أوغسطينس - العظة 56

أوغسطينس العظة 56

يا أبانا، أترك لنا ديوننا

"وأنتم صلّوا هكذا، أبانا الذي في السماوات"

رأيتم أنّكم بدأتم من قبل أن ّ لكم إلهًا هو أب. وهو لن يكون لكم في ملء الأبوّة إلاّ بعد ولادتكم الروحيّة: حُبل بكم في نعمته، حُملتم في حشا الكنيسة التي تلدكم عند جرن العماد.

أبانا الذي في السماوات. تذكّروا أنّ لكم أبًا في السماء. تذكّروا أنّكم وُلدتم للموت، لموت آدم أبيكم الأوّل، وستولَدون للحياة، لحياة الله أبيكم الثاني. فعلى قلبكم أن يوافق مع ما تلفّظت به شفاهكم. لتعبر نفسكم كلّها في صلاتكم، فيستجيب لها ذاك الذي يسمعها.

ليتقدّس اسمك

لماذا نطلب لكي يتقدَّس اسمُ الله؟ هو قدّوس من طبعه، فلماذا نطلب أن يتقدَّس ما هو قدّوس؟ ثمّ، حين تطلب أن يتقدّس اسم الله، ألأجلك تصلّي؟ أما تصلّي لأجل الله؟ ولكن إن فكّرت مليًّا، لأجلك أنتَ تصلّي. فما الذي تطلب؟ بأن يتقدّس فيك ذاك الذي هو قدّوس في جوهره ودائم القداسة. وما معنى "مقدَّس"؟ ليُعتبر هذا الاسم دومًا مقدّسًا، وأن لا يُهان أبدًا. إذن، ترى أن التمنّي الذي تعبّر عنه هو لأجل خيرك. فالضرر يصيبك أنت، لا الله، إن احتقرتَ اسمه.

ليأتِ ملكوتك

لمن تقول مثل هذا الكلام؟ أما يأتي الملكوت دون أن تطلبه؟ نحن هنا أمام ملكوت الله الذي يأتي في نهاية العالم، لأنّ الله دومًا ملك. وما كان يومًا من دون مُلك. فالكون كلّه في خدمته.

إذن، ما هو هذا الملكوت التي تتمنى مجيئه؟ ذاك الذي يتكلّم عنه الإنجيل: "تعالوا، يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34). ذاك هو الملكوت الذي يرمي إليه هذا القول، ليأتِ ملكوتك. نطلب أن يأتي فينا. ونطلب أن نُوجد فيه. سيأتي هذا الملكوت بلا شكّ، ولكنّه يكون لك خسارة إذا كنت في جانب الشمال. إذن، التمنّي الذي تعبِّر عنه هو لخيرك. فمن أجلك أنت تصلّي. وما تطلبه في الصلاة، هو نعمة حياة صالحة لتدخل يومًا في هذا الملكوت الذي يُعدّه الله لجميع قدّيسيه. هي نعمة حياة صالحة ما تطلب حين تقول: ليأتِ ملكوتُك. يا ليتنا ننتمي إلى هذا الملكوت! ليأتِ لنا كما يجب أن يأتي للقدّيسين وللأبرار.

لتكن مشيئتك

هل صلاتك ضروريّة لكي يعمل الله مشيئته؟ تذكّر ما تلوته الآن في قانون الإيمان: "أؤمن بإله واحد، آب ضابط الكلّ". إن كان ضابط الكلّ، كلّيّ القدرة، فلماذا تصلّي لكي تتمّ مشيئته؟ إذن، ما معنى هذه الطلبة: لتكن مشيئتك؟ أي أن تتمّ فيّ، وأن لا أعارض مشيئتك. وهنا أيضًا تصّلي من أجلك، لا من أجل الله. فمشيئة الله تتمّ دومًا فيك وحتّى إن لم تصنعها أنت. فالذين يسمعون من يقول لهم: "تعالوا، يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم"، يرون في نفوسهم تحقيق مشيئة الله الذي يُعدّ الملكوت للأبرار وللقدّيسين. والذين يسمعون من يقول لهم: "إمضوا عنّي إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وجنوده"، يرون أيضًا في نفوسهم تحقيق مشيئة الله التي تحكم على الأشرار بالنار الأبديّة.

ولكن أن تتمّ هذه المشيئة فيك. فأمرٌ آخر: حين تطلب ذاك، فهو لخيرك فقط. فلتتمّ دومًا فيك من أجل سعادتك.

لماذا نقول: "لتكن مشيئتك في السماء وعلى الأرض"، لا "لتصنع مشيئتك السماء والأرض"؟ لأنّه هو الذي يعمل فيك ما أنت تعمله. فلا شيء أنت تصنعه إلاّ وهو يصنعه فيك. بعض المرّات، يفعل بدونك، ولكن ما من شيء تفعله أنت إلاّ وهو ذاته ينفّذه فيك.

وما معنى الآن الكلمات: في السماء وعلى الأرض؟ أو: كما في السماء كذلك على الأرض؟ الملائكة يعملون إرادتك. يا ليتنا نحن أيضًا نعملها!

لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء. السماء روحنا والأرض بشريّتنا. حين تقول مع الرسول، هذا إذا كنتَ أنت تقوله، "إنّ بالروح خاضع لشريعة الله، بالبشريّ خاضع لشريعة الخطيئة، تتمّ في السماء مشيئة الله. ولكن لا على الأرض معه". حين يتوافق البشريّ مع الروح، ويُبتلَع الموتُ بالظفر، ولا تقاوم بعد رغبةٌ بشريّة (لحميّة) الروح، يتوقّف كلٌّ خصام على الأرض وكلّ حرب داخليّة، حينئذٍ تنتهي الحالة التي تصوّرها هذه الكلمات: البشريّ يقاوم الروح، والروح يقاوم البشريّ. كلاهما في خصام بحيث لا تفعلون ما تريدون. وتنتهي أيضًا حالة الحرب وتحلّ المحبّة محلّ الشهوة. حينئذٍ لن يفعل البشريّ ما يعارض الروح، ولم يعُد من شيء يحتاج إلى أن يروَّض، يُكبَح، يدمَّر، فيسير الإنسان كلّه نحو البرّ في توافق وتناسق، وتتمّ مشيئةُ الله في السما وعلى الأرض. لتكن مشيئتك. تلك حالة الكمال التي نتمنّاها في هذه الصلاة.

وأيضًا: لتعمل مشيئتك على الأرض كما في السماء. ففي الكنيسة أناس روحيّون هم في السماء. وأيضًا أناس لحميّون، هم على الأرض. إذن، لتعمل مشيئتك على الأرض كما في السماء. وكما أنّ الروحيّين يخدمونك بأمانة، فليطلب الكمال الناس اللحميّون فيؤدّوا لك الخدمة عينها.

لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء. ويكون أيضًا لهذه الكلمات معنى آخر، معنى دينيّ. تلقّينا أمرًا بأن نصلّي من أجل أعدائنا. الكنيسة هي السماء. وأعداء الكنيسة الأرض. حينئذٍ في أيّ معنى تقول: لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء؟ يا ليت أعداء الكنيسة يؤمنون بك كما نؤمن نحن! ليصبحوا أحبّاءنا. ليتركوا كلّ تحفّظ عندهم تجاهنا. هم أرض، ولهذا يحاربوننا. ليكونوا سماء فنمشي معًا.

أعطنا اليوم خبزنا اليوميّ

هنا، لا شكّ بعد: نحن من أجل نفوسنا نصلّي. حين تقول: ليتقدّس اسمك، من الضروريّ أن تبيّن أنّك تصلّي من أجل نفسك لا من أجل الله. حين تقول: لتكن مشيئتك، من الضروريّ أيضًا أن تشرح هذه الطلبة، لئلاّ تتخيّل فيما تتمنّى أن تتمّ مشيئته، أنّك تطلب خيره لا خيرك. وحين تطلب ملكوته، فأنت لا تطلب خير الله، بل خيرك.

ولكن بعد هذه الطلبة الجديدة، وحتّى نهاية الصلاة الربيّة، من الواضح أنّنا نصلّي إلى الله من أجل نفوسنا. حين تقول: أعطنا اليوم خبزنا اليوميّ تتصرّف كشحّاذ لدى الله لا تخجل من ذلك. فالشحّاذ يقف على باب الغنيّ. والغنيّ نفسه يقف على باب الغنيّ الكبير (الله). وما الذي يحتاج إليه الغنيّ؟ لا أخاف أن أقول إنّ الغنيّ نفسه يحتاج إلى الخبز اليوميّ. فمن أين له وفرة الخيرات إلاّ من عند الله؟ مرّات عديدة، أولئك الذين ناموا أغنياء استيقظوا فقراء. وإن كان لا شيء ينقص للأغنياء، فهذا لا يعود إلى قوّتهم، بل إلى رحمة الله.

ولكن، يا إخوتي الأعزّاء، هذا الخبز الذي يُقيت المعدة، الذي يعيد كلّ يوم إلى الجسد عافيته، هذا الخبز ترون أنّ الله لا يعطيه للذين ينشدون مدائحه، بل للذين يجدّفون عليه أيضًا. فهو يُطلع شمسه على الأخيار والأشرار، ويُرسل غيثه على الأبرار والخطأة. تباركه فيقوتك. تجدّف عليه فيقوتك أيضًا. إن رفضت التوبة يحكم عليك. ولكن بما أنّ الأخيار والأشرار ينالون من الله الخبز عينه، أما هناك خبزٌ آخر يُحفظ للأبناء، حسب هذا القول من ربّنا في الإنجيل: "لا يصلح أن يُؤخذ خبز البنين ليُعطى للكلاب" (مت 15: 26). أجل، لا شكّ في ذلك.

فما هو هذا الخبز؟ ولماذا تدعون الخبز اليوميّ؟ هو أيضًا ضروريّ، وبدونه لا نستطيع أن نعيش. لا نستطيع أن نعيش بدون الخبز. ومن الوقاحة أن نطلب من الله الغنى، ولا نطلب منه الخبز اليوميّ. نحن لا نخلط ما يغذّي كبرياءنا مع ما يغذّي حياتنا. ساعة يُمنح الخبزُ الماديّ للأبرار كما للأشرار، هناك خبزٌ يوميّ يُحفظ للأبناء. هي كلمة الله التي توزَّع علينا كلّ يوم. ذاك هو خبزُنا اليوميّ. ومنه تحيا النفوس، لا الأجساد. وهو ضروريّ لنا كلَّ الوقت الذي فيه نشتغل في الكرم. وعلى السيّد واجبان تجاه العامل الذي أرسله ليعمل في كرمه: الطعام الذي يمنح القوّة، والأجر الذي يمنح الفرح. وطعامنا على الأرض هو كلمة الله التي توزَّع علينا دومًا في الكنائس. وأجرنا، بعد العمل، سيكون الحياةَ الأبديّة.

وأخيرًا إذا فهمتم بهذا الخبز اليوميّ، ما يتقبّله المؤمنون، وما تتقبّلونه بدوركم بعد العماد، فبحقٍّ نرفع إلى الله هذه الصلاة: أعطنا اليوم خبزنا اليوميّ. فنطلب منه في الوقت عينه نقاوة حياة تؤهّلنا للمشاركة في المذبح.

واترك لنا ديوننا كما نحن

لا فائدة من البرهان بأنّ هذه الصلاة تعنينا، لأنّنا نطلب بأن نُعفى من ديوننا فقد وقعنا تحت دين، لا دين مال، بل دين الخطيئة.

والآن، قد تسألني: وأنت أيضًا؟

فأجيب: نحن أيضًا.

-       أنتم أيضًا. أيّها الأساقفة القدّيسون، أنتم مديونون؟

-       ونحن أيضًا، نحن مديونون.

-       وأنتم أيضًا؟ لا تتكلّم هكذا، يا سيّدنا، تحمّل نفسك إهانة.

-       أنا لا أحمّل نفسي إهانة، بل أقول الحقيقة. نحن مديونون. "إن حسبنا نفوسنا بلا خطيئة، نضلّ أنفسنا ولا يكون الحقّ فينا" (1يو1: 8).

تعمّدنا، ومع ذلك نحن مديونون. هذا لا يعني أنّ فينا خطايا لا تُمحها المعموديّة، ولكن مسيرة الحياة تجعلنا نقترف، كلّ يوم، خطايا يجب أن تُغفر لنا. فالذين يموتون حالاً بعد عمادهم، يصعدون إلى السماء. هم معفيّون من كلّ الديون، ولا يسقطون بعدُ تحت دين. أمّا الذين يقيمون في هذه الحياة، بعد المعموديّة، فيبقون معرّضين للعطوبة البشريّة ويقترفون ذنوبًا: قد لا تعرّض السفينة للغرق المباشر، ولكنّه تفرض علينا أن نُفرغ حوضها، بدون هذه الحيطة، يزداد ثقل الخطايا الخفيفة شيئًا فشيئًا فيُغرق السفينة. أمّا في الصلاة، فيُفرغ حوض السفينة. ولكن في هذه الحالة، إن كانت الصلاة واجباً، فالصدقة واجبٌ آخر. وإن كنّا نُفرغ الحوض حين يتهدّدنا الغرق، أما ساعدنا الصوت والحركة؟ يساعدنا الصوتُ حين نقول: "أترك لنا ديوننا، كما تركنا لمن لنا عليهم". وتساعدنا يدُنا حين نطيع الفريضة: "أقسم خبزك مع الجائع، واستقبل عندك البائس الذي لا مأوى له. إخفِ الصدقة في حضن الفقير، فيقابلك بصلاة إلى الله من أجلك" (أش 58: 7؛ سي 29: 15).

إنّ مياه الولادة الجديدة قد محت جميع خطايانا. ولكنّنا نتعرّض أيضًا لقلق كبير إن لم تقدّم لنا الصلاة الربّيّة، كلَّ يوم، وسيلة بها نتنقّى. فالصدقة والصلاة تمحوان الخطايا، إلاّ إذا كانت ذنوبًا تجعلنا غير أهل للخبز اليوميّ، فيجب أن نتجنّبها مهما كان الثمن، لأنّها تعرّضنا لحكم قاسٍ وأكيد. لا تتملّقوا نفوسكم بأنّكم أبرار، وكأنّكم لستم بحاجة إلى أن تتلوا هذه الصلاة: "أترك لنا ديوننا كما نحن تركنا ديون الذين استدانوا منّا". أنا أسَرُّ إن امتنعتم عن عبادة الأوثان، عن التنجيم، وعن عقاقير السحرة. وإن لم يجتذبكم الهراطقة تنجرّوا إلى مخيَّم المنشقّين، إن هربتم من القتل والزنى والسرقة وشهادة الزور. وأخيرًا، إن نتجنّبتم جرائم أخرى لن أتحدّث عنها، فتسبّب للنفس جروحًا مميتة، ينتج عنها الامتناع عن المائدة المقدّسة، والتي تُربَط على الأرض كما تُربَط في السماء. هذه الحالة التعيسة تستحقّ الموت الأبديّ، إن لم يُفَكّ قيدُ الخاطئ على الأرض لكي يُفكّ في السماء.

أ- الخطايا اليوميّة

قد لا تكونون اقترفتُم هذه الذنوب. ربّما. ولكنّ الخطيئة تأخذ أشكالاً أخرى عديدة لدى الإنسان: أن ننظر بارتياح إلى ما يحقّ لنا أن نراه، خطيئة. وليس من السهل أن نضبط سرعة النظر، لأنّ العين، كما يقال، تأخذ اسمها من هذه السرعة عينها (في اللاتينيّة). ليس من السهل أن نسيطر على الأذن. قد تقدر أن تغمض عينيك ساعة تشاء، وهذا يتمّ بسرعة. ولكن إغلاق الأذنين يتطلّب مجهودًا كبيرًا. فعلى اليدين أن تتدخّلا، بهما تُدرك أذنيك. ولكن إن أمسك أحدٌ لك يديك، تبقى أذناك مفتوحتين، وعليك أن تسمع أقوال الافتراء أو الكذب، والتملّق والغشّ. وحين نسمع ما لا يليق، حتّى وإن لم نعمل، أما هذا منذ الآن خطيئة بالأذن، أنت تسمع بارتياح أقوالاً رديئة. وكم من الخطايا يقترف لسانُك المسموم؟ بعض هذه الخطايا هي، في بعض المرّات، كبيرة بحيث تمنع المسحيّين من الاقتراب إلى المذبح. مثلاً، التجاديف وعددٌ من الأقوال التي فيها تتزاحم الدنيويّات على اللاآداب. إذا افترضنا أنّ اليد لم تصنع شرًّا، وأنّ الرجل لا تعينها في عمل مسيء، والعين لا تطيل النظر في مشهد الفسق، وأن لا تتقبّل الأذن كلمة مشينة واحدة، وأن يمتنع اللسان عن أيّ كلام في غير محلّه. فالأفكار من يستطيع أن يكبح جماحها؟

فيا أيّها الإخوة! مرّات عديدة، حتّى في قلب الصلاة، تأتي الأفكار الغريبة فجأة فتُنسينا ذاك الذي نقف أمامه، ذاك الذي نسجد لديه! هذا العدد من الذنوب الصغيرة التي تتكدَّس علينا، أما هي ثقيلة؟ لا همّ إن كان الثقل عليك رصاصًا أو رملاً! فالرصاص كتلة واحدة. الرمل يتألّف من حبّات صغيرة، ولكنّ كثرتها تسحقك أيضًا. تقول: ذنوبي صغيرة. أما ترى أنّ كثرة القطرات الصغيرة تملأ الأنهار وتسبّب الانزلاق في الأرض؟ الذنوب صغيرة، لا شكّ، ولكنّها عديدة.

إذن، لنردّد كلّ يوم، ولنقل من عمق قلبنا، بحيث يوافق سلوكُنا أقوالنا: "أترك لنا ديوننا كما تركنا نحن للآخرين ديونهم". هو اتّفاق وتعاقد وعهد نقطعه مع الله. فالربّ إلهك يقول لك: إغفر فأغفر لك. إن كنتَ لا تغفر، فلست أنا من يعاكس مصلحتك، بل أنت.

أجل، أيّها الإخوة الأحبّاء، أعرفُ ما هو مفيد لكم في الصلاة الربّيّة، وأجعل في المقام الأوّل هذه الطلبة: "أترك لنا ديوننا، كما نترك نحن للآخرين ديونهم". إسمعوني جيّدًا: أنتم ستسألون المعمودية. فاغفروا كلَّ شيء. إن شعر أحد في قلبه بالحقد على القريب، فليغفر من كلّ قلبه. بهذه الاستعدادات تدخلون في مياه العماد، وتأكّدوا أن غفرانًا تامًّا يستُر خطاياكم، الخطيئة لأصليّة التي جاءتكم في الولادة، في آدم، والتي بسببها تطلبون، مع الأطفال، نعمة المخلّص. وأيضًا جميع التي تكدّست في مسيرة حياتكم، بالقول والفعل والفكر، كلّ هذا يُغفر لكم. فتأكّدوا من ذلك وكأنّكم سمعتم الآن الربّ ذاته.

إذن، لفتُّ انتباهكم الآن إلى هذه الخطايا اليوميّة. كان لا بدّ لي أن أفعل. وكنتُ قد قلتُ لكم بأنّكم تنالون الطهارة اليوميّة بتلاوة هذه الكلمات: "أترك لنا ديوننا، كما نترك نحن للآخرين دينهم". ولكن كيف تفعلون؟

ب- نحبّ أعداءنا

لكم أعداء. أيّ إنسان لا عدوّ له على الأرض؟ إهتمّوا بأن تحبّوهم. فالعدوّ القاسي قد يسيء إليك كثيرًا. وأنت تفعل أكثر منه إن كنتَ لا تحبّ عدوّك. هو يسيء إلى خيراتك، إلى مواشيك، إلى بيتك، إلى زوجتك. بل أبعد من ذلك، يسيء إلى جسمك إن نال السلطان. ولكن هل يقدر أن يسيء إلى نفسك؟

أحضّكم، يا إخوتي، إرتفعوا إلى هذا الكمال. لا شكّ في أن حضّي لا يعطيكم القوّة. وحده يعطيكم ذاك الذي تقولون له: "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء". لا تظنّوا أنّ الأمر مستحيل. أعرف، لاحظتُ، برهنتُ أن هناك مسيحيّين يحبّون أعداءهم. إذا بدا لكم الأمرُ مستحيلاً، فلا تحاولوا أوّلاً أن تجتهدوا فيه. إبدأوا فأقنعوا أنفسكم بأنّ الأمر ممكن، وصلّوا لكي تتحقّق فيكم مشيئة الله. فالشرّ الذي في عدوّك لا يمكن أن يفيدك في شيء. بل هو لا يكون عدوّك إن لم يكن سوء فيه. تمنَّ له الخير، أطلب أن يضع حدًّا لشرّه، فلن يعود بعدُ عدوّك.

إن كان عدوّك، فهذا ليس من طبعه كإنسان، بل من الخطيئة. فهل يكون عدوّك لأنّ له جسدًا ونفسًا؟ هو ما أنت. لك نفس وله أيضًا. لك جسد، وله أيضًا. فهو من الجوهر الذي أنت منه. وقد جُبل كما جبلتَ أنت من الأرض، وقد نلتما الحياة من الإله الواحد. يجب أن ترى فيه أخاك. والدانا الأوّلان آدم وحوّاء. ذاك كان أبانا، وتلك أمّنا. إذن، نحن إخوة. ونترك هذا الأصل الأوّل. لنا الله أبٌ، والكنيسة أمٌّ. إذن، نحن إخوة.

ولكن قد يكون عدوّي وثنيًّا، يهوديًّا، ضالاً. لهذا قلتُ أعلاه: "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء". أيّتها الكنيسة، عدوّك وثنيّ، يهوديّ، ضالّ. هم أرضٌ وأنتِ سماء. فتوسّلي إلى الآب الذي في السماء، واضرعي إليه من أجل أعدائك. شاول (= بولس) هو أيضًا كان عدوَّ الكنيسة. صلّوا لأجله فصار صديقها. ما اكتفى بأن يتوقّف عن معاداتها، بل صار عاملاً فيها بعد أن قاسى الأتعاب الكثيرة. أتريد أن تعرف الحقيقة؟ أجل، صلّينا من أجله، وضدّ شرّه، لا ضدّ إرادته.

فصلِّ أنت أيضًا ضدّ شرّ عدوّك. ليمت هذا الشرّ وليحيَ هو. إن مات العدوّ، نقص عدوّ، ولكن ما زاد صديق. أمّا إذا مات شرّ عدوّك، خسرت عدوًّا وربحتَ صديقًا.

وتقول أيضًا: من يسعه أن يفعل هذا؟ بل من فعله في يوم من الأيّام؟ فليساعدك الله لكي تقوم به. أعرف أنّهم عديدون أولئك الذي تشجّعوا وعملوا هذا. إنّه امتياز النفوس النبيلة والروحيّة حقًّا.

هل نستطيع أن نجعل بينها جميعَ الذين يقتربون من المذبح، الذين يتناولون جسد المسيح ودمه؟ هل عندهم كلّهم مثل هذه الاستعدادات؟ ومع ذلك، فجميعهم يتلون هذه الصلاة: "أترك لنا ديوننا كما نترك نحن للآخرين ديونهم". حينئذٍ يجيبهم الله: لماذا تطلبون منّي أن أفعل ما وعدتُ به، ساعة ترفضون أنتم ما به أمرت؟ ماذا وعدتُ؟ أن أغفر الخطايا. ماذا أمرتُ؟ أن تتركوا للمديونين لكم ديونهم؟ كيف تفعلون ذاك إن كنتم لا تحبّون أعداءكم؟

ما العمل يا إخوتي؟ هل قطيع الربّ صغيرٌ جدًّا؟ هذا إذا كان الذين يحبّون أعداءهم يقدرون أن يقولوا: "أترك لنا ديوننا كما نترك للمديونين لنا ديونهم". لا أعرف بعدُ ماذا أفعل. لا أعرف بعد ماذا أقول.

هل أقول لكم: إن كنتم لا تحبّون أعداءكم، لا تقولوا هذه الطلبة من الأبانا: "أترك لنا ديوننا، كما نترك للمديونون لنا ديونهم". لنحسب أنّني قلت لكم: أتركوا هذه الطلبة ولا تقولوها. ولكن إن أغفلتموها، لن تُغفر خطاياكم إن تلوتموها وما مارستموها، لن تغفر أيضًا خطاياكم. يجب أن يتوافق سلوكنا مع أقوالنا، لكي ننال غفران خطايانا.

وهذا ما يمكن أن يُعيد الثقة، لا إلى النخبة، بل إلى مجمل الشعب المسيحيّ، وأنا أظنّ أنّ هذا ما تطلبون . قال المسيح: "إغفروا فيغفر لكم". وأنتم ماذا تقولون له؟ "اغفر لنا ذنوبنا، كما نحن نترك للمديونين". أترك لنا، يا ربّ كما تركنا نحن. تقولون بلا شكّ "أيّها الآب الذي في السماوات، أترك لنا ديوننا، كما نحن تركناها للمديونين لنا" هذا ما يجب أن تقولوا. إن كنتم لا تفعلون تهلكون. حين يطلبُ منك عدوّ أن تغفر له، فاغفر في الحال. هل هذا صعب جدًّا؟ كان من الصعب أن تحبّ عدوًّا يضطهدك. ولكن صار يصعب عليك أن تحبّ إنسانًا يسألك الغفران؟ ماذا تجيبه؟ كنت تبغضه حين كان يضطهدك. بل حينئذٍ كان من المفروض أن لا تبغضه وأن تتذكّر قول المعلّم: "أبت، إغفر لهم لأنّهم لا يدرون ما يعملون" (لو 23: 34). أجل، رغبتي الكبرى ساعةَ كان عدوُّك يسحقك، أن تتذكّر الربّ إلهك يتلو هذه الصلاة!

ولكن قد تعترض: هو صنع هذا لأنّه كان المعلّم؟ لأنّه كان المسيح، لأنّه كان ابن الله، لأنّه كان الابن الوحيد، لأنّه كان الكلمة الذي صار بشرًا. أمّا أنا، فهل أقدر مع الضعف والشرّ الذي أنا فيه؟ إن كنتَ تُحسّ أن المعلّم يتجاوزك تجاوزًا، فكّر بواحد كان خادمه مثلك. رُجم القدّيس إسطفانس، وإذ كان راكعًا تحت مطر من الحجارة، صلّى هكذا من أجل أعدائه: "يا ربّ، لا تحسب عليهم هذه الخطيئة" (أع 7: 59)! هم رموه بالحجارة. وما طلبوا السماح منه. وهو كان يصلّي من أجلهم. ذاك هو الموقف الذي أودّ أن أراه عندك. إرتفع إلى المستوى، ولا تترك نفسك ملتصقة دومًا بالأرض! أجل، إرتفع إلى هذا المستوى. أحبب أعداءك. فإن كنتَ لا تستطيع أن تحبّ ذاك الذي يشتمك، فأحبب ذاك الذي يطلب منك. أحبب الإنسان الذي يقول لك: يا أخي، خطئتُ فاغفر لي. فإن كنت حينئذٍ لا تغفر، أعلن لك: أنت لا تمحو فقط صلاةَ الربّ من قلبك، بل أنت نفسك تمحى من كتاب الحياة.

وحين تغفر، حين تنقّي قلبك من كلّ ضغينة، أريدك أن تلاحظ أنّ نبذ الضغينة لا يعني أن تخنق فيه حسَّ التأديب. فماذا أفعل إذًا إذا وجب عليّ أن أصلح من يطلب الغفران منّي؟ تستطيع أن تفعل كما تشاء. إفترض أنّك تحبّ ابنك وإن وجب عليك أن تؤدّبه. أنت لا تحسب حساب الدموع التي يسبّبها السوط، لأنّك تحفظ له، في النهاية، الميراث.

ما أطلب منك، هو أن تمحو من قلبك كلَّ عاطفة بغض، حين يأتي عدوّك ويطلب غفرانك. قد تقول لي: هو يكذب. هو يخفي نواياه. فأنت الذي يدين بسهولة نوايا الآخرين، قل لي نوايا أبيك. قل لي نواياك في البارحة.

واحد يطلب السماح. سامح. سامح بلقب واسع. فإن رفضت، لا تسيء إليه، بل إليك. فأنت عبد. إن رفضتَ أن تغفر لقريبك، يمضي هو إلي سيّدك وسيّده، ويقول له: "يا سيّدي، طلبتُ من رفيقي أن يترك لي ديوني فرفض. فأنت اتركها لي. ألا يحقّ للسيّد أن يترك لخادمه ديونه؟ ويمضي بعيدًا عن سيّده وهو متيقّن من غفرانه. وتبقى أنت وواجباتك على ضميرك. كيف ذلك؟ يأتي وقتُ الصلاة، الوقت الذي تقول فيه: "أترك لنا ديوننا كما تركنا نحن للمديونين لنا". فيجيبك الربّ: أيّها العبد الشرّير، تركتُ لك دينك كلّه لأنّك طلبتَ منّي. أما كان عليك أن تشفق على رفيقك كما أشفقتُ أنا عليك" (مت 18: 32-33). هذه الكلمات هي من الإنجيل، لا منّي. واحد يطلب منك السماح: إن منحتَه إيّاه حقَّ لك أن تتلو هذه الصلاة. أما زلتَ بعد غير قادر على أن تحبّ من يسبّك؟ بل أنت تقدر دائمًا أن تصلّي: "أترك لنا ديوننا كما نحن تركنا المديون للآخرين". ونكمل صلاتنا:

ولا تدخلنا في تجربة

"إغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر لمن أذنب إلينا". هذا ما نقول بالنسبة إلى خطايا اقتُرفت، حين لا يتعلّق بنا الأمر بعد بأن لا تكون. تستطيع أن تعمل لكي لا تكرّر ما فعلت. ولكن أما تفعل شيئًا لكي تمحو الشرّ الذي اقترفت؟ إليك وسيلة لكي تتجنّب السقوط: "لا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّ"، أي من التجربة عينها.

فهذه الطلبات الثلاث تعني كلّ حياة الإنسان. وهي: ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء.

فاسم الربّ يجب أن يتقدّس دومًا فينا. يجب أن نكون دومًا تحت سلطانه، ويجب علينا دومًا أن نصنع مشيئته. هي واجبات دائمة. ونحن نحتاج الآن خبزًا كلّ يوم. وما تبقّى من هذه الصلاة، بعد هذه الطلبة، يتعلّق بضرورات الحياة الحاضرة. نحن نحتاج في هذه الحياة الخبز اليوميّ، كما نحتاج أيضًا أن تُغفر خطايانا.

لن يعود بعدُ من كلام في العالم الآخر. ها نحن نجرّب. هنا نتعرّض للغرق. هنا الضعف يُدخل إلى سفينتنا ما يجب أن نرميه. ولكن حين نتساوى مع ملائكة الله، لا نعود نطلب غفران ذنوبنا، لأنّه لن يعود هناك من ذنوب! إذن، هنا الخبز اليوميّ، هنا غفران خطايانا. هنا الغلبة على التجربة التي لا تلج ذاك العالم الآخر. هنا أيضًا النجاة من الشرّ، لأنّه لن يكون هناك بعدُ شرّ، بل السعادة الأبديّة.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM