الفصل الثالث:«شاول، شاول،» لماذا تضطهدني؟

 

الفصل الثالث

«شاول، شاول،»

لماذا تضطهدني؟

ذاك هو الصوت الذي سمعه بولس الرسول وهو يقترب من دمشق (أع 9: 3-4). سمعه بلغة أجداده. هو اسمه في الهويَّة والطفولة، قبل أن يتخلّى عنه في قلب الرسالة مع العالم اليونانيّ. فأجاب شاول: «من أنت يا ربّ؟» ناداه الربُّ كما نادى صموئيل. ناداه مرَّتين والتكرار يدلُّ على عظمة المهمَّة التي تنتظره. عرف شاول هذا الصوت الذي طالما حرَّكه في أعماقه وهو يضطهد المؤمنين ويقسو في الاضطهاد. لطالما تساءل عن يسوع الذي قيل عنه إنَّه مات. لا. هو حيّ. وهو يكلِّمه. سأل شاول من أنت؟ فجاءه الجواب: «أنا يسوع الذي أنت تضطهده» (آ5). حسبتَ أنَّك تضطهد المؤمنين، ولكن في الأساس تريد أن تضطهدني على مثال ما قال رئيس الكهنة: «لا تعلِّموا بهذا الاسم» (أع 5: 28). أجل، أراد شاول أن يلغي اسم يسوع من أفواه المؤمنين. ولهذا لاحقهم لا في أورشليم والجوار فقط، بل مضى إلى دمشق. ومن قلب «التهديد والتقتيل» الذي خطَّط له بولس، انطلقت دعوةُ بولس الرسول: «قُم وادخل المدينة، وهناك يُقال لك ما يجب أن تعمل» (أع 9: 6).

1- سطع نور من السماء

بولس هو في الطريق مع رفاقه. الوقتُ وضحُ النهار. وها هو نورٌ أشدُّ لمعانًا من نور الشمس. وفي قلب هذا النور، أطلَّ وجه يسوع. قيل: كيف عرف بولس وجه الربّ؟ لا شكَّ في أنَّه كان له مجادلات مع المسيحيّين الأوَّلين. والصوت الذي سمع ساعد على التعرُّف إلى هذا الذي يقف في طريق «شاول» ويحوِّل له كلَّ حياته. بدا شاول هنا هاربًا من وجه الربّ، على مثال يونان الذي طُلب منه أن يمضي إلى الشرق، فمضى إلى الغرب. وشاول ما كان يتعب من الاضطهاد والتعذيب، لعلَّه ينتصر على من اعتبره «خصمه» باسم الشريعة. والآن، ها هو يراه. ويعرف من النور الذي سطع أنَّه الربّ.

رأى بولس النور «فوقع على الأرض»، بل سقط راكعًا على وجهه أمام هذا الحضور الإلهيّ. هي قوَّة دفعته إلى السجود. قوَّة ما استطاع أن يقاومها ويا ما أحلاها قوَّة سوف يتذكَّرها في حياته. قوَّة جاءت ضدَّه، ولكن بعد ذلك ستكون معه وتحوِّل ضعفه ووهنه، حيث قال: «أنا قوتي بالمسيح الذي يقوّيني»

ارتعب شاول. كان خائفًا. هناك خوف أوَّل من كلِّ مجهول، لا سيَما وأنَّ النظرة القديمة كانت تعتبر أنَّ مجيء الله يعني أنَّه آتٍ لكي يعاقب، لكي «يقتصَّ» من معاديه ومضطهدي مؤمنيه. أحسَّ شاول في أعماقه أنَّه لم يختلف عن الذين اضطهدوا شعبه في الحقبة السلوقيَّة مع أنطيوخس الرابع أبيفانيوس. ارتعب. ولكنَّ هذا الرعب انقلب إلى خوف، وهي العاطفة التي تحرِّك المؤمن في حضرة الله، وتُعدِّه لتقبُّل الرسالة التي سيوكَل بها. ولبث شاول راكعًا يتحاور مع يسوع إلى أن قال له الربّ: «قم». حينئذٍ قام عن الأرض وعرف ماذا يجب أن يعمل.

تلك الرؤية كانت «الضربة القاضية» في الصراع بين يسوع وبولس. قال له الربّ: «صعب عليك أن تقاومني». وفي لغة الصوَر: «صعب عليك أن ترفس المهماز». والمهماز منخس في رجل الفارس ينخز به الفرس لكي ينطلق ويسرع. فالصورة تعني أنَّك لا تقدر أن تعاند إلى ما لا نهاية. أجل، هذه الشخصيَّة الفذَّة لا تلين بسرعة. ولهذا أراد يسوع أن يأخذه، أن يجعله بين جنوده وجنوده الأوَّلين.

تلك الرؤية نعم بها بولس وحده، كما قال سفر الأعمال (9: 7). يسمعون الصوت. لا شكَّ صوت بولس. وربَّما إشارة صوتيَّة علويَّة. ولكنَّهم «لا يشاهدون أحدًا». وبولس الذي رأى وشاهد، ما عاد يُبصر شيئًا مع أنَّ عينيه مفتوحتان. وجاءت عبارة رمزيَّة تتحدَّث عن «ثلاثة أيّام». فاليوم الثالث هو يوم اللقاء بالربّ وانفتاح البصر. فكأنِّي بشاول لبث «ميتًا» في قبر العمى، قبل أن يقوم مع يسوع. قال النصّ: «بقيَ ثلاثة أيّام مكفوف البصر لا يأكل ولا يشرب» (آ9). أخبرنا لوقا في الإنجيل أنَّ زكريّا والد يوحنّا المعمدان لبث صامتًا حتّى ولادة ابنه. وأخبرنا هنا في سفر الأعمال كيف كان شاول قبل أن تنفتح عيناه على السماء بانتظار اللقاء مع حنانيا.

«يا أخي شاول، أرسلني إليك الربُّ يسوع الذي ظهر لك وأنت في الطريق التي جئت منها، حتّى يعود البصر إليك وتمتلئ من الروح القدس» (أع 9: 17). ولمّا تعمَّد شاول «تساقط عن عينيه ما يشبه القشور، وعاد البصر إليه» (آ18).

عن هذه الخبرة تحدَّث بولس في رسائله. مرَّة من المرّات تساءلوا: من هو هذا الذي يقول مثل هذا القول ويتَّخذ مثل هذه الإجراءات؟ هل يشبه سائر الرسل الذين رافقوا الربَّ خلال حياته على الأرض، ورأوه بعد قيامته؟ فأجاب الرسول: «أما أنا حرّ؟». هي حرِّيَّة في المسيح، وتحرُّر من الشريعة ومن الماضي. «أما أنا رسول؟» وما الذي يدلُّ على أنّي رسول؟ أنتم ختمُ رسالتي، أيُّها الكورنثيّون. أما رأيتم النتيجة، أم تريدون أن تتحوَّلوا عن الذي دعاكم في المسيح؟ وتابع بولس: «أما رأيتُ يسوعَ ربَّنا؟» (1كو 9: 1). الرسل رأوا الربَّ بعد القيامة، وأنا رأيته أيضًا وسمعت صوته، وهو الذي أرسلني.

وفي تعداد الشهود الذين ظهر لهم الربُّ بعد قيامته، وبعد أن ذكر بطرس والاثني عشر. قال: «ظهر لي آخرًا أنا أيضًا» (1كو 15: 8). دعا نفسه «السقط«. هو لم يَنمُ نموٌّا عاديٌّا. فبدا ضعيفًا تجاه من دُعوا »سوبر رسل»، الرسل المتفوِّقين مع أنَّهم ليسوا من مصاف الاثني عشر. هم دعوا نفوسهم كذلك.

وتابع الرسول كلامه: «فما أنا إلاّ أصغر الرسل، ولا أحسب نفسي أهلاً لأن يدعوني أحدٌ رسولاً لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله. وبنعمة الله أنا ما أنا عليه الآن، ونعمته عليَّ ما كانت باطلة، بل إنّي جاهدتُ أكثر من سائر الرسل كلِّهم، وما أنا الذي جاهدت، بل نعمة الله التي هي معي» (آ9-10). ويُنهي كلامه: «أكنتُ أنا أم كانوا هم، هذا ما نبشِّر به وهذا ما به آمنتم» (آ1).

أجل، نعمة الله هي الفاعلة. جعلت بولس أهلاً لأن يكون رسولاً. وهي مجّانيَّة. وإن كان شدَّد سفر الأعمال على صفة بولس كمضطهِد، فلكي يبيِّن مجّانيَّة الدعوة التي نالها «شاول». لم يكن أفضل من إخوته، بني قومه. ومع ذلك دعاه الله. وجعله مثالاً للذين يريدون أن يأتوا إليه، مهما كان عمق خطيئتهم. نور جاء على بولس من السماء. وسيرافقه هذا النور طوال حياته، ويعطيه قوَّة الجهاد إلى النهاية. هو نور خلقه من جديد، وتبديل الاسم أكبر برهان على ذلك. نسيَ هذا المدعوُّ الماضي، ترك اسم شاول، وتطلَّع إلى المستقبل، إلى الرسالة التي تنتظره، فأخذ اسم بولس. في هذا الإطار قال: 'نحن لا نبشِّر بأنفسنا، بل بيسوع المسيح ربٌّا، ونحن خدم لكم من أجل المسيح. والله الذي قال: «ليُشرق من الظلمة النور» هو الذي أضاء نورُه في قلوبنا لتشرق معرفة مجد الله، ذلك المجد الذي على وجه يسوع المسيح» (2كو 4: 5-6).

2- شاول، أنا يسوع

رأى شاول النورَ الساطع، فعميَ موقَّتًا قبل أن يعود إليه النظر. لا نظر العينين فقط، بل نظر القلب والإيمان. كان في الظلمة وها هو في النور. كان في إطار الشريعة فدخل إلى عالم النعمة واكتشف المجد »الذي على وجه يسوع المسيح». رأى، والآن سمع. لبث راكعًا مثل صموئيل: «تكلَّم يا ربّ فإنَّ عبدك يسمع». سمع الرفاقُ الصوت، ولكنَّهم لم «يروا». هم ما كانوا مستعدِّين مثل شاول لكي يتعرَّفوا إلى هذا الصوت. شابهوا رئيس المتَّكأ في عرس قانا الجليل. ذاق الخمرة الطيِّبة ولم يذهب أبعد من سؤال يُثني به على العروسين، ناسيًا العريس الحقيقيّ، يسوع، الذي قدَّم هذه الخمرة الجديدة. بل شابهوا الخدم الذين ملأوا الجرار ماء وها هو صار خمرًا. لا بدَّ أن يكون رفاق شاول عرفوا بعض صراعه «مع الربّ» من خلال اضطهاد المؤمنين، ولكنَّهم لبثوا غرباء. قال سفر الأعمال في موضع آخر: «وكان الذين معي (أنا بولس) يرون النور ولا يسمعون صوت من يخاطبني» (أع 22: 9).

الربُّ يظهر، فمن يراه؟ يتكلَّم، فمن يسمعه؟ أمّا بولس فرأى وسمع. وسوف يُنفِّذ ما يُطلب منه، على مثال الأتقياء في العهد القديم. دعا الله إبراهيم: «انطلق»، فانطلق. دعا النبيّ عاموس من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. قال له: «اذهب». فذهب. ويوسف، خطِّيب مريم، لبث في السرِّ الإلهيّ. ولكن حين أمره الملاك بأن يأخذ مريم إلى بيته، عمل حالاً »بما أمره ملاك الربّ». مثل هؤلاء فعل شاول.

أساس السماع لدى بولس: «أنا يسوع». هو الربُّ يتكلَّم. فمع الربّ، لا سبيل للمقاومة، بل للطاعة المطلقة. جاء أمرٌ أوَّل: «قم وادخل المدينة وهناك يُقال لك ما يجب أن تعمل» (أع 9: 6). دائمًا، يدعونا الربُّ ولا يُوضح لنا. هذا على المستوى البشريّ ما حصل لإبراهيم: »نطلق إلى المكان الذي سوف أدلُّك عليه». انطلق إبراهيم. وانطلق شاول إلى المدينة. ولكن ماذا في المدينة؟ هو الربُّ يقود خطى من سيكون رسوله: «أدخل المدينة». أيَّة مدينة؟ تلك التي أنت ذاهب إليها لكي تضطهدني. هو ما عرف. «فقادوه (رفاقه) بيده إلى دمشق» (أع 9: 8). ولماذا لا إلى أورشليم، وهناك يرى الرسل، ويستقي من نبع الاثني عشر؟ لا مجال للعودة إلى أورشليم إلاّ بطريقة عابرة. فطريق بولس تتَّجه إلى الأمم، لا إلى الشعب اليهوديّ الذين ينال منهم الاضطهاد حتّى الموت.

نتذكَّر هنا أنَّ دمشق كانت واحدة من المدن العشر (ديكابوليس) التي تحضَّرت بالحضارة اليونانيَّة، مع جرش وفيلدلفية (= عمّان الحاليَّة) وغيرهما من المدن. والجماعة هناك شابهت جماعة إسطفانس بوجهها الهلّينيّ (اليونانيّ)، بعد أن كان لها مجمع خاصٌّ بها في أورشليم. لا مجال للعودة إلى أورشليم والتشديد على الشريعة التي ستكلِّف بولس القيود والسجن حين يأتي إليها في نهاية أسفاره الرسوليَّة (أع 21: 27: قبضوا عليه).

ومن هو حنانيا الذي سيأتي إلى بولس؟ شخص غير معروف. هو خادم في إحدى الجماعات المسيحيَّة التي انتشرت باكرًا في دمشق وفي ما دُعيَ «بلاد العرب» (أي حوران السوريَّة) وفي مناطق واقعة في شرق الأردنّ. كان بإمكان شاول أن يسأل: من هو حنانيا هذا؟ لماذا لا يرسلني الربُّ إلى بطرس ويعقوب ويوحنّا، هؤلاء المميَّزين الثلاثة بين الرسل؟ كان بمقدوره أن يفعل مثل نعمان السوريّ الذي رفض أن يقوم بعمل عاديّ طلبه منه النبيّ إليشع: »اذهب إلى الأردنّ واغتسل«. قال نعمان: «كنتُ أحسب... ». وفي النهاية، أطاع. ولمّا اغتسل تعافى. أتُرى شاول عاند؟ يبدو أنَّ هذا الذئب «بين الذئاب » (مت 10: 16) صار حملاً وديعًا. قبِل العماد وشارك في العشاء الربّانيّ، «فعادت إليه قواه»، قوى الجسد وقوى الروح.

«قم وادخل المدينة«. ذاك كان الأمر الأوَّل. سمعه شاول وعمل به، وصار تلميذًا بين التلاميذ، في دمشق وفي بلاد العرب. «ثلاث سنوات» (غل 1: 18). وبدأ البشارة في دمشق، فهُدِّد. حينئذٍ «أخذه التلاميذ ليلاً ودلُّوه من السور في قفَّة» (أع 9: 25). ومضى إلى أورشليم، فخافوا منه (آ26). وهناك سمع بولس صوتًا آخر رواه أمام اليهود المتحلِّقين حوله. قال: «ثمَّ رجعتُ إلى أورشليم. وبينما أنا أصلّي في الهيكل، وقعتُ في غيبوبة، فرأيتُ الربَّ يقول لي: أسرع في الخروج من أورشليم، لأنَّ الشعب هنا لا يقبلون شهادتك لي... هيّا، سأرسلك إلى مكان بعيد، إلى غير اليهود من الشعوب» (أع 22: 17-18، 21).

وها هو الأمر الثاني من قِبَل الربّ. اعتبر شاول أنَّ الرسالة ممكنة وسط شعبه. يعرف عاداتهم وتقاليدهم، كما يعرف العدد الكبير منهم. كما حسب أنَّ تبشيره في أورشليم سيكون له الوقع الكبير. قال للربّ: «هم يعرفون جيِّدًا يا ربّ، أنّي كنت أدخل المجامع وأعتقل المؤمنين» (آ19). بهذه الطريقة أكون شاهدًا لك: ماذا كنتُ وإلى أين وصلتُ. ولكن طرق الربِّ غير طرق البشر. أُرسلُك إلى البعيد. يعني إلى الأمم الوثنيَّة. ولكن كيف العمل؟ فجاء الجواب: «تكفيك نعمتي».

طاعة الربِّ تكلِّف الكثير وهو الذي وعدنا بالاضطهادات (مر 10: 30) مع العطايا التي يغدقها علينا. والرسول نفسه قال: «أنعم (الله) عليكم. لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألَّموا لأجله» (فل 1: 29). تحمَّس بولس في البداية، وبدأ سريعًا يبشِّر»في المجامع بأنَّ يسوع هو ابن الله» (أع 9: 20). تعجَّب الناس من هذا المضطهِد؟ هل تساءلوا عن السبب، هل آمنوا؟ بل تحيَّروا. وفي النهاية «وضع اليهود خطَّة ليقتلوه» (آ23). وهكذا فشلَ في دمشق فشلاً ذريعًا، فجاءت النتيجة عكس ما توقَّع. وكذلك كان الوضع في أورشليم. «كان يخاطب اليهود المتكلِّمين باللغة اليونانيَّة ويجادلهم، فحاولوا أن يقتلوه» (آ29). إذًا، لا مجال للرسالة! منذ البداية هو الاضطهاد. لماذا دعاه الربُّ؟ وشابه بولس إرميا النبيّ الذي «تذمَّر» على الله بسب الصعوبات التي يلاقيها حين يحمل كلام الربِّ. حاول إرميا أن يترك أورشليم ويعود إلى أرضه في عناتوت، فلم يسمح له الربّ. وكذلك «شاول» عاد إلى طرسوس، عند والديه وفي بيته. في الطريق إلى دمشق، سأل الربّ: «ماذا تريد أن أعمل؟« كان جواب أوَّل: امضِ إلى دمشق. مضى إلى هناك وعمل ما أُمر به. والآن، ماذا بعد ذلك؟ لا جواب عنده. فكأنّي به اعتبر الأمور انتهت عند هذا الحدّ. يكون في مدينته ويشهد للربِّ يسوع. ولكن لا. فهنا البداية. وعلى شاول أن ينتظر النهاية كما أوردها الربُّ في مسمع حنانيا: «اخترتُه (= أنا يسوع) رسولاً لي يحمل اسمي إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل، وسأريه كم يجب أن يتحمَّل من الآلام في سبيل اسمي» (أع 9: 15-16).

3- بين حنانيا وبرنابا

حضور الله نورٌ نحتاج إلى بعض الوقت لكي نتبيَّن ملامحه. وصوت الله صمتٌ نحتاج إلى صوت بشريّ لكي نتبيَّنه. تلك كانت حالة صموئيل حين سمع الربَّ يناديه. ثلاث مرّات لم يعرف الصبيّ، لا سيَّما وأنَّ «كلمة الربِّ (كانت) نادرة والرؤى قليلة في ذلك الزمان» (1صم 3: 1). ومضى صموئيل ثلاث مرّات إلى عالي الكاهن: «دعوتني، فها أنا». وفي النهاية وجَّه الكاهنُ صموئيلَ نحو الله. ونقول الشيء عينه حين يدعو الربَّ واحدًا منّا إلى دعوة خاصَّة. هو الغموض والضباب. ماذا نفعل؟ بل الرسل أنفسهم أرادوا العودة إلى الصيد، بعد خبرة القيامة. ولكنَّ الربَّ كان ينتظرهم عند الشاطئ.

وشاول! سمع صوتًا أوَّل بفم حنانيا. هو يهوديّ كما كان شاول قبل اهتدائه. هو رجل تقيّ، متمسِّك بالشريعة، يشهد له جميع اليهود في دمشق (أع 22: 12). هو رجل مثاليّ في محيطه. وهذا الشابّ «الضائع» يستطيع أن يسمع له بثقة وراحة قلب. تردَّد بولس. ماذا ينتظر؟ قال له حنانيا: «لا تبطئ» (آ16). أكَّد له الرؤية التي رأى والكلام الذي سمع. لا تخف. ما هي أضغاث أحلام، ولا تجربة شيطانيَّة تحاول أن تبعدك عن إيمان الأجداد. فأنا كنت قبلك. وها أنا تلميذ من تلاميذ الربِّ يسوع (أع 9: 10: تلميذ اسمه حنانيا). يا بولس، لن تكون خائنًا لإيمان الأجداد، بل تُوصل هذا الإيمان إلى كماله، حين يصبُّ في شخص المسيح. إذا رفضتَ يتمُّ فيك كلام أشعيا: «مددتُ (الربُّ يتكلَّم) يديَّ طوال النهار لشعب متمرِّد عنيد» (أش 65: 2). أنت، يا شاول، طلبتَ الربَّ فوجدته، بحثتَ عنه فظهر لك (رو 10: 20). فماذا تنتظر؟

دعا حنانيا بولس: «أبصر». تطلَّعْ، امشِ في الطريق ولو كنتَ مثل أعمى أريحا الذي قفز آتيًا إلى يسوع. قال له الربّ: امضِ. فمضى وراءه في الطريق. وعندئذٍ أبصر. وقال حنانيا: »إله آبائنا اختارك لتعرف مشيئته وتشاهد فتاه البارّ وتسمعه يكلِّمك« (أع 22: 14). لا، لن تكون خائنًا. إله الآباء اختارك، كما اختار الأنبياء والملوك. عرَّفك مشيئته على مثال ما فعل مع أشعيا: «من أرسل؟ من يكون رسولاً لنا؟... اذهبْ وقلْ لهذا الشعب» (أش 6: 8-9). أرادك «البارَّ» الذي »حمل أوجاعنا وأخذ عاهاتنا« كما قال عنه أشعيا أيضًا. وأخيرًا، سمعتَه يكلِّمك، فماذا تنتظر لتقوم بخطوة الإيمان وتتقبَّل العماد «فتتطهَّر من خطاياك» (أع 22: 16).

أطاع شاول هذا الصوت البشريّ، الآتي من أعماق العالم اليهوديّ، وصار تلميذًا على مثال ذاك الذي نشّأه في الإيمان المسيحيّ. ومضى هذا المعمَّد الجديد يبشِّر، على مثال تلميذٍ آخر اسمه «لجيون». جلس عند قدمي الربّ، تتلمذ له، كما فعلت مريم أخت مرتا. ثمَّ اعتمد فصار «لابسًا» المسيح (مر 5: 15). قال فيه الإنجيل: «فذهب (هذا) الرجل وأخذ ينادي في المدن العشر» (آ 20). طلبت المنطقةُ من «يسوع أن يرحل عن ديارهم» (آ17). ولكن لا بأس. فالتلميذ يواصل عمل المعلِّم. وفي المنطقة التي بدأ فيها شاول رسالته: في دمشق، إحدى المدن العشر.

سمع شاول وما تردَّد ولا تباطأ. فالله يكلِّمنا من خلال الأشخاص الذين نلتقي بهم، ولا سيَّما إذا كانوا من السامعين لكلام الله والخاضعين لمشيئته. سمع كلامَ حنانيا. وسوف يسمع كلام برنابا. كان اسمه يوسف. هو لاوي أو خادم من خدّام الهيكل. وإذا كان بولس ابن طرسوس، فبرنابا هو ابن قبرص. بدَّل الرسل اسم يوسف هذا، فدعوه «ابن التعزية، برنابا» (أع 4: 36). رجل متجرِّد. قال فيه سفر الأعمال: «باع حقلاً يملكه، وجاء بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل» (آ37). بما أنَّ كلَّ شيء كان مشتركًا بين المسيحيّين الأول، فلماذا لا يعمل بحيث لا يكون واحدٌ «منهم في حاجة» (آ34).

برنابا هو بلا شكّ من »الجماعات الهلّينيَّة« في الكنيسة الأولى، فشكَّل جسرًا متينًا بين المؤمنين الآتين من العالم العبريّ والآتين من العالم اليونانيّ. ولهذا، لمّا جاء شاول إلى أورشليم وتخوَّف منه التلاميذ في أورشليم (أع 9: 26)، قدَّمه برنابا »إلى الرسل، وروى لهم كيف رأى شاولُ الربَّ في الطريق وكلَّمه الربّ، وكيف بشَّر بشجاعة باسم يسوع في دمشق« (آ27). وهكذا بدأت العلاقة بين «رسولين» آتيين من العالم اليهوديّ (واحد فرّيسيّ، هو شاول، والآخر لاوي هو برنابا) صارا تلميذين للربّ. وسوف يترافقان في الرحلة الرسوليَّة الأولى، إلى قبرص ثمَّ إلى كيليكية في تركيّا الحاليَّة. لا شكَّ في أنَّه سيكون خلاف بحيث افترق الواحد عن الآخر، فواصل بولس رحلاته إلى آسية الصغرى (تركيّا) وصولاً إلى أوروبّا، بينما عاد برنابا إلى قبرص. والسبب كان أكثر من اختلاف في وجهات النظر حول مرقس، الذي تركهما وعاد إلى أورشليم.

ونعود إلى الوراء. امتدَّت الرسالة الأورشليميَّة إلى السامرة أوَّلاً مع فيلبُّس، وجاء بطرس ويوحنّا، فكرَّسا عمل هذا «المبشِّر» اليونانيّ الذي عُيِّن خادمًا للكلمة وللمائدة، مثل إسطفانس وغيره (أع 6: 5). ثمَّ امتدَّت إلى أنطاكية. ولكن تبدَّل الوضع تبدُّلاً جذريٌّا. هنا نسمع ما يقول لوقا في أعمال الرسل: «وأمّا المؤمنون الذين شتَّتهم الاضطهاد... فكانوا لا يبشِّرون أحدًا بكلام الله، إلاّ اليهود. ولكنَّ بعض هؤلاء المؤمنين من قبرص وقيرين (في ليبيا الحاليَّة) جاؤوا إلى أنطاكية وأخذوا يخاطبون الناطقين باللغة اليونانيَّة (حرفيٌّا: اليونانيّين، أو الذين لم يكونوا من اليهود) أيضًا ويبشِّرونهم بالربِّ يسوع» (أع 11: 19-20). تفلَّتت الكنيسة الأولى من «النير» اليهوديّ، وسوف تعرف قريبًا في «مجمع أورشليم» (سنة 49) أنَّ الوثنيّين يخلصون بنعمة الربِّ يسوع، كما اليهود (أع 15: 11). وبالتالي، لا حاجة إلى المرور بالشريعة والختان والمحافظة على المتطلِّبات اليهوديَّة.

من يمضي إلى أنطاكية؟ الرسل لا يقدرون. فهم ما زالوا متعلِّقين بالنظم اليهوديَّة. والمثال على ذلك كان بطرس في أنطاكية. كان المؤمنون، يهودًا ووثنيّين، يأكلون معًا عشاء المحبَّة بانتظار العشاء القربانيّ. ولمّا جاء أناس من جماعة يعقوب، انفصل بطرس عنهم (= أي المؤمنين الآتين من العالم الوثنيّ) «خوفًا من دعاة الختان. وجاراه سائر اليهود في ريائه» (غل 2: 13). أجل، احتاجت «الرسالة المبتدئة» في أنطاكية تلميذًا من الاتِّجاه الهلّينيّ. لهذا أرسلت أورشليمُ برنابا (أع 11: 22).

وبرنابا هذا جعله الربُّ في طريق شاول، لكي يدعوه إلى العمل الذي ينتظره في الأمم الوثنيَّة. بم تميَّز برنابا؟ هو رجل صالح، طيِّب، مستقيم. هي صفة بشريَّة هامَّة لكي يجمع الطرفين، الطرف اليهوديّ والطرف اليونانيّ. والأهمُّ من ذلك: «كان ممتلئًا من الروح القدس» (آ23). فالروح هو الذي يوجِّه الرسالة. وإنَّ امتلأ منه برنابا، فلا خوف على الإنجيل. وأضاف لوقا في سفر الأعمال: كان ممتلئًا «من الإيمان». فبالإيمان نرى ما لا يُرى، كما قالت الرسالة إلى العبرانيّين. وفي الواقع، «جاء (برنابا) ورأى نعمة الله» (آ23). رأى الرسالة، فرح، شجَّع هؤلاء المرسلين، كما شجَّع المؤمنين «كلَّهم على الثبات في الربِّ بكلِّ قلوبهم».

وخصوصًا، رأى برنابا الشخص المناسب من أجل هذه الرسالة الجديدة. فالروح وجَّهه، «فذهب إلى طرسوس يبحث عن شاول، فلمّا وجده جاء به إلى أنطاكية» (آ25-26). لو أنَّ برنابا لم يأتِ إلى طرسوس، لبقيَ بولس في مدينته، يعمل في صنعته، ربَّما مع والديه. ولكنَّ الربَّ أرسل إليه من يدعوه. كان باستطاعته أن يقول له: من أنت، وما هي صفتك؟ ربَّما هي الصداقة التي جمعت بين الرجلين منذ اللقاء في أورشليم. وفي أيِّ حال، لم يكن بولس يعرف إلى أين ستقوده هذه البداية الأنطاكيَّة. جاء به برنابا إلى أنطاكية، فجاء. ويتابع لوقا: «فأقاما سنة كاملة يجتمعان إلى جماعة الكنيسة، فعلَّما جمعًا كبيرًا» (آ26).

هكذا يعمل الربُّ مع كلِّ واحد منّا. رسالةٌ محدودةٌ، مهمَّةٌ، مرتبطةٌ بمكان معيَّن وزمن قصير أو طويل. ولكنَّ بولس الذي قال: حياتي هي المسيح، واعتبر أنَّ كلَّ ما كان عنده من غنى هو «نفاية» تجاه الغنى الذي يقدِّمه يسوع، بولس هذا انطلق في رفقة الربِّ يسوع، حتّى النهاية. فأورد لوقا دفاع بولس أمام الملك أغريبّا: «ومن تلك الساعة، أيُّها الملك أغريبّا، ما عصيتُ الرؤيا السماويَّة، فبشَّرتُ أهل دمشق أوَّلاً، ثمَّ أهل أورشليم وبلاد اليهوديَّة كلَّها، ثمَّ سائر الأمم داعيًا إلى التوبة والرجوع إلى الله والقيام بأعمال التوبة» (أع 26: 19-20).

الخاتمة

شاول. هكذا ناداه الربّ. دعاه من عالم الاضطهاد والرفض، إلى عالم القبول التامّ والمسيرة مع يسوع المسيح. رأى الربّ. سمع صوته. دخل في عمق الرؤية. فتح قلبه فاستمع إلى كلام الله. كما استمع إلى كلام البشر. فبدا حنانيا وبرنابا، مثل إليهو، ذاك الحكيم الذي أعدَّ أيّوب لرؤية الربّ بعد أن يسمع كلامه. دعوة من عند الربِّ تلتقي بدعوة من عند البشر، تلك طريقة ذاك الذي هو إله وإنسان، نرى وجهه الإلهيّ كما نرى وجهه البشريّ من خلال الأشخاص الذين يرسلهم إلينا. سمع بولس، لبّى النداء، فصار رسول الأمم. أمّا الانطلاقة فلن تكون أورشليم، بل أنطاكية، بانتظار أن ينتقل مركز الثقل إلى رومة. فلماذا لا يمضي بولس أيضًا إلى إسبانيا، إلى آخر العالم المعروف في ذلك الزمان؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM