّة«، وأوَّلها الأخبار المتعلِّقة بطفولة يسوع. فحسب مرقيون، ظهر يسوع فجأة في كفرناحوم وهو إنسان كامل، فما حُبل به ووُلد مثل سائر البشر، ولا عاش صبيٌّا وشابٌّا كما عاش أقرانه. لهذا، يجب أن نعود إلى النصِّ الأصليِّ ونحرِّره من كلِّ الحواشي والإضافات التي تقيِّده. بل نضيف بعض الكلمات (التي ألغتها يدٌ شرّيرة) على النصِّ الإنجيليّ ليستقيم المعنى. ولكن ما هو المعيار الذي استند إليه مرقيون ليقوم بتنقيح الإنجيل كما فعل؟ حسُّه ويقينه. هناك فكرة مسبَّقة كوَّنها عن مضمون الإنجيل فانطلق منها وكتب الإنجيل »بحسب مرقيون«، لا بحسب لوقا ومرقس ومتّى ويوحنّا. وفي أيِّ حال، ليس هذا الإنجيل إنجيل يسوع المسيح كما تعلنه الكنيسة في ليتورجيَّتها وفي إيمانها وعقيدتها.

ب- رسائل القدّيس بولس: لم يكن هذا الإنجيل الكتاب القانونيّ الوحيد الذي اعتبره مرقيون قاعدة لتعليمه. فهناك أيضًا رسائل القدّيس بولس. فالتاريخ يؤكِّد أنَّ الرسول جعل نظرته الدينيَّة في عدد من الرسائل وجَّهها إلى جماعات مختلفة. تلك الرسائل هي الشاهد على مسيحيَّة صريحة لم تشوِّهها جراثيمُ الديانة اليهوديَّة. لهذا، نعتبرها مقدَّسة، شأنها شأن الأناجيل (= إنجيل لوقا). ولكن لحقها التحريف كما لحق الإنجيل، فوجب أن يُعاد النظر فيها كما أُعيد النظر في إنجيل لوقا.

أوَّلاً، وُضع على اسم الرسول مؤلَّفات ليست منه حقٌّا، ويجب أن تُنقّى من الوثيقة. هي الرسائل إلى فيلمون وتيموتاوس وتيطس التي توجَّهت إلى أفراد، ثمَّ الرسالة إلى العبرانيّين. والرسائل الصريحة نفسها شوَّهَها أشخاصٌ أعادوا قراءتها وهم مملوؤون بالروح اليهوديَّة، ومهتمُّون بأن يربطوا الكنيسة المسيحيَّة بالمجمع اليهوديّ. لهذا، حاول مرقيون أن يستعيد النصَّ الأصليّ. فقام بعمليَّة »تنظيف« تستند إلى عدد من المبادئ لخَّصها هرناك (Harnack) كما يلي:

- خالقُ الكون، إلهُ العهد القديم، لا يمكن أن يكون أبا يسوع المسيح. فهو الإله العادل فقط. ومواعيده لا تهتمُّ إلاَّ بالخير الزمنيّ للشعب اليهوديّ.

- لم يتنبَّإ العهد القديم عن المخلِّص ولا عن رسله. لهذا، فلا المسيح ولا بولس عادا إلى العهد القديم يقرآنه في معرض البشارة الجديدة.

- ظلَّ الإلهُ الصالح مخفيٌّا عن خالق الكون، إلى أن تجلّى في شخص يسوع.

- ابنُ الإله الصالح ليس هو من يقود العالم المادّيَّ ويعتني به. ليس هو الديّان، بل المخلِّص الرحيم. وموضوع مواعيده ورحمته هو الحياة الأبديَّة.

- ابنُ الإله الصالح، المسيحُ، لا يختلف عن الآب. وهذا المسيح لا علاقة له بالأرض. فما وُلد جسده من المرأة. ولا هو أتمَّ شريعة موسى، بل ألغاها: وهكذا كان التعارض أساسيٌّا بين الشريعة والإنجيل.

- هذا المسيح خلَّص الإنسان من سلطة العالم كما خلَّصه من سلطة الخالق. وما كان له سوى تلميذ واحد حقيقيّ، هو بولس. وسيعود في نهاية العالم، لا ليدين، بل ليعلن انفصال الأبرار عن الخطأة(72).

إذا طبَّقنا هذه المبادئ تطبيقًا دقيقًا، وجدنا النصَّ الأصليَّ للرسائل كما خرجت من يد الرسول(73). وهكذا جاءت الرسائل أقصر ممّا نجدها في التقليد المسيحيّ المعروف، لأنَّ الكنيسة أضافت ما أضافت، وهي التي يسيِّرها تقليدٌ يهوديٌّ مسيطر(74).

ج- إنجيل مرقيون: حين نقرأ ترتليان في كتابه ضدّ مرقيون (الجزء الرابع) وإبيفان في كتابه ضدَّ الهراطقة (42: 10ي)، نستطيع أن نقدِّم الإنجيل المرقيونيّ في خطوطه الكبرى. يبدأ الإنجيل فجأة بخبر كرازة يسوع في كفرناحوم (لو 4: 31). وجُعلت الكرازة في الناصرة (4: 16-30) بعد آ39. بعد ذلك تبع مرقيون ترتيب إنجيل لوقا حتّى ظهور المسيح القائم من الموت لرسله. غير أنَّ مرقيون ألغى عددًا من الآيات التي لا تتوافق ونظرتَه. مثلاً، ألغى 5: 39 الذي يتحدَّث عن الخمرة العتيقة وما فيها من طيبة؛ و7: 29، الأولاد الذين يلعبون؛ و8: 19، الكلام عن أمِّ يسوع وإخوته؛ و9: 26ب-27، وصول ابن الإنسان؛ و9: 31، ظهور موسى وإيليّا؛ و9: 12-15، رغبة الأنبياء في أن يروا ما رآه الرسل.

ألغى مرقيون لو 10 26-28: »فأجابه (= معلِّم الشريعة) يسوع: »ماذا تقول الشريعة، وكيف تفسِّره«؟ فقال الرجل: »أحِبَّ الربَّ إلهك بكلِّ قلبك...«. فقال له يسوع: »بالصواب أجبتَ. اعمل هذا فتحيا«. أتُرى العمل بما تقوله الشريعة يهَبُ الحياة؟ هذا مستحيل. وألغى 11: 29-32: »لن يُعطى لهذا الجيل آية سوى آية يونان. فكما كان النبيُّ يونان آية لأهل نينوى، فكذلك يكون ابن الإنسان آية لهذا الجيل«. ولكن هل يشبَّه يسوع بيونان وبسليمان؟ نقرأ في 11: 42ب: »كان يجب أن تعملوا هذا من دون أن تهملوا ذلك«. مثل هذا الكلام يجعل فرائض العهد القديم على مستوى ما يطلبه يسوع من تلاميذه في الإنجيل. وهذا مستحيل!

في لو 11: 49-51، نجد قولاً عن حكمة الله، وتلميحًا إلى هابيل وإلى زكريّا. فأيَّة حاجة أجبرت الكنيسة على العودة إلى هذين المثَلين من العهد القديم؟ ولكن لا نعلم لماذا رفض مرقيون القول في 12: 6-7 الذي يتحدَّث عن عناية الله بطيور السماء. في 13: 1-9، رفض مرقيون هذا الإله العادل الذي عاقب الجليليّين ويستعدَّ أن يعاقب سامعي يسوع إن كانوا لا يتوبون. وفي الخطِّ عينه، غاب مثَل التينة التي ما زال الكرّام يأتي سنة بعد سنة يطلب فيها ثمرًا فلا يجد. لماذا التعب مع الشعب اليهوديّ؟ قال الله: »اقطعها (= التينة)، فهي تعطِّل الأرض«. ورفض مرقيون مثَل الوليمة في ملكوت السماوات (لو 13: 29-35)، ومثَل الابن الضالّ (15: 11-32)، وجواب إبراهيم إلى الغنيّ (16: 29-30)، والإنباء بالآلام (18: 31-33).

ذكرنا عددًا كبيرًا من نصوص لوقا ألغاها مرقيون(75)، وما ذكرنا كلَّ ما ألغى(76). هي إلغاءات عديدة وهامَّة. ونحن نفهم سبب اقتطاع الآيات من النصِّ الإنجيليّ: يجب إزالة كلِّ نقاط الاتِّصال بين المخلِّص والشريعة الموسويَّة(77).

ألغى مرقيون ثلاثة أناجيل هي متّى ومرقس ويوحنا، وشوَّه انجيل لوقا فضاعت معالمه. نسي أنَّ العهد الجديد يجد جذوره في العهد القديم. فإن هو قطع الجذور، أضاع الكثير من العهد الجديد. مقابل هذا، يُلقي العهدُ الجديد بنوره على العهد القديم الذي يبقى ناقصًا إن لم يضئ عليه يسوع بتعليمه وحياته، بأقواله وأعماله. الخطأ الكبير في تعامل مرقيون (وتلاميذه العديدين في هذا الشرق) مع العهد القديم، هو قراءة حرفيَّة للنصوص، ونسيان طريقة الله في تربية شعبه وتربية البشريَّة التي لا تستطيع أن تنتقل في لمحة بصر من الانتقام بلا حدود (تك 4: 24) إلى الغفران بلا حدود (مت 18: 21-22). والخطأ يقوم أيضًا في أن نرى في العهد القديم كتابًا أخلاقيٌّا وصل إلى مستوى الإنجيل. بينما هو في الواقع مسيرة الإنسان إلى الله. وبما أنَّ الإنسان خاطئ، فالعهد القديم هو قصَّة خطيئة الإنسان منذ عنفٍ مارسه فكان الطوفان (تك 6: 5-12)، حتّى الحروب العديدة التي عرفتها القبائل والشعوب في الشرق. ومع ذلك، استعدَّت فلسطين لاستقبال يسوع المسيح الذي أرسله الله حبٌّا بالعالم، لئلاَّ يهلك أحد، بل تكون للجميع الحياة الأبديَّة (يو 3: 15).

د- رسالة مرقيون: لا نستطيع أن نتكلَّم عن رسائل القدّيس بولس العشر التي حافظ عليها مرقيون في الوثيقة التي كوَّنها لإسناد التعليم الذي يقدِّمه لكنيسته التي أرادها أن تضاهي كنيسة المسيح(78): ففي كنيسته أسرار العماد والتثبيت والإفخارستيّا كما عند المسيحيّين مع العلم أنَّه أحلَّ الماء محلَّ الخمر في الإفخارستيّا، واعتبر العماد طقس توبة كما كان الحال مع يوحنّا المعمدان(79). وبما أنَّ المعموديَّة تجعل المؤمن يتخلّى عن الزواج وعمل الجسد، ظلَّ عدد من المؤمنين المرقيونيّين في عداد الموعوظين، فما تجرَّأوا أن يقبلوا سرَّ المعموديَّة(80).

لا نتكلَّم عن رسائل، بل عن رسالة مرقيون التي استقاها من رسائل بولس، فكوَّن كتابًا خاصٌّا به(81). يبدو أنَّ ترتليان امتلك نصَّ »الرسائل«، كما خرج من يد مرقيون أو من يد تلاميذه الذين صحَّحوا أيضًا النصَّ الذي كتبه معلِّمُهم. هذا ما نجده في القسم الخامس من كتاب ترتليان ضدَّ مرقيون.

انطلق مرقيون من رسائل بولس العشر فأبقى على جزء كبير من الرسالة إلى غلاطية (1: 18-24؛ 2: 6-25؛ 4: 27-30)، وفيها يمتدح بولسُ الرسل القدماء ويستخرج درسًا من خبر إبراهيم. احتفظ مرقيون بكلِّ ما في 1 كو و2 كو تقريبًا. ولكنَّه ألغى الكثير من الرسالة إلى رومة 1: 19-2: 1 حيث الكلام عن أعمال الخلق التي تدلُّ على الله، وعن الوثنيّين الذين لا عُذرَ لهم لأنَّهم لم يعرفوا الخالق؛ 3: 31-4: 25 حيث الكلام عن إيمان إبراهيم؛ 9: 1-33 مع الكلام عن دعوة إبراهيم، وإسرائيل الحقيقيّ؛ 10: 5-11: 32 حيث الكلام عن الشريعة التي تدلُّ على المسيح، وعن خلاص بقيَّة إسرائيل؛ ف 15-16. وترك مرقيون 1 تس و2 تس دون تبديل يُذكر. وكذلك نقول عن الرسالة إلى لاودكيَّة التي هي الرسالة إلى أفسس. أمّا كو 1: 15-17 فلم يبقَ منه سوى هذه العبارة: »هو صورة الله غير المنظور، وقبل كلِّ شيء«. والرسالة إلى فيلبّي ظلَّت هي هي فلم يبدِّل فيها مرقيون شيئًا(82).

نشير هنا إلى أنَّ النصَّ الذي استعمله مرقيون هو اليونانيَّة، ولاسيَّما أنَّ جماعة رومة المسيحيَّة كانت تقرأ الكتب المقدَّسة في اليونانيَّة. ونفهم أنَّ الأناجيل الأربعة كانت معروفة في منتصف القرن الثاني في رومة. فلماذا لا تكون معروفة في أثينة وأنطاكية والإسكندريَّة وسائر الكنائس؟ وإذا اعتبرنا أنَّ إنجيل يوحنّا دوِّن في نهاية القرن الأوَّل فوصل جزءٌ منه إلى مصر في الربع الأوَّل من القرن الثاني، فمتى حصل هذا التأثير اليهوديّ الذي شوَّه الأناجيل وحرَّفها؟ وما نقوله عن الأناجيل نقوله عن رسائل بولس التي جُمعت باكرًا، ودليلنا إلى ذلك ما تقوله رسالة بطرس الثانية (3: 16).

في هذا المجال، يقول إيرينه في كتابه ضدَّ الهراطقة:

»فجميع الذين هم من أصحاب الآراء الضالَّة، تأثَّروا بشريعة موسى، واعتبروا أنَّها مختلفة عن تعليم الإنجيل، بل معارِضةً له. ومع ذلك، ما اهتمُّوا في أن يبحثوا عن أسباب هذا الاختلاف بين العهدين. نقصتهم محبَّة الله ونفخهم الشيطان، فمالوا إلى تعليم سيمون الساحر. وهكذا انفصلوا عن الإله الحقيقيّ بأفكارهم وظنُّوا في أنفسهم أنَّهم وجدوا أفضل ممّا وجد الرسل، فاستنبطوا إلهًا آخر: فالرسل، في رأيهم، فكَّروا كاليهود حين أعلنوا الإنجيل. أمّا هم فعرفوا التعليم الحقيقيّ وكانوا أحكم من الرسل. لهذا، أخذ مرقيون وتلاميذه يقتطعون مقاطع من الكتب المقدَّسة، ويرذلون بعضها رذلاً كلِّيٌّا. فيشوِّهون إنجيل لوقا ورسائل بولس، ولا يعدُّون كلامًا صحيحًا إلاَّ ما اقتطعوه هم. أمّا نحن، فبواسطة المقاطع التي احتفظوا بها فقط، نستطيع أن نردَّ عليهم بنعمة الله...«(83).

وتحدَّث ترتليان عن عهدين أو عن وثيقتين(84): الإنجيل والرسول. ما يكفل الإنجيل هو سلطة الرسل الذين كتبوه أو أمروا بكتابته (ضدّ مرقيون 4: 20). فبطرس يكفل مرقس، وبولس يكفل لوقا (4: 5). أمّا الوثيقة الرسوليَّة فتضمُّ رسائل بولس الثلاث عشرة، والرسالة إلى العبرانيّين التي دوَّنها برنابا فتثبَّتت بسلطة بولس، ورسالة يوحنّا الأولى، وأعمال الرسل التي تحمل شهادة بولس.

2. النقائض

بجانب »الوثيقة« البيبليَّة، ألَّف مرقيون كتابًا آخر هو النقائض الذي نسب إليه تلاميذه أهمِّيَّة كبيرة. نقرأ في ترتليان ما يلي:

»والآن، لا يبقى لي كي أبرهن أنَّ هذا واقع ثابت، إلاَّ أنَّ آخذ (براهيني) لدى خصومي أنفسهم. فالفصل بين الشريعة والإنجيل يشكِّل العمل الخاصَّ والرئيسيّ لدى مرقيون(85): لا يستطيع تلاميذه أن ينكروا ما يكوِّن بالنسبة إليهم الكتاب الرفيع الذي به تنشَّأوا وتحجَّروا في هرطقتهم. هو كتاب نقائض مرقيون أي التعارضات المتناقضة التي تحاول أن تبيِّن عدم التوافق بين الشريعة والإنجيل، ليتخلَّصوا من تعارض فكر الكتابين إلى تعارض الإلهين«(86).

لا نستطيع القول إنَّ مرقيون وتلاميذه قابلوا الكتب المقدَّسة بالنقائض. فالكتب المقدَّسة ملهمة بالإلهام الإلهيّ، وترتبط على المستوى البشريّ بسلطة بولس الرسول العظيم. أمّا النقائض فهي كتاب بشريّ دوَّنه مؤسِّس بدعة، ويستحقُّ الاحترام. غير أنَّ هذا الكتاب ليس معصومًا عن الخطإ، وما من إنسان أقرَّ له بهذا العصمة.

هذا الكتاب الذي أهداه مرقيون إلى أحد أصدقائه، دوِّن في اليونانيَّة، وقد يكون نُقل إلى اللاتينيَّة. ونحن ننطلق من ترتليان لنكتشف شيئًا من مضمونه. من جهة، عارض مرقيون أقوال الله وأعماله كما نجدها في العهد القديم، مع أقوال الربِّ يسوع وأعماله. وهكذا عارضت الشريعة الإنجيل في نقيضة قويَّة: كان خالق الكون (داميورغوس) معروفًا لدى آدم ونسله. أمّا أبو يسوع المسيح فكان مجهولاً. جهل خالقُ الكون أين اختبأ آدم (تك 3: 9). أمّا المسيح فيعرف جميع أفكار البشر (يو 2: 25). قتل يشوع بدون شفقة جميع الكنعانيّين طاعةً لأمر الربّ. أمّا المسيح فنادى بالرحمة والسلام. ما أعاد خالقُ الكون النظر إلى إسحاق بعد أن عمي. أمّا المسيح فشفى العميان العديدين. تكفي هذه الأمثلة لتبيِّن نهج مرقيون. ومن جهة ثانية، دلَّ مرقيون على التعارض بين بولس والرسل الأوَّلين، فشدَّد على تشويهات متعدِّدة سببُها عدمُ الفهم لدى الذين أدخلوها في الأناجيل، أو نيَّتهُم السيِّئة. وأخيرًا، أعطى مرقيون تفسيرًا تعليميٌّا »للوثيقة« فدلَّ على متانة أساسها.

تلك هي المواضيع العامَّة في النقائض. غير أنَّ ما يورده ترتليان (ضدَّ مرقيون، القسم الرابع) من نصوص لا يتيح لنا أن نتصوَّر الشكل الخارجيّ للكتاب. قد تكون النقائض شرحًا متواصلاً للكتاب المقدَّس بحسب مرقيون، أو حواشي تفسيريَّة ونقديَّة مع مقدِّمة تاريخيَّة وعقائديَّة حول التعارض بين العهدين. وقد تكون كتابًا مستقلاٌّ عن »الوثيقة«، انقسم قسمين: تضمَّن القسم الأوَّل سلسلةً من التوسُّعات التاريخيَّة والعقائديَّة تعالج العلاقات بين بولس والرسل القدماء، وتدلُّ على أساس البيبليا التي كوَّنها مرقيون. وتشجب ما يستعمله المسيحيّون من كتاب مقدَّس. والثاني تضمَّن ملاحظات حول الوثيقة. في النهاية نحن أمام عمل بيبليّ يترك العهد القديم جانبًا، ويأخذ من العهد الجديد ما يحلو له. المهمُّ ليس الخضوع لكلمة الله كما ترد في الكتب المقدَّسة، بل إخضاع هذه الكلمة لفكر مسبَّق ولإيديولوجيَّة هي أبعد ما يكون عن الإيمان الذي هو استسلامٌ مطلقٌ بين يدي الله، من أجل مسيرة يعرف الربُّ وحده أين تصل بنا.

الخاتمة

هذا هو مرقيون، وهذه هي المرقيونيَّة التي سارت على خطاه سنوات بل قرونًا. كانت نقطةُ الانطلاق عند هذا الباحث تبرير الله من الشرِّ الذي في العالم. لهذا، جعل الكتاب المقدَّس يتوزَّع بين إلهين: إله شرّير ومنتقم، هو إله العهد القديم، وإله صالح ورحيم هو إله العهد الجديد الذي تجلَّى في يسوع المسيح. وكان مرقيون منطقيٌّا مع نفسه. فبدأ وألغى العهد القديم كلَّه. ثمَّ حذف من العهد الجديد كلَّ ما تُشتمُّ منه رائحة العهد القديم. وتأثَّر في مسيرته هذه بالغنوصيَّة فكانت له هذه النظرة إلى الإنسان وإلى الخلاص الذي حمله يسوع إلى البشريَّة.

هل مات مرقيون؟ لا شكَّ في أنَّ »الكنيسة« التي أسَّسها وعاشت بعده اضمحلَّت. ولكن ما زالت أفكاره حاضرة في هذا الشرق.

فهناك أناسٌ يلغون العهد القديم كلَّه لأسباب سياسيَّة لا مجال لذكرها، أو لتكاسلٍ أمام كتاب صعب.

أما نحن فنفهم أنَّ الكتاب المقدَّس هو وحدة تامَّة تبدأ في سفر التكوين وتنتهي في سفر الرؤيا. ذاك هو إيمان الكنيسة، ولن يبدِّل هذا الإيمان حفنةٌ من الناس تركت العلم جانبًا، وتوقَّفت عند العواطف والغرائز.

وهناك أناسٌ يعتبرون أنَّ الإنجيل تشوَّه وتحرَّف بفعل اليهود، لهذا يجب أن نعيد قراءته، بل نعيد كتابته فيتوافق مع فكرنا المسبَّق ونظريّاتنا التي لا يسندها شيء.

أتُرى الروح القدس غاب عن الكنيسة؟ أتُرى أبوابُ الجحيم والضلال تقوى على الكنيسة؟ أتُرى الآباء القدّيسون منذ أغناطيوس الأنطاكيّ وإيرينه ويوحنّا الذهبيّ الفم وأوغسطين كانوا أغبياء إلى هذا الحدّ فانتظرنا القرن العشرين لنصحو من غفلتنا ونعود بالعهد الجديد إلى نقائه كما خرج من فم المعلِّم؟

قالوا: إنَّ الخطأ بدأ مع الرسل الأوَّلين، مع يعقوب ويوحنّا وأندراوس. والحمد لله أنَّ بولس تلقّى التعليم مباشرة من فم المعلِّم في رواية خاصَّة به.

لن نحكم على هؤلاء المنظِّرين الذين يستعملون الكتاب المقدَّس لغرض خاصٍّ بهم. بل نحكم على المؤمنين الذين وصلت بهم السذاجة إلى حدٍّ يصدِّقون فيه كلَّ ما يُقال، فمالوا مع كلِّ ريح (أف 4: 14) كما قال بولس الرسول.

أساس إيماننا هو المسيح. والكنيسة هي التي تغذّي إيماننا لأنَّها جسد المسيح. هل هناك مسيحٌ آخر؟ وهل هناك كنيسة أخرى غير التي أسَّسها يسوع؟

فإيماننا واضح: نؤمن بربٍّ واحد يسوع المسيح، ابنِ الله الوحيد...، ونؤمن بكنيسةٍ واحدةٍ جامعةٍ مقدَّسةٍ رسوليَّة. يبقى علينا أن نعرف روح الحقِّ من روح الضلال (1 يو 4: 6).

وفي النهاية، مع مرقيون وسلالته، لم نعد أمام الكتاب المقدَّس بل أمام الكتاب »المنجَّس« ويجب أن ننبذه سريعًا.

لم نعُد أمام إنجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، بل أمام إنجيل مرقيون، أمام إنجيل كوَّنه عددٌ من الباحثين انطلاقًا من يقينهم، فما عاد إنجيلَ ربِّنا يسوعَ المسيح، ابنِ الله الأزليّ، بل إنجيل إنسانٍ من بشر!

وشتّان ما بين كلمة الله وكلمة الإنسان!

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM