القسم الرابع:يسوع المسيح ابن الله مع القديس مرقس البدايةالأولى

البداية الأولى
1: 22- 15

إقترب ملكوت الله، توبوا وآمنوا بالإنجيل.
إنحصر خبر التجارب في مرقس في أقلّ ما يمكن من الكلمات. نتذكّر باديء ذي بدء أنه هو أوّل من كتب. إذن النصّ الأولاني كانت نظرة شاملة وقصيرة إلى الجوهر، إلى ما يجب أن يبقى في الذاكرة.
ما يختصّ بخبر مرقس هو حضور الوحوش. هل تدل على غياب الأمان أو على التناسق في الكون؟ قد يفكرّ الإنجيلي بنص أش 11: 6 حيث يسيطر المسيح على قوى الشر. وقد نعود. إلى مز 91 لنفهم النص، كما عاد إليه متّى ولوقا. هما يريان أن الحماية من الأخطار تعدّ تحدياً لله في فم إبلبس (مز 91: 12). يسوع يرفض مثل هذه الحماية. والله لا يحميه مهما كان الثمن!
قَبِل يسوع أن يعيش حياة يُحدق بها الخطر. وخدمة الملائكة ستبرز نصره عَلى تجربة استعمال القوة. إنه يستطيع منذ الآن أن يأكل، لأنه رفض أن تكون الأولوية للخبز المادي. فالإنسان يحتاج إلى الأكثر من أجل رجائه. لا، فهناك تراتبية القيم. الكلمة أولاً ثمّ الخبز. والملائكة "الحراس" ليسوا هنا أولاً لكي يحموه، بل ليحفظوا إيمانه. والتجربة التي لا يوضحها هذا الخبر المقتضب، تقوم بأن يفكّر يسوع أولاً بمنفعته الخاصّة. والأربعون يوماً تحيلنا إلى مغامرة الشعب المختار الذي ظلّ يتردّد في مسيرته إلى الحريّة. لقد عاش يسوع في الإيمان مغامرة شعبه الذي ما زال يتطلّع إلى الوراء، إلى مغريات مصر.
ولكن هذه الأربعين يوماً تحيلنا أيضاً إلى الطوفان. وهي تقوم بأن نحزن على العالم القديم. وتجعلنا نفكّر أيضاً بجسّ أرض الموعد (عد 13): كما حاول الجواسيس أن يتعرّفوا إلى أرض الموعد، هكذا حاول يسوع أن يستكشف المستقبل الذي وُعد به. عملية دقيقة، ويبدو أن الروح القدس وإبليس شاركا فيها. لا نستطيع أن نعرف لدى قراءتنا للتوراة من يمتحن من. ولكن في النهاية، الله هو الذي يمتحن الله، يجرّبه. ويقبل الله بأن "يجرّب" ليُسرع إلى معونة ابنه المهدّد.
فعلى الإنسان أن يرفض هذه اللعبة الخطرة التي يخسر فيها حريّته كابن. وبانتظار ذلك، "طرد" الروح القدس يسوع إلى البرية، فتصرّف وكأنه إبليس. فعلى يسوع أن يبرهن، أن يدل على الجهة التي يسير فيها. سيختار في النهاية وجه المسيح المتألم، لا المسيح "المكلّل بالغار". أُوقف يوحنا المعمدان وأُودع في السجن. فأخذ يسوع المشعل. هذه الملاحظة هي بالنسبة إليه برنامج كامل.
البشرى، الإنجيل، هذه هي الكلمة الأساسية في إنجيل مرقس. ليس من السهل أن نؤمن بخبر سعيد، مفرح. تجربتنا أن نصدّق الأخبار المؤلمة، وحين تكون الأيام قاسية والمستقبل مسدوداً، لا نصدّق بسعادة ممكنة. إذن، لا بدّ من تبديل في عقلّياتنا المتشائمة. يسوع هو الآن علامة الأزمنة التي تمّت. فلا بدّ من حرب ضد تخاذل القارئلين: لا أخبار، لا أخبار سعيدة.
إن المسيح مستعد لإنطلاقة جديدة مثل نوح بعد محنة الطوفان (لم يبقَ شيء). إنه مستعد لخبرة ولادة جديدة بروح الحياة (1 بط 3: 18: مات بالجسد أحياه الله بالروح). وإن هذه الأربعين يوماً أتاحت له أن يستعيد قواه. لقد كانت له تلك الخبرة عماداً جديداً في الروح والنار.
الإعلان عن حدث سعيد مثل ولادة طفل أو عودة ابن بعد غياب سنوات عديدة، هو بشرى وخبر مفرح يحرّك كل قوانا. لو تركت الإنجيل يهزّني، لو تركت بشرى الله تفرحني! الله اقترب منا في يسوع المسيح، قرّر أن يعمل شخصياً في وسطنا. هل يرتكز إيماني على هذا الخبر السعيد، على هذا الحدث العجيب؟ هل الإنجيل هو بالنسبة إلّي كتاب مشوّق أو شخص حي؟ هل يسوع هو بشارة فاعلة تتوجّه إلى حياتي؟
"تم الزمان". لقد حل زمان التدخّل الأخير لإله العهد. في يسوع، جاء الله "يملأ" زمن البشر بحضوره، جاء يعطي معنى وكثافة للتاريخ البشري.
"إقترب منكم ملكوت الله". هذه هي صرخة الإيمان. هذه هي بشرى المسيحية. ملكوت الله، ملكوت الحبّ هو على الأبواب. الحبّ الذي يخلّص ويحيي هو هنا. على باب قلبنا. على عتبة حرّيتنا. الله يمرّ.
"توبوا وآمنوا بالإنجيل، بهذا الخبر السعيد". لا تقف التوبة فقط على المستوى الأخلاقي. فالتوبة ليست وقبل كل شيء إنتقالاً من الرذيلة إلى الفضيلة. التوبة هي فعل إيمان. هي إنفتاح كل كياننا على مجيء الله الذي لم نتوقّعه، ولم ننتظره. إنفتاح طويل وصعب.
دفع الروحُ يسوع إلى "البريّة" فأنتصر على فخاخ الشرير، كما سينتصر في صراعه الأخير مع الموت. حينئذ صار هذا الطريق طريق كل "معمّد" في الروح. الإيمان هو أن نربط حياتنا كلها (نراهن عليها) بهذه البشرى، بثرى يسوع الذي يسبقنا إلى البرية (العزلة والصلاة). كيف نبدأ حياة العزلة هذه إن لم نؤمن أن مملكة الحبّ قد انتصرت، وهي لا تنتظر إلا توبتنا وإرتدادنا لنربح الكون كله؟
نحن أمام نداء لنكتشف إله العهد: عهد مع العالم على مثال نوح، عهد مع أوّل المؤمنين، مع إبراهيم، عهد مع الشعب المسيحي. وأعيد بناء العهد بعد أن دمّر، وكُتب العهد في قلب الإنسان. هذا ما نكتشفه في إنجيل اليوم حيث يقودنا المسيح إلى الفصح. إنتصر المسيح على الشر بانتظار أن ينتصر على الموت. ونحن سننتصر معه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM