تيودورس أسقف المصيصة (+ 458)

تيودورس أسقف المصيصة (+ 458)

تيودورس هو أعظم شرّاح الكتاب المقدّس في مدرسة أنطاكية التي اهتمّت بالمعنى الحرفيّ للنصّ الكتابيّ. تأثّر تيودورس بيوحنّا فمّ الذهب فترك العالم ودرس الحقوق وتكرّس للحياة النسكيّة. رسم كاهنًا في أنطاكية ثمّ أسقفًا على المصيصة في كيليكية من أعمال تركيا الحاليّة.

ترك تيودورس الكتب العديدة ولكن ضاعت مؤلّفاته فلم يسلم منها إلاّ القليل، ومن هذا القليل ما وصل الفيافي السريانيّة: العظات التعليميّة. قدّمها تيودورس للموعوظين الذين يستعدّون لقبول العماد المقدّس فشرح النؤمن ثمّ الأبانا. وها نحن نقدّم تفسير الأبانا الذي نقلناه عن السريانيّة وراجعه الخوري مارون مطر.

لقد أنهينا البارحة، بنعمة الله، حديثنا عن النؤمن الذي وضعه لتعليمنا آباؤنا الطوباويّون بحسب منطوق الكتب الإلهيّة، لنتتلمذ كما تسلّمنا من ربّنا "باسم الآب والابن والروح القدس". واليوم يحسن أن نقول ما هو ضروريّ عن الصلاة التي سلّمنا إيّاها ربّنا. ولقد أضافها آباؤنا إلى النؤمن لأنّه يجب على الذين يعتنقون الإيمان بالمعموديّة أن يتعلّموها ويفهموها ويحفظوها. فربّنا نفسه بعد أن قال: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"، زاد: "وعلّموهم أن يحفظوا كلّ ما أوصيتكم به" (مت 28: 19). وذلك ليبيّن لنا، علاوة على التعليم الإلهيّ والمستقيم علينا أن نهتمّ بأن نطابق حياتنا على الوصايا الإلهيّة.  لهذا، أرفق آباؤنا النؤمن بالصلاة التي فيها تعليم كافٍ عن الآداب والتي أوجزها ربّنا وسلّمها إلى تلاميذه. فكلّ صلاة، أيًّا كانت، هي تعلّم الحياة، لمن يراعي الواجب. لأنّنا كما نتمنّى أن تكون أخلاقنا، فلنجتهد أن تكون صلاتنا. فالذي يراعي الفضيلة ويجتهد أن يرضي الله، يهتمّ بالصلاة أكثر ممّا يهتمّ بأمر آخر. أمّا الذي لا يراعي من الفضائل إحداها، ولا يلازم عمل ما يرضي الله، فإنّه – وهذا أمر واضح – يهمل الصلاة حتمًا.

إنّ الذي نحبّه على جميع البشر، يلذّ لنا أن نلتقيه في كلّ حين ونحدّثه.

أمّا الذين لا نرضاهم فلا يهمّنا أن نلتقيهم ولا أن نحدّثهم. والذين يحبّون الله ويجتهدون أن يصنعوا ما يرضيه ينصرفون عادة إلى صلوات لجوجة وهم يعتبرون أنّهم يحدّثونه ويحيون معه في صلاتهم. أمّا الذي يحتقر الأمور الإلهيّة وهمّه في غيرها، فلا يلجأ إلى الصلاة. لذلك يأمرنا الطوباويّ بولس بأن نصلّي دون انقطاع حتّى يترسّخ فينا، بالمواظبة على الصلاة، حبّ الله والغيرة على تتميم إرادته (1 تس 5: 17). ولذلك، فإنّ ربّنا أيضًا، وهو إنسان في ما يُرى منه في طبيعته، جاهدَ في الصلاة جهادًا عظيمًا، ليقدّم لنا بفعاله نموذج حياةٍ ومسلك. فإنّه كان يقضي النهار يعلّم، وكان يُبقي الليل للصلاة. وكان يأوي إلى البريّة ليعلّمنا أنّه، على الذي ينصرف إلى الصلاة أن يتحرّر من كلّ شيء، إذا شاء أن يوجّه نظر نفسه إلى الله ويَعلق به ولا يدع شيئًا يلهيه عنه. لذلك اختار الأوقات والأمكنة وابتعد عن الاضطرابات أيًّا كانت، حتّى ينجّينا من التي تزعج نفسنا وتهزّها، وتميلها، غالبًا على رغمها، عن مقاصدنا.

وفيما كان يسوع يصلّي، على حدّ قول الطوباويّ لوقا، دنا منه تلاميذه، وسألوه: كيف ينبغي أن نصلّي، كما علّم يوحنّا تلاميذه؟ (لو 11: 1). فأوجز لهم الصلاة الربّيّة وسلّمهم تعليمًا كاملاً وقال لهم: "إذا صلّيتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. أعطنا اليوم الخبز الضروريّ لنا، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، كما نحن غفرنا لمن أساء إلينا ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّير، لأنّ لك القوّة والملك والمجد، الآن وكلّ أوان وإلى أبد الآبدين. آمين" (مت 6: 9-13).

لقد استعمل ربّنا هذه الكلمات الوجيزة وكأنّه يريد أن يقول إنّ الصلاة لا تقوم بالكلام، بل بالممارسة والحبّ وفعل الخير، لأنّ الذي يميل إلى الخير، عليه أن يحيا حياته كلّها في الصلاة، وهذا يظهر في ما يختاره من خير. فالصلاة يجب أن نصلّيها في سبيل تحسين السلوك. فالذي لا يليقُ عملُه لا يستأهل أن يطلب، لأنّنا إذا سألنا الله عكس ما يأمر به، استحققنا موتًا شرًّا من الموت رجمًا. ومن رفع إلى الله مثل هذه الطلبات، أثار فيه الغضب بدلاً من المصالحة والمسالمة. فالصلاة الحقيقيّة إذن هي استقامة القلب والحبّ لله والغيرة على ما يستلذّه. فمن يجتهد في هذه المسيرة ويتبحّر قلبه فيها، يصلّي، ولا عائق، أبدًا وفي كلّ لحظة وكلّ مكان يعمل فيه ما يرضاه الله. فمن كان على هذه الحال، كانت به أبدًا حاجة إلى طلبات الصلاة. لأنّ من اجتهد في فعل الخير يليق به أن يستنجد الله، فينجده الله نظرًا إلى ما يبذله من جهد ليجعل حياته مطابقة لإرادة الله. وإنّه لمن المؤكّد أنّ مثل هذا الإنسان ينال ما يسأل، لأنّ الذي يرعى الشرائع الإلهيّة، يهتدي بها ولا يحيد عنها لا يمكن أن يستنجد ولا ينال النجدة ممّن أعطانا هذه الوصايا. أمّا الذي يسلك سلوكًا مغايرًا لوصايا الله فلا ينال شيئًا في وقت الصلاة – وهذا أمر واضح – لأنّه يجتهد في ما لا يُرضي الله ويسأل ما فضّل أن يصنعه مدى حياته.

لذلك علّمنا ربّنا أيضًا ألاّ نتهامل في صلاتنا، على حدّ قول الطوباويّ لوقا الذي ضرب لنا مثلاً في هذا الموضوع، فقال: كان في إحدى المدن قاضٍ لا يخاف الله ولا يهاب الناس. وكان في تلك المدينة أرملة (لو 18: 2) يسيء معاملتها رجل نافذ. وكانت تأتي القاضي وتلحّ عليه أن: أنصفني من خصمي. فأبى عليها ذلك مدّة طويلة. ولكنّها في آخر الأمر ظفرت منه بإلحاحها عليه، فبحث قضيّتها ونجّاها من ظلم الجائر، الأكثر نفوذًا منها. إليك ما زاد ربّنا: إسمعوا ما قال القاضي الظالم: "ولكنّ هذه الأرملة تزعجني فأنصفها لئلاّ تظلّ تأتي وتصرع رأسي. أفما ينصف الله مختاريه الذين يدعونه ليل نهار، وهو الذي يلطف بهم"؟ (لو 18: 5-7). إنّ الذين يسعون للفضيلة ينتابهم حزن شديد متأتٍ من الشهوات الطبيعيّة ومن فخاخ الأبالسة أو من الحوادث اليوميّة التي غالبًا ما تشكّك الكثيرين وتطوّح بهم عن فعل الخير فيعانون من هذا العالم حربًا لا هوادة لها. فلهؤلاء – لئلاّ يتصوّروا أنّ الله قد خذلهم حقًّا، إذ لم يعد لهم أيّة راحة في جهادهم اليوميّ- شاء ربّنا أن يعرض مثل القاضي الظالم حتّى يؤكّد لهم، من باب المقابلة، أنّه لا يمكن أن يخذل الله الذين فضّلوا الخير. وهذا الرجل البغيض الذي لا يبالي بالقضاء العدل ولا يخاف الله ولا يستحي من الناس تغلّبت عليه امرأة بإلحاحها الدؤوب فاهتمّ بأمرها وأنصفها، وهي لا تتوقّع ذلك. كيف تظنّون أنّ الله الحليم الشفوق الذي يصنع كلّ شيء لحياتنا وخلاصنا، كيف تظنّون أنّه يرذل الساعين للخير الممتلئين غيرة لما يرضيه؟ إنّه لا يخذل الذين يسلّمهم إلى الشدائد والمحن اليوميّة التي يضطرّون لتحمّلها، على غير إرادة منهم، إمّا بآلام الشهوات الطبيعيّة وإمّا بالضعف الملازم لهم الذي يجرّهم – غالبًا بدون إرادتهم – إلى ما لا يجب فعله. وإنّها لعظيمة أيضًا الحرب التي يشنّها الشياطين عليهم وهم، على رغمهم، يحاربون دائمًا ما يطلع منهم من شهوات عن معظم الحوادث. غير أنّ الخيور الموعودين بها لقاء هذه الجهود ليست عاديّة، والله يرضاهم ويمنح مثل هؤلاء البشر خير اهتمامه العظيم. إنّه يسمح أن يتحمّلوا في هذا العالم الشدائد والآلام، وإنّما ذلك لكي ينالوا بدلاً منها الخيور الأبديّة التي لا تُدرك.

لذلك، عندما طلب التلاميذ من يسوع أن يعلّمهم صلاة ما، قال لهم ما يلي: إذا كنتم تبتغون الصلاة فاعلموا أنّها لا تقوم بالكلام، بل باختيار حياة فاضلة، وبحبّ الله والغيرة على فعل الخير. فإذا مارستم هذه الثلاث تكونون طوال حياتكم منقطعين إلى الصلاة. ولأنّكم أردتموها واخترتموها، فإنّها ستنير فيكم توقًا شديدًا إلى الصلاة. وإنّكم ستعرفون عندئذٍ ما تسألون. فإنّكم إن اخترتم الخير، فلا تعودون تقتنعون بأن تطلبوا شيئًا غيره إذ لا ترضون أن تسألوا ما لا يهمّكم أمره. أنتم الذين تتوقون إلى الفضائل وتبتغونها، ستسألون الله أن يمنحكم إيّاها. وإذا سلكتم هذا المسلك ورفعتم إلى الله هذه الطلبات بكلّ اجتهاد فإنّكم لا تجهلون أنّكم ستنالونها.

اسمعوا لي فإنّي موجز لكم ما يجب عليكم أن تبتغوه، وأيّ نوع من السلوك والحياة يُطلب منكم، وما يجب أن تواظبوا عليه، وتسألوه حتّى يتسنّى لكم أن تنالوا مطلبكم. يقول الإنجيليّ (لو 11: 1-2): "وكان يسوع يصلّي في بعض الأماكن، فلمّا فرغ قال له أحد تلاميذه: ربّنا، علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنّا تلاميذه. فقال لهم: إذا صلّيتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك". إنّ عبارة "كان يصلي في بعض الأماكن" تعني ما يلي " في مكان منعزل وبعيد عن ضجيج الناس، كان يصلّي لله".

فلمّا شاهده التلاميذ يصلّي بحرارة شديدة، أدركوا أنّ الصلاة ليست أمرًا ممكنًا، بل ضروريًّا. فسألوه ن يعلّمهم أن يصلّوا، كما علّم يوحنّا تلاميذه. فيعيّن لهم كلمات الصلاة. فإذا ابتغيتم الصلاة إعلموا ما يجب عليكم أن تطلبوه من الله، من الواضح أنّ عليكم أن تهتمّوا بما ستسألون الله. فماذا يجب إذًا أن تقولوا عندما تصلّون؟ وبأيّ شيء عليكم أن تهتمّوا؟

أبانا الذي في السماوات. قبل كلّ شيء، عليكم أن تعرفوا ما كنتم عليه وما صرتم إليه، وما هي عطيّة كلمة الله لكم – وما أعظمها! لأنّه قد صُنعت لكم عظائمُ أكبر ممّا صنع للناس من قبلكم. فالذي أصنعه أنا للذين يؤمنون بي ويختارون أن يصيروا تلاميذي يرفعهم فوق الذين يعيشون بحسب شريعة موسى، إذا صحّ أنّ هذا العهد الأوّل الذي أعطي من على جبل سيناء وهو يلد للعبوديّة فإنّما هي وبنوها في العبوديّة (غلا 4: 24). وجميع الذي أُخضعوا لشريعة الوصايا كانوا عبيدًا (أف 2: 15) وقد أرتضوها قاعدة لسلوكهم، وقد صدرت أحكام بالإعدام، لا يفلت منها أحد، على الذين تجاوزوا الوصايا.

أمّا أنتم فقد قبلتم على يدي نعمة الروح القدس، التي استحقّت لكم التبنّي وحصلتم على الدالّة لأن تدعوا الله أبّا. لأنّكم لم تتلقّوا دومًا روحًا يستعبدكم ويردّكم إلى الخوف، بل روحًا يجعلكم أبناء وبه ننادي: "أبّا، أيّها الآب!" (روم 8: 15). من الآن لكم عمل في أورشليم العليا وقد حظيتم بالحرّيّة حالة يحصل عليها الذين جعلتهم القيامة غير مائتين وغير متبدّلين يعيشون في السماء في هذه الحال.

ولمّا كان بينكم وبين الخاضعين للشريعة هذا الفرق – إذا صحّ أنّ الحرف، وهو الشريعة، يقتل ويحكم على من تجاوزها حكمًا بالموت لا مفرّ منه، بينما الروح يحيي (يو 6: 63) فيجعلنا بالقيامة لا مائتين ولا متبدّلين، فإنّه خير لكم أن تعرفوا قبل كلّ شيء أنّه عليكم أن تتحلّوا بأخلاق جديرة بهذه الكرامة، لأنّ الذين يهديهم روح الله هم أبناء الله، بينما الخاضعون للشريعة ما اقتبلوا إلاّ مجرّد اسم الابن. قد قلت: إنّكم آلاهة وبنو العليّ كلّكم، إلاّ أنّكم مثل البشر تموتون (مز 81: 6). أمّا الذين اقتبلوا الروح القدس والمنتظرون بعد الآن الخلود، فيحسن أن يحيوا بالروح، ويتشبّهوا بالروح بضمير يتجاوب مع كرامة من يهديهم الروح، ويكفّ عند كلّ خطيئة وأن يتحلّى بأخلاق جديرة بالحياة في المنازل السماويّة. لذلك لا أوافقكم وأنتم تضرعون إلى "ربّنا وإلهنا".

أجل عليكم أن تعرفوا ليأتِ ملكوتك. لقد أحسن ربّنا عندما زاد على ما سبق: ليأتِ ملكوتك. فإنّ الذين دُعوا بالتبنّي إلى ملكوت السماء وهم ينتظرون أن يكونوا في السماء مع المسيح – فإنّنا بحسب تعليم الطوباوي بولس نُرفع معهم في الغمام لملاقاة المسيح في الجوّ، فنكون مع الربّ دائمًا أبدًا (1 تس 4: 17) – هؤلاء عليهم أن يفكّروا أفكارًا جديرة بهذا الملكوت وأن يعملوا أعمالاً توافق حياة السماء، وألاّ يأبهوا لأمور الأرض ويحسبوا عارًا التحدّث عنها والاهتمام بها. إنّ جليس البلاط الملكيّ الذي يحظى في كلّ لحظة بالتحدّث إلى الملك، لا يليق به أن يتجوّل في الأسواق والخمّارات وما أشبه من الأماكن! بل يتحدّث مع الذين يقيمون أبدًا في البلاط الملكيّ. ونحن أيضًا المدعوون إلى ملكوت السماوات لا يجوز أن نهمل آداب السماء وما يليق بالحياة الأخرى لنستسلم لتجارة هذا العالم حيث الكثير من تجارة السلع المستعملة ومن أعمال الإثم. فكيف يكون هذا وكيف نتصرّف تصرّفًا جديرًا بشرف أبينا؟

ولكن كيف نبتغي تصرّفات السماء وكيف نؤتي من الأعمال ما يتسبّب بالمجد العظيم لاسم الله؟

لتكن مشيئتك على الأرض كما هي في السماء. ففي هذا العالم نجتهد ما أمكن أن نسلك السلوك الذي نرجو أن نسلكه في السماء، لأنّه في السماء ليس ما يقاوم الله، وقد اقتُلعت الخطيئة وانحلّت قدرة الشياطين وبالجملة قد دُمِّر كلّ ما يعلننا الحرب في هذه الدنيا. ولكنّه متى عمّ الفناء، سنُبعث من بين الأموات ونَسكن في السماء في طبيعة خالدة وثابتة. وفوق كلّ شيء سنتمسّك بإرادة الله، ولجميعنا أفكار سماويّة تريد ما ترضي الله وتعمله، إذ لا يعود في قلبنا لا نبضة ولا شهوة تناهض مشيئة الله. فالمطلوب منّا إذًا في هذا العالم هو أن نثبت ما أمكن في تتميم إرادة الله ولا نحيد عنها. كما إنّنا نعتقد أنّ إرادة الله تملك في السماء، هكذا علينا أن نتمسّك بها ونحن على الأرض. ولا نعود نقبل في إرادتنا وضميرنا أيّة حركة مخالفة لإرادة الله. وهذا يعجزنا ما دمنا في هذا العالم في طبيعة مائتة ومتغيّرة.

ولكن فلتكفّ إرادتنا عن الحركات المضادّة وترفضها. ولنصنع ما يأمر به الطوباويّ بولس: "لا تتشبّهوا بهذه الدنيا، بل تبدّلوا بتجدّد عقولكم لتميّزوا ما هي مشيئة الله وما هو صالح وما هو مرضيّ وما هو كامل (روم 12: 2). إنّ ما يأمر به، ليس أن لا تعود الشهوات تثور فينا بل أن لا نتكيّف مع ما سينحلّ ولا محال مع هذا العالم. ولا تتمثّل إرادتنا بحياة هذا العالم، بل فلتحارب هذه الحوادث، وما تحمله من ألم أو راحة، ومن مجد أو عار، وبموجز الكلام من رفعة أو ضعة. فلتناهض خاصّة ما يستطيع أن يوقعنا في أفكار تخالف إرادة الله وتبعد قلبنا عن التثبّت بالخير. فلنجتهد في ألاّ ينحدر ميلنا إلى هذا الحدّ، ولكن فلنجدّد أفكارنا بالإصلاح اليوميّ. فلندحر ما تتسبّب لنا به شهوات العالم من أذى، ولنرفع كلّ يوم إرادتنا إلى الفضيلة، ونحن نختبر ما يرضي الله. والذي نحسبه الخير الكامل هو ما يرضي الله. ولنعتبر ملاذ هذا العالم جديرة بالاحتقار، ولكن فلنحتمل الشدائد التي تنقضّ علينا ولنؤثر إرادة الله على كلّ شيء لنحسب ذواتنا سعداء إذا أتممناها، حتّى لو تفقّدتنا جميع ضيقات العالم. وإن لم يكن فينا هذا التصرّف، لكنّا تعساء لا بل أدنياء، ولو وفّرت لنا كلّ خيرات هذا العالم.

هذا هو إذًا كمال الآداب الذي علّمنا إيّاه ربّنا بوجيز الكلام. وهو يأمر المؤمنين به بأن يسلكوا في الأعمال الصالحة وأن يسيروا سيرة سماويّة وأن يحتقروا أمور هذا العالم وأن يجتهدوا، ما أمكن، في أن يتمثّلوا بأمور العالم الآتي. وهذا ما يشاء الله أن نطلبه حتّى النهاية. وبما أنّه علينا أن نتحلّى بضمير سليم وحبّ خالص لهذه الأمور – وإنّنا لعالمون أنّنا عاجزون عن أن نتمّم شيئًا ما بدون معونة الله – فإنّه قد نقل إلينا هذه الأمور بشكل صلاة، حتّى نختارها بحبّ كامل، ونثابر بكلّ اهتمام واجتهاد على التماسها من الله، على أنّها صالحة ومفيدة وإنّه لمن المحال أن نحصل عليها بلا شكّ إذا فضّلناها والتمسناها من الله.

أعطنا اليوم الخبز الضروريّ لنا. إنّ الطوباويّ لوقا زاد أشياء كثيرة على هذه الصلاة التي قالها المسيح ربّنا، وذلك ليتثبّت أنّ الذين يطلبون ينالون بدون شكّ. وقد شاء أن يدعونا إلى أن نتكيّف مع هذا العالم الآتي حيث نسمو – متى وصلنا إليه – على جميع الأمور الدنيويّة ولا يعود بنا حاجة إلى شيء البتّة. ولكن لمّا كنّا نظنّ أنّه يأمرنا بفعل شيء مستحيل، وهو أن تتكيّف مع هذه الحياة الخالدة كائنات مائتة من طبعها وبها حاجات كثيرة في هذا العالم، أردف بإيجاز: أعطنا خبزنا اليوم خبزنا الضروريّ لنا. وهو يقول: إنّي أرغب في أن تطمحوا إلى أمور العالم الآتي، ولمّا كنتم بعد في هذا العالم، فإنّي أرغب إليكم في أن تنظّموا حياتكم، ما استطعتم، كما لو كنتم في العالم الآخر. وهذا لا يعني أنّه يجب أن تمتنعوا عن الطعام والشراب أو عن استعمال أيّ شيء ضروريّ تحتاجون إليه في هذه الحياة "ولكن ما أعنيه هو أن تحبّوا الخير وتبتغوه كاملاً. أمّا أمور هذا العالم فإنّي أسمح لكم أن تستعملوها بقدر ما تلبّون حاجة ملحّة، بل أقول أكثر من ذلك لا تلتمسوا الاستعمال ولا تسعوا إليه جاهدين. وما يقوله الطوباويّ بولس: "فإذا كان لدينا قوت وكسوة فعلينا أن نقنع بهما" (1 تم 6: 8) يسمّيه ربّنا "الخبز" الذي يجب أن نستعمله. والناس يعتبرون الخبز أفضل شيء لتغذية الحياة الدنيا وقوامها. وكلمة "اليوم" تعني "الآن" لأنّنا نحن موجودون "اليوم" ولسنا موجودين "غدًا"، لأنّنا ولو بلغنا إلى اليوم التالي، فنكون عندئذً في "اليوم" عندما نكون فيه.

إنّ الكتاب الإلهيّ يسمّي "اليوم" ما هو حاضر أو وشيك، مثل ما ورد في الرسالة إلى العبرانيّين: "اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم كما حدث عند السخط، ولكن ليشدّد بعضكم بعض، كلّ يوم، إلى اليوم الذي تسمّونه "اليوم" (عب 3: 7؛ 13). وهذا يعني: ما دمنا في هذا العالم، فلنفكّر أنّنا سامعون أبدًا هذه الكلمة. وهذا الصوت يشجّع ضميرنا ويوقظ نفسنا وعيشها ويحثّها على إصلاح أخلاقنا فنبتعد عن كلّ بغضاء ونسعى إلى كلّ خير. فلنتقدّم على ما نحن عليه يومًا بعد يوم، في هذا العالم حيث يتسنّى لنا زمن الإصلاح والتوبة. فإنّنا، عندما نترك هذا العالم، يتوارى زمن التوبة والإصلاح ويأتي زمن الدينونة. لذلك يقول ربّنا: أعطنا اليوم الخبز الضروريّ أي ما دمنا في هذه الحياة، فبنا حاجة إلى ما علينا أن نستعمله. وأنا لا أنزع منكم ولا أحرم عليكم المأكل والمشرب والملبس ولا شيئًا ممّا هو ضروريّ لقيام الجسد. وإذا كنّا نملكها فمن الضروريّ أن نستخدمها وإذا ملكنا إيّاها غيرها فلا حرج في اقتبالها لأنّه لا يقبح أن نطلبها من الله.

وكيف نعتبر شرًّا ما استعمال ما يسمح بطلبه من الله، لأنّه نافع أيضًا لقيام الطبيعة والحفاظ عليها؟ "خبز" هو اسم ما يخدم ويناسب قيام الطبيعة. "الضروريّ" تعني بحسب طبيعتنا أي ما هو نافع وضروريّ للطبيعة وقيام الطبيعة. وبما أنّ الخالق فرض استعمال الضروريّ، فقد أصبح مناسبًا أن نمتلكه. أمّا النافع وما خرج عمّا هو ضروريّ استعماله، فلا يجعل بطالبي الكمال بأن يقنعوه ويحتفظوا به. وبيّن لنا أنّ التماس ما يلائم الاستعمال ضروريّ فقال: ما هو ضروريّ، أي ما هو مفيد وضروريّ لطبيعتنا، وبكلمة اليوم يعني ما يلي:

فإذا كان خلق الطبيعة قد قرّر ضرورة هذه الأمور في هذا العالم، فقد أصبح من الحقّ أن نطلبها ولا يقبح استعمالها. أمّا إذا زاد على ذلك فليس لأحد أن يلتمسه من الله أو أن يسعى إلى اقتنائه. وكلّ ما ليس مطلوبًا لقيامنا وليس ضروريًّا استعماله في هذه الدنيا، لو جمّعناه، إنّما ينتقل إلى سوانا. ولا يعود بالنفع على من سعى إليه أو اجتهد في جمعه واقتنائه. وإنّه من الواضح أنّ ما جمعه سينتقل بعد موته إلى سواه، على رغمه. وبما أنّ ربّنا رذل رذلاً قاطعًا همّ النوافل، دون أن يحرم استعمال ما نحن في حاجة ماسّة إليه، بل على عكس ذلك أمرنا بأن نلتمسه من الله لأنّنا في حاجة إليه، فقد أحسن فزاد. إغفر لنا ذنوبنا.

إغفر لنا ذنوبنا

لقد حدّد ربّنا في أولى كلماته الفضيلة والكمال الأدبيّ، وعندما زاد: أعطنا اليوم الخبز الضروريّ لنا حدّد قدر اهتمامنا بما هو ضروريّ للاستعمال. ومهما عظم سعينا إلى الفضيلة، فإنّه يستحيل علينا أن نبقى بدون خطيئة، نحن الذين نضطر إلى السقوط فيها مرّات كثيرة بدون إرادة منّا، بسبب ضعف طبيعتنا. لذلك وجد لهذا الضعف دواء في طلب المغفرة، حتّى لو أنّه لم يقل هذا فقط لهذا السبب. إذا سعيتم إلى الخير جاهدين وعدلتم عن طلب النافل إلى الاكتفاء بما هو ضروريّ، فعليكم أن تثقوا بأن تنالوا مغفرة خطاياكم. فمثل هذه الخطايا، أجل، غير إراديّة. فإن سعى إلى الخير ويهتمّ في التخلّص من الشرّ، لا يسقط بلا رضاه. وهذا أمر واضح. فكيف يسقط عن طيبة خاطر من يمقت الشرّ ويبتغي الخير؟ فإنّه من المؤكّد أنّ خطايا مثل هذا الرجل ليست إراديّة وإنّه سينال حتمًا المغفرة. ويزيد:

كما نحن أيضًا غفرنا لمن أساء إلينا. يبيّن أنّه علينا أن نثق بأنّنا سنعطى مغفرة هذه الخطايا إذا تصرّفنا نحن أيضًا هذا التصرّف، حسب استطاعتنا، بالنسبة إلى من أساء إلينا. وكما كنّا – بعد أن اخترنا لنا الخير وارتضيناه، نخطأ غالبًا إلى الله وإلى البشر، - فإنّه جمل بالله أن يكون قد وجد دواء لهذين الشرّين في مغفرتنا لمن أخطأوا إلينا. ولنا الثقة الأكيدة أنّنا نحن أيضًا سننال من الله مغفرة خطايانا. إنّه علينا – متى خطئنا – أن نركع ونتضرّع لله ونستغفره كذلك نحن أيضًا نغفر لمن أساؤوا إلينا ويستغفروننا. فلنقبل بمحبّة كلّ الذين أساؤوا إلينا وآلمونا بنوع من الأنواع. فإنّه لواضح وأكيد أنّ الذين عانوا الإساءة أو الإيلام، إذا غفروا لمن أساء إليهم، وهم تائبون عن إساءاتهم ومستغفرن، سيعاملهم بالمثل عندما يستغفرون الله. إنّ ربّنا أمرنا بوضوح أن نستغفر من غفرنا لهم ممّن أساؤوا إلينا.

لا تدخلنا في تجربة.

ولأنّنا نسقط فجأة في محن هذا الكلام الكثيرة – من أمراض جسديّة، وشرور البشر وما إلى ذلك من المصائب التي توقعنا في شركها وتزعزعنا، حتّى إنّ بعض الأفكار تبلبل نفسنا وتخرج بها عن ممارسة الخير – زاد بكلّ حقّ "ولا تدخلنا في تجربة"، ليحمينا ما أمكن. وإذا فاجأتنا التجارب فلنجتهد في احتمال ما كنّا لا نتوقّع من محن. قبل كلّ شيء، فلنتوسّل إلى الله لئلاّ تطالنا التجربة؟ أمّا إذا دخلنا في التجربة فلنسأل الله أن نحتملها تحمّل الجبّار وأن تنتهي سريعًا. فإنّه ليس بخاف أن محنًا كثيرة في هذا العالم تقلق قلوبنا بأنواع شتّى. فالألم الجسديّ ذاته، متى طال وثقل، يقلق قلقًا شديدًا كلّ الذين يعانونه. وشهوات الجسد تغرينا وتخرج بنا عن واجبنا على غير رضى منا. وإذا وجوه جميلة وجدناها لمحناها فجأة، أثارت فينا الشهوة التي هي طبيعتنا. وأشياء أخرى تطالعنا على غير حال، عندما نكون لا نفكّر فيها فتجرّ إلى الشرّ اختيارنا للخير ورضانا به، بدون إرادتنا، على رغمنا. في أيّ شكل، عمّا يرضينا، وتبعد حتّى الذي كان يسعى سعيًا حثيثًا إلى الفضيلة. وذلك يعظم عندما يعمل ضدّنا، إخوة لنا في الإيمان. فعنهم قال ربّنا: "من عرّض للخطيئة أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فأولى به أن تُعلّق الرحى في عنقه ويُلقى في لجّة البحر" (مت 18: 6). فإنّه قد قال هذا لعصاة بيننا ويهدّدهم تهديدًا قاسيًا إذا نصبوا، عن شرّ وفساد، أشراكًا للمتواضعين والطاهرين تبعدهم عن واجبهم. فهذا ما يعنيه "عرّض للخطيئة" أي أنّ الأشرار، عن شرّ وفساد، يسيئون إلى الذين، حبًّا بالفضيلة، يجتهدون في أن يعيشوا عيشة محتشمة وطاهرة. فمن أجل ذلك، بعد أن قال: لا تدخلنا في تجربة، زاد: لكن نجّنا من الشرّير.

لكن نحّنا من الشرّير

وفي جميع ذلك، فليس بقليل ما يسبّب لنا الشيطان الشرّير من أذى فيأتي حيلاً متنوّعة وكثيرة ليفعل ما يتيح له بأن يخرجنا عن التعلّق بواجبنا واختياره.

إنّ ربّنا أدخل في كلمات الصلاة هذه الكمال الأدبيّ وعلّم تعليمًا واضحًا ما ينبغي أن نصير إليه، وما يجب أن نسعى إليه، وما يجب أن نبتعد عنه، وما يجب أن نطلبه من الله. وآباؤنا الطوباويّون – ظنّا منهم أنّه إلى جانب التعليم المستقيم والإيمان الصادق، علينا أن نسعى إلى حياة وأخلاق حسنة، آباؤنا سلّموا هذه الصلاة إلى الذين يقتربون من موهبة المعموديّة، فيعرّضهم لحقيقة الإيمان يعلّمون التعليم المستقيم، وبالصلاة ينظّمون حياتنا حتّى يحياها بالفضيلة جميع الذين يقتبلون موهبة العماد، وقد سجّلوا منذ هذا الدهر أبناء في مدينة أخلاقها سماويّة. هذا ما تعلّمكم بإيجاز الصلاة الربّيّة. اجتهدوا في أن تكون صافية في قلوبكم، تأمّلوها بكلّ اعتناء، واسعوا إلى وضعها موضع التنفيذ حتّى تتمثّلوا، على قدر طاقتكم، بالعالم الآتي. أسلكوا بحسب تعاليم ربّنا تنالوا الخيور السماويّة التي سنقتبلها نحن بنعمة ابن الله الوحيد، الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين. آمين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM