العظة 57

العظة 57

ما نؤمن به وما نطلبه

الترتيب الذي نتّبعه في تربيتكم الروحيّة، هي أن نعلّمكم أوّلاً ما ينبغي أن تؤمنوا به. ثمّ ما يجب أن تطلبوه.

فإليكم ما يقول الرسول: "ويحصل هكذا: كلّ من يدعو باسم الربّ يخلص". أخذ هذا النصَّ من نبيّ، لأنّ نبيًّا تطلّع إلى هذه الحقبة التي فيها ينبغي على الجميع أن يدعوا الله: "كلّ من يدعو باسم الربّ يخلص"، بل أضاف الرسول: "كيف يدعونه إن لم يؤمنوا به؟ كيف يؤمنون به إن لم يسمعوا؟ وكيف يسمعون إن لم يكن أحدٌ يكرز به؟ وكيف يكرزون به إن لم يرسَلوا" (روم 10: 3-5)؟ إذن، أرسِل كارزون فنادوا بالمسيح، وسمعتهم الشعوب يتحدّثون عنه. وحين سمعوا آمنوا. وحين آمنوا دعوه. إذا كان من الحقّ والدقّة كلّ الدقّة أن نقول: "كيف يدعونه إن لم يؤمنوا به"؟ من أجل هذا، علّموكم أوّلاً أو تؤمنوا، ويعلّمونكم اليوم أن ندعوا ذاك الذي به آمنتم.

هو ابن الله. هو ربّنا يسوع المسيح الذي علّمنا أن نصلّي. هو الربّ نفسه، كما تعلّمتم في قانون الإيمان وتلوتم. هو ابن الله الوحيد. ولكنّه لا يريد أن يبقى وحده، فتنازل وكان له إخوة.

من هو الذي أوصاه بأن يقول: "أبانا الذي في السماوات"؟ من هو الذي يريد أن نعطيه اسم الأب، سوى أبيه الخاصّ؟ هل من حسد تجاهنا؟

فالوالدون يلدون ولدين، ثلاثة أولاد، ويخافون بعض المرّات، يخشون بأن يصير الأوّلون في التسوّل. غير أنّ الميراث الذي وعدنا به المخلّص، يمكن أن يُقسَم بين العديدين، دون أن يضيق المكان بأحد. لهذا، فهو يدعو الشعوب الوثنيّة لتصير إخوته. ومن يقدر أن يُحصي أولئك الذين يحقّ لهم أن يقولوا مع هذا الابن الوحيد:

أبانا الذي في السماوات

كم من الناس قالوا قبلنا؟ وكم من الذين يقولون بعدنا؟ فكم أعطى هذا الابنُ لنفسه إخوة، بنعمته؟ كم هم الذين أشركهم في ميراثه؟ وكم هم الذين قاسى لأجلهم الموت؟ كان لنا على الأرض أبٌ واحد وأمٌ واحدة. ولدانا من أجل التعب والموت. فوجدنا أبًا آخر وأمّا أخرى. الله والكنيسة. أعطيانا الحياة الأبديّة. لنفكّر، يا أحبّائي، بمن بدأنا أن نكون أبناءه، ولنعِش كما يجب أن نعيش حين يكون لنا مثلُ هذا الأب. اعتبروا أنّ خالقنا ذاته تنازل فصار أبانا.

تعلّمنا الساعةَ من هو ذاك الذي يجب أن نصلّي إليه، وأيّ ميراث غير فانٍ يجب أن نرجو من ذاك الذي يجب أن ننظر إليه على أنّه أبونا. ولنتعلّم ما ينبغي أن نطلب منه.

ماذا نطلب من مثل هذا الأب؟ أما هو ذاك الذي طلبنا منه المطر، اليوم وأمس وأوّل مس؟ هذا أمر بسيط بالنسبة إليه، ومع ذلك، ترون بأيّ أنّات، بأيّ حرارة نطلب المطر، حين نخاف الموت، حين نرتعب من المنيّة التي لا يستطيع أن يتفلّت منها. فكلّ واحد ينبغي أن يموت، قبل وقت أو بعد وقت. ولكنّنا نتأوّه لكي نؤخّر تلك الساعة قليلاً، ونصلّي ونئنّ ونصرخ إلى الله. أما يجب أن نصرخ بالأولى لكي ننال بأن لا نموت أبدًا؟

لهذا نتابع صلاتنا:

ليتقدّس اسمك

فنحن نطلب منه أن يتقدّس اسمُه فينا. فهو فيه قدّوس على الدوام. وكيف ذلك؟ حين يجعلنا قدّيسين. واسمه يجعلنا كذلك. أمّا هو فقدّوسٌ دائمًا، واسمه أيضًا على الدوام. إذن، نحن نصلّي من أجل نفوسنا، لا من أجل الله. فأيّ خير نستطيع أن نتمنّى له، لأنّ لا شرّ يصل إليه. نحن نريد الخير لنفوسنا فنطلب أن يتقدّس اسمه، ويتقدّس فيها هذا الاسم الذي هو قدّوس على الدوام.

ليأتِ ملكوتك

سواء طلبنا أم لم نطلب، فهذا الملكوت يأتي لا محالة. ولكنّ ملكوت الله أبديّ. فمتى لم يكن الربّ مالكًأ؟ ومتى بدأ يملك؟ لم يكن من بداية لملكه، ولن تكون نهاية. واعلموا أيضًا أنّنا نصلّي هنا أيضًا، من أجل نفوسنا، لا من أجل الله. لا نقول: "ليأتِ ملكوتك" كأنّنا نتمنّى له ملكوتًا. فنحن نكون ملكوته إذا تقدّمنا في محبّته بالإيمان. وجميع المؤمنين الذين افتداهم دم ابنه الوحيد، يكوّنون ملكوته.

وملكوتُ الله هذا يأتي بعد قيامة الموتى، لأنّه يأتي حينئذٍ في مجيء شخصيّ وبعد قيامة الموتى هذه، يفصلهم كما أعلن. فيجعل البعض عن يمينه والبعض الآخر عن شماله. يقول للذين عن يمينه: "تعالوا، يا مباركي أبي، رثوا الملكوت" (مت 25: 34). ذاك هو الملكوت الذي نطلب، الذي نلتمس بهذه الكلمات: "ليأتِ ملكوتك"، ليُعطَ لنا.

لو كنّا في عداد الهالكين، كان هذا الملكوت للآخر، لا لنا. بل هو يكون لنا إن كنّا في عداد أعضاء ابنه الوحيد. وهو لا يتأخّر، أيبقى من القرون بقدر ما مضى؟ قال الرسول الحبيب: "يا أولادي الصغار، في الساعة الأخيرة". غير أنّ هذه الساعة طويلة إذ قابلناها باليوم العظيم. وإن كانت الأخيرة فهي تتألّف من عدد كبير من السنين. ومع ذلك، كونوا مثل إنسان ساهر، ينام وينهض لكي يملك. لنسهرِ الآن، وسنرقد رقاد الموت. وفي النهاية، نقوم لنملك إلى الأبد.

لتكن مشيئتك

هي الطلبة الثالثة: "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء". هي كلّها من أجل خيرنا. فمن الضروريّ أن تتمّ مشيئة الله. وهذه المشيئة تفرض أن يملك الصالح ويهلك الأشرار. أيمكن أن لا تُنفَّذ؟ ولكن في النهاية، أيّ خير تتمنّى حين تقول: "لتكن مشيئتك على الأض كما في السماء"؟ إسمعوا. نستطيع أن نفهم هذه الطلبة بأشكال عديدة بحيث ينبغي أن نرى أمورًا كثيرة.

حين نقول لله: "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء"، فكأنّنا نقول له: الملائكة لا يغيظونك. إجعل أن لا نغيظك نحن أيضًا. "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء". ماذا يعني هذا أيضًا؟ يعني أنّ جميع القدّيسين من آباء وأنبياء ورسل، أنّ جميع المسيحيّين الروحيّين هم لله كما السماء. وحين نقابل معهم فنحن أرض. "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء".

"لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء" يعني أيضًا أنّ كنيسة الله هي السماء، وأعداءها الأرض. نتمنّى لأعدائنا أن يؤمنوا هم أيضًا وأن يصيروا مسيحيّين وبهذه الطريقة تتمّ مشيئة الله على الأرض كما في السماء.

"لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء". يعني أيضًا أن روحنا السماء، وجسدنا الأرض. فكما أنّ روحنا يتجدّد في الإيمان، هكذا يتجدّد جسدنا على الأرض كما في السماء. هذا يعني أيضًا: حين ترى نفسُنا الحقيقة ونسرُّ بها، هي سماء. فالسماء أن أسرّ بشريعة الله حسب الإنسان الباطنيّ. والأرض هي أن أرى في أعضائي شريعة أخرى تقاوم شريعة نفسي (روم 7: 22-23).

فحين تنتهي هذه الحرب، حين يكون توافق تامّ بين البشريّ والروح، تتمُّ مشيئة الله على الأرض كما في السماء. لنفكّر في كلّ هذا، ولنلتمسه من أبينا حين نوجّه إليه هذه الطلبة.

كلّ ما شرحتُه الآن، يا أحبّائي، هذه الطلبات الثلاث، ترتبط بالحياة الأبديّة. فمن أجل الأبديّة يأتي ملكوته حيث نحيا على الدوام. وأخيرًا، من أجل الأبديّة تتمّ مشيئته في السماء وعلى الأرض، بجميع الأشكال كما شرحت.

وتبقى طلبات متعلّقة بزمن هذا الحجّ. وإليك الأولى:

أعطنا اليوم خبزنا اليوميّ

أعطنا الخيرات الأبديّة. أعطنا أيضًا الأمور المادّيّة.

وعدتنا بملكوت، فلا ترفض لنا ما يقوتنا. ستعطينا قربك مجدًا أبديًّا، فأعطنا على الأرض طعام الجسد. من هنا هذه الألفاظ: يوميّ، اليوم، أي خلال كلِّ الزمن الحاضر. أنطلبُ بعد هذه الحياة خبزنا اليوميّ؟ عند ذاك، لن نقول: كلّ يوم، يوميّ، بل "اليوم". الآن نقول كلّ يوم لأنّ الأيّام تمرّ وتتوالى أيقال "كلّ يوم" ساعة لن يكون سوى يوم واحد، اليوم الأبديّ؟

يجب أن نفهم بطريقتين هذه الطلبة المتعلّقة بالخبز اليوميّ: نرى فيها ما هو ضروريّ للحياة الجسديّة، وما هو ضروريّ للحياة الروحيّة. ما لا غنى للحياة اليوميّة. يطلب أوّلاً غذاء الجسد ثمّ اللباس. ولكنّنا نأخذ الخبز للكلّ، وإذ نطلب الخبز نفهم الباقي أيضًا.

ويعرف المؤمنون أيضًا أنّ هناك طعامًا روحيًّا سوف نعرّفكم به حين يجب أن تقتبلوه (أيّها الموعوظون، الذين تتهيّأون للعماد) من مذبح الله. هذا الطعام سيكون أيضًا خبزكم اليوميّ، لأنّه ضروريّ في هذه الحياة. هل نقبل الإفخارستيّا حين ننضمّ إلى المسيح ونبدأ فنملك معه في الأبديّة؟ إذن، هي خبزنا اليوميّ. وإذ نأخذ هذا الخبز فلا نكتفي بأن نقيت جسدنا بل نقيت بشكل رئيسيّ نفسنا.

والفصل الخاصّ بهذا الطعام الإلهيّ هو قوّة اتّحاد. هو يوحّدنا بجسد المخلّص ويجعل منّا أعضاءه لكي نصبح ما نحن نقتبل. عندئذٍ يكون حقًّا خبزنا اليوميّ.

ما أشرحه لكم الآن هو أيضًا خبزنا اليوميّ. هذا الخبز اليوميّ هو أيضًا في القراءات التي تسمعون كلَّ يوم في الكنيسة، في المدائح التي تُنشَد والتي أنتم تُنشدون. كلّ هذا ضروريّ من أجل حجِّنا. وعندما نبلغ إلى المحبّة، هل نقرأ بعدُ الكتب؟ أما نرى الكلمة؟ أما نسمعه، أما نأكله، أما نشربه، كما يفعل الملائكة؟ وهل يحتاج الملائكة إلى كتب وشروح وقراءات؟ كلاّ. فقراءتهم تقوم بأن ينظروا فيروا الحقيقة ذاتها. ويشربون من هذا الينبوع العميق الذي نتقبّل منه بعض القطرات وهذا يكفي حول الخبز اليوميّ. هذه الطلبة ضروريّة خلال الحياة الحاضرة.

اغفر لنا ذنوبنا

هل هذه الطلبة ضروريّة إلاّ في هذه الحياة؟

فهناك لن يكون علينا دين. والدين ما هو سوى الخطيئة. ستعمَّدون فتُمحى ساعتها خطاياكم، ولا تبقى منها واحدة إطلاقًا. كلّ الشرّ الذي فعلتموه بالأعمال، بالأقوال، بالرغبات، بالأفكار، يزول كلّه. ولكن إن لم يكن في الحياة الحاضرة شيء نخافه، لما كانوا علّمونا أن نردّد: "إغفر لنا ذنوبنا". ثمّ نهتمّ بما لي: "كما نحن نغفر للمذنبين إلينا". فأنتم، وأنتم بشكل خاصّ الذين تدخلون في الغسل المقدّس لتنالوا فيه المغفرة الكاملة عن جميع خطاياكم، إحذروا أن تحتفظوا في قلبكم حقدًا على القريب. إعملوا لتخرجوا من المعموديّة بسلام وحرّيّة وتخلّص من كلّ دين. لا تطلبوا الانتقام من أعدائكم الذين أساؤوا إليكم من قبل. إغفروا كما يُغفر لكم. الله ما أساء إلى أحد. وهو يغفر وإن لم يجب عليه شيء. فكيف لا يغفر ذاك الذي يُغفَر له، ساعة الذي لا حاجة له إلى مغفرة يغفر كلَّ إساءة بدون تحفّظ؟

لا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّ

وهذه الطلبة أيضًا، هل تكون ضروريّة خلال الحياة الأخرى؟ فحين نقول: لا تدخلنا في تجربة، هذا يعني أنّنا نعرَّض للتجربة. فنحن نقرأ في الكتاب المقدّس، في سفر أيّوب: "الحياة البشريّة تجربة على الأرض" (7: 1). فماذا نطلب حينذاك، ماذا نطلب؟

إسمعوا ما قال الرسول (يع 1: 13): "لا يقُل أحدٌ إذا جُرِّب أنّ الله يجرِّب. أخذت التجربة هنا في معناها الروحيّ، بسبب خيبات الأمل والسقطات التي يسبّبها الشيطان. فهناك نوع آخر من التجارب تحمل اسم المحنة. عنها كُتب: "الربّ إلهنا يمتحنكم ليعرف إن كنتم تحبّونه". ماذا يعني "ليعرف"؟ لكي يجعلكم تعرفون، لأنّه هو يعرف، إذن لا يرسل الله إلى أحد تجربة تضلّله أو تجتذبه إلى الشرّ. ففي أحكامه العميقة السرّيّة، يتخلّى عن بعض الناس. وحين يتخلّى عنه يعرف المجرِّب ما سيفعل. ففي هذا البائس الذي يتخلّى عنه الله، لا يجد عدوًّا يقاومه، بل خيرًا ليتمسّك به. ولا نخف أن نصرخ حين يُتخَلَّى عنا: "لا تُدخلنا في تجربة".

قال يعقوب، الرسول القدّيس: "كلّ واحد تجرّبه شهوته وتغويه. ثمّ تحبل الشهوة فتلد الخطيئة، والخطيئة إذا كملت تنتج الموت". بماذا ينحصر هذا التعليم؟ بالحرب على شهواتنا. فإن كانت جميع خطايانا تُغفَر بالمعموديّة فشهواتنا باقية. أيّها المسيحيّون المولودون من جديد، لا تملّوا من القتال. فالحرب تتواصل فيكم. لا ترهبوا العدوّ الآتي من الخارج. حين تنتصر على نفسك، تنتصر على العالم. فما الذي يقدر أن يفعل لك ذاك الذي يجرّبك من الخارج، أكان الشيطان أم عميله؟ يُعرض عليك لاجتذابك، ربح وقح. إن لم يجد هذا العرض فيك موافقة الطمع، فكيف يمكنه أن يؤثّر عليك؟ أمّا البخل فيملك في قلبك. فرؤية الربح تُشعل رغباته. وها أنت قد أخذتَ في شرك يقودك إلى الخطيئة. أمّا إذا تحرّرت من البخل، فلا تقع في فخ يُنصب لك.

يسعى المجرّب لأن يخدعك بجمال امرأة. إبقَ في باطنك أمينًا للعفّة فتنتصر، في الخارج، على الإثم. وإذا أردتَ أن تفلت من جاذبيّة هذا الجمال الغريب، حارب في قلبك ضدّ الهوى. أنت لا تحسّ بضربات عدوّك. لا ترى إبليس، ولكنّك ترى حقًّا ما يجتذبك. إنتصر على هذه الانجذابات الباطنيّة. قاتل، قاتل دومًا. فالذي ولدك من جديد، هو أيضًا ديّانك. فرض عليك القتال وهيّأ لك الإكليل. بدون شكّ ستُقهَر إن حُرمت من مساعدة الله تُركت، فتقول له في هذه الصلاة الربّيّة: "لا تدخلنا في تجربة".

فغضب الديّان أسلم بعضهم إلى شهواتهم بحسب كلام بولس: "أسلمهم الله إلى شهوات قلبهم" (روم 1: 24).

"نجّنا من الشرّ". هذه الصلاة تقابل سابقتها. تستطيع أن تعطي المعنى نفسه للطلبتين. "لا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّ". فإن أضاف، فلكي يبيّن الطرحين يتوازيان، "لا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّير". كيف ذلك؟ نأخذ الواحدة بعد الأخرى: حين ينجّينا من الشرّ، فهو لا يدخلنا في تجربة. وحين لا يدخلنا في تجربة، ينجّينا من الشرّ.

والتجربة الكبرى، إخوتي الأحبّاء، التجربة الكبرى في هذه الحياة هي تلك التي تهاجم الوسيلة التي منحنا الله لننال غفرانًا عن ذنوب سقطنا فيها. أجل، تجربة هائلة هي هذه التجربة لأنّها تحرمنا من الدواء الوحيد الذي يشفي جراح سائر التجارب. أظنّ أنّكم ما فهمتموني بعد. ضاعفوا انتباهكم فتفهموني.

إليك مثلاً تجربة بخلٍ. إنجذب واحد منّا بتجربة من هذا النوع (لأنّه ما من مقاتل ولا محارب إلاّ ويتلقّى بين الحين والآخر جرحًا). إذن، هذا المقاتل مهما كان شجاعًا، يتراجع أمام البخل في شيء بسيط، أو أنت تلاحق تجربة عدم الطهارة. هي لا تقودك إلى الفجور والزنى. ولكنّك نظرت إلى امرأة بلذّة، وتبع ذلك فكرٌ سُررتَ به وأطلتَ. فوجب على هذا المحارب أن يدخل في المعركة وما خرج إلاّ ببعض الجروح. ولكنّه لم يقبل. بل كبح حركة فوضويّة، وصار بها بحرارة القلب، وفي النهاية دفعها إلى الوراء وانتصر. بما أنّه تسرّبت إليه بعض الهنّات، كان له أن يصلّي: "أترك لنا ديوننا".

فما هي إذن هذه التجربة الهائلة التي تحدّثت عنها، هذه التجربة القاتلة، المريعة، والتي يجب أن نتجنّبها بكلّ قوانا، بكلّ عزمنا؟ ما هي؟ هي حين نُدفَع لكي ننتقم. نشتعل غضبًا، نهدّد بالانتقام. تلك هي التجربة الهائلة. فنخسر وسيلة للحصول على الغفران من سائر الذنوب. تركتَ نفسك تنجرّ إلى إحساسات لا يُسمح لها، إلى أهواء تحمل على الخطيئة. فوجب عليك أن تشفى من هذه الجراح. فتقول: "إغفر لنا ذنوبنا فنغفر للمذنبين إلينا"، حين يدفعونك إلى الانتقام، ويجعلونك تتحسّر استحقاق هذا القول: "كما نحن نغفر للمذنبين إلينا". وإذ تخسر هذا الاستحقاق، تحتفظ بجميع خطاياك ولا تتحرّر إطلاقًا من احدة منها.

عرف معلّمنا ومخلّصنا أنّ هذه التجربة هي أكثر ما يجب أن نخافه في هذه الحياة. لهذا، حين علّمنا الطلبات الستّ أو السبع من الصلاة الربّيّة، ما طلب أن يشرح لنا واحدة منها، ولا أن يوصينا بواحدة كما أوصانا بهذه، وبإلحاح كبير. أما قلنا: "أبانا الذي في السماوات"؟ فلماذا، بعد هذه الصلاة، لم يشرح لنا شيئًا ممّا جعله في البداية، في النهاية، في الوسط؟ لماذا لم يقُل شيئًا عمّا يحصل إن لم يتقدّس اسمُ الربّ فينا. إن لم تُقبََلوا في ملكوته، إن لم تُصنَع مشيئته فيكم كما تُصنَع في السماء، إن لم يسهر عليكم لكي يمنعكم من السقوط في التجربة؟

إذن، ماذا قال؟ "الحقّ أقول لكم: إن غفرتم للناس ذنوبهم". وهذا ما يرتبط بهذه الأقوال: "إغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر للمذنبين إلينا". هو ما توقّف عند سائر الطلبات التي علّمنا، بل توقّف بقوّة عند هذه (مت 6: 14).

في الواقع لم يكن من الضروريّ الاستناد إلى أقوال فيها يجد الخاطئ دواء إن هو تجاوز واحدًا منها، ولكن وجب التشديد بصورة خاصّة على قول يمنع تجاوزُه كلّ دواء لسائر الخطايا. عليك أن تقول: "إغفر لنا خطايانا". أيّها؟ خطايانا كثيرة لأنّنا بشر: تكلّمت أكثر ممّا كان يجب، وقلت ما كان يجب أن أصمت عنه. ضحكت أكثر من اللازم. أكلتُ، شربتُ أكثر من الضروريّ. سمعتُ بلذّة ما لا ينبغي أن أسمع. سمعت طوعًا ما لا ينبغي، ودومًا فكّرت في ما يُحرَّم عليّ: "إغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر للمذنبين إلينا". أنت هالك إن لم تقدر أن تقول هذا.

فكّروا، يا إخوتي. فكّروا، يا أولادي. فكّروا، يا أبناء الله. فكّروا في ما أقول لكم. حاربوا بكلّ قواكم ضدّ قلبكم. وإذا رأيتم غضبكم ينتصب في وجهكم، التمسوا عون الله. لينصرك الله. أجل، لينصرك الله، لا من الخارج، على عدّوك، بل من الداخل، على نفسك. صلّ فيأتي إليك العون الناجع. فهو يفضّل، هو يحبّ أن يرانا طالبين هذا، قبل المطر.

ترون، يا أحبّائي الأعزّاء، عدد الطلبات التي علّمنا المسيح ربّنا، وهناك طلبة واحدة فقط تُعنى بالخبز اليوميّ. إذن، يريدنا أن نحوِّل كلَّ مقاصدنا نحو الحياة الأبديّة. ممَّ نخاف أن ينقصنا، بعد أن التزم تجاهنا فوعدنا؟ قال: "أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وكلّ هذا يُعطى لكم زيادة. فأبوكم يعرف ما تحتاجون إليه قبل أن تطلبوه".

"أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وكلَّ هذا يُعطى لكم زيادة" (مت 6: 33). إنّ كثيرين امتُحنوا بالجوع، فبدوا كالذهب النقيّ فما تخلّى الله عنهم. لو لم يسندهم الخبز الروحيّ، اليوميّ، لكانوا هلكوا. فلنكن جياعًا جوعًا خاصًّا إلى هذا الخبز "طوبى للجياع والعطاش إلى البر، فإنهم يُشبعون" والله يردّ على هذه الصلاة: "تذكّر أنّنا غبار" (مز 103: 14). فالذي صنع الإنسان غبارًا من الأرض، وجعل نفسًا في هذا الغبار، أسلم ابنه إلى الأموات. فكم يحبّنا؟ من يستطيع أن يعبّر عن هذا الحبّ؟ من يستطيع أن يتصّوره صورة لائقة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM