طريق في البرية
1: 1- 8
هيّئوا طريق الرب وأجعلوا سبله قويمة.
إن طريق الرب تمرّ في البرية. إنها طريق الحرية القشفة. وقد فتحها يوحنا المعمدان. وقد جعل التقشّف الذي يطلبه في جوّ من التوبة يتجاوز اللباس والمظاهر الخارجية (مزّقوا ثيابكم") وأضحى أمام من هو أعظم منه. فتح الطريق، هذا يعني أنه عرف أن وراءه يأتي الذي سيسير أمامه. السابق الحقيقي يهيّئ العقول لشخص آخر. هذا هو كل معنى عماد يوحنا. هو يغطسّ في الماء لينقيّ القلوب. وحين يغطّسنا المسيح في روحه القدوس، نتجدّد في العمق. كل هذا يتمّ بكلمة. هذه الكلمة هي التي يسمعنا مرقس إياها: إنها خبر سعيد، بشرى وبشارة، إنجيل.
الإنجيل هو بلاغ يعلنه منادٍ سابق. يعلن في المدن العبور القريب لشخصيّة كبيرة. هكذا يستطيع الناس أن يزيّنوا الطريق ويعيّدوا له. كل رسول هو سابق. لا شكّ في أن التلميذ يتبع معلمه ولكنه يسبقه أيضاً، ولا تناقض في الكلام. بعد هذا، سوف يرسل يسوع معاونيه إلى الأماكن التي سينطلق إليها. المرسل يجعل الله قريباً من الإنسان، ويجعل الإنسان جديراً بالله. وكل هذا يمرّ عبر إعلان المصالحة (غفران الخطايا) والسلام والفرح، إعلان الفقر والتقبّل. يجب أن يكون الله مرتاحاً في كل مكان يحلّ فيه. ويوحنا يتيح لله، شأنه شأن كل المرسلين، أن يتعوّد على مناخ أرض البشر. لا يريد الله أن يكون غريباً ومهجّراً، بل من أهل البيت.
البريّة هي أولاً موضع داخلي. نحرّر الإنسان من كل "زائد"، نزيل الحواجز التي تعيق مجيء الله. ظنّ يوحنا أن المسيح يأتي من البريّة، وسيكون مجيئه تحريراً حقيقياً، خروجاً جديداً (كخروج بني إسرائيل من مصر). وحينئذ تأتي إليه كل اليهودية (قريبة من البرية). هناك مبالغة في كلمة "كل". ولكن هذا له معناه وهو يدل على إشعاع المعمدان وعلى إنتظار الشعب.
يتحيّن الشعب كل كلمة تصدَّق عن الله. ففي زمن الغليان المسيحاني، فتح قلبه على كل كلام معقول. السابق يحرّك الرجاء. هو يصرخ ليُسمع. وهذا الصراخ مع ما فيه من متطلّبات، يدعونا إلى التحرّر الكامل من ذاتنا. وهذا التحرّر هو ينبوع كل استقبال.
لا يصرخ يوحنا المعمدان "في البرية" ولا عبر البرية، هو يصرخ والناس تسمعه. إذن، لا نقل: لم تكن كلمته فاعلة! بل نشدّد على ضرورة جعْل البرية تُزهر، فنخرج من جفافنا الروحي والطرق التي اعتدنا عليها.
البريّة هي الطريق التي يسلكها العائدون من المنفى، وهي رمز عالم قديم نتركه. وتواضع المعمدان هو سبيل نتبعه فيجعل من حياتنا وجوداً يتوجّه إلى الآخر أي الرب. مهما عملنا لن نعمل لحسابنا. وهذا ما يعطي عبورنا للصحراء، ساعة لا تسير الأمور على ما يرام، يعطيه معناه الحقيقي.
"بداية إنجيل يسوع المسيح ابن الله، يقال مراراً إن إنجيل مرقس هو أبسط الأناجيل وأقربها إلى أحداث حياة يسوع. هذا صحيح، ولكن يجب أن لا ننسى الكثافة التعليمية والروحية التي يتضمّنها هذا الإنجيل. وهذه الآية الأولى هي مثال يستحقّ أن نقف عنده.
نحن أمام بداية. والبداية تتضمّن دوماً شيئاً جديداً، وبالتالي انقطاعاً عما سبق. ننقطع عن تعابير العهد الأول (أو: العهد القديم) الذي تمّ بين الله والبشر منذ إبراهيم وموسى. هذا الانقطاع هو تتمّة. ولكنه كأي انقطاع يتضمّن الألم والتعارض. هل تعليم يسوع هو بالنسبة إلينا بداية؟ كل جديد يفترض إنسلاخاً عن عاداتنا وما فيها من روتينية وبحث عن الراحة.
بداية إنجيل، بداية خبر سعيد. أجل، يقدّم لنا يسوع سعادة جديدة. يريد الروح القدس أن يكون فينا قوة تجديد في الفرح. أين هي سعاداتنا؟ ما هي أفراحنا؟ هل نعرف أن نقدّر الفرح الذي يعرضه الله علينا؟ لا ننسى أن الفرح يكمن دوماً حيث يكون الحبّ.
إنجيل يسوع. يسوع هو إنسان مثلنا. يسوع الناصري الذي قالوا عنه: "نعرف أباه وأمه". يسوع الذي نكتشف وجهه عبر كلماته وحياته وموته ومجده. نقضي وقتنا في التعرّف إلى يسوع. نحاول أن نراه. نفتح عيون قلوبنا المستنيرة لنراه.
يسوع المسيح. المسيح هو ذاك الذي (إختاره) مسحه الله بالروح القدس، هو ذاك الذي أرسله ليخدم شعبه ويخلّصه. المسيح هو القدوس الذي يقدّسنا، فيجعل منّا كلّنا، كما جعل من نفسه، تقدمة حية لمجد الله. ومسحة معموديتنا جعلتنا شبيهين بهذا المكرّس لله. إن مسحة حبّه تقودنا على إثره في تكريس حقيقي نقدّم فيه كل حياتنا لله ولإخوتنا.
ابن الله. وهكذا إنكشف السر شيئاً فشيئاً. يسوع هذا المختار، هذا الذي إختاره الله وأرسله. هو ذلك الذي أعلنه الضابط الروماني في نهاية إنجيل مرقس: "في الحقيقة كان هذا الرجل ابن الله". وأمامه هتف توما: "ربي وإلهي". إن ابن الله الوحيد صار إنساناً ليصير الناس ابناء الله. أنظروا أي حبّ منحنا الله.
بداية إنجيل يسوع المسيح، ابن الله. لكلمة بداية معنى آخر. لا نقول فقط: بداية النصّ. نحن بالأحرى أمام بداية عمل الله. قرأنا في تك 1: 1: "في البدء (البداية) خلق الله السماء والأرض". وفي يو 1: 1: "في البدء كان الكلمة". هذه هي البداية التي يتحدّث عنها إنجيل مرقس. والبداية تفترض أننا نتابع الطريق. لهذا، هيّئوا طريق الرب، إجعلوا سبله قويمة.