سلّم بين الأرض والسماء

سلّم بين الأرض والسماء

حين نقرأ نصاً من العهد القديم ونجده هو هو في العهد الجديد، نفهم ارتباط العهدين الواحد بالآخر. فالعهد الجديد يجد جذوره في العهد القديم، والعهد القديم يجد ملء نوره في العهد الجديد. العهد القديم مسيرة انطلقت من الانسان الخاطىء والسائر إلى لقاء الله، وهو لا يتمّ الا في العهد الجديد الذي هو كمال الوحي. فالله الذي كلّمنا بالأنبياء منذ القديم، «كلّمنا في النهاية بابنه الوحيد الذي هو بهاء مجده وصورة جوهره» (عب 1: 1-2). اعتبر كتاب العهد الجديد ان ما كُتب في القديم انما كُتب لتعليمنا فنحصل على الرجاء (روم 15: 4). فمن توقّف عند العهد القديم، كما تفعل بعض البدع، عاد إلى ما قبل المسيح وما زال عليه ان ينتظر عودة المسيح. ومن ترك العهد القديم لأسباب لا يجهلها أحد، ينسى أننا لا نفهم الأناجيل ولا الرسائل إن لم نعد إلى مسيرة كلام الله منذ الابتداء. فالإله الواحد تكلّم في العهد القديم وفي العهد الجديد، وهنيئاً لنا إن نحن دخلنا في روح الكنيسة فقرأنا الكتاب كلّه من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. عندئذٍ ندخل في ملء وحي الله. هذا ما فعلناه حتى الآن، وما نفعله اليوم حين نقرأ عن تلك السلّم التي رآها يعقوب. فوصلت بنا إلى ما قاله يسوع في انجيل يوحنا: «سترون السماء مفتوحة وملائكة الله صاعدين نازلين على ابن الانسان» (يو 1: 51).

1- سلّم منصوبة على الأرض

يروي سفر التكوين أن يعقوب ترك اسحق أباه وأرض فلسطين، ومضى إلى خاله لابان، إلى حاران، خوفاً من غضب أخيه. في محطّة أولى انطلق من بئر سبع في الجنوب، إلى بيت إيل، في الوسط. من معبد إلى معبد. هو وحده في تلك الليلة. ترك الوالدين ولا سيّما أمّه التي أحبّته حباً خاصاً. أترى الله تركه؟ كلا. فالمزمور يقول: «إن تركني ابي وامي، فأنت يا ربّ تقبلني» (مز 27: 10) وها هو الربّ يدلّ على حضوره. ماذا يقول الكتاب؟

«وخرج يعقوب من بئر سبع وذهب إلى حاران، فوصل عند غياب الشمس إلى موضع رأى أن يبيت فيه، فأخذ حجراً من حجارة الموضع ووضعه تحت رأسه ونام هناك، فحلُم أنه رأى سلّماً منصوبة على الأرض، رأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها. وكان الله واقفاً على السلّم يقول: «أنا الربّ إله ابراهيم...». فأفاق يعقوب من نومه وقال: الربّ في هذا الموضع ولا علم لي». فخاف وقال: «ما أرهب هذا الموضع! ما هو إلاّ بيت الله وباب السماء» (تك 28: 10- 17).

بيت إيل معبد قديم، وسوف يصير معبد الله الواحد، ولا سيّما في حقبة ملوك مملكة الشمال. والسلّم تذكرنا بما رآه يعقوب في بلاد الرافدين، العراق اليوم، من هياكل ترتفع سبعة طوابق، ففي الطابق الأخير يتجلّى الله وهناك يُقيم. وبما أن لا جبل هناك يجعله الرب موطئاً لقدميه حين ينزل على الأرض، كما نزل على رأس جبل سيناء (خر 19: 20)، حلت هذه الهياكل التي سُمّيت «زقّورة» محل الجبل، وبقيت آثارُها في أرض العراق.

صارت هذه «الزقورة» سلّماً يربط الأرض بالسماء. لم يعد الله ذاك البعيد، وكأنه صنم، لا يتكلّم ولا يجيب (1مل 18: 26). أما طريقة كلامه في جوّ مخافة الله، فالحلم والملائكة. ففي الحلم وسكون الليل يتكلّم الله. المبادرة كلها منها والانسان يفتح قلبه على هذا الحضور وعلى هذا الكلام. ثمّ يؤمّن الملائكة الاتصال بين الله والبشر. هم يشكّلون سلّماً تصعد من الارض فتصل إلى السماء.

اكتشف يعقوب أن الله هو هنا. بل سمعه يكلّمه في اعماق قلبه. إنه الاله الامين. كان مع ابراهيم واسحق، وسيكون ايضاً مع يعقوب. قد يتخلّى الانسان عنه، فيلجأ إلى وسائل بشريّة لا يرضى عنها، كما فعل يعقوب اكثر من مرّة، ولكن الله له مخطّطه في كل انسان، وهو يواصله سائراً مع الانسان الصاعد إليه. والعاطفة الاولى التي يحسّ بها المؤمن أمام الله، هي المخافة. الانسان الضعيف أمام الله القدير الانسان الخاطىء أمام من هو القداسة بالذات. لهذا يجب على المؤمن أن يتخذّ موقفاً، أن يقطع عهداً. أن يقوم بعملٍ. هذا ما فعله يعقوب حين كرّس المكان، فجعل الحجر عموداً، نصُباً، جعله بشكل مذبح، وفهم ان الربّ هو إله له، فممّ يخاف بعد الآن؟ هو يستطيع ان يمضي إلى أرض المشرق (تك 29: 1). ويقول الترجوم (النسخة الأرامية للتوراة): «عندما يدأ ابونا يعقوب مسيرته إلى حاران، تقلّصت الأرض أمامه، فوجد نفسه حالاً في حاران''. أجل، صارت الطريق قصيرة في رفقة الربّ، والأيام سريعة.

2- الملائكة وحضور الله

بعد أن قرأنا نصّ الكتاب، نتوقف عند عناصر ثلاثة:

الأول، الحجر الذي وضعه يعقوب تحت رأسه ونام، هذا الحجر سيكون أساس المذبح الذي سيكرّس للربّ مع الزيت فوقه. وسيبقى المعبد في بيت إيل قائماً حتى الاصلاح الذي قام به الملك يوشيا سنة 622 ق.م حين ألغى جميع المعابد وما ترك سوى هيكل اورشليم موضعا تقدّم فيه الذبائح. يتحدّث الترجوم عن هذا الحجر: صار حجارة. قال: ان الحجارة التي اخذها ابونا يعقوب وجعلها مخدة لرأسه، وجدها عندما نهض في الصباح، وكأنها حجر واحد. هذه الحجارة ستكون الشاهد بين يعقوب وخاله: «هذه الكومة شاهدة، والعمود شاهد» (تك 31: 52). ويتواصل حضور هذا الحجر، او بالأحرى هذا الصخر مع نسل يعقوب، وذلك في شكيم، موطن يعقوب ويوسف. طلب يشوع من القبائل ان تتخلّى عن أصنامها وأن تعبد الله الواحد. قالوا: «الرب وحده نعبد». فأجابهم يشوع: «أنتم شهود على أنفسكم أنكم اخترتم الربّ لتعبدوه» (يش 24: 21- 22). وأخذ حجراً كبيراً واقامه هناك وقال: «هذا الحجر يكون شاهداً بيننا لئلا تُنكروا إلهكم» (آ 27). ويصل بنا المطاف إلى نبوءة أشعيا: «انظروا إلى الصخر الذي نحتّم منه، وإلى المقلع الذي منه اقتُلعتم، انظروا إلى ابراهيم أبيكم، وإلى سارة التي ولدتكم. دعاه الربّ وهو رجل واحد، وبارك وكثر نسله» (اش 51: 1- 2). الصخر هو ابراهيم الذي نال بركة (تك 13: 14- 15) سينالها يعقوب: «ويتبارك بنسلك جميع قبائل الأرض» (تك 28: 14). هذا ما يصل بنا إلى الكنيسة التي بُنيت على الصخرة، كما قال الربّ يسوع لبطرس: «أنت صخر وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي» (مت 16: 18).

العنصر الثاني هو وجود الملائكة التي تصعد وتنزل. ملاك الله هو مرسل الله وممثّله. إن كان وحده، فهو يرمز إلى حضور الله. كأني به يهيّء الطريق لله. في بداية كل ظهور إلهي، يكلّم الملاك ذاك الذي يختاره الربّ. وبعد ذلك، يتخذّ الربّ المبادرة فيكلّم المؤمن في اعماق قلبه. هذا ما نراه مثلاً في خبرة جدعون (قض 6: 11- 14). في البداية، يقول النصّ: «جاء ملاك الربّ». وفي آ 14، نقرأ: «التفت الربّ إليه وقال له: ''إذهب بهذه القوة». وهكذا نقول عن ملاك الربّ عند العليقة الملتهبة مع موسى. «ورأى الربّ انه مال لينظر، فناداه من وسط العلّيقة» (خر 3: 4)، كما سبق له ونادى ابراهيم. اما وجود الملائكة فدلالة على حضور السماء على الارض. فهؤلاء الملائكة يحملون حاجات الانسان إلى الله حين يصعدون. وحين ينزلون ترافقهم بركة الله. «ها أنا معك، احفظك أينما اتجهت» (تك 28: 15). نحن هنا أمام رمز. أما في عيد الميلاد، فهناك ملاك أول يأتي فيبشّر الشعب بفرح عظيم، ثم ملائكة هم «جمهور الجند السماوي يسبّحون الله ويقولون: '' المجد لله في العلى» (لو 2: 10، 13). أجل صارت السماء على الارض، والله بين البشرّ، في ولادة ابن الله انساناً في مذود، في بيت لحم. صار الله معنا حقاً ونحن نرى مجده من خلال طفل المغارة.

والعنصر الثالث هو الحضور الإلهي. هذا ما يدلّ عليه وجود الملائكة. اعتاد العهد القديم أن لا يتحدّث مباشرة عن حضور الله، لأن احداً لا يقدر ان يرى وجه الله ويبقى على قيد الحياة. حين طلب موسى من الربّ: «ارني مجدك»؛ أجابه الربّ: «لا تقدر ان ترى وجهي، لأن الذي يراني لا يعيش» (خر 33: 18، 20). فالله نار آكلة (عب 12: 29)، ولكن الله هو حاضر حضوراً حقيقياً فيملأ المؤمن بنعمته. وهو فاعل في من يدعوه، فيخلقه خلقاً جديداً. وهو يتكلّم. وكم احتاج يعقوب إلى هذا الحضور وهو ماضٍ إلى موضع شبه مجهول. ولا يعرف ما ينتظره هناك. أجل، الربّ اتخذ المباردة وحضر على صفيّه قبل ان يمضي إلى حاران. هو معه في الذهاب وهو معه في الاياب، كما قال المزمور (121: 8). خبرةُ الحضور هذه والمجد، احتاج إليها التلاميذ في بداية صعود يسوع وآلامه وموته في أورشليم «تجلّى الرب بمشهد منهم» (مر 9: 2). هذا الانسان الذي يرونه أمامهم هو ايضاً ابن الله. وهم منذ الآن يرون مجده بشكل عابر بانتظار أن يختبروا قيامته وحضوره معهم إلى نهاية العالم.

3- السماء المفتوحة

كل هذا يقودنا إلى مسيرة التلاميذ مع يسوع، واكتشاف شخصه شيئاً فشيئاً. دُهشوا، تعجّبوا. قال لهم يسوع: «الحق اقول لكم: سترون السماء مفتوحة وملائكة الله صاعدين نازلين على ابن الانسان» (يو 1: 51).

بدأت مسيرة التلاميذ حين أشار المعمدان إلى يسوع وقال عنه: «ها هو حمل الله» (يو 1: 36). واكتشف اندراوس في يسوع «الماسيا أي المسيح» (آ 41). انتظره الشعب كذلك الذي يخلّص شعبه من خطاياهم. وتحدث فيلبس عن يسوع ابن يوسف من الناصرة، «الذي ذكره موسى في الشريعة والانبياء في الكتب» (آ 45). وربط نتنائيل بين الوجه البشريّ الذي ينتظره اليهود: «أنت ملك اسرائيل» والوجه الالهي: «أنت ابن الله». وكان جواب يسوع: أجل قُتحت السماء وأقام الله على الارض، ولذلك حضر الملائكة فحملوا مجد الله إلى السماء كما سبق لهم ونزلوا ليعدّوا الطريق لمن هو ابن الانسان وابن الله. هُيّئت الطريق، فما عادت الحاجة إلى وسيط، كما في العهد القديم، إلى ملاك كما في خبر طوبيا. الوسيط الوحيد، بعد الآن، هو ابن الانسان، هو يسوع المسيح فقد صار هو السلّم.

في هذا المجال، نفهم أن الملائكة يصعدون على السلّم وينزلون. هي الوساطة بين السماء والارض. غير أن تعليم المعلّمين اعتبر ان الملائكة وصلوا إلى يعقوب. فهو الأب يمثل ابناءه وشعبه، والله حاضر معه. وفي انجيل يوحنا، نتنائيل هو يعقوب الجديد الذي جاء اليه ابن الانسان. ففي شخص نتنائيل نكتشف انتظار الشعب اليهودي لذلك الذي تحدث عنه دانيال: «ورأيت في منامي، ذلك الليل، فإذا بمثل ابن الانسان آتٍ على سحاب السماء» (دا 7: 13)، هو الله يرسل ابنه الوحيد سلطاناً وملكاً مجيداً «فتعبده الشعوب من كل امّة ولسان، ويكون سلطانه سلطاناً ابدياً لا يزول وملكه لا يتعداه الزمن» (آ 14).

كانت السماء مغلقة فانفتحت، والله أرسل ابنه عندما تمّ الزمان. وهذا تجلّى بشكل صريح في معمودية يسوع في نهر الأردن. ولا ننسى اننا بجانب هذا النهر حيث كان يوحنا يعمّد. وهي انفتحت لا لشخص واحد، هو نتنائيل، بل لمجموعة تبدأ مع التلاميذ. وهذا واضح من صيغة الجمع التي نقرأها. ما قال النص: سوف ترى، يا نتنائيل، بل «سوف ترون». وفي الواقع، سوف يرى التلاميذ مجد يسوع في عرس قانا الجليل: «هذه اولى آيات يسوع، صنعها في قانا الجليل. فأظهر مجده فآمن به التلاميذ» (يو 2: 11) تعجّب نتنائيل حين كلمه يسوع، ولكنه سيرى أعظم من هذا (يو 1: 50). وها هو عرس قانا البداية، وسوف تتبعه أعمال عظيمة ليس آخرها نزول يسوع وصعوده.

كل هذا يقرّبنا من موت يسوع وقيامته وصعوده. هذا ما أعلنته الكنيسة إلى نيقوديمس بفم معلمها. انطلقت من الصعود ومجد ابن الله. لتُفهم اليهود أن هذا الذي صعد، سبق له ونزل، والمسيح الذي انتظروه قد جاء حقاً حين ارسله الآب «لئلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الابدية» (يو 3: 16). قال يوحنا: «ما صعد أحدٌ إلى السماء إلا ابن الانسان الذي نزل من السماء» (آ 13). وحده يسوع، ابن الانسان صعد. هذا يعني ان ما قيل عن اخنوخ وإيليا وموسى، ظلّ على مستوى التمنّي والصور البعيدة. اما الحقيقة فهي يسوع المسيح، به وبه وحده يصعد المؤمنون وهو الذي صعد إلى العلاء (اف 4: 8) ليملأ الكون بحضوره لأنه يملأ الكنيسة التي هي جسده وملؤه (اف 1: 23).

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا من العهد القديم إلى العهد الجديد، من يعقوب إلى يسوع. نال يسوع البركة في خط ابراهيم وكان يسوع ملء البركة بعد أن نزل «أولاً إلى أعمق أعماق الأرض» (اف 4: 9). وضع تحت رأسه حجراً (أو حجارة) سيكون مذبحاً للعبادة الالهية. ولكن يسوع كان هو الحجر الذي رذله البناؤون فصار رأس الزاوية (مز 118: 22- 23؛ مت 21: 42). وستكون كنيستُه مبنيّة على صخرة الايمان، على بطرس الذي اختاره راعياً لخرافه ولغنمه (يو 21: 15- 17) مع أنه هو وحده الراعي الصالح. كان الملائكة في خبر يعقوب علامة على حضور الله الذي يرافق من اختاره إلى أرض بعيدة، قبل أن يعود به إلى أرضه. أما مع يسوع، فالملائكة يهيّئون مجيء ابن الانسان، يسوع المسيح، الذي ظهر مجدُه على الارض، ولا سيّما على الصليب إذ قال: الآن تمجّد ابن الانسان وتمجّد الله معه. ويسوع هذا لا يحتاج إلى سلّم، إلى وسيلة اتصال بين السماء والارض. بل هو الاتصال الوحيد، هو الوسيط الوحيد الذي لا وسيط بعده. هو وحده من السماء والارض ولهذا يستطيع ان يربط السماء والارض فيحمل إلى البشر بركة العلاء ويحمل إلى الله صلاة المؤمنين وتوبتهم. ولهذا قدّمت لنا بعض الأيقونات صليب المسيح الذي غُرز في الارض. وارتفع إلى السماء. تلك هي سلّمنا. تلك هي الخشبة التي تفهمنا أن حياتنا الجديدة لا يمكن ان تكون قيامة إلاّ إذا شاركنا المسيح في آلامه وموته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM