الفصل الرابع: المرقيونيّة في عالم الهرطقة الاسلامي

 

الفصل الرابع

المرقيونيّة في عالم الهرطقة الاسلامي(1)

منذ البداية، اهتمّ الاسلام اهتماماً مميّزاً بالديانات الأخرى. والسبب الأول يعود إلى أنه وُلد في اتصال مع ديانات عديدة: أهمّها معروف أي العبادات التقليديّة في قلب الجزيرة العربيّة، واليهوديّة والمسيحيّة. واهتمّ الاسلام أيضاً بأشكال دينيّة أخرى بسبب الظروف التاريخيّة التي عرَف. فانتشاره السريع بفضل جيوشه، جعله على اتصال بمناطق تقيم فيها المزدوية والهندوسية بمختلف أشكالها. والتقى الاسلام في هذه الأقطار تيارات دينيّة مثل المرقيونية والمانوية والبوذيّة. هذا الاكتشاف لأناس وتعاليم غريبة عنهم، قادت عدداً من المسلمين الى ملاحظات مكتوبة حول هذه الديانات والتيارات الفكرية التي تَنظَّم بعضُها في »كنائس« في وجه »الكنيسة الكبرى« خصوصاً المانوية. أما كلامنا فعلى المرقيونية. وها نحن نقدّم لائحة بالمراجع الاسلاميّة

ولكن قبل تقديم اللائحة، نشير إلى أن هذه الكتابات جاءت في فئتين كبيرتين. بعضها توصيفيّ. قام به مؤرّخون أو رحّالة في لباس جغرافيّين. دلّوا على الوجهات اللافتة وأبرزوا العادات والأعراف الدينيّة. لهذا قام بعضهم ببحث واستقصاء عميق على مستوى التاريخ كما على مستوى الجغرافيا. والفئة الثانية هي ملخّصات عن تعاليم هؤلاء المفكّرين الدينيين. هنا برز الاهتمامُ الدفاعي، الأبولوجي، ولكن بشكل الخاص الهجومي، الحربي. فعُرض التعليم لكي يُردّ عليه، وأتى العرض بعض المرات موسّعاً جداً، فوصل إلى دقّة مدهشة لدى بعض الكتّاب. من هنا نتج ما نستطيع أن نسميه »تاريخ الديانات لدى الاسلام«، أو تاريخ الديانات كما علّمه المسلمون، وتصوّرُه من القرن الثاني الهجري إلى القرن السادس، أي من القرن الثامن المسيحي إلى القرن الثاني عشر.

* تاودور أبو قرّة. هو مسيحي سرياني وأسقف ملكي في حرّان. ولكنه كتب في اللغة العربيّة فتسَجّل في سياق الحضارة الاسلاميّة. ففي عرضٍ حيّ ومبنيّ بناء متيناً للديانات المجاورة، جعل المرقيونيّة بين المانويّة وبرديصان

57 وفارقت هؤلاء، فلقيني قوم من المركيونيين(2)، وقالوا: لا تلحَقْ هؤلاء، لأنهم في ضلال (أو: إثم) كبير.

58 بل تَعال إلينا لأن انجيل الحقّ في يدينا (أو: في يدنا)، وصاحبُنا مركيون هو كان أعلم (أو: أعظم) الناس به وبتفسيره.

59 وقد وصفه لنا وعلّمنا أمرَ اللاهوت، وذكر أن الآلهة ثلاثة، واحد منهم غيور، عادل في الحق، لا يحتمل الخطأ، ولا لِمَن عمل عنده رخصة أو رحمة دون العقوبة بما استوجب، وهو إله العتيقة (أي: العهد القديم) الذي بعث موسى، وصنعَ بمصر ما صنع.

60 والثاني إله طيّب رحوم خيِّر، يفيض بخيره ولا يعاقبُ واحداً وهو المسيح

61 والثالث ظلميّ (أو: ظالم)، شرير، غاية كل خبث، وهو الشيطان.

62 وفارقتُ هؤلاء ولقيتُ برديصان(3)، فقال لي: لا تسمعْ قول هؤلاء (القوم). ليسوا على شيء. تعال إليَّ لأني أنا ما في يديّ هو الحقّ

63 أخبرُك أن الآلهة خمسة أزليّة: أربعة منها غير عقليّة، والخامس عاقل.

64 وإن هذا العاقل قَويَ بعقله على الأربعة فقهرها، وخلق منها الخلائق. يعني بالأربعة الغير عقليّة، النار والهواء والماء والتراب، والعاقل هو الذي أنشأ منها طبائع الدنيا بحكمته.

***

65 وفارقتُ هؤلاء، ولقيني أخيراً قومٌ من المسلمين(4) فقالوا: لا تسمعْ قولَ أحد ممّن لقيتَه، لأنهم أجمعينَ كفّار، مشركون بالله

66 ولا دين إلا دين الاسلام، بعثه الله إلى الناس كافة، على يدي محمّد نبيّه. وهو يدعوك إلى أن تعبُدَ الله وحده، ولا تُشرك به شيئاً

67 وأمرك (أو: ويأمرك) بالحلال وعمل الخير، وينهاك عن الحرام وعمل السوء. وقد وعد أن يبعث الموتى

68 وثوابُ المحسنين جنّة يجري من تحتها، أنهارٌ من ماء ولبن وعسل وخمرة لذة للشاربين، ونساء حور عين لم يطمثهنّ (أو: يطأهن) الجنّ ولا الأنس، للنعمة مع ما يشتهي الانسان من الطيِّبات كلها في قصور من زمرّد وياقوت وذهب وفضة وغير ذلك من مثله، إلى الأبد.

69 ووعدَ للمسيئين جهنم، ولا تطفى (تنطفئ) نارها.

وقد سبق ذلك كلام عن اليهود(5) وعن المسيحيين(6). وقبل المرقيونية أو المركيونية، كان كلام حول المنانيين (المانويين) أو الزنادقة(7):

40 ففارقتُ هؤلاء، فلقِيَني قومٌ من المنانيين، وهم الذين يُقال لهم الزنادقة فقالوا: إياك أن تتبع النصارى أو تسمع قول إنجيلهم

41 لأن انجيل الحقّ في أيدينا، قد كتبه الاثنا عشر، السليحيّون (= الرسل، ش ل ي ح ا)، ولا دين إلاّ ما في يدينا (أو: يدنا)، ولا أحد نصراني غيرنا. ولا أحد يعرف تفسير الانجيل غير ماني صاحبنا.

42 فقد علّمَنا أنّه قبل أن تُخلق الدنيا كان إلاهان مختلفان في جوهرين، أحدهما نور، خيِّر، وهو إله الخير. والآخر شرير، ظلمة، وهو الشيطان.

43 وقد كانا في البدء كل واحد منهما في بلاده. فنظر الظلمة إلى النوريّ (أو: النور) وإلى بهائه وحسنه، فاشتهاه. فوثب عليه، فقاتله، يريد أن يسبيَهُ

44 وإن النوري (أو: وإذا النور) جاهده في القتال، فأشرف الظلمة على غلبة النوري (أو: النور). فلما خشيَ النوري على نفسه، قطع منه قطعة، فألقاها إليه، وإن الظلمة ابتلعَها.

45 وإن السماء والأرض وما بينهما من الخلق، من طبيعة الظلمة، ومن القطعة التي ألقى (أو: ألقاها) إليه النوريّ (أو: النور) من طبيعته، تكوّنت، على وجه الاشتراك.

46 بمنزلة أن الانسان مخلوق من نفس باطنة وجسد ظاهر. وزعموا أن النفس من طبيعة النوري (أو: النور)، والجسد من طبيعة الشيطان الظُلمي (أو: المظلمة)

47 وكذلك حال الأشياء كل ما كان فيها طيباً منها، فهو من طبيعة النوري (أو: النور)، وما ليس بطيّب وضارّ (أو: أو ضارّ) فهو من (أو: في) طبيعة الظلميّ (أو: الظلمة).

48 بمنزلة أن الماء يُغرق من انغمس فيه، ويُحيي من شَربه ويُنعمه. فالجزء الذي يُحيي منه، فهو من النوري، وما يُغرق ويُهلك، فمن الظلمة

49 فأمّا الحيّات والعقارب والأسُد والنمورة والدبابات وما أشبه ذلك، فتلك جميعها من الظلمة.

50 هذا أصل الدين وصفة آلهتهم.

51 فأمّا في الحلال والحرام فإنهم يفرشون (أو يفسّرون أو يقرّرون) شهوات الدنيا لمن يشاء ينعم فيها على ما يشاء

52 ولا يأمرون بتزويج، بل من اشتهى امرأة فهي له، وكذلك المرأة للرجل

53 ويفسّرون الانجيل على مثل هذا التفسير. يزعمون أن المسيح قال: »من سألك فأعطه«. هذا لا يعني أن من طلب صدقة من المساكين فتصدّقْ عليه

54 لأن الذي أشقاه الله من المساكين في الدنيا، لا يحلّ لأحد أن يصِله بشيء ولا يتصدّق عليه، وإلاّ فقد خالفنا (أو: خالف) الله الذي يريد أن يُشقيه. فهو إن يريد، يُنعمه. لأن الله لو شاء أن ينعمه قد كان (أو: لكان) أعطاه مالاً مثله، ولم يحوجه إليه.

55 ولكن تفسير كلمة المسيح »من سألك فأعطه«، فهو للرجال والنساء. يقول للمرأة: كلّ من سألكِ نفسكِ، من الرجال، فلا تمنعيه. وكذلك للرجل: من سألك من النساء نفسكَ فأعطِها إياها

56 هذا ومثله تعليمهم في الحلال والحرام وفي أمر اللاهوت.

محمّد ابن شبيب. هو من المعتزلة. عاش في بداية القرن الثالث الهجري، التاسع المسيحي(8). قال: الثالث هو الانسان الحاسّ الدرّاك، الانسان هو في عُرفهم حياة في البدن. وقال الشهرستاني: »أورد محمد بن شبيب على البرديصانيين أن المعدِّل هو في عرفهم الحسَّاس الدرّاك«. ولكن يبدو أننا أمام خطأ من الناسخ، وقد يكون الكلام على الماهانيين لا على البرديصانيين.

* أبو عيسى الوراق (محمّد). توفّي سنة 247/861. اتّهم بالزندقة. له كتاب المقالات الذي عليه اعتمد البيرونيّ والشهرستاني في دراساتهما عن الملل والنحل في الاسلام(9)

* الناشئ الأكبر (293/906). قال عن المرقيونية: المعدّل هو »المسيح، ابن النور«(10)

* النوبختي (الحسن بن موسى). توفّي في بداية القرن 4/10. متكلّم وفلكيّ، صاحب كتاب فرق الشيعة. ذكره عبدُ الجبّار في المُغني (الجزء الخامس، ص 9): »في كتاب الآراء والديانات.. ذَكَر الحسن بن موسى بين بدع الثنائيين: المانوية التي تُدعى بعض المرات المنانية، والمزدكية، والبرديصانية، والمرقيونية، والماهانيّة، والمزدويّة. واستند النوبختي إلى أبي عيسى الورّاق، بحيث نكون هنا أمام أقدم لائحة للثنئيين.

* أبو منصور الماتُريدي (333/ 944). فقيه حنفيّ من أئمة علماء الكلام والأصول. عاش في سمرقند وتوفّي فيها. هذا اللاهوتي المشهور(11) استند إلى ابن شبيب فتكلّم عن المرقيونيين الذين تحدّثوا عن وجود النور في العلاء والظلمة في الأسفل، وعن وجود »متوسّط« أو »وسيط« الذي ليس النور ولا الظلمة، بل »الانسان الحسَّاسّ، الدرّاك« الذي به يأتي المزيج.

* المسعودي (أبو الحسن علي) (345/ 956). مؤرّخ ورحالة بغدادي. كتبَ الكثير ولكن بقيَ من مؤلّفاته اثنان كبيران: مروج الذهب ومعادن الجوهر(12). ثم التنبيه والإشراف(13). في فصل هام من المروج يقول إن المرقيونيين والمانويين والبرديصانيين تحدّثوا عن »العشق« (عدد 2587). وفي التنبيه والاشراف (ص 101، 127، 135) قال: »إن مرقيون عاش قبل ماني. وأوضح أن مرقيون، وهو ابن أسقف في أرض حرّان، كشف عن تعليمه في زمن تيطس. والمرقيونية وهي القول باثنين، الخير والشرّ وسَعد ثالث«. وكتب أخيراً: »ذكر ماني المرقيونية والبرديصانيّة في عدد كبير من كتبه. وخصّص للمرقيونيين فصلاً من كتابه المدعو الكنز... إذا ذكرنا هذا، فلكي نبيّن أن ماني وبرديصان عاشا قبل ماني، بينما يظنّ كتّاب عديدون لا يعرفون شيئاً عن مؤسّسي البدع والديانات، أنهما جاءا بعده«

* المقدسي: أبو عبد الله محمّد ابن أحمد (370/ 980) الذي يُكنّى »بالأورشليمي«. رحّالة عربي من القرن العاشر. كتب سنة 355/ 966 البدع والتاريخ(14). لاحظ أن مرقيون الذي جاء بعد ماني وبرديصان، طرح أزلياً ثالثاً هو »المعدّل« الذي بدونه لا يمكن أن يكون مزج. ثم تحدّث عن الماهانيين دون أن يحدّد تعليمهم.

* عبد الجبار (القاضي الهمداني). توفّي سنة 425/ 1025. سنة 370/ 980 دوّن الجزء الخامس من مؤلّفه الكبير المغني(15). قال: »التقى مرقيون هذا بتلميذ المسيح فاستلهمه«. وبالنسبة إلى المرقيونيين، بجانب المبدأين المعروفَين والمتعارضين في الثنئيّة، هناك »كوْنٌ ثالث متوسّط«. وقال: يجب الامتناع عن النساء وعن الزهمات (أي الطيب والعطور). وكان كلام سريع عن الماهانيين

* ابن النديم (محمد بن اسحق). توفّي سنة 391/ 1000. دوّن سنة 377/ 987 الفهرست(16)، فنقرأ فيه عن المرقيونيين ثلاثة مقاطع لافتة.

الأول، فلوجل، ص 15: »للمرقيونيين كتابة خاصة بهم. قال لي مُعلّمُ أهلٌ للثقة بأنه رآها. فهي في نظره تشبه الكتابة المانوية وإن كانت تختلف عنها.

الثاني، فلوجل، ص 328. »ظهر مرقيون نحو مئة سنة قبل ماني، في عهد تيطس انطونينوس، في السنة الأولى لمُلكه، وظهر برديصان نحو ثلاثين سنة بعد مرقيون.

الثالث، فلوجل، ص 339: هناك كونٌ ثالث مزج الكونين الآخرين (أي النور والظلمة)، وهو في نظر بعضهم »الحياة = يسوع«. ولكن بحسب البعض الآخر، يسوع هو مرسَل ذاك الثالث الذي هو الباري، أو صانعُ الأشياء بأمره وقدرته. فمن امتنع عن الزهمات والشراب المسكر، وصلّى بلا انقطاع وصام دائماً، ينجو من فخاخ إبليس.

وقال: »للمرقيونيين كتاب خاص بهم، وفيه دَوَّنوا ديانتهم: كان لمرقيون كتاب دعاه الانجيل، وكان لتلاميذه كتب عديدة غير موجودة إلاّ في موضع يعرفه الله وحده«.

وقال: »يتخفّى المرقيّونيّون تحت رداء المسيحيّة. هم عديدون في خراسان. هويّتهم واضحة مثل هوية المرقيونيين.

وأخيراً، لا يختلف الماهانيون عن سائر المرقيونيين إلاّ في الزواج والذبائح. يقولون إنّ المعدِّل هو المسيح.

* الخوارزمي (387/ 997). له مفاتيحُ العلوم(17). ذكر في بضع كلمات المرقيونيّة بين البرديصانيّة والمانويّة

* البيروني (أبو الريحان) (440/ 1048). الآثار الباقية عن القرون الخالية(18) سنة 1878، ص 23، 207. قال: »مرقيون، شأنه شأن برديصان، اهتدى إلى المسيحية في بلاد فارس(!)، وكلاهما دوَّنا انجيلاً ثنئيًا لا يختلف إلاّ في قسم منه عن انجيل المسيحيين«. وها نحن نورد ما في ص 207:

ونعود فنقول إن الفرس كانوا يدينون بما أورده زرادشت من المجوسيّة، لا يفترقون بها ولا يختلفون إلى ارتفاع عيسى وتفرّق تلامذته في الأقطار للدعوة. وأنهم لما تفرّقوا في البلدان، وقع بعضُهم إلى بلاد الفرس. وكان ابن ديصان ومرقيون ممّن استجابا وسمعا كلام عيسى وأخذا منه طرفاً، وممّا سمعا من جهة زرادشت طرفاً، واستنبط كلّ واحدٍ من كِلا القولين مذهباً يتضمّن القول بِقدَم الأصلين، وأخرج كلّ واحدٍ منهما انجيلاً نسبه إلى المسيح، وكذّب ما عداه. وزعم ابن ديصان أن نور الله قد حلّ قلبه. ولكن الخلاف لم يبلغ بحيث يُخرجهما وأصحابهما من جملة النصارى. ولم يكن انجيلاهما مباينَين في جميع الأسباب لانجيل النصارى، بل زيادات ونقصان وقع فيهما، والله أعلم.

ونقرأ في ص 23:

»وعند كل واحد من أصحاب مرقيون وأصحاب ابن ديصان، إنجيل يخالف بعضُه بعضَ هذه الأناجيل. ولأصحاب ماني انجيل على حدة يشتمل على خلاف ما عليه النصارى من أوّله إلى آخره...«.

* ابن حزم (أبو محمّد علي بن أحمد). توفّي سنة 456/1064. الفصل في الملل والأهواء والنحل(19)، ذكر المرقيونيين مع البرديصانيين والمانويين على أنهم يقولون إن العالم يدبّره أكثر من مدبّر. غير أن هذا العالَم لا يتميّز عن مدبّريه الذين لم يأتوا به إلى الوجود. وقال المرقيونيون بوجود مبدأ ثالث مع المبدأين المعروفين هو: متوسّط، أزليّ.

* ابن الملاحمي (ركن الدين محمود). توفّي سنة 548/ 1153. له كتاب المعتمد في أصول الدين(20)، وهو يَدويُّ اللاهوت المعتزلي. أورد عن المرقيونيّة جوهر ما كتبه أبو عيسى الوراق قبله بثلاثة قرون.

يقولون إن الله جلّ جلاله حقيقة لا يَقدر أحد أن يُبعدها أو ينفيها. ويقولون أيضاً إن الشيطان موجود دون أن يكون جزءاً من أمر الله، جل جلاله. ويقولون(21): مع ذلك، هناك أيضاً بين الاثنين كون ثالث يقف في الوسط، تحت الله وفوق الشيطان، بطبع هادئ، لطيف، ناعم. فابليس، الظلمة قام عليه، أساء إليه، وامتزج به. ومن هذا الامتزاج بنى هذا العالم. وإن هو امتزج به، فلكي يستفيد هكذا من فعله، لكي يبدّل شرّه إلى خير، بواسطة هذا الثالث، وموتِه إلى حياة، وقساوته إلى لطف، ويتطبّب به.

ثم أقام في العالَم قواته وهمومه التي تدبّره وتقوده. من قواته صُوَر البروج الاثنتا عشرة والكواكب السبعة، والشمس والقمر والباقي: هي أرواح الشيطان. فكل ما في العالم من حيوانات متعارضة يأكل بعضها البعض، ومن حشرات، هو من الشيطان. فلا يمكن للعليّ إن يكون خلَقَها. فالذي صنعها هو بالأحرى الشيطان النجس، القذر. فقوّاته تسودُ العالم وتدبّره. فهو الذي صنع الأشجار المثمرة والأثمار الفارغة (اللاّمثمرة). هو من يرتّب قوتَ الارض بحسب الفصول الأربعة (في السنة). هو الذي يناوبُ أنوار الزمن حسب النهار والليل. هو الذي يقسم هذا الغنى بين جيوشه التي يسودها حسدٌ متبادل. كل يطلب أن يأخذ خيرَ الآخر. ونشَرَ بينهم مرسَلون كاذبون ودياناتٌ قاتلة، الفسادَ والضيق.

كل هذا يأتي من الشيطان ومن قوّاته

1) أن لا يكون للاشياء. مدبِّر، كما يظنّ أهل الدهر(22)، أمرٌ غير مقبول، لأن تدبير العالم واضحٌ وجليّ، فلا يمكن أن يكون برهانه موضع شك وارتياب.

2) أن يكون العلي، كما يقول الموحّدون، أتى بهذه الأشياء إلى الوجود من لا شيء، غير ممكن. ثم إن صُنْع الشرور ليس صفة (الاله) الحكيم.

3) أن يكون صانع البشر والحيوانات هو الشيطان، وصانع سائر العالم أي الرحمن الرحيم(23) كما يقول أصحاب الاثنين، أمرٌ غير مقبول. فإن كانت الحيوانات تسبّب الضرر والموت، كذلك الحَرّ حين يكون محرقاً، والبَرْد حين يكون قاسياً: المياه تُغرق، والحجارة تسحق، والحديد يقطع، والنار تُحرق.

في الحقيقة، هذا العالم يدبّره من أقصاه إلى أقصاه، كائنٌ واحد صفاته كلّها شريرة ويريد أن يُفسِد.

حين رأى العليّ هذا، رحم المتوسط اللطيف الذي كان سجيناً بين يدي الشيطان. ولكنه ما أراد أن يقاتله ولا أن يتوسّخ بوسخه. فبعث روحاً منه فسيَّحه(24) في هذا العالم. هو يسوع، روح الله وابنه، بعث به نذيراً ورحيماً(25). فمن تبع سلوكه، لا يقتُل، ولا يتزوّج بنساء، ويَتجنّب الزهومات والشراب المسكر، ويصلّي إلى الله طوال حياته ويصوم على الدوام. مثل هذا يفلت من فخاخ الشيطان. ذاك هو إجماع الأمر (أو: إتمام أمر الله)(26)

بحسب أبي عيسى، النذير أي بعض اللاهوتيّين يقولون إنهم يعلّمون، بالرغم من وجهة من تعليمهم ذكرناها، أن الكون الثالث هو الانسان الحسّاس، الدرّاك الذي لم يزل (أي: الأزليّ). ويقولون: هو الذي مزج النور والظلمة وخلطهما على التعديل بينهما. ويُسندون قولهم على التعارض بين المبدأين. لهذا لا يُعقل أن يجتمعا لبناء هذا العالم. فلا بدّ من وجود ثالث يأتي بكليهما. ثم لا بدّ من أن يكون مختلفاً عن هذا وذاك. فلو كان من نوعهما، كان أمرُه كأمرهما، فلا يكون فعلٌ ولا تدبير، لأن الكونين المتعارضين لا يستطيعان أن يتوافقا من أجل تدبير واحد.. والنذير يقول، بحسب ما يقولون: الانسان هو الحياة التي في هذا الجسد.

ويقول إنهم (الماهانيون) يتوافقون مع المرقيونيين. غير أنه يسمحون بالزواج وبذبح الحيوان، ثم هم يميلون إلى المسيحيّة، فيستعملون الكنائس والصلبان ويعظّمون المسيح. ويقال عنهم أنهم يؤكدون على وجود ثلاثة مبادئ (مثل المرقيونيين) ويُعلنون أنّ المعدّل هو المسيح(27).

* الشهرستاني (أي الفتح محمّد) (448/ 1153). هذا المؤرّخ للأديان والمذاهب، لا يقول شيئاً عن المرقيونية في تفسيره القرآني مفاتيح الأسرار. غير أنه يخصّهم بحاشية مهمّة في كتابه الملل والنحل، قال فيه:

1) هناك المبدأ الثالث، المعدِّل الجامع (أو: الوسيط، المتوسّط)، سبب الامتزاج. حسب ابن شبيب، هذا المعدّل هو الانسان الحسّاس، الدرّاك

2) »بحسب البعض، لا امتزاج إلاّ بين الظلمة والمعدِّل، لأن المعدِّل قريب منها«. فالمعدّل ليس فاعل التمزيج، بل ضحيّته. »حينئذ بعث النور إلى العالم الممتزج، روحاً مسيحياً (هو روح الله وابنه) رحمة بالمعدّل السليم الذي سقط في شبكة الظلمة اللعينة«

3) ويتطلّب الخلاص الامتناع عن العلاقات مع النساء وعن الزهمات (اللحم السمن). حسب ابن شبيب، هم يمتنعون عن ذبح الحيوان وعن الزواج.

4) لا يُسمّى الماهانيون، بل يُذكَرون مع البدع المزدوية ويُشار إلى تواجدهم في ما وراء النهر أي في آسيا الوسطى.

* نشوان الحميري (573/ 1178) كتاب الحور العِين. القاهرة 1367/ 1948، ص 140 ي. الماهانيون هم »أتباع ماهان« الذي كان من أصل فارسي. تعليمهم هو تعليم المرقيونيين، ولكنهم يتوافقون مع المانويين بالنسبة إلى الزواج والذبائح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM