يعقوب وزواجه من راحيل

يعقوب وزواجه من راحيل

حين نقرأ سيرة الآباء ابراهيم واسحق ويعقوب، مع خبر نسلهم، نكتشف أنهم في الواقع عاشوا الزواج الواحد كما قيل في بداية سفر التكوين: «يترك الرجل أباه وأمه ويتّحد بإمرأته فيكون الاثنان جسداً واحداً». أجل، إمرأة واحداة لا امرأتان، على مثال لامك الذي كان أول من تعدّى وصايا الله على مستوى الزنا بحيث إن زواجه من امرأة ثانية جعله زانياً في نظر الكاتب الملهم، فصارت امرأتاه مُلكاً له يتصرّف بهما كما يشاء. وتعدى لامك وصية القتل، فترك العنان لانتقام لا يتوقف عند حدّ. أما امرأة ابراهيم فهي سارة، أي الأميرة. وامرأة اسحق هي رفقة التي تشير إلى تعلّق الرجل بزوجته والزوجة برجلها (ربق في العربية). وامرأة يعقوب هي راحيل أي النعجة. وامرأة يوسف هي اسنات ابنة الالاهة المصرية نات. ولكن قراءة حرفية للنصوص تُرينا ان يعقوب تزوج أكثر من امرأة، فسارفي خطى ابراهيم الذي عرفنا له ثلاث نساء. وسيسير في خطاه موسى الذي كان زوج صفورة أي العصفورة. ولكن ارتبط به عدد من النساء جاءت واحدة منهنّ من الحبشة ليدلّ الكتاب على أن اللون الاسود ارتبط بموسى وبالتالي بعبادة الله الواحد. فما هو المعنى الرمزي لهذه الزوجات المتعددة في حياة أولياء الله؟

1- أربع نساء في حياة يعقوب

يُخبرنا سفرُ التكوين (ق 29) أن يعقوب مضى إلى خاله لابان، في حاران، في شعب الأراميين، فزوّجه بليئة ابنته البكر التي كلّفته خدمة سبع سنوات. وأعطاه مع ليئة جارية اسمها زلفة. ثم خدم يعقوبُ خالَه سبع سنين فأعطاه رفقة مع جاريتها بلهة. نحن في عالم الرعاة. ارتبطت راحيل بالنعجة (الرخلة) وليئة بالبقرة بعد ان اعتاد الناس ان يستعملوا اسماء الحيوانات لتسمية اولادهم من صبيان وبنات. وقد تدلّ راحيل على أنها النعجة التي انقادت لزواجها. أما ليئة فقد تكون ثارت عليه. لأن ليئة تدلّ على البقرة الوحشية. وكانت زلفة صاحبة الأنف الصغير، حسب العربية. وفي الإطار عينه تدلّ بلهة على الضعيفة العقل. راحيل سيدة وليئة. وزلفة جارية وبلهة. نحن أمام اربع قبائل، والمرأة تدلّ على قبيلة أو شعب أو مدينة. هنا نتذكّر كلام ارميا النبي : «صوتٌ سُمع في الرامة، نَوح وبكاء مرّ. راحيل تبكي بنيها. وتأبى أن تتعزّى عنهم، لأنهم زالوا من الوجود» (ار 31: 15). وسيستعيد انجيل متى هذا الكلام فيُطبّقه على اهل بيت لحم الذين خسروا اطفالهم بعد أن قتلهم هيرودس (متى 2: 18). نُشير هنا إلى ان راحيل ستدلّ على ام الشعب العبراني فيقول لها إرميا: «كفي صوتك عن البكاء وعينيكِ عن ذرف الدموع... يرجع بنوكِ إلى بلادهم ويكون في غدِكِ رجاء. سمعت شعبي ينتحب» (إر 31: 16- 18). راحيل تبكي، والشعب يبكي. هناك تبادل بين الاثنين.

وإذا عُدنا إلى سفر التكوين، نفهم أن راحيل وحدها هي المحبوبة، لا ليئة. وإن ابنها يوسف هو المميّز. وبنيامين ابنها الآخر هو ذاك الذي يحتفظ به ابوه ولا يُرسله إلى مصر، إلاّ على مضض. فبنيامين ويوسف يرتبطان براحيل وبالتالي بيعقوب. أما الآخرون فبنساء أخريات: ليئة، زلفة، بلهة. ففي قبيلة بنيامين بُني الهيكل. ويوسف هو والد افرائيم القبيلة الكبرى في شمال فلسطين، بحيث دُعيت مملكة الشمال باسم إفرائيم، كما دُعيت باسم يوسف. ودُعيت أيضاً باسم يعقوب.

هذا ما يقودنا إلى كلام عن يعقوب الذي فُسّر إسمه على أنه تعقّب أخاه فغشّه وازاحه وحلّ محله. أما المعنى الحقيقي فهو من يحميه الله. فبحسب التاريخ، يعقوب هو من اجتمعت تحت اسمه عددٌ من العشائر، وسيتحدّ مع اسرائيل الذي تزوج ليئة، من خلال حلفٍ سياسي. ارتبط يعقوب بشكيم حيث السامريون، في زمن المسيح. وارتبط اسرائيل ببيت إيل حيث سيكون معبد مملكة الشمال او مملكة اسرائيل مع الملك يربعام الأول (931- 910). عشائر يعقوب نبّهها النبي هوشع في شخص «ابيها» بعد ان انحدرت في عبادة الاوثان (هو 12: 4- 13). ولكن حزقيال يتحدّث عن عبد الربّ يعقوب (حز 28: 25) الذي سيعود من المنفى في شخص أبنائه الذين يحميهم الربّ ويُسكنهم في الأرض. وقال فيه ابن سيراخ: «وكذلك فعل (الرب) مع يعقوب: نقل إليه بركته، واعطاه الأرض ميراثاً» (سي 44: 23).

2- في خطى ابراهيم

لماذا جُمعت ثلاث نساء (ليئة، زلفة، بلهة) مع راحيل زوجة يعقوب؟ هنا لا نتكلمّ عن زواج كما في عُرفنا اليوم. بل عن اتفاق بين قبائل او عشائر، تنضوي تحت اسم واحد. المهم أن هؤلاء الناس شاركوا في بركة نالها يعقوب، فاجتمعوا حول معبد من المعابد. لهذا كان التحالف قبل كل شيء دينياً، قبل أن يصبح سياسياً أو حربياً. ففي شكيم جمع يشوع القبائل وطلب منهم أن ينزعوا الآلهة الوثنية التي عبدوها، وأن يخافوا الربّ ويعبدوه بكمال واخلاص (يش 24: 14). وحين نعرف ان يشوع كان من قبيلة إفرائيم، من يوسف ابن راحيل، نفهم المعنى الرمزي لهذه «الزوجات» التي هي في الواقع «زواجات او تحالفات دينية» حول معبدٍ واحد.

وإن فعل الكاتب الملهم ما فعل، جعل يعقوب في خطى ابراهيم. إن قرأنا سفر التكوين اكتشفنا أن لإبراهيم امرأة هي سارة التي ولدت له اسحق ابن الموعد. ووجود هذا الابن الذي انتظره ابراهيم طويلاً فعبّر النصّ عن هذا الانتظار بقوله: «كان ابراهيم ابن مئة سنة حين وُلد اسحق» (تك 21: 5). الرقم رمزي هنا، كما في سائر النصوص الكتابية. وذكر الكتاب هاجر، الجارية، التي ارتبطت بالهجرة. ولكن هاجر هي مصرية. وهكذا انضوت مصر تحت لواء ابراهيم. فهي بنت الايمان على مثال فلسطين وبابل وآشور. فكأني باسماعيل اخذ بركة ابراهيم ومضى يحملها إلى أرضه على ما في أشعيا النبي: «تعبد مصر الربّ مع آشور». نحن هنا ابعد ما يكون عن قراءة سياسيّة أو عسكريّة. هي قراءة روحيّة. فهذا الذي وعده الربّ بأن تتبارك به جميع الأمم، يتحقّق فيه هذا الوعد بالنسبة إلى جنوب فلسطين وشمالها. بل وايضاً بالنسبة إلى الشرق، إلى القبائل العربية: قبائل او عشائر قطورة واسمها يعني البخور. في هذا المجتمع نعرف زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحاً (تك 25: 2). في هذا يقول الكتاب: اعطى اولاده هؤلاء عطايا، وهو بعد حيّ، فمضوا إلى أرض المشرق (تك 25: 6).

فالشعوب التي تشتّـتت حين أرادت أن تبني برج بابل، بدأت تتجمّع حول ابراهيم ويعقوب. بدأت البركة مع ابراهيم وتواصلت مع يعقوب، وهي تشهد كمالها في يسوع المسيح. مع هذين الابوين لم نخرج من الشرق. ومع نوح الذي نجا مع زوجته من الطوفان، اجتمعت القارات الثلاث المعروفة: أوروبا مع يافث. وافريقيا مع حام. وآسيا مع سام. وهذا ما نجده يوم العنصرة. شعوب عديدة نالت الروح القدس فصارت واحدة: كلهم يتفاهمون وبتعاونون. وكل واحد يُنشد في لغته عظائم الله. لقد صارت كلُّ شعوب الأرض شعب الله الواحد، في شخص يسوع الذي جمع في شخصه كل ما في السماء وما على الأرض.

3- اربع نساء

اربع نساء في حياة يعقوب. ليئة اعطته ستة اولاد، وكل من زلفة وبلهة وراحيل ولدين. وهكذا صار اولاد يعقوب اثني عشر ولداً. هم في الواقع اثنا عشر قبيلة اجتمعوا حول المعبد، فأمّنت كل قبيلة خدمة هذا المعبد شهراً في السنة. ولا ننسَ ان العدد اربعة هو عدد رمزي. هكذا اجتمع الشمال والجنوب والشرق والغرب، ونالوا الحماية التي نالها يعقوب. عرفوا ان الله معهم، وهو يحفظهم في الطريق التي يسلكون، فاعترفوا به رباً وإلهاً (تك 28: 20- 21) وعرفوا في ظلّه السلام.

واربع نساء في سلسلة نسب يسوع، كما نقرأها في انجيل متى (1: 1- 17). الاولى تامار (التمر او النخلة). نالت ولدين (فارص، زارح) من حمّيها بعد أن رفض أن يزوجها ابنه الثالث وقد وُعدت به. فبالرغم من عملها الذي لا يمكن أن يقبل به الكتاب، فقد دخلت في تاريخ الخلاص الذي دشّنه يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم. والثانية راحاب، المرأة الزانية، ابنة اريحا التي ستكون المؤمنة الاولى كما سيقول فيها التقليد اللاحق. هي ايضاً صارت من اجداد يسوع بواسطة سلمون زوجها وبوعز ابنها. وراعوت الموآبية صارت جدة داود، وبالتالي مَن هو ابن داود، يسوع المسيح. والمرأة الرابعة هي زوجة اوريّا الحثّي التي اخذها داود له، فكانت أم سليمان.

أربع نساء. كل واحدة تدلّ على شعب من الشعوب. والعدد اربعة يدلّ على مجمل المسكونة التي وصلت إلى الايمان بواسطة ابراهيم، ابي المؤمنين، ويعقوب الذي واصل خطّ ابيه. ووصلت إلى الملكوت الذي نادى به يسوع، في خطّ الملك داود الذي قال فيه المزمور بفم الربّ: «انت ابني وانا اليوم ولدتُك» (مز 2: 7). تدلّ في النهاية لا على مَلك من الملوك فحسب، بل على من هو ملك الملوك، يسوع المسيح. فهو ليس من تبناه الله، كما اعتاد أن يتبنى الملوكَ حين يرتقون العرش. يسوع هو الابن الحقيقي لله. هو الابن الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور.

اربع نساء هيأن الطريق ليسوع المسيح، فمثّلن العالم الخاطىء والبعيد عن الله، العالم الذي لا يكفيه إيمان ابراهيم ولا بركة يعقوب ولا شريعة موسى ولا ملك داود. فالشعوب القديمة انتظرت وطال انتظارها. والوثنية قدّمت لها آلهة لها آذان ولا تسمع، ولها عيون ولا ترى، ولها الايادي التي لا تفعل. فصار عابدوها مثلها. والعالم اليهودي قدّم الذبائح واحتاج أن يكرّرها كي ينال غفران خطاياه. وحده يسوع المسيح، بذبيحة واحدة، قدّمها على الصليب، نال للبشرية الخلاص الكامل. أخذ اخوته معه، فتقدّسوا مع من هو القدوس الذي حمل خطايا البشر ورفعهم إلى الله أبيه.

هنا يبرزُ دورُ مريم الذي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح (متى 1: 16). مريم لا تدل فقط على الشعب اليهودي الذي تحدّرت منه. بل هي تدلّ على العالم كله الذي نال الخلاص باسم يسوع. فيسوع هو الربّ المخلّص. ومريم هي أول المخلّصين. هي حواء الثانية التي ولدت رأس الخليقة الجديدة، بعد أن كانت حواء الأولى رأس الخليقة القديمة، حين اغوتها الحيّة فأغوت في الوقت عينه البشرية كلها. كلهم خطئوا. كلهم ماتوا. أما مع يسوع فبدأت الحياة. وكانت مريم أول التلاميذ في عرس قانا الجليل: ظهر مجد الربّ في اليوم الثالث، عبر الساعة، ساعة الموت، فشاركت مريم في هذه الرسالة حين رافقت ابنها حتى الصليب على الجلجلة. اربع نساء من جهة. وامرأة خامسة هي مريم. وهكذا اكتمل عقد القداسة فارتبطت الأرض بالسماء، ووصل الخلاص إلى البشر اجمعين.

خاتمة

تلك هي الطريقة التي بها نقرأ الأسفار المقدّسة. حذّرنا بولس الرسول: الحرف يقتل. يقتلنا نحن اولاً. بل يقتل نصّ الكتاب فيُفقده كامَل معناه. فما قيمة أحد الآباء الذي يتزوّج اكثر من امرأة حين تكون وصية الله واضحة: يكون الاثنان جسداً واحداً. هكذا كان في الابتداء، كما قال يسوع. وهكذا طلب يسوع، بحيث إن كل علاقة جنسيّة خارج الزواج. بامرأة واحدة، هي زنى، وتُعارض الوصيّةَ القائلة: لا تزنِ. أجل، الحرف يقتل ويعطينا صورة خاطئة عن نصوص الكتاب المقدّس بحيث نحاول أن نبتعد عنها أو نتركها. بل نستعريها، لأن الانسان عدوّ الجهل. أما الروح فيحيي. حين أراد الكاتب أن يبيّن أن الامم نالت بركة نالها ابراهيم ويعقوب، قدم صورة الزواج الذي يدلّ على الاتحاد والتجمّع تحت راية واحدة. ولكننا لا نلتصق بالصورة بحيث نضيع الهدف من كلام الله، بل نخرج من الصورة. ننطلق منها لنفهم المعنى الروحي. تزوّج يعقوب من راحيل. وابراهيم من سارة. هذا هو المعنى الاول والطبيعي. والمعنى الثاني هو أن شعوباً عديدة ارتبطت بهما. فما كان اتفاق فقط بين الاراميين والعبرانيين، بل مع الموآبيين والعمونيّين والمصريين والاشوريين. كلهم يجتمعون في عبادة الله الواحد. كلّهم وُلدوا في أرض الربّ.

وكلّهم دُوّنت اسماؤهم في كتابه. أما موطنهم الأخير فهو أورشليم السماويّة التي هي امّ البشريّة. مجد الله ينيرها، والحمل مصباحها. وإليها تسير بشرية آمنت مع ابراهيم، وتباركت مع يعقوب، فنالت خلاصاً بلغ إلى أقاصي الأرض.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM