بنو يعقوب وبناته

بنو يعقوب وبناته

حين فقد يعقوب ابنه يوسف، شقّ ثيابه ولبس المسح حداداً على ابنه. «فقام جميعُ بنيه وبناته يعزونه» (تك 37: 34-35). فسفرْ التكوين يروي أنه كان ليعقوب عددٌ من الابناء يذكر اسماءهم. ولكنه لا يذكر سوى ابنة واحدة هي دينة مع ما حدث لها في شكيم. لم نعد هنا على مستوى القبائل التي اجتمعت في حلف ديني ثم سياسيّ، بل على مستوى عائلة كبيرة، مع رجل له النساء الكثيرات والاولاد العديدون، مع ما يتضمّن ذلك من حسد بين امرأة وامرأة، وعداوة بين الإخوة، ستجعلهم يبيعون أخاهم حين رأوا حكمته ومعاملة والدهم له. عن هؤلاء الاثني عشر نتحدّث، وقد جعلهم الكتاب آباء الشعب العبرانيّ على مرّ العصور حتى يوم لم يبقَ اثر للقبائل. كل واحدٍ أقام في أرض اعطيت له «في أيام يشوع» ببركة من الله. فيهم تكوّن شعب الله الاول بانتظار شعب الله الثاني، الكنيسة، الذي يتأسّس على اثني عشر رسولاً دعاهم يسوع واحداً واحداً، وأطلقهم مع سلطان على الأرواح النجسة (مر 6: 7) وعلى عالم الشرّ والخطيئة، وما جعل في يدهم سلاحاً سوى كلمة السلام.

1- من رأوبين إلى بنيامين

توزّع أبناء يعقوب على أربعة أسماء. فتَحْتَ لواء ليئة، انضوى رأوبيين البكر. اشتقّ اسمُه من فعل «رأى». قالت أمه: رأى الله عنائي. أقامت قبيلته جنوبيّ أريحا، بين الجبل والأردن، تجاه أرض جاد. ثم شمعون مع فعل «سمع». استجاب الله ليئة التي لم تكن المحبوبة. نزلت قبيلته إلى مصر في زمن يوسف، ثم اقامت في منطقة شكيم. ثم ولدت ليئة لاوي الذي هو الرفيق، الذي تعلّق فيما بعد بخدمة الهيكل من خلال نسله. أقامت في النقب، شأنها شأن سائر القبائل، قبل أن تصبح القبيلة الكهنوتية. ويهوذا، الابن الرابع، ذكّر الوالدة أن عليها ان تحمد الله. يرتبط الاسم بالوادي الواقع جنوبي بيت لحم وحبرون. فالمكان هو الذي اعطى القبيلة اسمها. هم اهل الوادي. فعدد من العشائر تكوّنت وانضمّت في قبيلة واحدة حوالي سنة 1000 ق م. هذه القبيلة ستصبح القبيلة الملكية مع داود وسلالته الذين جعلوا من اورشليم عاصمتهم. إلى هنا جاء ابن داود وربّ داود (مر 12: 35- 37) فمات في اورشليم (القدس اليوم) الأرضية، بانتظار ان يدعو البشر كلّهم إلى أورشليم السماويّة (رؤ 21: 9- 14).

بعد توقّف لم يدُم طويلاً. كان لليئة الابن الخامس الذي ارتبط بالجزاء والشكر (يساكر). اقامت قبيلته في جوار سهل يزرعيل ونهر الاردن وجبل تابور، جنوبيّ شرقيّ أخيه زبولون. تاجر الأخوان التجارة عينها، ومارسا العبادة الواحدة على جبل تابور، الذي قدّسه الربّ، على ما يقول التقليد. فظهر عليه لثلاثة تلاميذ (بطرس، يعقوب، يوحنا) برفقة موسى وإيليا. لم يعد هذا الجبل ملكاً لإله من الآلهة، بل مُلكاً للربّ الذي وطئته قدماه. وهكذا كان زبولون او الأمير، الابن السادس والأخير لليئة.

اما الاسم السابع الذي يكمل الحلقة، فلم تلده ليئة، بل راحيل. اسمه يوسف. ولدته امّه وطلبت زيادة. وحين تُعطي بنيامين لزوجها، تدعوه ابن عنائي وتموت حين تضعه. اما والده فسمّاه ابن اليمين واليمن والسعادة. ابن البركة. فعلى أرضه بُني الهيكل. كانت قبيلته في مصر، وعبرت الاردن مع يشوع، وأقامت في وسط البلاد. تحدّثت نصوص ماري (على الفرات، في سورية) عن هذه القبيلة التي اقامت في الجنوب تجاه قبائل اقامت في الشمال. من هذه القبيلة خرج شاول، اول ملك للعبرانيين، ولكن داود أزاح سلالته. ويوسف أقام في مصر، بعد أن حسده اخوته فباعوه، فخانوه. وهو سيعود إلى فلسطين من الشرق مع اخيه بنيامين. جمع في شخصه افرائيم ومنسّى، شرقيّ نهر الاردن وغربيّه.

وولدت بلهة، جارية راحيل، ابناً اسمه دان: الرب يدين ويقضي. بعد تقلبات عديدة، أقامت قبيلته في شمال البلاد، عند منابع الاردن. ثم ولدت نفنالي الذي أقام شماليّ غربيّ بحيرة الحولة، قبل ان تصير أرضه مقاطعة من المقاطعات الادارية التي نظّمها سليمان الملك. وولدت زلفة، جارية ليئة، ابنا، هو جاد الذي يحمل الحظّ. اقامت القبيلة في شرقي الاردن، في أرض يعزير بين نهر الاردن والعمونيين، كما ولدت اشير الذي يرتبط بالسعادة. هو ما نزل إلى مصر، ولا شارك في مسيرة الخروج، فشابه زبولون ويساكر ونفتالي، بل عاش وسط الكنعانيين.

2- اثنا عشر ابناً

وهكذا كان بنو يعقوب اثني عشر، والعدد يدلّ على الملء والكمال. وسوف يكون تطوّر في الاسماء بحيث لا ينقص هذا العدد ولا يزيد. اما الحكمة من ذلك، فهي أن تتوزّع الجماعات على اثني عشر شهراً، بحيث تخدُم كلُّ جماعة المعبد المركزي شهراً من شهور السنة. هذا ما يُدعى في اللغة العلميّة: الامفيكتيونيا، اي الذين يقيمون حول موضع من المواضع. هي رابطة واتحاد وحلف مقدّس. وهذه الظاهرة لم تكن محصورة في العالم العبريّ. فقد وُجدت ايضاً لدى الاسماعيليين. ونقرأ في سفر التكوين: «هؤلاء هم بنو اسماعيل وهذه اسماؤهم بحسب ديارهم وحصونهم وهم اثنا عشر رئيساً لقبائلهم» (تك 25: 16). وكان الربّ قد قال لهاجر عن اسماعيل: «وها أنا أباركه وأنميه وأكثره جداً، ويلد اثني عشر رئيساً» (تك 17: 20). وكذا نقول عن الموآبيين، والعرب، بل عن اليونان الذي يحيطون بمعبد دلفوي الشهير.

هذا الرقم (اثنا عشر) استُعمل اول ما استعمل للكلام عن بني يعقوب الاثني عشر. نقرأ في سفر التكوين: «وكان بنو يعقوب اثني عشر. بنو ليئة...» (35: 22). وحين كانوا في مصر، وحُسبوا جواسيس، أجابوا: «عبيدك اثنا عشر أخاً. نحن بنو رجل واحد في أرض كنعان» (تك 42: 13). وبعد أن بارك يعقوب أبناءه، أضاف الكاتب: «هؤلاء هم أسباط اسرائيل الاثني عشر» (تك 49: 28). وهذه العبارة الأخيرة سوف تسيطر فيما بعد. يُنسى يعقوب، ويبقى اسم اسرائيل الذي كان في الاصل قبيلة من القبائل. نقرأ في سفر الخروج: «وبنى (موسى) مذبحاً في اسفل الجبل واثني عشر عموداً لأسباط اسرائيل الاثني عشر» (خر 24: 4). ورؤساء اسرائيل: «اثنا عشر رجلاً» (عد 1: 44).

وإذ يريد الكاتب أن يتحدّث عن الشعب كله، يقول: اثنا عشر. ولبث يقول هذه العبارة حتى يوم لم يعد من وجود للقبائل. لقد صار هذا العدد رقماً رمزياً. إن قاموا بعمل، اختاروا اثني عشر رجلاً. وأن قدّموا ذبيحة قدّموا اثنتي عشرة ذبيحة. وأن أرسلوا جواسيس، أرسلوا اثني عشر جاسوساً. أما عدد القضاة في الشعب فكان اثني عشر قاضياً. في الاصل، عُرفت دبورة وجدعون ويفتاح وشمشون. ولكن الكاتب أنهى اللائحة لكي يصل إلى اثني عشر قاضياً، وإن لم يكن لكل قبيلة قاضٍ. والخلاص الذي يتمّ في كل قبيلة يبدو وكأنه طال القبائل كلّها، فنعم به الشعب.

منذ سليمان تفككت القبائل، وتنقّل افرادها في البلاد وخارجها. لم يعد التقسيم الاداري على مستوى القبيلة مع الشيخ الذي يمثّلها، بل على المستوى المكانيّ وصار الرئيس مديراً يعيّنه الملك ممّن يأمن لهم، فيقدّم حاجة المملكة شهراً من شهور السنة. بل كان هناك مدراء من الفينيقيين او المصريين. ومع ذلك قسم سليمان مملكته إلى اثنتي عشرة مقاطعة. وحين انقسمت مملكة سليمان بين شمال وجنوب، جعلوا القسمة تتمّ بين عشر قبائل من الشمال وقبيلتين من الجنوب حيث ابتلع يهوذا شمعون وسيطر على دور بنيامين بحيث بدا وكأن لا وجود له. ومضى الشمال إلى المنفى مع الاشوريين، سنة 722 ، والجنوب مع البابليين، سنة 587، ومع ذلك ظلّ الكتاب يتحدّث عن الاسباط الاثني عشر. نقرأ في سفر عزرا: «وقرّبوا تدشيناً لبيت الله... اثني عشر تيساً من المعز ذبيحة عن خطيئة جميع اسرائيل حسب عدد أسباطهم» (عز 6: 17). وسفر يشوع الذي دُوّن بعد المنفى وسيطرة الفرس على البلاد من مصر إلى الهند، أعاد قسمة الأرض بين اثنتي عشرة قبيلة. واعتبر العمل قد تمّ منذ دخول العبرانيين إلى فلسطين بشكل متقطّع ومتفاوت: هذه حصة رأوبين وحصة جاد ومنسى... ( يش 13: 15، 24، 29). هل تحققت هذه الوحدة بين القبائل؟ لا، لم تتحقّق يوماً. وحتى في أيام داود، كان هناك جيش الجنوب وجيش الشمال، اللذان اجتمعا حول شخص الملك، وافترقا عند موت الملك سليمان. قال اهل الشمال، اي مملكة اسرائيل، بقيادة يربعام الاول: «لا قسمة لنا في داود ولا نصيب لنا في ابن يسّى. إلى خيامك يا اسرائيل» (1مل 12: 16). وظلّت القبائل تتطلع إلى اليوم الذي فيه تجد وحدتها، اقله في نهاية الزمن. غير ان القديس يعقوب رأى ان هذه الوحدة تحققت في الجماعة المسيحية، مع اثني عشر رسولاً يجلسون على اثني عشر كرسياً ليدينوا اسباط اسرائيل الاثني عشر (متى 19: 28). قالت رسالة يعقوب: «مِن يعقوب، عبد الله والربّ يسوع المسيح، إلى الأسباط الاثني عشر الذين في الشتات سلام» (يع 1: 1). في العهد الاول، الشتات يدلّ على اليهود الذين تشتّتوا خارج فلسطين وأقاموا في المدن الرومانية وفي خارجها. أما في العهد الجديد، فالمسيحيون هم الاثنا عشر الذين انتشروا انطلاقاً من اليهودية والسامرة فوصلوا إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8).

3- الرسل الاثنا عشر

«وفي تلك الأيام، خرج يسوع إلى الجبل ليصلّي، وأمضى الليل كله في الصلاة إلى الله. ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر، وسمّاهم رسلاً: سمعان الذي دعاه بطرس، واندراوس أخاه، يعقوب ويوحنا، فيليبس وبرتلماوس، متى وتوما، يعقوب بن حلفا وسمعان الملقب بالغيور، ويهوذا أخو يعقوب، ويهوذا الاسخريوطي الذي صار خائناً» (لو 6: 12- 15).

ذاك هو نصّ القديس لوقا في كلامه عن اختيار الاثني عشر رسولاً. ولكن إن عُدنا إلى متى (10: 3) ومرقس (3: 18) نقرأ اسم تداوس بدل سمعان الغيور، وسمعان القانوي تجاه يهوذا أخي يعقوب. وهناك تقليد يتحدث عن لابي. وحاول الشرّاح ان يجدوا تفسيراً لذلك كما قابلوا برتلماوس مع نتانئيل الذي نقرأ اسمه في انجيل يوحنا (يو 1: 45- 51). ولكن المهم عند الانجيلي الذي يذكر الرقم الاثني عشر، هو أن يتحدث عن الشعب الكامل في العهد الجديد. فالكنيسة وجدت جذورها في الشعب الاول، ولكنها مدّت هذه الجذور فأصبحت شجرة كبيرة تتظلّل طيورُ السماء في اغصانها (متى 13: 32).

من الجليل جاء سمعان واندراوس اخوه، يعقوب ويوحنا اخوه. من مائدة الجباية دُعي متى، ومن قانا دُعي سمعان. وقد يكون احد الغيورين الذين اعتادوا على حمل السلاح ليطردوا الغريب المحتلّ. اما سمعان هذا فاستبدل سلاحاً بسلاح. ترك عالم العنف، وما باع قميصه ليشتري سلاحاً. بل باع سلاحه، أو هو حوّله إلى سلاح الكلمة الذي هو سيف ذو حدّين يدخل إلى مفرق النفس والجسد (عب 4: 12). اسم يعقوب وسمعان ويوحنا اسمٌ ساميّ. اما اسم اندراوس وفيليبس فاسم يونانيّ يدلّ على رجولة وحبّ الخير.

هؤلاء الاثنا عشر اختارهم يسوع، وأشركهم في الخدمة التي يقومون بها على الأرض: أرسلهم امامه اثنين اثنين إلى كل مدينة أو قرية أزمع أن يدخل اليها. بدأوا العمل معه، قبل آلامه وموته. وبعد قيامته، تابعوا الرسالة فأسّسوا أولى الجماعات المسيحية، لا على مستوى شعب من الشعوب ولا على مستوى عرق، ولا في أرض دون سائر الأراضي. بل في العالم كله، حيث كرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مر 16: 15). كانوا شهوداً لقيامة يسوع بين الشعب اليهودي في أورشليم (اع 13: 31) فكفلوا أمانة الجماعة لتعليم الربّ.

دعاهم الانجيل «الاثني عشر» (مر 3: 14، 16). أو «الرسل الاثني عشر» (متى 10: 2، 5). بل دعاهم متى في 10: 1 : 11: 1 : «التلاميذ الاثني عشر». فكيف يمكن أن يكونوا رسلاً، إن لم يبدأوا فيتتلمذوا على يد من قال: «من أراد أن يتبعني يكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني. او: من لا يحمل صليبه ويتبعني لا يمكن ان يكون لي تلميذاً. خانهم واحد هو يهوذا الاسخريوطي. فصاروا «الأحد عشر» (مر 16: 12) أو «الأحد عشر تلميذاً» (متى 28: 16) أو «الأحد عشر رسولاً» (أع 1: 26). ولكن حين أُضيف متياً، بعد صعود المسيح، استطاع بطرس ان يقف مع الاحد عشر (اع 12: 14) ليُعلن البشارة باسم الكنيسة التي عادت إلى كمالها حين صار الرسل من جديد اثني عشر رسولاً. «فاجتمعوا معنا في كل الزمان الذي عاش فيه الربّ يسوع بيننا منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع، فيصير معنا شاهداً لقيامته» (أع 1: 21- 22). وهذا الرقم قد صار رمزاً بحيث يقول يوحنا بعد الموت والقيامة وخيانة يهوذا: ''ان توما احد الاثني عشر الذي يُقال له التوأم (يو 20: 24). وحين تكلّم بولس عن الظهورات، بدا وكأنه يفصل كيفا (او بطرس) عن الاثني عشر.

في سفر الرؤيا ذُكرت اسماء الأسباط (رؤ 7: 5) على أن الله ختمهم ليكونوا في هذا الجمع الكثير الذي لا يستطيع أحد أن يحصيه (آ 6). هم اثنا عشر. وسيحلّ محلّهم اثنا عشر رسولاً يسيرون وراء الحمل، فيكونون في أساس المدينة المقدسة. قال: «وسور المدينة، أورشليم، اثنا عشر أساساً، وعليها اثنا عشر اسماً، هي أسماء رسل الحمل الاثني عشر» (رؤ 21: 14).

خاتمة

وهكذا صار يعقوب رمزاً للكنيسة. ابناؤه هم رؤساء القبائل الاثنتي عشرة على مثال الكنيسة المكلّلة بإثني عشر كوكباً، كما يقول سفر الرؤيا. هم الرسل الذين اختارهم الربّ وأرسلهم فساروا وراء الحمل، ومثّلوا الجماعات المسيحية في العالم. شعبٌ اول وجد كماله في الاثني عشر سبطاً. وشعب جديد يجد صورته الكاملة في الاثني عشر رسولاً الذين كانوا قبل العنصرة «مواظبين على الصلاة بنفس واحدة مع بعض النساء ومريم ام يسوع ومع اخوته» (اع 1: 14). وهكذا وجد الشعب الاول ملء الخلاص في الكنيسة المسيحية التي تواصل رسالة معلّمها إلى أن يجيء

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM