يعطيك الله من ندى السماء

يعطيك الله من ندى السماء

هكذا تبدأ بركة اسحق لابنه يعقوب، فتجعله يحمل بركة أعطيَتْ لابراهيم وسوف تتواصل إلى يسوع المسيح الذي لنا فيه كل بركة. ولكن هذا الكلام كان يجب ان يوجّه إلى البكر، إلى عيسو الذي قال له والده: أخرج إلى البريّة وهيِّىء لي الأطعمة التي أحبّ، وجئني بها فآكل وأباركك قبل أن أموت (تكوين 27: 3- 4). وتدخلت الأم، رفقة، فانتقلت البركة من الأكبر إلى الأصغر. وكان صراع داخل العائلة كاد ينتهي بقتل يعقوب على يد أخيه لو لم تتدخّل الأم مرة ثانية وتجعل ابنها الأصغر يهرب إلى خاله لابان، في أرض ارام التي تقابل اليوم شمال العراق. ويخسر الوالدان في يوم واحد ولديهما: واحد ترك البيت وعاش في البريّة من صيده. وآخر تغرّب عن الديار ولن يعود قبل عشرين سنة. قصة عائلة تتفكك ويبدو الله فيها غائباً. ولكن أترى الله يغيب من الكتاب المقدس ومن حياتنا؟ كلا ثم كلا. فهو حاضر يكتب كلماته من خلال أعمال البشر، فيجعل المعوج مستقيماً والشرّ خيراً. وفي النهاية يجمع عياله تحت اسم واحد هو اسم يسوع المسيح.

1- إذا غاب الله

يبدأ الفصل السابع والعشرون من سفر التكوين بدعوة اسحق لابنه عيسو بأن يأتي إليه، خلال وليمة مقدّسة، وينال بركته. هو أمر عادي، والبكر هو من ينال بركة الأب في عادات الشعوب، وتكون له الحصّة الكبرى في الميراث.

ولكن السوس في قلب الخشب. والقسمة تهدّد اسرة اسحق. فقد سبق وقيل لنا : أحبّ اسحق عيسو. إذن فضّله على أخيه. والسبب استطاب صيده. أما رفقة فأحبت يعقوب، فضّلته على أخيه (تك 25: 28). وهكذا انقسم البيت فريقين. وما كان في الأصل بركة تحمل الخير إلى البيت وتنقل تراث الآباء إلى الابناء، صار لعنة. دخل عيسو في لعنة والديه بعد أن ترك كنف القبيلة وتزوّج نساء من بني حث وكنعان واسماعيل. ودخل يعقوب في لعنة أخيه الذي هدّده بالقتل.

تدخّلت الوالدة وقطعت الطريق على البكر. فاحتالت وعلّمت ابنها الحيلة. ليهيّء الأصغر الطعام لأبيه فينال بركته. فاتخذ يعقوب صفة عيسو: لبس له ثيابه، وربّما جعل عليه العطر الذي اعتاد أخوه أن يستعمله. شمّه ابوه فما ارتاب أن الذي أمامه هو عيسو. ثم غطّى يعقوب يديه والجانب الأملس من عنقه بجلد المعز. وهكذا صار جلد يعقوب مثل جلد عيسو. «فروة من شعر» (تك 25: 25). فلم يبقَ له سوى سمرة أخيه. ولكن الوالد شبه أعمى. هو لا يرى. بل يكتفي بأن يجسّ الآتي إليه. تبدّل يعقوب كله، ولم يبقَ سوى الصوت. فقال الوالد: «الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو» (تك 27: 22).

وتتوإلى المشاهد بعد لقاء اسحق وعيسو. كان لقاء رفقة ويعقوب، ثم لقاء يعقوب مع أبيه، حيث نال البركة: على مستوى الأرض والزراعة: يعطيك الله من ندى السماء ومن خصوبة الأرض، فيضاً من الحنطة والخمر (تك 27: 28). وعلى مستوى السلطة «السياسية» والعائلية: هو سيّد إخوته. بل تخدمه الشعوب. يرى الكاتب الملهم الذي دوّن هذا الكلام في زمن داود أو بعد ذلك الزمان، ما وصل اليه نسل يعقوب مع داود وسليمان. ونحن نرى فيه يسوع المسيح الذي وحده تخدمه الشعوب وتسجد له الأمم، كما نقرأ في الرسالة إلى فيلبي عن المسيح الذي «رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم لتنحني لاسم يسوع كل ركبة في السماء وفي الارض وتحت الارض» ( فل 2: 10- 11). كما نرى ما ناله ابراهيم من قبل الله فينال البركة كلُّ من يباركه، وينال اللعنة كلُّ من يلعنه، أي تعود عليه اللعنة لأنه حفر حفرة فوقع فيها. كما نرى ما ناله ابراهيم ناله يعقوب، وسوف تتكرّر البركة فيما بعد، مُثبتة ما قاله اسحق في المرة الأولى: «فيباركك الله القدير وينميك ويكثرك وتكون عدّة شعوب، ويعطيك بركة ابراهيم» (تك 28: 3- 4).

والمشهد التالي يرينا يعقوب خارجاً بعد أن أخذ البركة، وعيسو داخلاً كي يطلب البركة. وهنا بدأت المأساة حين عرف الأكبر ما فعل له الأصغر وتذكّر أنه باعه البكوريّة. «تعقّبني مرتين: أخذ بكوريتي وها هو الآن يأخذ بركتي» (تك 27: 36). ماذا بقي له؟ لا شيء. صرخت فيه العاطفة بعد أن خسر ما ترقّبه. بكى ورفع صوته بالبكاء. وفي النهاية، حقد على يعقوب وعزم على قتله.

في هذه الأسرة، يبحث كل واحد عن مصلحته الخاصة بحيث يلعب العنف لعبته، والكذب والاحتيال. ذاك هو وضع البيوت العديدة من بيوتنا. سيطرت سارة على زوجها وعلى ابنها. وتعامل عيسو مع أخيه بالقوة، فعامله اخوه بالحنكة والحيلة، وعرف كيف يتهرّب منه بعد أن قدّم له بعض الهدايا. ولكن اين هو الله في كل هذا، والكتاب يحكي عن تعامل الله مع الانسان؟ أتراه غاب؟ واين الخلقية التي ننتظرها من كلام الله؟ في الواقع يرينا العهد القديم مسيرة الانسان إلى الله، وما في هذه المسيرة من خطأ. ويفهمنا حين يخبرنا كيف يجب أن لا نفعل. ماذا كانت نتيجة تصرّف هذه الأسرة؟ الضياع والتشتّت. يبقى على المؤمن أن يأخذ العبرة، كما عليه أن يعرف أن الله حاضر وإن بدا غائباً، وهو سيعيد هذه الاسرة إلى وحدتها في النهاية، عند سرير اسحق المائت. «وفاضت روح اسحق ومات، ودفنه عيسو ويعقوب أبناه» (تك 35: 29).

2- ولكن الله لا يغيب

لا ما غاب الله من حياة هذه الاسرة، ولا هو يغيب من حياتنا. إنه من يوجّه الأحداث في سبيل مخطط يوجّه فيه البشرية بعضها إلى بعض لتصبح كلها اسرة واحدة. هناك كثير من الناس يرون في الأمور صدفة، وفي النجاح حظاً. ويتوسّلون الطرق البشرية شرّها وخيرها، لكي يصلوا إلى مبتغاهم. لا شكّ في أنهم ينجحون، ولكنه نجاح موقت مثل حياة الانسان التي هي كعشب الحقل وزهر البرية: مثلهما ييبس الانسان ويذوي عمله، «بنسمة تهبّ من الربّ. أما كلمة إلهنا فتبقى إلى الأبد» (أش 40: 7- 8).

سيّد التاريخ هو الله، وان حسب العظماء أنهم هم الذين يفعلون. وسيّد حياة الانسان هو الله، وإن اعتبر الانسان نفسه سيّد نفسه. وفي خبر هذه البركة التي نالها يعقوب، هو الربّ الذي وجّه الأحداث فتجاوب الانسان معه، رغم ضعفه وخطيئته. ونحن لا نرى مخطّط الله إلاّ في النهاية. لكن يجب ان نكتشفه في عمقه الروحي، ولا نحسبه نتيجة عملنا وقدرتنا. والامثلة عديدة في هذا المجال: بيعت سارة في مصر إلى فرعون. مرضت امرأة فرعون. ففهم الملك أن هناك خطأ اقتُرف في بيته. فردّ سارة إلى زوجها، وعادت الأمور إلى مجراها. فسارة حاملة ابن العهد والرب يدافع عنها. وباع يوسف إخوته. هم نجحوا ولا شك في إبعاد هذا «المتكبّر» الذي حسدوه. ولكن كم دام نجاحهم؟ بل هم ظلّوا على المستوى البشري بما فيه من خوف وذلّ. أما يوسف فقرأ الأحداث من زاوية الله: انتم نويتم بي شراً، والله نوى بي خيراً.

وفي اعمال الرسل نقرأ حدثين. الأول نجاة بطرس من السجن. أحسّ نفسه، في الليل، خارج السجن. ما الذي حدث؟ هل هو في منام أم في يقظة؟ بل هو في يقظة. ما الذي حدث على المستوى البشريّ؟ لا شكّ في أنه حصل شيء. ولكن الكاتب لا يقول لنا سوى أن الملاك هو الذي انقذ بطرس «من يد هيرودس ومن كل ما كان اليهود ينتظرون أن يفعلوا به» (أع 12: 11). وسوف يروي الرسول للجماعة في أورشليم «كيف أخرجه الربّ من السجن». كان عمل على الأرض. ولكن العامل الحقيقي هو الله. ويخبرنا القديس لوقا عن بولس الذي أراد ان يمضي إلى آسية (وعاصمتها أفسس)، فمنعه الروح القدس. وحاول ان يدخل إلى بثينية (في تركيا الحالية) فما سمح له روح يسوع (أع 16: 6- 7). هناك سبب خارجي قطع الطريق على بولس وعلى الفريق الرسوليّ الذي يرافقه. ولكن المؤمن الحقيقي يرى في الأحداث اليومية أصبع الله الذي يفعل.

هذا ما أراد سفر التكوين أن يكتشفه في خبر البركة التي نالها يعقوب، وما توقفّ عند العوامل البشرية. ما نظر إلى خطيئة عيسو الذي بدا ضحية بريئة. أرسِل ليصطاد ويهيّئ طعاماً لأبيه. ولا نظر إلى كذب يعقوب واحتياله. ولا اهتم بما دبّرت رفقة من أمور جعلت الأصغر يحلّ محل الأكبر. كلُّ هذه الأمور تفاصيل بما فيها من وضع اسحق على مستوى النظر كما على مستوى الفهم. هي مثل الموج الذي على سطح المياه. مثل الزبد الذي لا يؤثّر على حياة السمك الذي في الأعماق الهادئة. فنسل يعقوب وصل إلى داود. ذاك هو مخطط الله الذي قرأه الكاتب الملهم في شخص جعل من اورشليم عاصمته، وهيأ الطريق لابن داود، كما يقول العهد الجديد. لا شك في ان اسحق هو الذي بارك ابنه يعقوب، ولكن الله هو الذي في النهاية يبارك الاصغر كما يبارك الاكبر كما نقرأ في مثل الابن انصال او الابن الشاطر.

3- كان لرجل ابنان

ونعود إلى الانجيل: «وقال يسوع: كان لرجل ابنان» (لو 15: 11). ويتوإلى المثل فيصوّر لنا أسرة تتفكّك لأن كل واحد يفكّر في نفسه. الأصغر، طلب حصّته من الأملاك. نلاحظ هنا ضمير المتكلّم المفرد: أعطني لي أنا، حصتي، الحصة التي لي. شابه هذا الابن الاصغر قايين الذي مضى إلى البعيد: «سافر إلى بلاد بعيدة» (لو 15: 13). كما شابه اسماعيل وعيسو. ترك البيت الوالدي وانتهى به الامر في عبوديّة جعلته يعمل كأجير يرعى الخنازير، بعد أن كاد الجوعُ يصل به إلى الموت.

والأنانية ليست بعيدة عن الأخ الأكبر الذي افتخر بأنه لم يترك البيت الوالديّ. قال له أبوه: «أنت معي في كل حين» (لو 15: 31). وافتخر بأنه ما عصى لأبيه امراً. أهي محبّة لأبيه، ام خوف من المسؤولية؟ في أي حال، لو كان فيه محبة لأبيه لكان فيه محبّة لأخيه. فأخوه الاصغر هو «ابنك» انت، كما قال لأبيه. في أي حال، لم يعد أخي «بعدما أكل مالك مع البغايا» (لو 15: 30). أخبره أبوه أن أخاه كان ضالاً فوُجد، أن أخاه كان ميتاً فعاش. فما اهتمّ لذلك. فكل ما يريده جديٌ يفرح به مع أصحابه. قال الأصغر: أعطني أنا. وقال الأكبر: ما أعطيتني أنا. وقال: «افرح به مع أصحابي». انه صار خارج البيت وإن حسب نفسه من البيت، بل هو رفض أن يدخل ما دام أخوه في البيت ينال مثل هذا الاستقبال.

إبنٌ مضى وترك البيت، وآخر يستعدّ ليبحث عن أصحابه كما فعل اخوه الاصغر. كل واحد يبحث عن طريقه بمعزل عن الآخر، أو ربما على حساب الآخر. تلك هي صورة عن مجتمعنا اليوم حيث ضاع التضامن في كثير من الأحيان، حيث تجفّ المحبّة في القلوب، كما قال الربّ يسوع. أجل، تفككت أسرة اسحق وتفككت أسرة هذا الوالد الذي اعتبره الأكبر يميل إلى الأخ الأصغر على حسابه. أترى يجب أن يخرج؟ هل إذا خطىء حنّ عليه ابوه؟ فهذا الآتي من البعيد بعد أن بدّد ما بدّد، ذُبح له العجل المسمّن، فما هذه العدالة التي لا تعرف العقاب، بل لا تعرف العتاب؟

هنا نكتشف وجه الله من خلال هذا الأب. ونستنير بكلام القديس بولس إلى اهل رومة: «حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة». حيث المرض هناك الطبيب. وحيث الخطيئة هناك الغافر. ولا يقبل الربّ بكلام يقول: نخطأ فتزداد النعمة. مثلُ هذا الموقف استهانة باسمه تعالى، وهو موقف رهيب ينال عقابه.

لا نتوقف عند ما فعله الأصغر ولا عند ما يستعدّ الأكبر أن يفعله. بل ننظر إلى قلب الآب، إلى قلب الله. لا يريد من بيته أن يكون برج بابل منه تتشتت البشرية، وتبحث كل فئة عن صالحها. بل يريد من بيته أن يصبح أورشليم الجديدة التي تجمع الناس من كل امّة وشعب وعشيرة ولسان. عاد الابن الاصغر وهذا يكفي الوالد لكي يُولم الوليمة وكأنه في عيد. واستعدّ الابن الاكبر للذهاب، فتوسّل إليه. ماذا حدث بعد ذلك؟ هل تجاوب الابن الأكبر مع نداء أبيه؟ هذا ما لا يقوله الانجيل الذي يترك الجواب لكل واحد منا: هل نعود كما عاد الاصغر؟ هل نحبّ اخانا كما نعتبر نفوسنا محبّين لأبينا بحيث نرضى أن نعيش معه فنكوّن عائلة الله الأحبّاء؟

ذاك كان عمل الله ايضاً في العهد القديم، لا شكّ في أن اسماعيل ابتعد عن ابراهيم. او أُبعد. ومع ذلك سوف نراه قرب ابيه عند موته. قال الكاتب: '' وانضمّ (ابراهيم) إلى آبائه فدفنه اسحق واسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة '' (تك 25: 8- 9). كما اجتمع عيسو إلى يعقوب عند موت ابيهما. وما نلاحظه بشكل خاص في سفر التكوين هو أن الكاتب يريد ان يحمع الشعوب والقبائل بشخص ابراهيم. تشتّتوا في حدث يرج بابل، فلا بدّ ان يجتمعوا. العبرانيون في شخص اسحق. الموآبيون والعمونيّون في شخص لوط، ابن اخي ابراهيم. بنو اسماعيل، نبايوت وقيدار وادبئيل... وبنو عيسو الذي اقام في ارض سعير. وفي النهاية، نسل قطورة التي ارتبط بها ابراهيم، مع اولادها زمران ويقشان ومدان ومديان... لا يهتمّ الكاتب بتسلسل الولادات بحسب الجسد، بل بدخول جميع قبائل الشرق في عهد قطعه الله مع ابراهيم. وعبر يعقوب ستدخل في هذا العهد قبائل اسرائيل وليئة وراحيل وزلفة وبلهة. فالارتباط حسب اللحم والدم يبقى ارتباطاً خارجياً. أما الارتباط داخل العهد فيبقى ثابتاً. كل هذا قد جسّده يشوع في شكيم حين جمع القبائل حول عبادة الاله الواحد بعد التخلّي عن أصنام ارام كما عن اصنام ارض كنعان. وهكذا تمّ قول الكتاب إلى ابراهيم: «فيك تتبارك جميع امم الأرض» (تك 12: 3).

خاتمة

بركة حملها اسحق إلى نسله. بركة تحمل الخير لأبنائه. ولكن هذه البركة حملت «الشر» ليعقوب فهرب إلى أرض بعيدة تاركاً البيت الوالدي، ولعيسو الذي ارتبط بعدد من الشعوب عبر زواجاته. ولكنه أراد العودة إلى اسحق في اواخر حياته. بارك الله اسحق وبارك اسماعيل ايضاً الذي اربتطت به القبائل قبل أن ينضمّ إلى آبائه، شأنه شأن اخيه. وبارك الله يعقوب كما بارك عيسو الذي تزوّج بسمة ابنة اسماعيل بن ابراهيم. وإذا كان اولاد يعقوب اثني عشر ولداً، كذلك كان بنو عيسو. كانوا أمراء وتنظموا في مملكة قبل بني اسرائيل. فالبركة لا تتوقّف عند أمّة دون أمّة، ولا عند شعب دون شعب، بل تصل إلى كل أمم الأرض وشعوبها. لا في ابراهيم وحسب، بل في يسوع المسيح الذي جاء يجمع في شخصه كلَّ ما في السماء وما على ا

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM