من عظات العهد الجديد

من عظات العهد الجديد

علّمنا الربّ ما يجب أن نقول. وهذه الكلمات ما علّمتنا فقط أن نحيا حياة حسنة، بل كفتنا لترتيب حياتنا. فما هي هذه الكلمات؟ وما هو معناها؟

"أبانا الذي في السماوات"

أيّ محبّة كبيرة! أيّ رفعة مهيبة! بأيّ كلمات لائقة نشكر ذاك الذي أغدق علينا كلّ هذه الخيرات؟ تطلّعوا، أيّها السامعون الأعزّاء، إلى وضاعة طبيعتنا العاديّة. تفحّصوا أصلنا فلا تجدوا سوى الطين والرماد والغبار. جُبلنا من التراب، ونحن نعود إلى التراب، بعد موتنا. ثمّ تعجّبوا من لجّة صلاح الله الذي لا يُسبَر، الإله الذي يريد أن نعطيه اسم "أبٍ" نحن الأرضيّين وهو الساكن في السماء، نحن المائتين وهو اللامائت، نحن الفاسدين وهو اللافاسد. نحن العابرين وهو اللاعابر، نحن الخارجين من الطين وهو الإله الأزليّ. ومع ذلك، فأن هو أتاح لكم أن تتلفّظوا بهذا الاسم، فهو لا يريد أن يكون ذلك باطلاً، بل أن تحترموا اسم الآب الذي يتلوه فمكم، فتقتدوا بصلاحه، كما يقول في موضع آخر: "تشبّهوا بأبيكم السماويّ، الذي يُطلع شمسَه على الأخيار والأشرار، ويرسل غيثه على الأبرار والفجّار" (مت 5: 45).

لا تستطيعون أن تدعو أباكم، إله كلّ صلاح، إذا حافظتم على قلبٍ قاسٍ انتفت منه الإنسانيّة. ففي هذه الحالة، لم تعُد فيكم علامةُ صلاح الآب السماويّ. بل نزلتم إلى درحة الوحوش المفترسة، وانحدرتم من نبلكم الإلهيّ، وصرتم إلى الانحطاط، بحسب هذا القول الذي تفوّه به داود: "ما فهم الإنسان المجد الذي رُفع إليه، فشابه الحيوانات العجم وصار مثلهم". مثل هذا الرجل يندفع مثل الثور، يلبط مثل الحمار، يحقد مثل الجمل، يتشاره مثل الدبّ، يسرق مثل الذئب، يلسع مثل العقرب، يحتال مثل ابن آوى، يصهل وراء النساء مثل جواد وراء الأفراس، وبعد ذلك يعتبر أنّه يُسمع قول الأولاد فيدعو الله "أبًا".

ولكن كيف نسمّيه هو؟ وحشًا مفترسًا؟ ولكن بين كلِّ الرذائل التي عددتها، لا تمتلك الحيوانات سوى رذيلة واحدة، أمّا هو فيجمعها كلّها ويكون عقله أدنى من عقل الحيوانات. لهذه وإن كانت مفترسة في طبعها، فهي تدجّن بعناية الإنسان. أمّا الرجل الذي يبدّل شراسة الحيوان إلى وداعة ليست من طبعه، يحوّل وداعته الخاصّة إلى شراسة ليست في طبعه. هو الذي يستطيع أن يحوّل الشرس في طبعه إلى وديع، يُصبح شرسًا مع أنّه وديع في طبعه. هو الذي يدجِّن الأسد ويجعله طيِّعًا، يبدّل قلبه الخاصّ إلى قلب أشرس من قلب الأسد!

هناك عائقان يجب أن نقهرهما عند الأسد، لأنّه محروم من العقل، ولأنّه أشرس الحيوانات. ومع ذلك، فالحكمة التي منحنا الله بأن نروّض هذه الطبيعة المتمرّدة! والذي يتغلّب على طبيعة الحيوانات يسخّر الامتياز الذي حبته الطبيعة! جعل الأسد "إنسانًا" وهو لا يهتمّ من أن يجعل من نفسه "أسدًا". أعطى الأسد ما هو فوق طبعه، ورفض لنفسه ما هو من طبعه! إذن، كيف يقدر أن يدعو الله "أبًا". أما الإنسان خيّر، محبّ للقريب، إنسان لا ينتقم ممّا ناله من إساءة، ويردّ على الشرّ بالخير، مثل هذا وحده يستطيع بلا خوف أن يدعو الله أباه.

ننظر الآن وندرك قوّة هذه الكلمات. فهي توصينا بأن نحبّ بعضنا بعضًا، وتضمّنا كلّنا في رباط المحبّة المتبادلة. ما أمرنا الربّ بأن نقول "أبي الذي السماوات"، بل "أبانا الذي في السماوات". هكذا نعرف أنّ لنا أبًا مشتركًا. ويُحسّ الواحد للآخر حبًّا أخويًّا. ثمّ يعلّمنا أيضًا لكي نتجرّد عن الأرض، ولئلاّ ننحني دومًا باتّجاهها، بل أن نمسك أجنحة الإيمان، ونطلق عبر الهواء عبورًا إلى ما وراء الأثير. وأن نطلب ذاك الذي ندعوه أبانا. أمرنا أن نقول: أبانا الذي في السماوات. لا لأنّ الله موجود في السماء فقط، بل لنرفع عيوننا إلى السما، نحن الذين نتعلّق الآن بالأرض. وإذ نتأمّل في جمال الخيرات التي تنتظرنا هناك، نتعرّف إليها بكلّ قلبنا.

تلك هي العبارة الأولى. والآن، اسمعوا الثانية:

ليتقدّس اسمك

إنّه من الجنون أن نظنّ أنّه يطلب الله نموًّا في القداسة، في هذه العبارة: ليتقدّس اسمك. فهو قدّوس، كلّه قدّوس، قدّوس القدّوسين. والسرافيم يرفعون لله هذا المديح: "قدّوس، قدّوس، قدّوس الربّ، إله الجيوش. امتلأت السماء والأرض من مجده. فكما أنّ الذين يهتفون للملوك فيدعونهم ملوكًا وأباطرة، لا يضيفون شيئًا على امتيازاتهم، بل يعلنون تلك التي يمتلكون، كذلك نحن لا نعطي الله قداسة ليست له، حين نقول له: ليتقدّس اسمك. بل نعلن فقط تلك التي له. فلفظ "يتقدّس" يقال بدل: "يتمجّد". يعلّمنا هذا القول أن نوجّه حياتنا في طريق الفضيلة، بحيث يرانا الناس فيمجّدون أبانا السماويّ، كما قيل في موضع آخر من الإنجيل: "ليضئ نوركم أمام الناس، فيروا أعمالكم الحسنة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16).

ثمّ يعلّمنا يسوع أن نقول:

ليأتِ ملكوتك

حين تستبدّ بنا الشهوات العميمة وتهاجمنا ألفُ تجربة وتجربة، نحتاج إلى ملكوت الله، لئلاّ تملك الخطيئة في هذا الجسد المائت فتجعله عبدًا للأهواء. لئلاّ تصبح أعضاؤنا أدوات إثم للخطيئة، بل أدوات برّ في يد الله فنصطفّ في جيش ملك الدهور. يعلّمنا هذا القول أيضًا أن لا نفرّط في التعلّق بهذه الحياة المائتة، بل أن ندوس بأرجلنا الأمور الحاضرة، ونرغب في الآتية لأنّها وحدها ثابتة. أن نطلب ملكوت السماء والأبديّة. لأن لا نجعل سعادتنا في أمور ترضينا على الأرض، في جمال الجسد، ووفرة الغنى، والأملاك الكبيرة، في وهج الحجارة الثمينة، في عظمة البيوت، في المناصب والكرامات، في الأرجوان والتاج، في الولائم والأطعمة الشهيّة، في الملذّات من أين أتت، بل نطلق باحتقار هذه الخيرات الكاذبة لنتعرّف بكلّ قوانا فقط إلى ملكوت الله.

وبعد أن علّمنا الربّ التجرّد من العالم، أضاف:

لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء

ألهمنا الربّ حبّ الخيرات الآتية، وجعلنا نرغب فها بحرارة. وحين رمى في قلبنا شعلة النار هذه، قال: "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء". فكأنّه يقول: "أنت يا ملكنا إمنحنا أن نحيا مثل الذين هم في السماء، بحيث نريد نحن أيضًا ما أنت تريد. أعن إرادتنا الضعيفة، التي ترغب في أن تُتمّ فرائضك، ولكن تمنعها عطوبة الجسد، مدّ لنا يدَ العون، نحن الذين نودّ أن نجري ولا نقدر إلاّ أن نجرجر. لنفسنا جناحان، ولكن أثقلهما اللحمُ والدم. نودّ أن ننطلق إلى السماء، ولكنّ البشريّ فينا يسقطنا بثقله على الأرض. بعونك، كلّ شيء يصبح لها ممكنًا حتّى المستحيل. إذن، لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء.

وإذ ذكر يسوع المسيح الأرض، وأنّ الخلائق التي تحمل جسدًا مكوَّنًا من الأرض تحتاج إلى طعام يوافق طبعها، أضاف حتمًا:

أعطنا اليوم خبزنا الضروريّ

أراد أن نطلب الخبز الضروريّ من أجل قوتنا، لا الزيادة، بل الضروريّ، ما يكفي لكي يعوّض الجسد ما يخسره دومًا، ويمنعه من أن يموت جوعًا. لا موائد لذائذ، بل أطعمة متنوّعة، لا ولائم أعدّتها صناعةٌ ومهارة. لا حلويات حلوة، لا خمورًا رائحتها رائحة الفرح، ولا كلّ هذه الرفاهات التي تدغدغ الفم ولكنّها تتعب المعدة، التي تجوّع الروح وتجعل الجسد يتمرّد على الروح، مثل جواد جامح فلا يكبحه صوتُ فارسه.

ليس هذا ما يعلّمنا كلامُ الله أن نسأل، بل الطعام الضروريّ من أجل قوتنا أي الذي يمضغه الجسد فيتقوّى به. وهذا الحبز، يأمرنا أن لا نطلبه من أجل عددٍ من السنين، بل فقط من أجل اليوم الحاضر. قال لنا: "لا تهتمّوا للغد". قد لا ترون الغد، أنتم يا من تعملون دون أن تقطفوا ثمار تعبكم. ثقوا بهذا الإله الذي أعطاكم جسده، الذي خلق نفسكم بنفخة فمه، الذي وهبكم العقل، بل قبل الخلق، هيّأ لكم خيرات عديدة. أترى يترككم بعد أن خلقكم، وهو "الذي يُشرق شمسه على الأخيار والأشرار، ويرسل غيثه على الأبرار والفجّار"؟ (مت 6: 45). فاجعلوا فيه ثقتكم، ولا تطلبوا سوى طعام اليوم الحاضر، واتركوا له الاعتناء بالغد، كما قال داود المطوّب: "ألقوا عليه همّكم وهو يقوتكم" (مز 54: 23).

بعد أن علّمنا الربّ في الأقوال السابقة أسمى فلسفة، عرف أنّه يستحيل على جسم مائت أن لا يسقط، عرّفنا أن نقول:

إغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر

تتضمّن هذه الطلبة ثلاث فرائض خلاصيّة: فالذين بلغوا إلى درجة سامية من الفضيلة، علّمهم يسوع أنّ عليهم دومًا أن يعيشوا التواضع. أن لا يثقوا بما عملوا من الخير، بل يخافون ويرتجفون ويتذكّرون ذنوبهم السابقة، كما كان يفعل بولس الرسول الكبير فيقول بعد عدد من الأعمال الحسنة: "جاء يسوع المسيح إلى العالم ليخلّص الخطأة الذين أوّلهم أنا" (1 تم 1: 15) ما قال: كنتُ خاطئًا (في الماضي). بل أنا اليوم. وهكذا يدلّ على أنّه يتذكّر دومًا ماضيه في الوقت الحاضر.

والذين بلغوا إلى الكمال، دلّهم ربُّنا بهذا القول على واجب المحافظة على التواضع. والذين سقطوا بعد نعمة العماد المقدّس، ما تركهم ييأسون من خلاصهم، بل علّمهم أن يطلبوا من طبيب النفوس الغفران الذي يشفيهم.

ثمّ يعطينا كلّنا درسًا في المحبّة. يريدنا أن نكون سموحين مع المذنبين وغير حاقدين على الذين أساؤوا إلينا: إن غفرنا يُغفَر لنا. ونحن نقدّم كيل الغفران الذي يُمنَح لنا. فنحن نطلب أن ننال بقدر ما منحنا، نطلب تسامحًا يعادل ذاك الذي نناله.

بعد ذلك، أمرنا يسوع المسيح أن نقول:

ولا تدخلنا في تجربة، ولكن نجّنا من الشرّ

قد يحلّ بنا عدد من الشرور يسبّبها البشر: تؤلمنا حقًّا. أو تنصب لنا فخاخًا مخفيّة. فإن ثار الجسد على النفس، فهو يُحدث لنا ضررًا خطيرًا، وإن سقط في مختلف الأمراض التي تحيق بنا، فهو لا يطلب لنا سوى الوجع والحزن. بما أنّنا معرّضون من كلّ جهة إلى شرور عديدة ومختلفة، علّمنا الربّ أن نطلب من الله القدير، أن ننجو منها. فأمام الذي يحميه الربّ، تهدأ العاصفة، والأمواج تعود إلى السكينة، وأبليس يهرب ملتحفًا بالخزي، كما حدث له في الماضي: خرج من البشر ودخل إلى جسم الخنازير، وما تجاسر على ذلك بدون سماح منه تعالى.

فإن لم يكن لإبليس من سلطان حتّى على الخنازير، هل يكون له سلطان على أناس ساهرين، متواضعين، يحفظهم الله الذي يعبدونه كسيّدهم وملكهم؟ لهذا فنهاية الصلاة تقول لنا: لله الملك والقدرة والمجد. "لأنّ لك الملك والقدرة والمجد إلى دهر الدهور. آمين. فكأنّ المؤمن يقول: أطلب كلّ ذلك، لأنّني أعترف بك سيّدًا شاملاً على الكون، وقدرتك لا نهاية لها. تستطيعُ أنت كلَّ ما تريد، وتمتلك مجدًا لا يُؤخذ منك.

من أجل كلّ هذا، نؤدّي الشكر لمن تنازل فمنح الخيرات الكثيرة. ونعلن له كلّ مجد، كلّ إكرام، كلّ قدرة، للآب والابن والروح القدس، الآن ودومًا إلى الدهور. آمين

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM