يعقوب السروجيّ (+ 521)

يعقوب السروجيّ (+ 521)

ولد يعقوب السروجيّ حوالي سنة 449 في حورا الواقعة على ضفاف الفرات. تعلّم في مدرسة نصيبين يوم كان نرساي المعلّم فيها تلميذًا. اشتهر منذ صغره بالعلم والخطابة فجعل برديوطًا (أو خورأسقفًا) على حورا وفي سنة 518 صار أسقفًا على بطنان الواقعة في مقاطعة سروج، ولهذا سمّي السروجيّ. توفّي في شهر تشرين الثاني سنة 521.

كتب يعقوب القصائد العديدة وقد بلغت، على ما يقال، 763 قصيدة وتتألّف كلّ قصيدة من 300 أو 400 بيت. ولكن بقي لنا قرابة 250 قصيدة. موضوع قصائده: العهد القديم (100 قصيدة) والعهد الجديد ولا سيّما الإنجيل. ثمّ الأعياد الليتورجيّة.

هناك ثلاثة مواضيع مفصّلة لديه: وجه المسيح يكتشفه من خلال الآباء في العهد القديم، الكنيسة عروس المسيح كما في الأنبياء ونشيد الأناشيد والقدّيس بولس، الكتاب المقدّس نكتشف فيه عجائب الله وأسرار الإيمان.

نشيد الأبانا نقرأه في طبعة الأب بيجان، الجزء الأوّل، ص 212-248. ترجم في الشحيمة (الزمن العادي)، إعداد ونشر جامعة الروح القدس، الكسليك، 1982، ص 258- 314.

 

يا ابن الله المغني جميع الناطقين،

هب لي الكلمة فأنطق بها عنك.

لك الأقوال والكلمات والترانيم،

ممّا لك، يا ربّ، إقبل تمجيدي الحقير.

 

ربّ، لك الفم والكلمة واللسان،

هو لفمي، ولو غير أهل، أن يذيع تسبيحك.

لك العقل والفكر والوجدان،

هب لعقلي أن ينظر إليك ويحكي قصّتك!

 

أتيت إلينا وأنت في أبيك: فأنت في العلى والعمق معًا،

السماء والأرض مملوءتان منك يا ابن الله.

هب لنفسي أن تراك. فإذا رأتك استنارت بك،

نطقت وتحدّثت على ضوء.

 

من ملكَته شهواتُ العالم أظلمتْ عيناه،

ومن نظر إليك بحبّ رأى النور.

ليس في عين الإنسان نور تستنير به،

ولكنّ العين الصافية تقبل النور.

 

تقبلُه من الشمس أو من النار،

ومتى قبلَته صار منها وهي منه

كذلك النفس، يا ربّ، حين تراك،

تقبل منك الكلمة وتروح تحكي قصّتك.

 

لا نور فيها. فإذا نظرت إليك استنارت.

بك تراك فتغتني بالكلام عليك.

العين لا ترى الشمس إلاّ بالشمس،

الشمس تعطي العين النور، لتراها بالمحبّة.

 

هلمَّ، أيّها العقل، انظر إلى المسيح واقفًا

بين الجموع، أشبه بنهر جيحون[1] الملآن مراحم،

يجري فيفيض شفاء على المرضى،

يفيض منه الحنان العظيم غمرًا.

 

به أبصر العُمي، سمع الصمُّ، قام الموتى.

وبه استنارت الأرض كلّها، وكانت مظلمة.

من لقيه لقي العافية، وعبر.

من أتى إليه نال العون، ومضى.

*  *  *

 

إختار الرسل، أرسلهم إلى كلّ مكان،

حتّى يعيد الخلق بأسره إلى والده.

إتخذ المسيح الشمس اثنتي عشرة ساعة.

ليجمع نهار النور العظيم واحدًا.

 

اثنتا عشرة درجة تصعد عليها الشمس وتنزل،

فتبسط نورها على الأرض المظلمة.

اثنا عشر شعاعًا من دائرة البرّ

لمعوا كالبرق بعد ليل حجب الأرض.

 

إتّخذ اثني عشر رجلاً من العالم معروفين،

صافين، بسطاء، سالمين، لا شرَّ بهم.

إختارهم صيّادين، لا أغنياء، ولا حكماء،

لأنّ طريق الابن لا تحتاج إلى حكمة.

 

ولكي يبيد غنى العالم وحكمته،

اختار الجهلاء يذيعون في الأرض كرازته

أحبّوه، تعلّقوا به، تبعوه،

به استناروا، به اتّحدوا، فيه اغتنوا.

 

تركوا العالم وساروا بحبّه في إثره،

نبذوا المقتنيات حتّى يمتلكه بمحبّة.

تركوا الأهل، أبناء وإخوة وآباءً

بيوتًا وعشائر، وذهبوا في رفقته بمشيئته.

 

سمعوا كلامه، كلّ ما قال، مثلما قال:

إنّ لا حياة لحياتهم إلاّ به

أوصاهم ألاَّ يقتنوا ذهبًا ولا فضّة،

فاكتنزوا وصيّته قنية عظيمة.

 

علّمهم ألاّ يهتمّوا بما يتكلّمون،

فلم يطلبوا أن يتكلّموا إلاّ به.

*  *  *

 

صلاة في عشر كلمات

 

سأل التلاميذ يسوع أن يعلّمهم الصلاة،

فأضاء سؤال الحبّ، وحسن في عيني ابن الله،.

وبدأ المعلّم الأعظم يلقّن خازني سرّه:

متى انصرفوا للصلاة، كيف يصلّون.

 

أوّل ما أوصاهم حين يصلّون

ألاّ يكثروا الكلام على هواهم.

وفي نشيدي هذا الذي بدأت

تشرق الصلاةُ الجميلة، تعليم ربّنا.

 

يقتضي نشيدي سمعًا نقيًّا من كلّ شرّ،

ومحبّة للربّ تكون منتهى الجمال،

وحبًّا عظيمًا يكون رباط الإيمان،

فيطيب نشيدي للسامعين!

 

فالصلاة التي علّمها ابن الله خازني سرّه

تنجلي لك إذا سمعتها محبًّا لها.

متى صليتم فهكذا صلّوا:

أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك مقدار ما هو قدّوس!

 

ليأتِ ملكوتك إلينا من حيث هو،

لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء.

أعطنا الخبز اليوميّ من كنزك،

واغفر ذنوبنا وخطايانا كما غفرنا،

 

ولا تدخلنا التجربة لأنّنا ضعفاء،

لكن نجّنا من الشرّير لأنّ قدرتك عظيمة.

لأنّ لك الملكوت والجبروت،

والسلطان والمجد. آمين

 

جعل ابن الله في هذه الصلاة سلاحًا عظيمًا،

قلّده رسلَه فخرجوا يبارزون العدوّ

ربوات ربوات الصلوات يصلّيها البشر،

حدّدها ابن الله في عشر كلمات!

 

حصر بقدرته جميع طلبات المحتاجين

في هذه الصلاة الصغيرة، وأعطاها رسله!

 

أبانا الذي في السماوات

بالكلمة الأولى التي علّمنا أن ندعوه: أبانا،

كلّ قوّة العدوّ تُخمد،

لأنّ رئيس جيشنا عارف بعدوّنا

أيّ وقّاح هو، وأيّ بغيض للبشر!

 

يكره الصلاة، يعرقلها، يشوّشها،

يرذلها، بل يصرفنا عنها، إن استطاع.

لا تخيفُ الأعزلَ الرماحُ والسهام

كما تخيف الصلاة الشرّير، فهو يكره أن يراها.

 

لذلك يحرّك في النفس أفكارًا غير حسنة:

يقلقها بالاهتمام بأعمال مختلفة.

يصبّ عكره على الفكر، لا يدَعه يصفو،

حتّى يفسد نقاء الصلاة، بأيّ حيلة.

 

لا يفارق المصلّي، بل يلازمه

حتّى يراه خارجًا من صلاته.

يقلقه بأعمال العالم الشرّير،

فإذا جذبه إليه، حمله وانطلق به!

 

من يقوم للصلاة يقوم للعراك،

لأنّ الشيطان قائم معه ليؤذيه.

تلك عادة الشرّير مع المصلّي:

يهاجمه، إن استطاع، في بيت الله.

 

فلذا علّم ربّنا في بدء تلك الصلاة،

وأعطى رسله أن يدعوا: أبانا!

قل: أبانا، أوّل قيامك للصلاة،

فيسمع الشرّير الذي يحاربك ويعرف من أبوك!

 

ومذ يسمع أنّ لك أبًا في السماء،

يضطرب وتصطكّ رجلاه في صراعه لك،

وأنت أشبه بطفل له أب جبّار،

إذا حُمل على الصراع، دعا أباه إلى المعركة!

 

وإذ سمعه العدوُّ يدعو أباه،

يترك ويهرب، لأنّه أضعف من الجبّار.

كذلك أنت أُمرت بأن تدعو: أبانا،

ليهرب الشرّير فور سماعه من أبوك!

*  *  *

 

ليتقدّس اسمك

تناديه: أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك!

أي لنتقدّس نحن. لأنّ اسمك فينا، يا ربّ قدّسنا!

دعي علينا اسمك. ليتقدّس فينا من أجلك!

إنّك القدّوس، ليتقدّس اسمك فينا نحن الضعفاء!

 

الصلاة التي علّمنا ابن الله غنيّة زاخرة،

ومنها ينبغي أن تعرف من أنت وما أعظمك!

هي تعلّمك أنّ لك أبًا ملكًا عظيمًا،

وأنت عظيم: وأيَّ مرتبة بلغ ترابك!

 

نزل ابن الله من العلى وصار إنسانًا،

فأصعدك من العمق لتصير ابنًا لله.

صار أخًا لك من حشا بالغة القداسة،

وجعلك أخاه من حشا المعموديّة.

 

وبما أنّه صار بالميلاد الثاني إنسانًا،

جعلك بالميلاد الثاني ابنًا لله.

ولئلاّ تنسى في صلاتك من أبوك،

علّمك أن تدعو في بدء طلبتك: أبانا الذي في السماوات!

 

فاهرب من الأعمال غير الحسنة،

لأنّ الله أبوك الكامل الحسن،

كن نقيًّا لا عيب عليك، لأنّك ابن،

أزل عنك الشرور، وانبذها كرامة لأبيك!

 

ولا تخطأ، لئلاّ يهان بسببك

من حسُن في عينيه أن يكون أباك العليم!

أنظر من دعوت في بيت الغفران: أبانا!

وطهّر نفسك لأجله، لئلاّ يهان!

 

عندما تصلّي، تدعو الآب ليأتي فيخلّص

بنيه، وقد استعبدهم العدوُّ منذ البدء.

تقول له: أنا مسيحيّ مبيع،

صرت عبدًا ذليلاً بين الغرباء!

 

كان لي اسمُك، مثالك، فدنّسته:

أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، لك!

فحين تقول: ليتقدّس اسمك، يعلّمك هو

أن تكون قدّيسًا، لأنّ أباك كليّ القداسة.

*  *  *

 

ليأتِ إلينا ملكوتك

ليتقدّس اسمك، وليأت إلينا ملكوتك!

فإذا أتى ملكوتك، ارتعد المارد.

يسمع الشرّير أنّك تدعو ملكوت الآب،

فيدرك أنّه لن يقدر أن يجبَه ذلك الملكوت.

 

عندما تصلّي، يعلّمك الربّ أن تدع إلى معونتك

لا الملائكة ولا الأبرار ولا الصدّيقين،

بل ملكوت الله،

الذي منه ترتعد جميع قوّات العدوّ!

 

ها إنّك تدعو الملكوت ليأتي، فاعدِد مكانًا.

أعدد بيتًا نظيفًا كلّه قداسة

على الفم، على باب البيت علّق

بصفقتي الباب لفظة "نعم"، زينة غير مصوّرة!

 

والقلب، وسط البيت، انضحه بالنقاء،

بكلّ فكر حسن، كلّ يوم!

والنفس، دارة البيت الملك الآتي،

طيّبها بعطور الأعمال الصالحة، من كلّ صوب!

 

أرضَ البيت افرشها ببساط الحبّ الصافي،

لأنّ الربّ يريد أن يرى الحبّ، أينما حلّ!

في الصلاة دعوتَ بأن يأتي إليك الملكوت،

ها إنّه آتٍ لأنّك دعوت، فاعدد له مكانًا كريمًا!

 

حذار أن تكون في غضب أو قلق أو اضطرات،

حذار أن يكون حبّ المال أو الطمع في نفسك،

حذار أن تكون فيك رائحة كذب كريهة،

أو حمأة زنى ينفر عنه الملك!

 

إن كان فيك مثل هذا، فانبذها عنك لأنّ الملك آت.

فإذا أتى ورآها، لن يحلَّ فيك!

لتكن نفسك مقامًا أهلاً لأن يحلّ فيه الملك!

لأنّ دعوته ليأتي إليك، فليأتِ ويحلَّ فيك!

 

فلهذا تعلّمتَ أن تدعو الملكوت

بأن يأتي إليك، لكي تعدّ له مكانًا نقيًّا:

وإذ يهُمُّ بأن يُقبِل، يهرب العدوّ،

وتزهو أنت فتستقبله بقداسة!

*  *  *

 

لتكن مشيئتك

 

أنت تدعو: ليأتِ إلينا ملكوتك، يا ربّ،

لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء!

تقول له: ربِّ، لتكمل مشيئتك فينا،

نحن البشر كما في الملائكة الروحانيّين!

 

هكذا صلّى ربّنا نفسه حين صلّى،

وقال للآب: لا مشيئتي بل مشيئتك!

وهكذا علّمك أن تبتهل في صلواتِك:

لتكن، ربّ، مشيئتك على الأرض كما في السماء!

 

كما تخدمك صفوف آل جبرائيل،

لتخدمك بغير انقسام في الأرض الكنائس كلّها.

كما ترنّم لك أجواق آل ميخائيل،

فليدوِّ لك الترنيم في جماعاتنا، بصفاء الحبّ!

 

كما يقدّسك جمع السرافيم البهيّ،

ليقدّسك جمهور البشر في الأرض كلّها!

لتكمِّل الأرض كلّها جميع أوامرك،

كما لا تتعدّى السماء أبدًا وصاياك!

 

ليسمع لك وليخدمك بالقداسة

كهنة الأرض خدمة الملائكة الذين في السماء!

لتكن مشيئتك في الأرض كما في السماء

في جميع الأشكال والأمثال والوسائل!

 

من أراد أن يكون كاملاً في بيت الله،

فليواظب على هذه الصلاة بحكمة.

إنّها صلاة قابل الصلوات.

هو علّمنا كيف يصلّي من يصلّي!

 

الابن الذي يُدخل إلى حضرة والده جميع الطلبات

هو علّمك ما تقول لأبيه، عندما تصلّي.

صنع هذه الطلبة بحسب رضا الآب،

وجعلها في فمك، لتصلّي إليه بحسب رضاه!

 

أراد أن يبيّن لك كيف يريد أن تتكلّم معه،

لتتكلّم بحسب مشيئته، حين تصلّي.

وكما تعلّمت كذلك تصلّي،

لأنّك تجد في تلك الصلاة كلّ ما تحتاج إليه.

*  *  *

 

أعطنا خبزك

 

أطلب إلى الله: أعطنا خبز كلّ يوم!

وهل يتطلّب عيش كلّ يوم سوى الخبز؟

فالجسد لا يأكل ذهبًا، إن أعطيته،

ولا مقتنيات ولا حجارة كريمة!

 

لا طعم للمرجان ولا رائحة،

إنّه ثمين، ولكنّه غير صالح للمأكل أو للمشرب.

ما قيمة هذا الثمين، إذا بقي العالم يزيد منه قنية،

وهو فارغ تعوزه المعرفة؟

 

ينال الملك من مُلكه خبز يومه،

وينال العامل من عمله خبز يومه.

ضروة الجسد وحاجته وغذاؤه

ينالها الملك والعامل على حدّ سواء.

 

طبعنا يحيا بالنسمة واللقمة،

والنسمة واللقمة موفورتان للفقير.

أمّا الغنيّ فلا يزيده اقتناءً الذهب،

لأنّ خبز كلّ يوم وحده كافٍ.

 

أنشأ ربّنا هذه الصلاة لومًا

للأغنياء والفقراء، إذا جشعوا وتطلّبوا المزيد.

فإذا تطلّب الفقير شيئًا آخر

غير الخبز، سيعنّفه الوهّاب!

 

والغنيّ أيضًا، حين يصلّي: أعطنا الخبز

سيكون ملومًا، لأنّ لديه خبزًا فائضًا،

وهو عارف بأنّ الفائض لديه

ليس له، بل للجائعين الذين في الخارج.

 

ما أجمل الصلاة التي علّمنا ابن الله.

طوبى لمن طبعها في نفسه وتطهّر بها!

جميع محاسن البرّ والكمال فيها

لمن يتعلّم أن يصلّيها!

 

جميع الطلبات الحسنة الكريمة

بها تستجاب لمن يسأل الله.

جميع الهبات الغنيّة توهب

للمساكين من كنز الله!

*  *  *

 

إغفر لنا ذنوبنا

 

علّمك ابن الله أن تقول: إغفر لنا ذنوبنا!

علّمك ماذا تقول: لأنّه يريد أن يغفر!

لو لم يكن مصمّمًا على الغفران

لما علّمك أن تقول: إغفر لي ذنوبي!

 

ولكن بما أنّه يلتزم أن يغفر للمذنبين،

علّمهم أن يطلبوا الغفران.

علّم خازني سرّه أن يقولوا لأبيه، آن يصلّون:

إغفر لنا، يا ربّ، ذنوبنا وخطايانا!

 

من لا يفرح بربّ الدَّين يعلّم المديون

ماذا يقول له عندما يمثل أمام وجهه؟

يريد أن يسمع من المذنبين: إغفر لنا ذنوبنا

ليعطي عدلَه مسوِّغًا للغفران!

 

فلا يلومه عدله إذا غفر:

لماذا تغفر لهم، وهم لا يطلبون الغفران؟

هكذا سأل المخلّعَ أيضًا حين شفاه

ليعرف منه هل يريد أن يُشفى؟

 

علَّم المذنبين أن يصلّوا إليه:

إغفر لنا ذنوبنا، لئلاّ يغفر لهم ولم يطلبوا!

إنّه يريد أن يغفر، ويريد أن يطلبوا منه الرحمة

لكي تجمُلَ بالطلبة الموهبة!

 

يتطلّب منهم حكمة عندما يصلّون

لئلاّ يكون في الرحمة حماقة!

لقد جعل صكّك أمام عدلك،

فلا أحد يأخذه من يده بلا ابتهال!

 

فلأنّه لا يريد أن يُحزن عدلَه حين يغفر لك،

علّمك أن تسأل الغفران حين تصلّي

لأنّ عدله، فور سماعه إنّك تسأله،

يضطرم بالحبّ ويسكب المراحم على المذنبين!

 

وتقول له: إغفر لنا، يا ربّ، كما غفرنا!

فعلّمك أنّه لن يغفر لك إلاّ وقد غفرت!

أعطاك كيلاً وردّ لك ما أنت كائل،

كذلك كِل أنت، وخذ لك ما أنت حامل!

 

تعرفُ أنت أيّ غفران أهبك أنا:

مقدار ما أنت غافر لمن به حاجة إلى غفرانك!

الخوف الكبير بمن يحتاج إلى الغفران

هو أنّه لا يُغفر له، إن لم يغفر حين يصلّي!

 

يسمع الفقيرُ الآن أيَّ شيء يغفر.

الكلمة إلى الأغنياء والفقراء معًا:

على كلّ إنسان أن يغفر

لأنّ الربّ علّم هذه الصلاة كلّ إنسان!

 

من كان في يده صكوك على الآخرين، فليمزّقها،

وليدخل فيسأل الغفران بصوتٍ عالٍ!

فمن مزّق الله صكّه العظيم،

فلا يتردّد في أن يمزّق الصكّ الحقير الذي في يده!

 

والفقير الذي لا مصالح لديه ولا حساب،

ولا ديون ولا مطالب، فليغفر هو ايضًا.

فإن احتقره أحد أو اضطهده أو شتمه:

فليغفر كلّ عاملٍ بحزنه!

 

علّم ابن الله جميع البشر

هذه الصلاة ليغتني الجميع من تعليمه!

ليغفر كلّ واحد: هذا ديونًا وذاك حسابًا،

هذا غضبًا وذاك بغضًا وآخر شتيمة!

 

مجيدة هي، عظيمة ومليئة محاسن برّ

تلك الصلاة التي علّمها ابن الله الإنسان حتّى يصلّيها.

كلّ ما يحتاج إليه الطبع البشريّ من الله،

جعله الربّ في هذه الصلاة ووهبها للرسل ليعلّم العالم!

*  *  *

 

لا تدخلنا في التجربة

 

وتقول: يا ربّ، لا تدخلنا في التجربة!

فطبعنا كلّه أوهن من أن يجرَّب!

هنا الكلمة تتطلّب سمعًا فوق المعتاد،

لأنّها أسمى جدًّا من رفيقاتها عند العارفين!

 

كلّما حارب العدوّ إنسانًا

كان عون من الله للإنسان.

كالحارس الذي لا ينعس ولا ينام،

كذلك القدرة الخفيّة تحرس بني البشر!

 

كلّما طلب الإنسان أن يحسُن للربّ في تصرّفاته،

قصد الثلاّبُ أن يحاربه.

ومن حيث لا يدري يأتيه ملاك في الخفاء،

يعضده ليظفر على الشرّير.

 

كلّما قام إنسان للصلاة أمام الله،

قام الشيطان يسخر منه!

حينئذٍ يأتي الملاك كالحارس

يزجر الشيطان ويطرده عن الإنسان.

 

تلك هي التجربة التي علّمنا ربّنا

أن يصلّي الإنسان لئلاّ يدخل فيها.

ذلك هو الجهاد العظيم حتّى الدم.

قال بولس: إنّكم لم تبلغوه!

 

طلب الشيطان من الربّ أن يجرّب أيّوب

ليبعد عنه القدرة الخفيّة التي تعضده.

فقال الربّ للثلاّب إنّه يسلّم أيّوب إلى يده،

لأنّ الربّ كان عارفًا به أنّه مجاهد لا يُذَل!

 

قام إنسان يصارع الشيطان،

وابتعد الربّ وقام شاهدًا عليهما!

أدخل الربّ الصدّيق في التجربة،

فانتصر في الجهاد العظيم!

 

لمّا كان الصراع عنيفًا جدًّا، علّم ربّنا

الإنسانَ أن يصلّي لئلاّ يمتحن بالتجربة.

ولمّا كان الإنسان لا يمكنه أن يظفر بغير قدرة إلهيّة،

ينبغي أن يفوّض أمر المعركة إلى الظافر الأوحد، لينصُره!

*  *  *

 

لكن نجّنا من الشرّير

 

وتقول: لا تدخلني في التجربة،

لكن نجّني من الشرّير، لأنّ قدرتك عظيمة.

لا تسلّمني إلى الثلاّب فيحاربني

بغير عون منك، بل اغلبه أنت فيَّ أنا الضعيف!

 

لا بَعُد عنّي عونك الخفيّ،

أيّها القدرة التي نزلت مع الأبطال في جهادهم.

لا تجرّبني لأنّك تعرفني ضعيفًا.

ليكن قتالي كلّه قتالك، لتظفر أنت فيَّ!

 

نجّني منه، وليكن لك الإكليل والاسم،

ولا تعزُ إليّ الظفر ولا الشهرة.

نجّني منه فيكون شرف البطولة

لك، يا من ظفرت على العدوّ!

 

نجّني منه، لأنّ لك القدرة

والملكوت والسلطان والمجد!

فلا ظافر، إلاّ بك،

لأنّ لك أنت العزّة والجبروت.

*  *  *

 

الصلاة التي علّمها ابن الله خازني سرّه

جعلها لتطرد جميع جيوش الشرّير.

بها يدعو الإنسان الآبَ أن يهبط إليه حتّى العمق،

ويطرد عنه الأبالسة الظامئين إلى الدم!

 

بها يدعو الإنسانُ أن يهبط إليه الملكوت،

ويطرُد عنه قوّات الشرّير المحيطة به.

بها يعترف الإنسان المتمّم مشيئة الله

بأن تكون في الأرض كما في السماء!

 

بها يسأل الإنسان خبز كلّ يوم يغير شرَه.

ويهمل كلّ ما هو نافل لا لزوم له

بها الإنسان يسأل الله الغفران

لأنّ الله وعد أن يغفر للمذنبين!

 

بها يجانب الإنسان تجربة الجهاد العظيم

حتّى يتنهّد إلى الله لئلاّ يدخل فيها.

بها يلتمس الإنسان من المعين أن يأتي إليه،

يخلّصه من مبغض الناس الذي يحاربه!

 

وهي تعلّمك أنّه هو القدرة والمجد

والسلطان، لأنّ يسوع هو الربّ، له المجد![2]



[1] أحد أنهار الفردوس. والكلمة تعني الفيّاض.

[2] أخذ النصّ السرياني من الأب بول بيمان، الجزء الأول، ص 212-248. الترجمة العربيّة من الشحيمة (الزمن الناريّ)، أعداد ونشر جامعة الكسليك، 1982، ص 258-314.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM