الفصل الرابع:أخرج عاجلاً من أورشليم

 

الفصل الرابع

أخرج عاجلاً من أورشليم

ذاك هو الصوت الذي سمعه بولس (شاول) حين كان يصلّي في الهيكل: «أسرع في الخروج من أورشليم، لأنّ الشعب هنا لا يقبلون شهادتك لي» (أع 22: 18). فوجب على بولس أن يخرج عاجلاً، بانتظار أن يهدَّد في نهاية حياته، فيرفع دعواه إلى قيصر. إنَّه لن يموت في أورشليم مثل معلِّمه، بل في رومة. ولن يموت على الصليب كما حصل ليهوديّ مثل بطرس، بل بقطع الرأس لأنَّ هذا الرجل مواطن رومانيّ. رُفض بولس في أورشليم. وسبق له أن هرب من دمشق، فلا يبقى له سوى العودة إلى بلده، إلى طرسوس، قبل أن يبدأ رسالةً لن تتوقَّف حتّى موته. وأمّا الذي دعاه، فهو برنابا الذي لعب دورًا كبيرًا في حياة من سوف يُدعى رسول الأمم.

1- في سورية والأردنّ

ترك شاول أورشليم وأرض اليهوديَّة، ومضى إلى الشرق، في محطَّة أولى هي دمشق. ومن دمشق توجَّه إلى عرابية، تلك المنطقة التي تضمُّ ما يُدعى اليوم حوران وشرقيّ نهر الأردنّ.

أ- دمشق

لماذا الذهاب إلى دمشق؟ لأنَّ الجماعة اليهوديَّة هناك ضمَّت عددًا من المؤمنين، دون أن ننسى خائفي الله، أي أولئك الذين آمنوا بالإله الواحد دون أن يمارسوا الشريعة اليهوديَّة، ولا سيَّما الختان. تحدَّث سفر الأعمال عن «مجامع دمشق» (9: 2)، لا عن مجمع واحد. ممّا يعني بالتالي أكثر من جماعة مسيحيَّة في تلك المدينة العامرة. وحنانيا كان أحد «المسؤولين». دخل «البيت» (آ17) أي إحدى 'الكنائسب التي فيها يلتئم المؤمنون، ينالون العماد، يشاركون في عشاء الربّ، يواظبون على التعليم. كان شاول ماضيًا إلى هذه »المجامع» لكي »يعتقل الرجال والنساء الذين يجدهم هناك على مذهب الربّ، ويجيء بهم إلى أورشليم» (آ2). فإذا هو يمضي إلى المجامع «فيبشِّر بأنَّ يسوع هو ابن الله» (آ20).

هنا نتذكَّر ما كانت عليه دمشق. يبدو أنَّ اسمها المربَّع الحروف، لا يعود إلى اللغات الساميَّة، بل ربَّما إلى الحثيَّة، شأنها شأن صقلج، تلك المدينة الواقعة عند شاطئ البحر. دعاها الأشوريّون «مدينة المكاري»، لأنَّها كانت تشكِّل محطَّة للقوافل، بسبب وقوعها وسط واحة يرويها نهران، أبانة وفرفر (2مل 5: 12).

كانت دمشق مدينة مزدهرة بسبب المياه التي فيها، وموقعها على طريقين مهمَّين: «طريق البحر» (أش 8: 23) التي تربط مصر ببلاد الرافدين. و«الطريق الملكيَّة» (عد 22: 22) التي تنطلق من سورية الشماليَّة نحو الجزيرة العربيَّة والبحر الأحمر. أتُرى شاول حين أراد المجيء إلى دمشق، طلب مدينة كبيرة منها يُشعّ لكي يمنع انتشار الإنجيل، على ما سيفعل فيما بعد حين ينطلق من كورنتوس فتصل الرسالة إلى آخائية كلِّها، أو من أفسس فيصل الإنجيل إلى آسية التي هي جزء من تركيّا الحاليَّة؟

حدَّثنا المؤرِّخ فلافيوس يوسيفس عن اضطهاد أصاب اليهود. فمات منهم عشرة آلاف وخمسمئة نفس (الحرب اليهوديَّة 2: 559-562؛ حياة 27). كما نعرف أنَّ الأسيانيّين، هؤلاء الخارجين على الهيكل ورئيس الكهنة آنذاك، لجأوا إلى دمشق وهناك أخذوا اسم «العهد الجديد في أرض دمشق» (وثيقة دمشق أو: وثيقة صادوق 8: 21 التي دوَّنوها هناك).

نشير هنا إلى أن «الشارع المستقيم» المذكور في أع 9: 11 يتقاطع مع عواميد تُرى حتّى اليوم في الدرب السلطانيَّة قرب بقايا مسرحين يعودان إلى الحقبة الرومانيَّة. كان هناك هيكل مكرَّس للإله جوبيتر الدمشقيّ، فتحوَّل في نهاية القرن الرابع إلى كنيسة على اسم يوحنّا المعمدان قبل أن يُعاد بناؤها في القرن السابع. وفي النهاية، صارت الجامع الأمويّ.

إلى هذه المدينة العامرة جاء شاول، فيها قبلَ سرّ العماد وامتلأ من الروح القدس (أع 9: 17). حينئذٍ «تساقط من عينيه ما يشبه القشور، وعاد البصر إليه» (آ18). هو المعنى الماديّ، ربَّما. وبالأحرى المعنى الروحيّ. رأى بعيني الإيمان من هو ذلك الذي يضطهد. هو لا يضطهد البشر، بل الله، على ما قال معلِّمه غملائيل بالنسبة إلى الرسل: »اتركوا هؤلاء الرجال وشأنهم ولا تهتمُّوا بهم، لأنَّ ما يبشِّرون به أو يعلِّمونه يزول إذا كان من عند البشر» (أع 5: 38). ذاك كان ظنَّ شاول قبل خبرة الطريق إلى دمشق. أمّا الآن فاقتنع، على ما قال معلِّمه أيضًا: «أمّا إذا كان (هذا التعليم) من عند الله، فلا يمكنكم أن تزيلوه لئلاّ تصيروا أعداء الله» (آ39).

وهكذا انتقل شاول من الإيمان اليهوديّ إلى الإيمان المسيحيّ. والبرهان، أخذ يبشِّر «في المجامع بأنَّ المسيح هو ابن الله». تلك هي الصعوبة الأساسيَّة بالنسبة إلى اليهود، حتّى في أيّامنا هذه، كما بالنسبة إلى المسلمين. أمّا بالنسبة إلى المسيحيّين، فألوهيَّة ابن الله هي أساس الإيمان. فإن لم يكن يسوع سوى إنسان عاديّ، فكيف يقدر أن يحمل الخلاص إلينا وإلى العالم؟

تعجَّب الناس. اليهود أوَّلاً: هو خائن للقضيَّة. أين هي »رسائل« رئيس المجمع؟ (أع 9: 2). وفي النهاية هدَّدوه. ولكنَّ شاول ليس ذاك الذي يخاف التهديد. بل ازداد قوَّة في تبشيره. أرادوا أن يجادلوه، فلم يقدروا أن يقاوموا »حججه الدامغة« (آ22). انطلق من الأنبياء فبيِّن لهم »أنَّ يسوع هو المسيح«. وكانت الخطَّة: راقِبوا »أبوابَ المدينة ليل نهار لنقتله« (آ24). هي المرَّة الأولى يحسُّ بخطر من بني أمَّته، وسوف يرافقه هذا الخطر حتّى الاستشهاد.

ب- عرابية

مقاطعة رومانيَّة تكوَّنت بشكل رسميّ سنة 106 ب.م.، فبدأت تؤرِّخ أحداثها في 22 آذار 106. ضمَّت في الأصل مملكة الأنباط، من بصرى إسكي شام (في حوران) إلى هجرة في الجنوب. ومن جوار غزَّة في الغرب إلى مدخل وادي سرحان (في الأردنّ) في الشرق. ثمَّ أضافت رومة إلى هذه المنطقة مدينتين من المدن العشر (ديكابوليس): فيلدلفية (عمّان الحاليَّة) وجرش المعروفة بمسرحها الرومانيّ الذي ما زال قائمًا إلى اليوم.

أمّا الأنباط الذين عاشوا على حدود الممالك الهلنستيَّة (أسَّسها الإسكندر المقدونيّ وخلفاؤه) فأقاموا في أدوم مع عاصمتهم البتراء. كما وُجدت مدوَّنة في النقب تعود إلى القرن الثالث ق.م. مع العبارة التالية: الحارث ملك الأنباط. والحارث في لغة الأنباط (كما في اللغات الساميَّة) تعني ذاك الذي يشتغل الحديد. إذًا، هو اسم يضمُّ عددًا من الملوك، على مثال الفرعون في مصر. في سفر المكابيّين الثاني نعرف أنَّ الحارث رئيس العرب طرد ياسون (يشوع العبريّ) رئيس الكهنة، فأخذ يهرب من مدينة إلى مدينة (2مك 5: 8). وفي زمن بولس الرسول، نعرف ملكًا آخر باسم الحارث ذكره المؤرِّخ فلافيوس يوسيفس في كتاب العاديّات اليهوديَّة (18: 109-125). تزوَّج ابنتَه هيرودس أنتيباس ثمَّ طلَّقها ليأخذ هيروديَّة. كان هذا الحارث ملكًا من السنة التاسعة ق.م. حتّى السنة الأربعين ب.م. هذا ما يساعدنا على تحديد الزمن الذي قضاه شاول في تلك المنطقة. قال الرسول عن نفسه: »ما استشرتُ بشرًا (بعد الاهتداء) ولا صعدتُ إلى أورشليم لأرى الذين كانوا رسلاً قبلي، بل ذهبت إلى الفور إلى بلاد العرب (عرابية) ومنها عدتُ إلى دمشق» (غل 1: 16-17). هذا يعني أنَّ شاول بدأ فمضى إلى بلاد العرب، قبل أن يبشِّر في دمشق بأنَّ يسوع هو المسيح.

تحدَّث سفر الأعمال عمّا حصل لبولس في عهد الملك الحارث الذي وسَّع مملكته، بناء على مبادرة من كاليغولا الإمبراطور الرومانيّ (12-41 ب.م.) فضمَّ دمشق. قال: كان اليهود يراقبون المدينة «فأخذه التلاميذ ليلاً ودلَّوه من السور في قفَّة» (أع 9: 25). إلى هذا الموضوع أشار بولس كما ذكر اسم الملك الذي كان حاكم دمشق في تلك الحقبة (34-37): «وإنَّ الوالي الملك الحارث على دمشق أمر بحراسة المدينة للقبض عليّ. ولكنَّ الإخوة وضعوني في قفَّة وأنزلوني من كوَّة السور، فنجوتُ من يديه» (2كو 11: 32-33).

لماذا الكلام عن هذه الأمور الجغرافيَّة والتاريخيَّة؟ لكي نحدِّد موقع من دُعيَ رسول الأمم في المكان وفي الزمان. في هذا الإطار، يحدَّد اهتداء بولس حوالي سنة 36. كما تحدَّد مسيرتُه الروحيَّة في جماعات حوران، في سورية، وفي الأردنّ: هناك عرف يسوعَ وحياته وموته وآلامه، وذلك خلال الاحتفال الليتورجيّ، مساء كلِّ سبت استعدادًا للأحد، الذي هو يوم الربّ، كما قال سفر الرؤيا (1: 10).

في هذه الجماعات، شارك في عشاء الربّ، كما تحدَّث عنه في الرسالة إلى كورنتوس: «تسلَّمتُ ما سلَّمته إليكم» (1كو 11: 23). وبعد ذلك، أورد الليتورجيّا التي كانوا يحتفلون بها: «الربُّ يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزًا وشكر وكسره وقال: هذا هو جسدي، إنَّه لأجلكم. اعملوا هذا لذكري. وكذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقال: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. كلَّما شربتم فاعملوا هذا لذكري» (آ23-25). في هذه الجماعات، عرف من هم شهود القيامة: «سلَّمتُ إليكم قبل كلِّ شيء ما تسلَّمتُه، وهو أنَّ المسيح مات من أجل خطايانا، كما جاء في الكتب، وأنَّه دُفن وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، وأنَّه ظهر لبطرس ثمَّ للرسل الاثني عشر» (1 كو 15: 3-5). وفي النهاية جعل نفسه «كأنّي سقط» (آ8). وُلدتُ إلى الإيمان ولادة غير طبيعيَّة. أنا «أصغر الرسل» (آ9). لا أستحقُّ أن أدعى «رسولاً لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله».

في هذه الجماعات، عرف كيف يشارك المؤمنون في الاحتفالات. مثلاً، كيف يكون الرجل مكشوف الرأس في الصلاة، وكيف تغطّي المرأة رأسها. كما عرف دور الرجل في الليتورجيّا. هو القارئ وحده دون المرأة. هو المنشد وحده دون المرأة والأولاد. هو الحاضر في «صحن» المجمع، ساعة تكون النساء في موقع آخر. تلك كانت عادات يهوديَّة وما زالت إلى الآن. وقد حاول الرسول أن يتخلَّص منها حين قال: »«أريد أن تتكلَّموا كلُّكم بلغات» (1 كو 14: 5). وقال في آ26: 'عندما تجتمعون ولكلِّ واحد منكم ترنيمة أو تعليم أو وحي أو رسالة بلغات أو ترجمة، «فليكن كلُّ شيء للبنيان». فالمرأة في الجماعة البولسيَّة تستطيع أن تصلّي شأنها شأن الرجل، كما تستطيع أن تتنبَّأ. ولكنَّ الثورة التي أحدثها الرسول، تراجعت بعد موته بفعل التقاليد التي كانت متجذِّرة في العالم القديم. والمثال على ذلك، موقف بطرس وبرنابا »خوفًا من دعاة الختان« (غل 2: 12).

ما أودُّ أن أقوله في هذا المجال، هو أنَّ بولس لم يتعلَّم الإنجيل لدى الرسل، بل لدى الجماعات المسيحيَّة العاديَّة. فهو يقول عن نفسه: »بعد ثلاث سنوات صعدتُ إلى أورشليم لأرى بطرس، فأقمتُ عنده خمسة عشر يومًا، وما رأيت غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الربّ« (غل 3: 18-19). هذا يعني دور الجماعات المسيحيَّة في ذلك الوقت وفي أيّامنا. هم الذين بشَّروا بولس وعلَّموه، قبل أن يمضي إلى بطرس. فهل الذين يأتون إلى كنائسنا اليوم يتعلَّمون أم يتشكَّكون؟ سؤال نطرحه على نفوسنا كرعيَّة من الرعايا، وكفرد من الأفراد. ودور العوام كان مهمٌّا جدٌّا. من بدأ في تبشير الوثنيّين في أنطاكية؟ لا الرسل ولا تلاميذ يسوع المباشرون. بل الرسل «خافوا» ممّا دعوه «الفوضى». وما مضى بطرس ويوحنّا كما مضيا إلى السامرة لينظرا عمل «الشمّاس» فيلبّس (أع 8: 14). بل أُرسل برنابا الذي «رأى نعمة الله، ففرح وشجَّعهم كلَّهم على الثبات» (أع 11: 23). ومن بشَّر مصر؟ ومن بشَّر رومة؟ فبولس حين جاء إلى رومة، استقبله المسيحيّون. قال سفر الأعمال: «وسمع الإخوة في رومة بوصولنا، فخرجوا للقائنا... فلمّا رآهم بولس شكر الله وتشجَّع» (28: 15). متى يفهم المؤمنون الدور الكبير الذي يلعبونه في حمل البشارة، في تنظيم الكنائس، على ما فعلته ليدية، بائعة الأرجوان (أع 16: 14) وفي تشجيع المرسلين الماضين إلى البعيد؟ ذاك ما فعلته كنائس أنطاكية حين أرسلت شاول (بولس) وبرنابا وزوَّدتهما بما يحتاجان إليه (أع 13: 3).

2- في فلسطين

ويُطرَح السؤال: إذا كان المسيح مات في 7 نيسان سنة 30 كما تقول الدراسات التاريخيَّة بقدر كبير من المعقوليَّة، وإذا كان بولس اهتدى إلى المسيح سنة 36، أيمكن أن تكون الجماعات المسيحيَّة انتشرت هذا الانتشار السريع خلال ستِّ سنوات؟ الجواب الأوَّل، ما قاله يسوع للتلاميذ حين كان على البئر «في مدينة سامريَّة اسمُها سوخار» (يو 4: 5) »جاؤوه بالطعام«، فقال لهم: »طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأتمِّم عمله» (آ34). وتطلَّع أمامه فرأى أنَّ »الحقول ابيضَّت ونضجت« للحصاد» (آ35). من سوف يحصد؟ الرسل. ولكن هل هم الذين زرعوا؟ بل يسوع نفسه. قال: «واحد يزرع وآخر يحصد. وأنا أرسلتكم لتحصدوا حقلاً ما تعبتُم فيه. غيركم تعب وأنتم تجنون ثمرة أتعابه» (آ37-38).

ذاك كان وضع فيلبُّس في السامرة، حيث »أصغت الجموع بقلب واحد إلى أقواله« (أع 8: 6). وكذلك كانَ وضعُ ما يجاور فلسطين. سواء في فينيقية (لبنان) مع صور وصيدا حيث كان المسيحيّون كثيرين وقد استقبلوا بولس وهو ماضٍ إلى السجن في قيصريَّة البحريَّة، ثمَّ في رومة (أع 21: 4: »وجدنا التلاميذ هناك). وتحدَّث لوقا سنة 85 عن البلدان التي وصل إليها الإنجيل، من أرض إيران الحديثة وصولاً إلى ليبية، وضمَّ مع الكريتيّين العرب (أع 2: 11). وإذا عرفنا أنَّ يسوع مضى إلى المدن العشر الواقعة في شرقيّ الأردنّ، ووصل »إلى أرض الجراسيّين» حيث ترك تلميذًا كان «ينادي... بما عمل له يسوع« (مر 5: 20)، لن نتعجَّب أن تكون البشارة عمَّت تلك الديار التي مضى إليها شاول بعد أن دعاه الله على طريق دمشق وتعمَّد على يد حنانيا.

أُرسل شاول من دمشق »ووصل... إلى أورشليم» (أع 9: 26). وأطلَّت الصعوبات في الحال. أوَّلاً: خافوا منه. أتُراه «يحتال» علينا ليعتقلنا؟ كلَّمهم، فلم يصدِّقوه مع أنَّه قال »إنَّه تلميذ«. أما يكون ذئبًا بين الخراف يأتي ليخطف ويبدِّد؟ (يو 10: 12). هنا لعب برنابا دور الوسيط مرَّة أولى، بانتظار أن يمضي إلى طرسوس ويدعوه إلى الرسالة (أع 11: 25). هذا يدلُّ على دور البشر في نموِّ الأشخاص الذين يجاورونهم. لولا برنابا لكان شاول ربَّما يئس وهو يأتي إلى الكنيسة الأمّ ليثبِّت إيمانه ويجد الشجاعة من أجل الانطلاق في الرسالة. ولولا برنابا، لكان شاول لبث ربَّما في بيته يعمل مع والديه، أو كان فرّيسيٌّا بين الفرّيسيّين. هكذا يرسلنا الربُّ إلى آخرين لكي ندعوهم. والويل لنا إن نحن تخلَّفنا.

هنا نتذكَّر حزقيال النبيّ، الذي جعله الربُّ رقيبًا في شعبه، فإذا قلتُ لك: أنذر الشرّير «وقصَّرت أنت عن إنذاره... فأنا أطلب دمَه من يدك» (حز 33: 8). هي مسؤوليَّة كبيرة من لدن الله، وهنيئًا لمن يقوم بالمهمَّة الملقاة على عاتقه. هذا ما فعل برنابا، فقاد خطى شاول في أورشليم، قبل أن ينطلق معه في الرسالة.

شهادة برنابا راحت إلى العمق، فشدَّدت على ثلاثة أمور. أوَّلاً، خبرة الرسول »في الطريق» (أع 9: 27). كان ماضيًا إلى دمشق في هدف آخر. فانقلبت حياته انقلابًا. ثانيًا: كلمة الربِّ التي وصلت إلى من اضطهد الناس، فإذا هو يضطهد يسوع نفسه. «ما عملتم لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه« (مت 25: 40). ومن حاول أن يُوقع »الصغار المؤمنين بي في الخطيئة» (مت 18: 6) يستحقّ أقصى العقاب: «أن يُعلَّق في عنقه حجر طحنٍ كبير ويُرمى في أعماق البحر». وأخيرًا، كلَّم الربُّ شاول، فما احتفظ بالكلمة لنفسه، بل «بشَّر بشجاعة باسم يسوع في دمشق» (أع 9: 27). فماذا ينقصه بعدُ لكي ينضمَّ إلى التلاميذ؟ ينقصه الهدوء. ولكن من يستطيع أن يوقف النار التي تغلي في قلبه. تنقصه «الحكمة البشريَّة». ولكنَّه عرف «حكمة الصليب» التي هي «عقبة لليهود وحماقة للوثنيّين» (1 كو 1: 23).

حاربه أعضاء الجماعة المسيحيَّة في أورشليم. هو يرفض الطريقة التقليديَّة في البشارة. فجماعة يعقوب تريد المحافظة على الشريعة وممارساتها. من امتناع «عن ذبائح الأصنام النجسة والزنى والحيوان المخنوق والدم» (أع 15: 20). وبعضهم يظنُّ أنَّ الختانة محطَّة ضروريَّة لقبول العماد. فمن لم يُختَن لا يمكن الجلوس معه إلى مائدة واحدة. أما هذا الذي كان موقف بولس في أنطاكية، ممّا جعل بولس يتألَّم من موقف برنابا، ويقول في وجه بطرس: «إذا كنتَ أنت اليهوديّ تعيش كغير اليهود لا كاليهود، فكيف تُلزم غيرَ اليهود أن يعيشوا كاليهود؟» (غل 2: 14). وفي أيِّ حال، هذه الجماعة المسيحيَّة الآتية من العالم اليهوديّ، «فرضت» على بولس بأن يساوم، ويعود إلى ممارساتٍ يهوديَّة، فكلَّفته هذه المساومة أن يقبض عليه اليهود ويطلبوا النجدة على من «يسيء إلى شعبنا وشريعتنا وهذا الهيكل» (أع 2: 28).

بالنسبة إلى بولس، لا خلاص إلاّ بيسوع المسيح. أن خُتنتَ لا تضيف شيئًا. وإن لَم تُختَن لا تخسر شيئًا، على ما قال لوقا بفم بطرس في«مجمع أورشليم»: «نحن (اليهود) لا حاجة إلى وسيلة أخرى ولا ممارسة. وفي هذا المجال، نتذكَّر مكانة الهيكل لدى جماعة أورشليم. فقد اعتادوا أن يمضوا إلى الهيكل فلا يختلفون عن اليهود الذين لم يعتنقوا المسيحيَّة. قال لوقا: «كانوا يلتقون كلَّ يوم في الهيكل بقلب واحد» (أع 2: 46). وروى لنا كيف «صعد بطرس ويوحنّا إلى الهيكل لصلاة الساعة الثالثة بعد الظهر» (أع 3: 1)، وكيف تمَّ شفاء المخلَّع «الذي قام واثبًا وأخذ يمشي، ودخل الهيكل معهما» (آ8).

أمّا بولس فمن جماعة إسطفانس الذي اتُّهم بشكل خاصّ كما اتُّهم يسوع من قبله. قال سفر الأعمال: «وأحضروا شهود زور يقولون: هذا الرجل لا يكفَّ عن شتم الهيكل المقدَّس والشريعة. ونحن سمعناه يقول: سيهدم يسوع الناصريّ هذا المكان ويغيِّر التقاليد التي ورثناها من موسى» (6: 13-14). وفي أيِّ حال، ما الحاجةُ بعد إلى الهيكل «والله العليّ لا يسكن بيوتًا صنعتها الأيدي» (أع 7: 48). ذاك ما قال إسطفانس في دفاعه بحسب جواب يسوع للسامريَّة: لا يُعبد الله «في هذا الجبل (جرزيم) ولا في (جبل) أورشليم» (يو 4: 21). «فالعابدون الصادقون يعبدون الآب بالروح والحقّ» (آ23).

مات إسطفانس لأنَّه كان يُزعج «الجماعة الهادئة» التي لا تريد لها مشاكل. وتشتَّت الذين كانوا في خطِّه، فاعتبر لوقا أنَّ هذا الاضطهاد كان لخير الكنيسة فامتدَّت إلى السامرة (أع 8: 1) أوَّلاً، ثمَّ وصلت إلى أنطاكية وفينيقية وقبرص (أع 11: 19). أمّا الكنيسة المحلِّيَّة، فكانت تنمو في سلام (أع 9: 31). أنريد لهؤلاء المؤمنين الذين سينغلقون شيئًا فشيئًا على شريعة موسى والتقاليد اليهوديَّة، أن يقبلوا هذا المهتدي الجديد بينهم؟ كلاّ. فهو يشكِّل خطرًا عليهم لأنَّه «كان يخاطب اليهود المتكلِّمين باليونانيَّة ويجادلهم، فحاولوا أن يقتلوه« (أع 9: 29). إذًا، لا بدَّ من إبعاده من أورشليم، كما أُبعد من دمشق. فواصل الخبرَ سفرُ الأعمال: «فلمّا عرف الإخوة بالأمر، أنزلوه إلى قيصريَّة وأرسلوه منها إلى طرسوس».

3- في تركيّا

جُرح شاول في الصميم. بشَّر بشجاعة في دمشق، فرُفض. أتُرى المسيح لا يريده رسولاً شأنه شأن سائر الرسل؟ «أخذ يروح ويجيء مع التلاميذ في أورشليم، يبشِّر بشجاعة باسم الربّ« (أع 9: 28)، فهدَّده اليهود، وخاف منه إخوتُه في الإيمان؟ الخطر أصاب يسوع حين جاء إلى أورشليم، مع أنَّ التلاميذ قالوا له: «يا معلِّم، أترجع إلى هناك، ومن وقت قريب أراد اليهود أن يرجموك» (يو 11: 8)؟ وهو يصيب شاول. فليس عبد أفضل من سيِّده، ولا تلميذ افضل من معلِّمه (مت 10: 24). غير أنَّ يسوع الذي كان بقربه حين دعاه باسمه (أع 9: 4) لا يتركه في هذه المحنة الصعبة. قال له: «أسرع في الخروج من أورشليم، لأنَّ الشعب هنا لا يقبلون شهادتك لي» (أع 22: 18).

أراد شاول أن يدافع عن مشروعه. »هم يعرفون جيِّدًا يا ربّ، أنّي كنتُ أدخل المجامع وأعتقل المؤمنين بك وأجلدهم» (آ19). وسيفهمون كيف انقلبت حياتي حين التقيتُ بك. منطقُ الله غير منطق البشر، ومشاريعه غير مشاريعهم. هذا ما قاله في سفر أشعيا: «لا أفكاري أفكاركم، ولا طرقكم طرقي. كما علَت السماوات عن الأرض، علت عن طرقكم طرقي وأفكاري علَتْ عن أفكاركم« (أش 55: 8-9). ومع ذلك، راح بولس يكتب في الرسالة إلى رومة إلى اليهود الذين اعتبروا الله قد خان عهده مع شعبه. أنا كنت مضطهدًا وشتّامًا، ومع ذلك الله رحمني. أنا صرتُ مثالاً لكم. »لكنّي أقول: هل نبذ الله شعبه؟ كلاّ! فأنا نفسي من بني إسرائيل، من نسل إبراهيم وعشيرة بنيامين. ما نبذ الله شعبه. وهو الذي سبق واختاره» (رو 11: 2). اختاره وما زال. وقد اختارني فجعلني «إناء مختارًا» (أع 9: 15).

كلاّ. لن تبقى في أورشليم، حيث عشتَ ارتباطك بالعالم الفرّيسيّ، حيث ترتاح ربَّما في الرسالة. قبلك أخذتُ عاموس النبيّ من الجنوب وأرسلته إلى الشمال، من تقوع إلى بيت إيل. قال عن نفسه: «أخذني الربُّ من وراء الغنم وقال لي: اذهب تنبَّأ لإسرائيل (= مملكة إسرائيل) شعبي» (عا 7: 15). كان باستطاعة عاموس أن يقول لي: أتنبَّأ هنا في منطقة أعرفها. ولكنَّه لم يفعل. كان باستطاعته أن يتهرَّب من رسالة لا يؤمن بها كثيرًا مثل يونان بن أمتاي، ذاك اليهودي المتزمِّت. فينطلق إلى الغرب لا إلى الشرق. ولكنَّ الربَّ قال له: «قمِ اذهب إلى نينوى، المدينة العظيمة، ونادِ بأنَّ أخبار شرورها صعدتْ إليَّ» (يون 1: 2).

أتُرى بولس يتهرَّب؟ أيريد أن يبشِّر اليهود لا اليونانيّين، مع أنَّه عاش في وسطهم، في طرسوس؟ ولكنَّ الربَّ كان واضحًا معه: «هيّا، فأنا أرسلك إلى البعيد، إلى الأمم الوثنيَّة» (أع 22: 21) أنا، يقول الربّ. فماذا يقدر شاول أن يقول، وهو الذي سيتَّخذ شعار إرميا النبيّ: «انطلق إلى من أرسلك إليهم، وكلُّ ما آمرُك به تقوله لأنّي في فمك أضع كلامي» (إر 1: 7-8)؟

«طرسوس هي اليوم مدينة في تركيّا، في منطقة كيليكية، وعلى شاطئ نهر كيدنوس. مدينة تغوص في غابر الأزمان، فتعود إلى الألف الثاني. دخلت في مملكة السلوقيّين، التي خلفت الإسكندر المقدونيّ. وصارت، في الحقبة الرومانيَّة، عاصمة كيليكية، وأقامت فيها جالية يهوديَّة كبيرة.

عُرفت طرسوس بمدرستها الفلسفيَّة، كما كانت مركزًا تجاريٌّا هامٌّا، ومدينة مزدهرة في الحقبة الرومانيَّة. في تلك الحاضرة وُلد بولس وتربّى. وفيها نال المواطنيَّة الرومانيَّة، لا بعرق جبينه ولا بعد أن دفع المال الكثير كما فعل القائد الرومانيّ في أورشليم (أع 28). بالنسبة إلى هذه الجنسيَّة التي تعطي الامتيازات العديدة، قال بولس عن نفسه: »«أنا مولود فيها«. هذا يعني أنَّ والده كان ميسور الحال، ومن مركز رفيع في المدينة. وبما أنَّ طرسوس اشتهرت بتجارة الأقمشة وحياكتها، فمن الممكن أن يكون له العمّال الذين تدرَّب شاول على أيديهم. وكما ترك يعقوب ويوحنّا »أباهما زبدى في القارب مع معاونيه وتبعا (يسوع) » (مر 1: 20) حين دعاهما يسوع، هكذا فعل شاول. وإن هو عاد إلى مهنة الحياكة (أع 18: 3 ثمَّ صناعة الخيام). فلكي يقوم بأود الفريق الرسوليّ. غير أنَّه حين وصل الإخوة إلى كورنتوس، تفرَّغ لعمل الرسالة، «فحصر همَّه كلَّه في التبشير بكلمة الله» (آ5).

لبث بولس في طرسوس، كما سبق له «وبقي (في دمشق) ثلاثة أيّام (بانتظار القيامة) مكفوف البصر، لا يأكل ولا يشرب» (أع 9: 9). بل بعد أن اعتمد »أقام أيضًا بضعة أيّام» (آ19) في دمشق. سمع صوت الربِّ يدعوه: «يا ربّ، ماذا تريد أن أفعل؟» (آ9). ولكنَّ الربَّ لا يعطي الجواب كلَّه. تشبَّه عند ذاك بمسافر في الليل فينال من النور ما يحتاج إليه في مرحلة موقَّته. أوَّل نور وصل إلى شاول قال له: «قم وادخل المدينة» (أع 9: 6). ثمَّ كلام حنانيا (آ17). وبعد أن جاءت الظروف تمنعه من التبشير في دمشق وفي أورشليم، كان كلام يسوع: «اخرج من أورشليم (أع 22: 17). ولكن إلى أين؟ وهكذا لبث شاول في البيت إلى أن جاءه برنابا فراحا معًا «إلى أنطاكية، فأقاما سنة كاملة يجتمعان إلى جماعة الكنيسة» (أع 11: 26). كان حنانيا المحطَّة الأولى وبرنابا المحطَّة الأخيرة، فاستضاءت حياة شاول، فلا يبقى له سوى بركة كنيسة أنطاكية لكي ينطلق في رحلات رسوليَّة متتابعة.

الخاتمة

دُعي بولس لكي يكون رسول الأمم. لهذا أمره الربُّ بالخروج من أورشليم. فهو لا يكون الرسول لدى بني أمَّته. بل الربُّ يطلقه إلى البعيد، إلى العالم الوثنيّ، لا مكان ثابتًا للرسول في دمشق، ولا في أورشليم واليهوديَّة. فالعالم الرومانيّ عالمه. هو« مواطن رومانيّ». ومتحضِّر بالحضارة اليونانيَّة. فإلى هناك يجب أن يمضي مهما كانت الصعوبات، ولن يتوقَّف في آسية الصغرى (تركيّا الحاليَّة) بل يصل إلى أوروبّا وينهي حياته في رومة كأسير المسيح والإنجيل. وفي انتظار الوقت الذي فيه يكون شاول كلاٌّ للكلّ، تعمَّق في الإيمان، تعرَّف إلى يسوع، تسلَّم التقاليد حول حياته وموته وقيامته. ما تعلَّم من الرسل بعد أن حسبه البعض أقلَّ من الرسل، بل تعلَّم من المؤمنين وحوَّل هذا التعليم لاهوتًا ولا أسمى، فكان الكاتبَ الأوَّل الذي وصل إلينا منه «إنجيل» هو الرسالة الأولى إلى تسالونيكي. وهكذا بالكلام والكتابة، فتح بولس الطريق، أسَّس الكنائس، مع ذاك النور الذي أطلَّ عليه في مرحلة من حياته ورافقه حتّى النهاية.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM