الفصل الخامس:في أنطاكية تسمّى التلاميذ مسيحيّين

 

الفصل الخامس

في أنطاكية تسمّى التلاميذ مسيحيّين

وهرب التلاميذ من أورشليم بعد أن شتَّتهم الاضطهاد على أثر موت إسطفانس رجمًا. ومرُّوا في مدن الساحل، بل وصلوا إلى قبرص ومصر وليبيا، وفي النهاية، وصلوا إلى أنطاكية. كانت عاصمةَ السلوقيّين فتسمَّت باسم الملك أنطيوخس. أسَّسها سلوقس الأوَّل إكرامًا لأبيه في 22 أيّار سنة 300 فصارت من أكبر الحواضر في الشرق. ولمّا جاء الرومان، جعلوها عاصمة سورية الرومانيَّة، هذه المدينة المبنيَّة على العاصي في سهل واسع، وعلى الطريق الرئيسيّ الذي يربط فينيقية بسورية وصولاً إلى بلاد الرافدين. مدينة عدَّت في الحقبة الرومانيَّة قرابة نصف مليون من السكّان فجاءت بعد رومة والإسكندريَّة والتقت فيها حضارتان: اليونانيَّة في داخل أسوارها، واليونانيَّة في الضواحي والامتداد الريفيّ. هناك تحرَّر تلاميذ المسيح واتَّخذوا اسمًا خاصٌّا بهم. فقال القدّيس لوقا: «في أنطاكية تسمَّى التلاميذ أوَّل مرَّة بالمسيحيِّين» (أع 11: 26).

1- الرسالة إلى أنطاكية

ما يلفت النظر في بداية الكنيسة هو أنَّ المرسلين الأوَّلين لم يكونوا الرسل في تلك الحواضر الكبيرة. من بشَّر الإسكندريَّة؟ لا كلام عن رسول من الرسل وفي القرن الرابع، ارتبطت هذه الكنيسة باسم مرقس الإنجيليّ. من بشَّر رومة؟ ربَّما التجّار والجنود والعبيد. هم يتنقَّلون من مدينة إلى مدينة بحكم أعمالهم وينقلون معهم الإنجيل. وصل بطرس فاستقبلوه. أمّا سفر الأعمال فيروى لنا كيف استقبلوا بولس الآتي كسجين للمسيح: «وسمع الإخوة في رومة بوصولنا، فخرجوا للقائنا إلى ساحة مدينة أبيّوس والحوانيت الثلاثة. فلمّا رآهم بولس شكر الله وتشجَّع» (أع 28: 15). أجل، سبقت الرسالة في رومة بطرس وبولس. هي الكنيسة تتوسَّع، وجسد المسيح يمتدُّ فيضمُّ الأعضاء الجدد ولا يزال إلى اليوم مئات الآلاف يأخذون الاسم المسيحيّ بالرغم من الصعوبات والاضطهادات حيث السياسة تسيطر باسم الدين ويخاف الحاكم على سلطانه.

ومن بشَّر أنطاكية؟ هنا نسمع خبر القدِّيس لوقا في سفر الأعمال. «وأمّا المؤمنون الذين شتَّتهم الاضطهاد... فانتقلوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكية» (أع 11: 19). كانت المسيحيّة قديمة على الشاطئ. في صور «وجدنا التلاميذ هناك، فأقمنا عندهم ثلاثة أيّام» (أع 21: 4). وفي بتوليمايس التي هي عكّا القريبة من حيفا، »سلَّمنا على الإخوة هناك وأقمنا عندهم يومًا واحدًا« (آ7). وفي قيصريَّة الواقعة على شاطئ البحر والتي كانت مركز الحكم الرومانيّ «دخلنا بيت فيلبُّس، المبشِّر، أحد السبعة ونزلنا عنده» (آ8).

أسماء ذكرها سفر الأعمال. أمّا كتاب التعارفات الذي نُسب إلى كليمان، البابا الثالث بعد القدّيس بطرس (88-97)، فيذكر إقامة بطرس في طرابلس حيث بشَّر الوثنيّين وعرَّفهم إلى الإله الواحد. وواصل بطرس طريقه فانتقل إلى جزيرة أرواد، ثمَّ إلى اللاذقيَّة. وهكذا كما انتشر الإنجيل سريعًا في الشرق، ولا سيَّما في المدن العشر مثل دمشق وجرش وفيلدلفية (عمّان الحاليَّة) وبلاّ وأبيلا وبيت شان... كذلك امتدَّ على الشاطئ وهناك مرَّ المرسلون الأوَّلون بعد أن شتَّتهم الاضطهاد. أيكون بولس هو من فعل؟ ربَّما. وفي أيِّ حال، وجدناه ماضيًا إلى دمشق متحدِّثًا عن المعاملة السيِّئة التي كان يعامل بها المسيحيّين، فيسوق «الرجال والنساء الذين يجدهم هناك على مذبح الربّ، ويجيء بهم إلى أورشليم» (أع 9: 2).

وفي أنطاكية كان تحوُّل كبير لم تستطع كنيسة أورشليم أن تستوعبه: مخاطبة اليونانيّين وتبشيرهم. فالجماعة القابعة في أورشليم حصرت نفسها في العالم اليهوديّ. ولمّا مضى بطرس إلى كورنيليوس، ذاك الخائف الله، والعارف بالكتب المقدَّسة دون أن يقبل الختان ليكون يهوديٌّا تامٌّا، لمّا مضى إليه وبشَّره فأجبره الروح على تعميده، «اصمه أهلُ الختان وقالوا له: «دخلتَ إلى قوم غير مختونين وأكلتَ معهم» (أع 11: 2-3). فأُجبر بطرس على تبرير موقفه. جاء الربُّ في رؤيا. وخصوصًا استبق الروح ما كان يمكن بطرس أن يفعل، قال: «فلمّا بدأتُ أتكلَّم، نزل الروح القدس عليهم مثلما نزل علينا نحن في البدء» (آ15). وأنهى كلامه: «فمن أكون أنا لأقاوم الله؟» (آ17).

والسؤال: هل تبقى الكنيسة حركة يهوديَّة شأنها شأن الفرّيسيّين والصادوقيّين وغيرهم؟ هذا مستحيل والربُّ أرسلها من أورشليم إلى اليهوديَّة كلِّها، إلى السامرة، وإلى أقاصي الأرض (أع 1: 8). وكانت المحطَّة الثانية بعد اليهوديَّة، في السامرة. إلى هناك مضى فيلبُّس، أحد السبعة. هو الخطُّ الهلّينيُّ في الكنيسة الذي ترأَّسه إسطفانس ومات شهيدًا. هم أصحاب اللغة اليونانيَّة الذين اشتكوا من أنَّ أراملهم «لا يأخذن نصيبهنَّ من المعيشة اليوميَّة« (أع 6: 1). وبشَّر فيلبُّس السامريّين، هؤلاء المنشقّين في نظر اليهود الذين قال فيهم يشوع بن سيراخ: هم »القوم الأغبياء الساكنون في شكيم« (سي 50: 29) الذين »لا يستحقّون أن يُدعَوا أمَّة«. فحلَّ بأورشليم ذعر مفاجئ: ما العمل؟ أفلتت الأمور من أيدينا. فلا بدَّ من إسكاتها. لهذا أُرسل بطرس ويوحنّا (أع 8: 14)، وكأنَّهما يربطان السامريّين الذين »قبلوا كلام الله» بكنيسة أورشليم. وتوقَّفت الأمور عند هذا الحدّ. لا. بل هي انطلقت ولن تتوقَّف مع هؤلاء السبعة الذين »رُسموا» لكي يهتمُّوا بالمعيشة والموائد، ومع الذين ساروا في خطِّهم وصولاً إلى برنابا وشاول والفريق الرسوليّ الذي جاب آسية الصغرى وأوروبّا وصولاً إلى رومة.

قال سفر الأعمال: أمّا المؤمنون «فكانوا لا يبشِّرون أحدًا بكلام الله إلاّ اليهود» (أع 11: 19). هم توقَّفوا عند المرحلة الأولى، حيث قال يسوع: «ما أرسلني الله إلاّ إلى الخراف »الضالَّة من بني إسرائيل» (مت 15: 24). ولكنَّ الروح هو هنا. ويتابع القدّيس لوقا خبره: «ولكنَّ بعض هؤلاء المؤمنين من قبرص وقيرين (في ليبيا الخاليَّة) جاؤوا إلى أنطاكية وأخذوا يخاطبون الناطقين باللغة اليونانيَّة أيضًا، ويبشِّرونهم بالربِّ يسوع» (أع 11: 20). تلك كنيسة حيَّة. لا كنيسة ميِّتة مختبئة وراء عاداتها وتقاليدها، ولا تريد أن تخرج منها. فالماء الجاري يتجدَّد. أمّا الماء المحصور في موضع واحد، فآخرته تعيسة إن لم يتبخَّر شيئًا فشيئًا. أما هكذا صارت جماعاتنا في هذا الشرق إن لم نقُل طوائفنا؟ ولهذا نحن نحتاج إلى أن نتعلَّم من هؤلاء المؤمنين »الذين شتَّتهم الاضطهاد». ما هربوا إلى الجبال، ولا اختبأوا في المغاور، بل مضوا يفتتحون البلدان لاسم الربِّ يسوع. والنتيجة الرائعة: «وكانت يدُ الربِّ معهم، فآمن منهم كثيرون واهتدوا إلى الربّ» (آ21). وكان فرحٌ في السماء، لا لخاطئ واحد يتوب (لو 15: 7)، بل لآلاف المؤمنين الذين أخذوا اسمًا جديدًا، اسمًا خاصٌّا بهم، يربطهم بربِّهم ومعلِّمهم يسوع المسيح.

«والكنيسة في أورشليم»؟ (آ22). سمعت بالخبر، «فأرسلت برنابا إلى أنطاكية« فبرنابا هو في الوسط. من جهة هو لاوي وبالتالي مرتبط بالتقاليد اليهوديَّة. وحين «انحشر» ترك بولس ومضى مع بطرس «خوفًا من دعاة الختان» (غل 2: 12). ومن جهة ثانية، هو من قبرص ومتحضِّر بالحضارة اليونانيَّة، مثل بولس. هل يتطلَّع هؤلاء المؤمنون الجدد إلى أورشليم على ما كان الأنبياء يقولون: ثروة البحار، قوافل الجمال، جزر البحر، سفن ترشيش (أش 60: 1ي)، جميعهم يأتون إلى أورشليم. أم يستطيع الناس أن يقدِّموا ذبيحة للربّ ولو كانوا في عرض البحر؟ (يون 2: 16). ويستطيعون أن يصوموا ويتوبوا في مدينة شرّيرة مثل نينوى (يون 4: 11). وهكذا انتقل مركز هذه الجماعات إلى أنطاكية، ولبثت أورشليم مرتبطة بيعقوب، ممارسةً الشريعة اليهوديَّة كما يقدِّمها سفر اللاويّين.

جاء برنابا، ذاك المؤمن، ذاك الممتلئ من الروح القدس (أع 11: 24). وماذا رأى؟ لا جماعة تشبه جماعة أورشليم، لأنَّ لكلِّ جماعة خصوصيَّتها. بل «رأى نعمة الله» (آ23) الفاعلة في هؤلاء الناس، «ففرح، وشجَّعهم كلَّهم على الثبات في الربِّ بكلِّ قلوبهم». وما اكتفى أن يرى، بل عملَ مع العاملين، بحيث »انضمَّ إلى الربِّ جمع كبير« (آ24). ولكنَّ الرسالة واسعة، وبرنابا وحده لا يكفي. فلا بدَّ من الرجل المناسب. اسمه شاول. عرفه برنابا في أورشليم، «وجاء به إلى الرسل، وروى لهم كيف رأى شاولُ الربَّ في الطريق وكلَّمه الربّ، وكيف بشَّر بشجاعة باسم يسوع في دمشق«» (أع 9: 37). ومضى برنابا إلى طرطوس. بحث عن شاول وجاء به إلى أنطاكية فعملا معًا: «فأقاما سنة كاملة يجتمعان إلى جماعة الكنيسة، فعلَّما جمعًا كبيرًا» (أع 11: 26).

نجاح باهر في أنطاكية. عنه تكلَّم لوقا ثلاث مرّات: آمن كثيرون (آ21)، انضمَّ جمع كبير (آ24)، فعلَّما جمعًا كبيرًا (آ26). وهكذا سوف تنتقل مركزيَّة الرسالة الجديدة إلى أنطاكية. دُعيَ المؤمنون بأسماء عديدة: أهل الطريق أو المذهب، جماعة الناصريّين... أمّا «في أنطاكية فتسمّى التلاميذ أوَّل مرَّة بالمسيحيّين» وما زال هذا الاسم اسمهم ولن يزال حتّى نهاية التاريخ. وكلُّ اسم غير هذا الاسم يدلُّ على جماعة منعزلة أو فرقة تركت أختها واعتبرت نفسها «الكنيسة الصحيحة». فما يجمع المعمَّدين في العالم كلِّه هو اسم يسوع المسيح، إذ «ما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص» (آع 4: 12).

2- الرواية الغلاطيَّة

ذاك ما قرأناه في أعمال الرسل. وماذا يقول القدّيس بولس في الرسالة إلى غلاطية؟ يقول: قُسِّم العملُ الرسوليّ. منهم من يبشِّر الوثنيّين ومنهم من يبشِّر اليهود، بحيث يجتمع المسيحيّون كلُّهم حول المائدة الواحدة، «داومون على الاستماع إلى تعليم الرسل، وعلى الحياة المشتركة وكسر الخبز والصلاة« (أع 2: 42). ولكن غاب هذا المناخ في أنطاكية، لأنَّ العنصر الآتي من العالم اليهوديّ أراد أن يسيطر على العنصر الآتي من العالم الوثنيّ: «إن لم تختتنوا على شريعة موسى، فلا خلاص لكم« (أع 15: 1). وهكذا يثقل نير الشريعة اليهوديَّة على رقاب المؤمنين، مع أنَّ يسوع أعطانا نيرًا آخر «النير الهيِّن والحمل الخفيف» (مت 11: 30). وقال بطرس في اجتماع أورشليم: «فلماذا تجرِّبون الله الآن بأن تضعوا على رقاب التلاميذ نيراً عجز آباؤنا وعجزنا نحن عن حمله؟ خصوصًا ونحن نؤمن أنَّنا نخلص بنعمة الربِّ يسوع كما هم يخلصون» (أع 15: 10-11).

هم أيّ المسيحيّون الآتون من العالم الوثنيّ. ونحن أي الذين اهتدوا إلى المسيحيَّة من اليهوديَّة. الخلاص يكون «بنعمة الربّ »لا بوسيلة أخرى، لا بالختان ولا بتقدمة الذبائح ولا بالحفاظ على الشرائع اليهوديَّة. وسبق لبطرس فقال: «فما فرَّق بيننا (نحن اليهود) وبينهم (أي الوثنيّين) في شيء. فهو طهَّر قلوبهم» (آ9). إذا كان الله فعل، فماذا يحتاجون بعد؟ لا شيء.

ذاك هو موقف بطرس،« وقد عرف أنَّ الله أعطى روحه للوثنيّين كما لليهود، بالنظر إلى إيمانهم بالمسيح». فقال بعد الخبرة مع كورنيليوس: «الله وهب هؤلاء (الوثنيّين) ما وهَبنا نحن (اليهود) عندما آمنّا بالربِّ يسوع.. » (أع 11: 17).

ومع ذلك، كانت الجماعة تأكل معًا: بطرس ومن معه، برنابا، بولس، وعدد من المؤمنين. وها هو بولس يروي ما جرى: «فقبل أن يجيء قوم من عند يعقوب، كان بطرس يأكل مع غير اليهود (= الوثنيّين). فلمّا وصلوا، تجنَّبهم (= غير اليهود) وانفصل عنهم خوفًا من دعاة الختان. وجاراه سائر اليهود في ريائه حتّى إنَّ برنابا نفسه انقاد إلى ريائهم» (غل 2: 12-13).

يعقوب هو أخو الربّ، في لغة الإنجيل، أي من أولاد أعمامه، بعد أن عرفنا أنَّ أباه هو كلوباس، وأمُّه هي مريم التي كانت قرب أمِّ يسوع وأخت أمِّه عند الصليب (يو 19: 25). كان المسؤول في كنيسة أورشليم، ومثَّل جناحًا في الفكر المسيحيّ الأوَّل، رضي أن يدخل الوثنيّون إلى الكنيسة، ولكن مع بعض الشروط الضروريَّة، التي لا غنى عنها. هي ذُكرت في نهاية »مجمع أورشليم» (سنة 49-50): «الامتناع عن ذبائح الأصنام النجسة والزنى (أو: الزواج بين الأقارب) والحيوان المخنوق والدم» (أع 15: 20). والجماعة التي كانت حول يعقوب كانت متطرِّفة إلى حدود التطرُّف، وهي التي ستُدعى جماعة «النصارى» أو: الناصريّين الذين تركوا لنا «إنجيلاً» خاصٌّا بهذه الجماعة اليهومسيحيَّة، التي ستضيع في أرض العرب قبل أن يختفي أثرها.

وصل هؤلاء إلى أنطاكية، فخاف منهم بطرس والذين معه، ومثله فعل برنابا. أمّا عن «ريائهم» المذكور هنا، فنعتبره شبيهًا بما قاله إيليّا للمؤمنين على جبل الكرمل. قال لهم: «إلى متى تعرجون بين الجانبين، بين هذا الجانب وذاك؟» (1 مل 18: 21). وبولس يقول لبطرس وبرنابا: لماذا هذا التصرُّف وذاك؟ لماذا تجلسون تارة مع الوثنيّين، وطورًا تتحاشونهم وكأنَّهم نجسون؟ هل نسي بطرس ما قاله في بيت كورنيليوس؟ «تعرفون أنَّ اليهوديّ لا يحلُّ له أن يخالط أجنبيٌّا، أو يدخل بيته، لكنَّ الله أراني أن لا أحسب أحدًا من الناس نجسًا أو دنسًا» (أع 10: 28) يبدو أنَّه نسيَ، ففعل ما فعل في أنطاكية، وكأنَّه تذكَّر خصومته مع أهل الختان (أع 11: 3).

حينئذٍ جاء تصرُّف بولس عنيفًا. قال: «فلمّا رأيتُ أنَّهم لا يسيرون سيرة مستقيمة مع حقيقة البشارة، قلتُ لبطرس بمحضر منهم كلِّهم: «إذا كنتَ اليهوديّ تعيش كغير اليهود، لا كاليهود، فكيف تُلزم غير اليهود أن يعيشوا كاليهود؟» (غل 2: 14).

قدَّم بولس خبر أنطاكية من وجهة نظره، وجمع في خبر واحد أحداثًا ربَّما حصلت في أكثر من مناسبة. فهمُّه أن يُقنع الغلاطيّين ويُريهم الخطأ الكبير الذي يقعون فيه. فإيمانهم يكون في خطر إن هم جعلوا الختان شرطًا للخلاص. فعليهم أن يختاروا: لا بين بولس وبطرس، بل بين الشريعة الموسويَّة وحقيقة الإنجيل الواحد، بين عبوديَّة هاجر وحرِّيّة الإنجيل. هي نظرة إلى صليب المسيح الذي هو ينبوع هذه الحرِّيَّة التي تميِّز الحياة الجديدة لدى أبناء الله.

ويواصل بولس كلامه في الرسالة إلى غلاطية؟ ماذا يقول أهل الختان؟ «نحن يهود بالولادة، لا من الأمم الخاطئين» (آ15). ممّا يعني أنَّ اليهود هم أبرار، أطهار، بمجرَّد ولادتهم. أمّا الوثنيّون فهم «خاطئون» وبالتالي «نجسون». إذًا، لا نقدر أن نقترب منهم وبالتالي لا نستطيع أن نشارك في مائدتهم دون أن نتنجَّس. لهذا، حاول الغلاطيّون أن «يُختَنوا» لئلاّ يَظنُّوا نفوسهم أقلَّ مرتبة من اليهود.

القضيَّة خطيرة، في نظر بولس. فبالنسبة إلى اليهوديّ الذي يؤمن بالمسيح، ويعرف أنَّ الإيمان بالمسيح يكفي من أجل تبرير الوثنيّين، المشاركة في المائدة الواحدة مع المؤمنين من أصل وثنيّ، لا يمكن أن تكون ينبوع نجاسة. بل عكس ذلك. هي العلامة بأنَّه يطلب حقٌّا البرَّ الذي ينبوعه الوحيد يسوع المسيح. والذي يرفض هذه المشاركة، يدلُّ أنَّه يتخلّى عن الإيمان بالمسيح، وأنَّه يعيد إلى الشريعة قوَّتها، وهي قوَّة ألغاها المسيح. وفي هذا قال الرسول: «فكيف أكفرُ بنعمة الله؟ ولو كان الإنسان يتبرَّر بالشريعة، لكان موتُ المسيح عبثًا«» (غل 2: 21).

3- اللاهوت الأنطاكيّ

ما قرأناه يبيِّن لنا مركز أنطاكية الفريد بالقرب من أورشليم، وأهمِّيَّتها من أجل المسيحيَّة. فأنطاكية دخلت في تاريخ المسيحيَّة، لأنَّ هذه الجماعة تفلَّتت من المجمع والعالم اليهوديّ، لتكوِّن جماعة مؤسَّسة على المسيح وحده، وحرَّة بالنسبة إلى الشريعة. هذا يعني أنَّها تخلَّت عن فهم الإيمان المسيحيّ وكأنَّه مجموعة داخل العالم اليهوديّ، شأنه شأن الحركة الفرّيسيَّة مثلاً. فأنطاكية فهمت المسيحيَّة على أنَّها ظاهرة جديدة جديدة، ولا يمكن أن نحدِّدها إلاّ انطلاقًا من ذاتها.

وهذا حصل لأنَّ الشريعة التي كانت المعيار اللاجدال فيه من أجل كلِّ المجموعات العائشة في العالم اليهوديّ، لم يُعتَرَف بها بعدُ كالشرط السابق للعماد المسيحيّ وبالتالي للخلاص وللطريقة التي بها تفهم الكنيسة نفسها. لهذا حزمت أمرها والتزمت بالرسالة لدى الأمم (الوثنيَّة)، وحدَّدت فقط إيمان جميع البشر وعمادهم، انطلاقاً من انتمائهم إلى المسيح وإلى جماعته. بل راحوا يطلبون من اليهومسيحيّين أن يعيشوا على طريقة الوثنومسيحيّين، بحيث تُسوَّى كلُّ تفوُّقيَّة يهوديَّة ممكنة، ولا يُعطى لأيِّ نمط من الحياة القبمسيحيَّة قرابة أكبر بالنسبة إلى الإيمان المسيحيّ، سواء في نظام الختان أو في نظام اللاختان: إذا اختنتم لا تزدادون شيئًا. وإذا لم تُختَنوا لا تخسرون شيئًا. أين كنتُ قبل أن أصير مسيحيٌّا؟ هذا ليس بالمهمّ، لأنَّ التبرير عمل مجّانيّ لا يفترض أيَّ شيء من قِبَلنا. فنحن نفتح قلبنا لنداء الربّ، سواء جئنا من العالم اليهوديّ أم من العالم الوثنيّ، سواء وُلدنا في إطار مسيحيّ أو جئنا من إطار آخر.

هنا طبعت أنطاكية بطابعها تاريخَ الكنيسة، لأنَّ تلك الخطوة كانت الخطوة الأولى، الحاسمة، التي دلَّت على العبور من مجموعة يهوديَّة خاصَّة إلى «ديانة كونيَّة»، ولو أنَّ أنطاكية لم ترَ هذا كلَّه في الوقت الحاضر. ولكنَّ البذار زرعت، وهي ستفرخ وتنمو.

في أنطاكية نضج بولس، فصار أكبر لاهوتيّ في الجيل المسيحيّ الأوَّل. أثَّرت عليه أنطاكية، وهو أثَّر عليها، فما عاد له أن يتردَّد أو يعود إلى الوراء. لا شكَّ في أنَّ هذه المدينة تردَّدت بعض الشيء تجاه مسيرته المتجرِّئة باتِّجاه جماعة ذات طابع وثنومسيحيّ، ولا شكَّ أيضًا أنَّ الوثنومسيحيّين أُخضعوا من جديد لمتطلِّبات سفر اللاويّين وما فيه من عودة إلى الممارسات اليهوديَّة. ولكن من هذا القبيل، خسرت الجماعةُ بولس الذي لبث يحامي بحزم عن القرار الأنطاكيّ الأوَّل. فهو الأنطاكيّ الذي تجرَّأ فحافظ على الخطِّ الوثنومسيحيِّ في أنطاكية (عكس برنابا) تجاه بطرس وجماعة يعقوب. وكلُّ هذا يرتبط، في وجهة من الوجهات، باستقلاليَّة رسوليَّة ارتبطت بدعوته: «ما أخذت ذلك عن بشر ولا عن إنسان، بل عن وحيٍ من يسوع المسيح» (غل 1: 12).

حين نقرأ المراسلة البولسيَّة، نكتشف عددًا من المقاطع التقليديَّة التي تعبِّر عن روح هذه الوثنومسيحيَّة الأنطاكيَّة. بل ينبغي أن نتساءل: إلى أيِّ مدى لا ترجع إلى بولس، من أنطاكية، تلك التقاليدُ التي أعاد صياغتها. وهناك من يصف هذه المعطيات وكأنَّها «قببولسيَّة»، سابقة لبولس. ولكن هذا الترتيب غير محدود، وهذا ما نلاحظه حين نتفحَّص عن قرب العالمَ المسيحيّ بين سنة 30 وسنة 50. هناك أوَّلاً اليهومسيحيَّة في مجامع الجليل واليهوديَّة (أع 15: 1ي؛ 1 تس 2: 14؛ تلك الكنائس في اليهوديَّة؛ مت 10: 5: لا تقصدوا أرضًا وثنيَّة، ولا تدخلوا مدينة سامريَّة). وهناك ثانيًا الجماعات اليهومسيحيَّة لدى الهلّينيّين. عملوا في السامرة (أع 8: 1، 5، 25) وفي مدن الساحل التي ذكرناها. وهناك ثالثًا الجماعة الوثنومسيحيَّة الأنطاكيَّة التي امتدَّت نحو قبرص وآسية الصغرى (أي قسم من تركيّا الحالية). هكذا امتدَّت المسيحيَّة على المستوى الجغرافيّ كما على المستوى اللاهوتيّ.

كيف يبدو هذا اللاهوت الأنطاكيّ؟ هنا نعود إلى الخبرة الأساسيَّة الجديدة في أنطاكية: في هذه الكنيسة، «يعمل» الروح أيضًا خارج جماعة يهومسيحيَّة. يعمل لدى غير اليهود الذين جاؤوا إلى الإيمان بيسوع المسيح وتقبَّلوا العماد. هذه الخبرة المرتبطة بروح الإنجيل لدى غير اليهود، نستشفُّها في مواقف لاهوتيَّة جوهريَّة أخذت في أنطاكية. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، هناك أقوال خاصَّة وردت في الرسالة إلى غلاطية حول «الحرِّيَّة في المسيح» (غل 2: 4) و«حقيقة الإنجيل» (غل 2: 5)، وتقوم هذه الحرِّيَّة وهذه الحقيقة في أفكار القيمة السوتيريولوجيَّة للشريعة. هي لا تحمل الخلاص بعد. إذًا، تأمَّلتْ أنطاكية في المرمى الأساسيّ لهذه الخبرة. وهذا التأمُّل قادها لكي تحوِّل التداخل اليهومسيحيّ العاديّ بين الشريعة والإيمان، إلى علاقة خطرة، وبالتالي إلى علاقة بين واقعين يبدوان متناقضين.

ما نقرأ في غل 6: 15 (الختان وعدم الختان) يُبرزه بولس في سلسلة من التأكيدات التقليديَّة نقرأها مثلاً في 1كو 7: 19: «لا الختان له معنى ولا عدم الختان، بل الخير كلّ الخير في العمل بوصايا الله». وفي 1 كو 12: 13: «فنحن كلُّنا، أيهودًا كنّا أم غير يهود، عبيدًا أم أحرارًا، تعمَّدنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، وارتوينا من روح واحد». وفي 2 كو 5: 17: «وإذا كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة: زال القديم وها هو الجديد». وأخيرًا نقرأ غل 3: 26-28: «فأنتم كلُّكم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنَّكم تعمَّدتم جميعًا في المسيح فلبستم المسيح. ولا فرق الآن بين يهوديّ وغير يهوديّ (أو: أمميّ)، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة. فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع».

هذه الآيات ترسم التوافق الجديد بين الوثنيَّة المسيحيَّة بحيث تتجاوز المبدأ السوتيريولوجيّ في المجمع اليهوديّ، أو تعطيه شكلاً آخر أكثر دقَّة. كما أنَّها تجعلنا في إطار المعموديَّة. فبما أنَّ الختان لم يَعُدْ الشرط الضروريّ السابق، فالمعموديَّة تعني أمرين: ننال الروح الخلاّق في الأزمنة الأخيرة، زمن موت يسوع وقيامته. ثمَّ ننتقل «إلى المسيح» أي ننتمي إلى جماعة الأزمنة الأخيرة. هذا ما يشكِّل الآن الإنسان الجديد. وصُوِّرت حالةُ المؤمن المخلَّص في رموزيَّة الثوب: «تعمَّدتم في المسيح فلبستم المسيح» (غل 3: 27). واستعارة الشراب الروحيّ (1 كو 12: 13: ارتوينا من روح واحد)، ولغة «الخليقة الجديدة»: «إذا كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة» (2 كو 5: 17). فالمسيحيّيون هم «في المسيح»، وروح المسيح يعمل فيهم بحيث إنَّ الظروف الخارجيَّة والداخليَّة ترتَّبت بشكل جديد جعلت المسيحيَّ ينتمي إلى الخليقة الجديدة.

الخاتمة

تلك هي النظرة الجديدة في الكنيسة، كما عرفَتْها كنيسةُ أنطاكية وعمَّقها بولس قبل الانطلاق في رحلاته الرسوليَّة. ففي أنطاكية التقى العالم الساميّ والعالم اليونانيّ، الهلّينيّ. التقت لغةُ الخلق الجديد الآتي من الفكر الجليانيّ (الذي فيه يكشف الله النهاية) مع لغة «اللباس» الآتي من الفكر الهلّينيّ، من أجل لغة جديدة: نكون «في المسيح». كلُّ شيء لكم وأنتم للمسيح. هذا على مستوى الفكر. وعلى مستوى اللاهوت، أي«تحوَّل الوجودُ المسيحيّ كلُّه، في انقطاع بالنسبة إلى ما كان من قبل وانطلاق إلى جديد يصل إلى الجماعة والأفراد. وأخيرًا، تحوَّل الوضع والمسائل الخاصَّة الموجودة في كنيسة أنطاكية. كلُّ ما يتعلَّق بالشريعة وبالاحتفالات اليهوديَّة لم يَعُد القاعدة. ترك مسيحيّو أنطاكية المجمع وشيَّدوا حياة جماعيَّة وثنومسيحيَّة مستقلَّة، كما تخلُّوا عن ممارسة شريعة تفصل اليهوديّ عن الوثنيّ. ذاك ما نقرأه مرارًا عند بولس الرسول. ولكن هل يعني هذا التخلُّص من الشريعة اليهوديَّة، عودة إلى الفلتان الوثنيّ؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. فالخليقة الجديدة تتكوَّن في إطار مشيئة الله. والإيمان يعمل بالمحبَّة. وإلغاء التعارض بين الختان واللاختان لا يلغي واجب ممارسة الوصايا. وننهي كلامنا حول روحانيَّة أنطاكية في هذا الكلام من الرسالة إلى رومة: «فالوصايا التي تقول: «لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ« وسواها من الوصايا، تتلخَّص في هذه الوصيَّة: «أحبب قريبك مثلما تحبُّ نفسك فمن أحبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد، فالمحبَّة تمام العمل بالشريعة» (رو 13: 9-10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM