عماد يسوع
1: 7- 11
صعد يسوع من الماء فرأى السماوات تنفتح والروح ينزل.
إنتظر الشعب منذ زمان طويل أن تنفتح السماوات.ولعبت ظنّوها قد أُغلقت بصورة نهائية. وتذمّروا من غياب الأنبياء. وستكون عودة الأنبياء الكبار الذين كانوا في الماضي، علامة التجديد. في الواقع، لم يختف الأنبياء يوماً بصورة تامة. ولكن كَسَفهم تيار الحكمة حيث يتكلّم الله لغة أكثر شعبية. أيضاً إعتبارات سياسية. فعرف الناس فترات من الاضطهاد، جعلتهم يظنّون أن الله بعيد عن شعبه.
إذن، إرتبط إنتظار الخلاص بعودة أناس خارقين يستطيعون أن يحرّكوا الشعب الغارق في سباته. وها نحن أمامِ نبيّين يكادان يكونان معاصرين: يوحنا ويسوع. أعلن الأول إصلاحاً إجتماعياً، وزاد الثاني على هذا الإصلاح ناراً داخلية محرقة تعمل كالنعمة في القلوب.
تعمّد يسوع على يد يوحنا. خضع للوضع البشري الذي عرفه معاصروه. هذا هو البرُّ والعمل حسب مشيئة الله، كما قال متّى. أما مرقس فأعتبر الأمر طبيعياً. فهناك سيكتشف يسوع دعوته الحقيقية. هذا يعني أن يسوع إتّصل بالتيارات العمادية قبل أن يبدأ حياته العامة.
وحين تعمدّ يسوع، إنفتحت السماوات. قال مرقس: تمزّقت. وسيستعمل هذه الكلمة للحديث عن ستار الهيكل (15: 38). هذا التمزّق لا يدلّ على انفصال بين يسوع والمعمدان. إنه يشكلّ الخطّ الفاصل بين العالم المسيحي والعالم اليهودي. منذ الآن، يطير يسوع بجناحيه، وهو سيحرّر شعبه (أش 63: 19).
في الأناجيل الأربعة يشبه الروح حمامة. نحن هنا أمام رمز نموذجي للجماعة في العالم اليهودي المتأخرّ. سيكون يسوع نقطة انطلاق لجماعة روحية جديدة يطبعها الروح القدس بديناميّته. عرف يوحنا أن يسوع هو الرجل القوّي الجديد. وأحسّ أنه لا يستطيع أن يقاومه. هو يكاد يكون أهلاً أن يخدمه أو يعمل بإمرته. وهو مستعد للإمحاء أمامه.
إن اتّفاق الأناجيل الأربعة حول عماد يسوع، يدلّ على أن هذا الحدث كان منعطفاً في حياة الرجلين. بالنسبة إلى يسوع، انطلق كل شيء من هنا. في هذه المناسبة وعى هويته ورسالته. وبالنسبة إلى يوحنا، إنتهى كل شيء هنا. سيختفي يوحنا شيئاً فشيئاً ويترك المكان لمن هو أقوى منه.
نحن هنا أمام وحي حقيقي. فالصوت الذي يتوجّه إليه شخصياً (أنت) يكشفه لنفسه. في مكان آخر، يتوجّه الوحي إلى الشعب. وها هو المسيح وقد توّلى رسالته: إنه يشهد على صفته كابن مميّز وموضوع رضى الله. نحن أمام اختيار (1: 34) وولادة (3: 22). هي ولادة جديدة، ومثلها سيكون العماد المسيحي الذي يدلّ على دخول أولاد الله في الجماعة، في الكنيسة.
أخذ الله مسيحه بيده، ملأه بقوّته، ثبتّه في قراره بأن يحمل الإنجيل. خرج من حضن الآب ليُعطى للعالم. خرج من الماء، خرج من وضع عادي جداً. فتحوّلت منذ ذلك الوقت كل الأنظار إليه.
حين جاء يسوع وانحنى أمام المعمدان، وخضع لطقس التطهير الرمزي، تماثل مع شعبه تماثلاً عميقاً. دلّ أنه يقاسم هؤلاء الناس كل مخاوفهم وآمالهم. وأعلن بعمله المتواضع أنه واحد منهم، وأنه يتوّجه مثلهم إلى الآب.
في هذا اليوم، ترك يسوع الحياة الخفيّة في الناصرة، وتجندّ في صراع سيقوده إلى الجلجلة. وكانت فعلته أول مثل حي يعلن: "ها أنا أيها الآب. جاءت الساعة. لتكن مشيئتك. أنا موافق. آمين". إن عماده يعبرّ عن إستعداده الكامل. إنّه نهاية ثلاثين سنة من النضوج. إنه يعلن الإنطلاقة الكبرى نحو مغامرة عجيبة ومأساوية تجد ذروتها في الفصح والعبور إلى الآب بالموت والقيامة.
وأجاب الله: "أنت ابني الحبيب، فيك وضعت كل حبّي، عنك رضيت".
كرّس هذا الصوت السّري يسوع كخادم لشعبه، كالابن الذي حيّاه الله، كذلك الذي يدّشن لجميع البشر حياةً جديدة هي حياة ابناء الله.
وكل مسيحي يخضع في يوم عماده للطقس الذي خضع له يسوع، فيعلن مثله: "ها أنا، أيها الآب". وتجيب الكنيسة باسم الله: "أنت ابني. أدخل في الحياة الجديدة التي ينعشها الروح القدس. تعال إلى شعبي لتحبّه وتخدمه". وكلّنا نحن الذين تعمّدنا في طفولتنا، بفضل اهتمام والدينا، يجب أن نعي أن الزرع الذي أوح فينا، يجب أن يتفتحّ في تعلّق أساسي بالله، تعلّق واعٍ وإرادة يُلزم حياتنا كلها.
حين نعي عمادنا في عمر الشباب، هذا يعني أننا نؤمن إيماناً ثابتاً بأن الله يقول لنا كما قال ليسوع: "أنت ابني الحبيب، أنت خادمي، إذهب إلى خدمة إخوتك".
إذن، يدلّ عماد يسوع على تبادل عجيب: النعَم النهائي الذي فيه قدّم ذاته كلّها لأبيه، ونعَم الله لابنه. وهو يعلن وينير العطية التي يمنحها الله لنا في عمادنا. عماد يسوع يدّشن العهد الجديد الذي يجدّد عهد الله مع شعبه. ومنذ ذلك الوقت، شعب الله هو شعب كل المعمَّدين في يسوع ربنا. نفتخر بأن نكون من هذا الشعب. ولكن لا ننسى المسؤوليات التي سلّمت إلينا...
ننتقل هنا من حياة يسوع الخفيّة إلى حياته العامّة: ظل يسوع صامتاً مدة ثلاثين سنة. وها هو الآن يظهر كابن الآب المرسل من أجل تحريرنا. ولنا يقول الصوت أيضاً: "أنت ابني، أنت حبيبي". نحن تعمدّنا كالمسيح في الروح القدس. ومثله أُرسلنا لنحمل بدورنا رسالة التحرير. لنسمع الصوت وهو يذكّرنا بكرامتنا: نحن ابناء الله وإخوة المسيح.