الفصل 2: كورنتس الموقع الجغرافيّ والتاريخ

كورنتس الموقع الجغرافيّ والتاريخ

هذه المدينة التي زارها بولس سنة 50-52، فعدّت في ذلك الوقت نصف مليون ونّيف من السكّان، وصارت اليوم مدينة صغيرة، هذه المدينة التي كان بالإمكان أن تكون اليوم في غياهب النسيان، شأنها شأن عدد كبير من جيرانها، لولا مرور الرسول فيها. هذه المدينة التي فيها التقى بولس بعائلة ستصبح رسوليّة قرب رسول الأمم، هما أكيلا وبرسكلّة، وتمتدّ الرسالة ثمانية عشر شهرًا. هذه المدينة تقع في الجنوب من الشاطئ اليونانيّ في ما يُسمّى البيلوبونيز، وهي شبه جزيرة. اسمها كورنتس وكانت عاصمة المقاطعة الرومانيّة آخائية. ما هو موقعها الجغرافيّ التاريخيّ في إطار النصوص والتنقيبات؟

1- الموقع الجغرافيّ

احتلّت كورنتس سطحين طبيعيّين عريضين، واقعين بين السهل الساحليّ ومرتفع أكروكورنتس، أو كورنتس العالية. ومساحتها كانت 4 كلم مربّع. حدّها من الشرق والغرب "نهران" يجريان من الهضبة. أمّا السور فامتدّ على 10 كلم تابعًا خطر الدفاع الأفضل عند شاطئ هذين النهرين، ومرتبطًا بأكروكورنتس. مساحة البناء لم تتعدّ يومًا الأمتار. في وقت الخطر، كان موقع خارجيّ يلجأ إليه الفلاّحون بقطعانهم، من أجل تأمين الطعام للمدينة. على مدّ أسوار طولها 2،5 كلم وعرضها 1,2 كلم، ترتبط المدينة بمرفأ لينمايوم. مرفآن بُنيا هناك فغطّيا 460,000 متر مربّع، مع 7 كلم من الأرصفة. تمّت الحفريّات في قسم قليل من المرفأ[1]. ويمتدّ كنّخريّة، المرفأ الثاني على 9 كلم إلى الشرق في خليج سارونيك. هذا المرفأ الذي صنعته الأيدي، يضمّ فقط 30,000 متر مربّع. هناك بناء كبير يشرف على شمال مكسر الموج، وأربعة صخور من الجنوب. وكلّ هذا درءًا لخطر الرياح التي حطّمت السفن العديدة[2].

هذان المرفآن مع برزخ عرضه 6 كلم يربط البيلوبونيز بأرض اليونان، كلّ هذا جعل من كورنتس ملتقى طرق كبيرًا في العالم القديم. هذا ما قاله سترابون (58 ق.م.- 21 ب.م.) في كتابه "الجغرافيا" (8/6: 20). وقعت على حدود سهل كان غناها مضرب مثل مع تقليد إنتاج رفيع، وفي خطّ تجاريّ مزدوج من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، فكان غناها كبيرًا. هذا ما قاله هوميرُس في الألياذة (2570) و"ديون الذهبيّ الفم" (30-117) جعل الصفة المرافقة لكورنتس: الثرّية، في خطبة حول "واجبات السلطان" (37: 36). أمّا اليوم، فكورنتس مدينة صغيرة في البيلوبونيز على شاطئ خليج كورنتس، وعلى 2,4 إلى الغرب من قنال كورنتس. دُمِّرت في زلزال، فأعيد بناؤها سنة 1858. تلك التي كانت "نور اليونان كلّه" كما قال شيشرون (106-43 ق.م.) في كتابه "الشرائع" (ف 5) صارت اليوم بلدة فقيرة تبعد 5،6 كلم إلى الجنوب الغربيّ من كورنتس الحديثة.

2- تاريخ الحفريّات

أوّل الحفريّات التي تمّت في كورنتس، كانت على يد المعهد الأركيولوجيّ الألمانيّ، بقيادة دوربفلد[3]. كان ذلك سنة 1886. وسنة 1896، أخذ المسؤوليّة من أجل الحفريّات في هذا الموقع، المدرسة الأميركيّة للدراسات الكلاسيكيّة في أثينة. وظهرت أولى الدراسات في "المجلّة الأركيولوجيّة الأميركيّة وهسبايا. والتقارير النهائيّة في سلسلة من الأجزاء عنوانها كورنتس (1930- ). وُجدت بقايا من جميع العصور، منذ النيوليتي القديم. وكانت حفريّات في كورنثة، خارج البرزخ سنة 1973 نُشرت التقارير حول البرزخ بيد غابهارد[4] وبرونير[5]. وسنة 1978، نشرت التقارير حول كنّخريّة[6].

3- تاريخ كورنتس

تاريخ كورنتس طويل ومتشعّب. ولكنّ التمييز الأساسيّ هو بين المدينة اليونانيّة التي انتهت سنة 146 ق.م.، وبين المستوطنة الرومانيّة التي أسّسها يوليوس قيصر سنة 44 ق.م.

تعود المدينة إلى الألف الخامس، ولبثت في توسّعها حتّى القرن الرابع ق.م. هذا ما قاله سلمون في "كورنتس الثريّة"[7]. على مدى قرون من الزمن، نعمت كورنتس باستقرار اجتماعيّ وسياسيّ، من جهة، لأنّ الطبقة الحاكمة عرفت أن تستبق الأمور وما عارضت التبديل. ومن جهة ثانية، بسبب غنى الانتاج وتنوّع الاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، تجدّدت المدينة في الحقبة البرونزيّة على مستوى الفخّاريّات والحياكة والمحالّ التجاريّة والأبنية[8]. وإذ أرادوا توسيع التجارة بين الشرق والغرب، كان نقاش حول صغر قنال يضمّ خليج كورنتس إلى خليج سارونيك. وذلك منذ القرن السادس ق.م. هذا ما تحدّث عنه ديوجانيس لأكيرتيوس في الكتاب الأوّل من "حياة الفلاسفة المشهورين وتعاليمهم وأقوالهم"، ولمّا فشل المشروع، بنى باراندير (625-585) طريقًا مبلّطًا يجتاز البرزخ. وهذا ما أتاح للسفن الخفيفة أن تزحل من بحر إلى آخر. كشفت التنقيبات حوضًا و460 مترًا من الطريق إلى الجهة الغربيّة من البرزخ. وكان العرض بين 3,4 م وبين 6 أمتار[9]. أصلحت هذه الطريق أكثر من مرّة، ولبثت في الاستعمال حتّى القرن التاسع ق.م. من أجل حركة البضائع. فالتسهيلات كانت تتيح للتجّار أن يتجنّبوا السفر حول رأس ماليا، لأنّه صار مضرب مثل بما يحمله من خطر. فقيل فيه: "حين تحاذي ماليا، إنسَ بيتك" (سترابون 8/6: 20)

مثل هذا النجاح حرّك الحسد لدى الذين لم يكن لهم خطّ كورنتس بالنسبة إلى الموقع، وبالعادات الصناعيّة. وفي القرن 5-4، جعل الكتّاب من كورنتس رمز الحبّ التجاريّ، الاستثماريّ، فصاغ أرستوفانيس (257-180) لفظ كرنتس، أي مارس الفجور. وتحدّث الفيلسوف أفلاطون عن "الصبيّة الكورنثيّة" أي البغيّ. نجد أنّ هذه الألفاظ المستنبطة لم تدُم طويلاً، لأنّ كورنتس، في الواقع، لم تكن أفضل ولا أسوأ من جيرانها. كرِّست لإلاهة الحبّ، أفروديت[10]. أمّا خبر سترابون (8/6: 20) عن ألف بغيّ يمارسن البغاء المكرّس، فقد دلّت الأبحاث أنّه مختلَق اختلاقًا[11].

* * *

إنّ الأحداث التي قادت إلى تدمير كورنتس سنة 146 ق.م.، قد أوجزها وايزمان[12]. فمع أنّ رومة منحت الحرّيّة لمدن اليونان بعد الحرب المكدونيّة الثانية (200-196 ق.م.)، وسمحت بتوحيدها في أحلاف، إلاّ أنّها رأت في هذه الأحلاف تهديدًا. توجّس الحلف الأخائيّ من محاولة رومة لتحطيمه، فأعلن الحلف الذي كانت فيه كورنتس العضو الأبرز، استقلاله، ومضى إلى الحرب على اسبرطة سنة 146 ق. وحين وصل ماتالس إلى البرزخ آتيًا من الشمال بعد أن هزم ثلاثة جيوش آخائيّة، انضمّ إليه أسطول لوقيوس موميوس. أمّا كورنتس قلعة آخائيّة، فكان لها فقط 14,000 من المشاة، 600 من الفرسان. جنّدتهم من عبيد ومواطنين غير مدرّبين وكان عليهم أن يواجهوا 23,000 من المشاة، و3500 من الفرسان، هذا عدا الجيوش المساعدة. والنتيجة من هذا القتال في السهل، كانت الهزيمة قبل القتال.

ذكر سلبَ المدينة شاهد عيان. هو بوليبيوس المؤرّخ اليونانيّ (200-120 ق.م.) كما ورد عند سترابون (8/6: 23). ولكن ّ الحفريّات دلّت على أنّ المدينة لم تدمّر كلّها ولا أُفرغت من سكّانها[13]. وهذا ما أكّده شيشرون الذي زار كورنتس بين سنة 79 وسنة 77 في كتاب ألّفه في مدينة توسكولانس[14]. لقد كانت هذه المدينة مركزًا طبيعيًّا للتجارة، فما هُجرت كلّيًّا. ومواطنوها الذين هجروها بعد أن أفلتوا من شباك موميوس، عادوا إليها سريعًا كما قال ديون (ف 21).

نُسب بناء كورنتس كمستوطنة رومانيّة، إلى يوليوس قيصر. ما قاله عددٌ من الكتّاب الكلاسيكيّين، من يونان ولاتين جُمع كلّه في كتاب "كورنتس القدّيس بولس، النصوص والأركيولوجيّا"[15] ولكنّ وحده المؤرّخ أبيانس (القرن الثاني المسيحيّ) أعطى التاريخ الدقيق لهذا البناء. قال: 102 من السنين بعد سلب قرطاجة[16]. هذا يعني سنة 41 ق.م. ودلّت المدوّنات أن الاسم الجديد كان كولونيا لادس يوليا، أي مستوطنة مجد يوليوس الكورنثيّة[17]. وهكذا عرفت المنطقة مئة سنة من السلام لا يهدّدها خطر. أمّا هدف قيصر فكان حربيًّا وسياسيًّا. ثمّ إنّ إمكانيّة كورنتس الاقتصاديّة عُرفت في رومة كما قال شيشرون، في "الشرائع الزراعيّة" (1: 5؛ 2: 51، 87)[18]. لهذا السبب، بدأ مشروع القنال عبر البرزخ، كما قال المؤرّخ اللاتينيّ سواتانيوس (القرن الثاني ب.م.) في مقاله عن يوليوس (ق 44).

ما قاله سترابون حول السكّان الجدد، الذين كانوا عبيدًا معتقين (8: 136) يتوافق مع نظرة أبيانس في "التاريخ" (8: 136). هم أصحاب الحالات الصعبة التي لا يمكن تجاوزها[19]. استفادوا من هذا الوضع الجديد، فما كانوا من الرومان، بل من اليونان وسورية واليهوديّة ومصر[20]. لا شيء لهم يخسرونه في المستوطنة الجديدة، بل هم يربحون. المسافة تجعل علاقاتهم بأسيادهم السابقين بلا معنى، وأولادهم يكونون أحرارًا. وكمجموعة ذات مهارات تقنيّة وماليّة وإداريّة، انفتحت أمامهم مشاريع. ويشهد على عملهم ونشاطهم، فمع أنّهم بدأوا بسرقة القبور، إلاّ أنّهم أسّسوا سريعًا سوقًا رابحة في رومة من الأوعية البرونزيّة والفخّاريّة التي اكتشفت (سترابون، 8/ 6: 23). والطلب الكبير جعلهم يعودون إلى إنتاج البرونز وسائر الصناعات التقليديّة.

حين تأسّست المستوطنة على الأمان، اجتذبت عددًا من أصحاب المشاريع من اليونان، والتجّار من المتوسّط الشرقيّ. مثل هذا الإقبال، أعطى المدينة مزيدًا من الغنى. ولم يمضِ خمسون سنة على التأسيس، حتّى صار عدد من المواطنين في كورنتس أصحاب ثروات كبيرة، وما يوضح ذلك تدوينةٌ تذكر قسطريقيوس راغولس، الذي كان أوّل رئيس للألعاب البرزخيّة، التي أعيد تنظيمها بين سنة 7 ق.م. وسنة 3 ب.م. وقدّم تسهيلات لم تعرف على مدى قرن من الزمن بعده، مع وليمة لجميع المقيمين في المستوطنة (حاشية 17، ص 70) وبما أنّ التوسّع التجاريّ يتطلّب التسهيلات المصرفيّة، صارت كورنتس في منتصف القرن الأوّل المسيحيّ مركزًا ماليًّا مهمًّا. هذا ما قاله بلوتارخس اليونانيّ (46-125) في "المؤلّفات الخلقيّة" (ص 831أ).

ودلّ التوسّع المدينيّ دلالة واضحة على إزدهار متنامٍ (حاشية 12، ص 509-530). فنقل المستوطنون الأوائل مركز المدينة القديمة، إلى الجنوب من الهيكل العتيق، حيث المكان مفتوح على المدى. فصار هذا الموضع الساحة العامّة أو الفوروم[21]. ودخلت العناصر القديمة مثل الرواق الجنوبيّ، وبئر غلادكس (الملك الأسطوريّ في كورنتس) يريني. ولكن ظهرت أيضًا البُنى الجديدة. شُيّدت عشرُ عمارات ضخمة قبل نهاية عهد أوغسطس (312 ق.م.- 4 ب.م.) وامتدّ العمل مع خلفه طيباريوس (14-37). ونحن نستطيع اليوم أن نعيد بناء المركز بكثير من المعقوليّة[22]. فالسور المدمّر ما زال يُرى بحجارته المربّعة. وفي مساحة من الاستقرار السياسيّ بدا تصليحها بدون فائدة.

إنّ كورنتس التي عرفها بولس، لحقها ضرر كبير بسبب زلزال هزّها سنة 77 ب.م.[23] وعرفانًا للجميل للإمبراطور الذي ساعد على إعادة بنائها، دُعيت المدينة كولونيا يوليا فلافيا أوغوسطا الكورنثيّة (عائلة فلافيوس، حاشية 17، ص 12). غير أنّ الاسم القديم عاد في بداية القرن الثاني[24] وعفا الإمبراطور هدريانس المدينة من الضرائب (حاشية 12، ص 507)، فانطلق البناء بقوّة في منتصف القرن الثاني المسيحيّ. تلك كانت المدينة التي صوّرها الكاتب اليونانيّ، باوسانياس، سنة 174 في كتابه "وصف اليونان" (2،1: 1-5: 5).

الموضع السكنيّ الذي اجتذب الناس، ومساحة التسلية في كورنتس، كانا ضاحية كرانايوم عند سفح أكروكورنتس تماقا (بلوتارخس في "الأخلاقيّات" (601 ب). وتقول الأخبار إنّ ديوجنيس الكلبيّ (400-325 ق.م.) أقام هناك في برميله (ديون الذهبيّ الفم، الخضب 8: 5). وطلب من الإسكندر الكبير أن يتحرّك قليلاً لأنّه منع عنه أشعّة الشمس (بلورتارخس، حياة الإسكندر، 14)، وعلى مستوى التسلية، كانت مجموعة اسكلابيوس ولارنا داخل السور الشماليّ: بركة للسباحة ومطاعم تصلح لما نقرأ في 1 كور 8: 10: "فإذا رآك أحد، أنت يا صاحب المعرفة تأكل في هيكل الأوثان، ألاّ يشجَّع، إذا كان ضعيف الضمير، فيأكل من ذبائح الأوثان" (حاشية 15، ص 161-167).

* * *

حين صارت آخائية مقاطعة شيوخيّة (ترتبط بمجلس الشيوخ الرومانيّ) سنة 27 ق.م.، صارت عاصمتها كورنتس على ما يبدو. ولكن لا شيء يؤكّد ذلك تأكيدًا مباشرًا (حاشية 12، ص 501). في سنة 15 ب.م. ربط طيباريوس آخائية ومكدونية بمقاطعة مونيسية كما قال تاقيتس في "حوليّاته" (1: 76، 80). ولكن آخائية أعيدت إلى مجلس الشوخ على يد كلوديوس سنة 4، كما قال سواتانيوس في "كلوديوس" (ف 25). وهكذا مثل رومة في كورنتس قنصل سابق (قب قنصل) يخدم سنة واحدة، من أوّل حزيران حتّى 30 أيّار (ديون كاسيوس، المؤرّخ اليونانيّ ابن نيقية، 155-235، في التاريخ الرومانيّ 57/14: 5) وأشهر هؤلاء القبقناصل لوقيوس يونيون غاليون (حزيران 51- أيّار 52). لا بسبب شخصيّته ولا بسبب انجازاته، بل لأنّه ذكر في أع 18: 12 بحيث يعطينا التاريخ المفتاح في الكرونولوجيا (شكل الأحداث) البولسيّة (حاشية 15، ص 141-152). ماذا يقول سفر الأعمال؟ ولمّا صار غاليون حاكمًا على آخائية، تجمّع اليهود كلّهم، وهجموا على بولس وساقوه إلى المحكمة". ويتابع النصّ في آ 14-15: "فأراد بولس أن يتكلّم، فقال غاليون لليهود: لو كان في المسألة جرم أو جناية لسمعتُ شكواكم كما يقضي الحقّ. أمّا أن تكون المسألة جدلاً في الألفاظ والأسماء في شريعتكم، فتدبّروا أنتم في هذا الأمر".

بما أنّ غاليون لم يصل إلى نهاية وظيفته كما قال شقيقه سينيكا في الرسالة 104: 1، فهذا يعني أنّ بولس التقاه في كورنتس في صيف سنة 51.

وحكم المدينة كان صورة مصغّرة عن ذاك الذي في رومة، في زمن الجمهوريّة (حاشية 17، ص 32). فالمواطنون الناخبون انقسموا في اثنتي عشرة قبيلة (حاشية 18، ص 498). واختاروا كلّ سنة أربع قضاة. وفي نهاية السنة، يُمكن أن يُختاروا أعضاءَ في مجلس المدينة. هذه الوظائف كانت مفتوحة للرجال الأحرار[25]. هؤلاء الموظّفون كانوا قضاة في المعنى السويّ للكلمة، وفي الوقت عينه مسؤولين عن اليهئة التنفيذيّة في المدينة. كانوا ينتخبون مرّة كلّ خمس سنوات ويدعون بهذا الاسم[26]. وكانوا مسؤولين عن جمع الضرائب وتعيين أعضاء جدد في المدينة.

والشرف الكبير الذي عرفته كورنتس هو رئاسة الألعاب البرزخيّة التي كانت تتمّ مرّة كلّ سنتين، في الربيع، في معبد بوسيدون، في البرزخ. ومسؤوليّة ثاني أهمّ الاحتفالات البان هلّينيّة (تجمّع كلّ الهلّين أو اليونان). انتقلت إلى مدينة سيكيون سنة 146. ولكنّ المستوطنة الجديدة، طالبت بالحقّ التقليديّ لكورنتس، منذ البدايات، ونالت ما طلبت بسبب ثقلها الاقتصاديّ والعدد الكبير من السكّان (سترابون 8/6: 20). ولا سيّما حين صار بعض سكّانها من الغنى بحيث يقدرون أن يحوّلوا هذه الألعاب وقد يكون بولس حضر هذه الألعاب سنة 51 (حاشية 17، ص 31) فقدّم لنا صورة رائعة عن المتسابقين وما يفرضونه على نفوسهم من نظام لكي ينالوا جائزة عابرة. قال: "أمّا تعرفون أنّ المتسابقين في الجري يشتركون كلّهم في السباق، ولا يفوز إلاّ واحد منهم؟ فاجروا أنتم مثلهم حتّى تفوزوا. وكلّ مسابق يمارس ضبط النفس في كلّ شيء من أجل إكليل يفنى. وأمّا نحن فمن أجل إكليل لا يفنى" (1 كور 9: 24-25). واحد فقط يربح. أمّا نحن، فنقدر كلّنا أن نربح. ما يُعطى للمسابقين في كورنتس، قليل من الغار سيذبل سريعًا ويبقى موجودًا في الذاكرة والمخيّلة. أمّا المسيحيّ فإكليل لا يفنى، إكليله الربّ يسوع. ويطبّق الرسول هذا الكلام على نفسه، وكأنّه يدعو سامعيه إلى الاقتداء به كما هو يقتدي بالمسيح (11: 3). فيتابع: "فأنا لا أجري كمن لا يعرف الهدف، ولا ألاكم كمن يضرب الهواء، بل أقسوا على جسدي واستعبده لئلاّ أكون، بعدما بشّرت غيري من الخاسرين" (’ 26-27). ذكر الرسول لعبتين هنا: الجري أو سباق الركض بأنواعه. ثمّ الملاكمة. في الجري هناك هدف. أتُرى لا هدف لنا في حياتنا المسيحيّة؟ والجواب: نريد أن ندرك يسوع بعد أن أدركنا (فل 3: 12). أتُرى نلاكم الجوّ مثل بعض الأشخاص الآتين من عالم المخيّلة؟ بل قتالنا ليس مع لحم ودم، بل "مع أصحاب الرئاسة والسلطان والسيادة على هذا العالم" (أف 6: 12). لذلك نحمل سلاح الله الكامل لكي نقدر أن نقاوم في يوم الشرّ، ونبقى ثابتين (آ 13). أمّا الإكليل الذي ينتظرنا فهو الخلاص بيسوع المسيح. ومكلّلنا الآب السماويّ"[27].

هي مدوّنات عديدة تعلّمنا بكلّ هذا حول الموظّفين الرسميّين والمحسنين إلى المدينة. وهناك وثائق أخرى رسميّة نشرها "كانت" (حاشية 17): 104 مدوّنات تعود إلى حكم هدريانس (107-138). في اللاتينّة. ولا نجد سوى ثلاث في اليونانيّة. ولكن بعد تلك الحقبة، تكون المدّونات اليونانيّة 39، واللاتينيّة 17. هذا يعني أنّ الأيّام الأولى للمستوطنة عرفت اللغة اللاتينيّة وحدها. ولكنّ اليونانيّة كانت لغة التجارة والتبادل. ولمّا تكاثر السكّان، وجب أن يأخذوا باللغة المشتركة. ولكن لن يتمّ هذا قبل القرن الثاني المسيحيّ.

ويدلّ على التنوّع الدينيّ والإثني في السكّان، بقايا وُجدت في الحفريّات. ما يدلّ على عبادة الإمبراطور، يشهد له هيكلٌ بُني في الساحة العامّة، في الفوروم. ثمّ الألعاب البرزخيّة.

هذه المباريات التي عُرفت في قيصريّة وسارت مسيرتها كلّ أربع سنوات. أضيفت على أيّام أوغسطس، والمباريات الإمبراطوريّة ظهرت في أيّام طيباريوس قيصر، كما قال "كانت" (حاشية 17، ص 28).

معابد عديدة في كورنتس كرِّست لأبولّون، أثينة (شفيعة مدينة أثينة)، أفروديت، اسكلابيوس (إله الطبّ) ديمتراوكوري (أوبرسيفونيس، إلاهة العالم السفليّ وابنة ايمترا، إلاهة الخصب عند اليونان)، بالامايون وسيسيفوس (مؤسّس كورنتس الأسطوريّ). كلّ هذا ليشهد على تواصل العبادات اليونانيّة في المدينة. وكان التأثير المصريّ موجودًا، مع عبادة إيزيس وأوزيريس وسيرابيس[28]. تأخّرت الوثائق حول وجود جماعة يهوديّة (مع مجمع) حتّى القرن 4-5 ب.م.، وهي ضئيلة: هناك رخام مع ثلاث منارات يفصلها اللولب. وحجر من كورنيش عتبة تقرأ عليه "المجمع العبريّ" (حاشية 23، ص 78-79).

إنّ الغياب التامّ للعنصر اليهوديّ في القرن الأوّل المسيحيّ هي مثار تعجّب، بعد أن يقول فيلون، فيلسوف الإسكندريّة، في "الشرائع" (ف 281)، إنّ الجماعة اليهوديّة كانت كبيرة وحيّة في كورنتس. قد يكونون هربوا إلى سيكيون سنة 146 ق.م. (1 مك 15: 23). وربّما عادوا إلى المستوطنة الجديدة حين تأسّست. هل استفادت كورنتس من طرد اليهود في رومة، في أيّام كلوديوس (أكيلا وبرسكلّة أتيا في هذه المناسبة من رومة)؟ كما قال "أوكونور" (حاشية 15، ص 130-140)؟ هنا يجب أن نكون حذرين. يبدو أنّ الجماعة تنامت جدًّا بعد سنة 67ب.م. فحسب يوسيفُس (الحرب اليهوديّة 3: 540)، أرسل وسباسيانس المنتصر على أورشليم 6000 يهوديّ ليعملوا في حفر القنال، في المدينة. ولكن توقّف العمل سريعًا (حاشية 9، ص 40-50). جاء يهود آخرون إلى هذه المدينة بعد الثورة اليهوديّة الثانية (123-135) كما يقول يوستينس، ابن نابلس، فلسطين، في "الحوار الأوّل" (ف 1). وعلى أساس ما نعرف عن شروط الحياة لدى الشتات اليهوديّ في أيّ مكان، ألّفوا "جماعة عزيّا" مع حقوق مستمرّة في الإقامة وتنظيم أمورهم الشخصيّة داخل العالم الرسميّ[29]. وهكذا نعم اليهود بحياة المواطن في المدينة، دون أن يكونوا مواطنين في المعنى الحصريّ للكلمة[30].

إلى هذه المدينة الكبيرة وصل بولس سنة 50-51، وأقام فيها سنة ونصف سنة. ومنها انطلق معاونوه ليزرعوا الإنجيل في آخائية، مدينة يتجاوز سكّانها النصف مليون. ويمرّ فيها العديدون كلّ يوم من مهاجرين وعبيد وتجّار... وهكذا كانت الموضع المميّز من أجل رسول لا حدّ لطموحاته، بل هو سيكتب من هذه الجماعات التي أحبّها، رسالة إلى رومة. فهو يريد أن يصل إلى نهاية العالم، في إسبانيا، مع عواميد هرقل التي سمّيت فيما بعد "جبل طارق" حيث وصول العرب. ويا ليت طريق أميركا كانت مفتوحة، لوصل تجّار كورنتس إلى هناك وبولس معهم. هم تجّار ناجحون وهو تاجر ناجح. ولكنّه يفترق عنهم، تجاه الأغنياء هو فقير. ولكنّه يُغني كثيرًا من الناس. لا شيء له في نظر العالم، وهو يملك كلّ شيء (2 كور 6: 10).

 



[1] G. ROUX, Pansamias en Corinthe (Livre II, 1 à 5). Texte, Traduction. Commentaire archéologique et topographique, Paris, 1958. Ici p. 103.

[2] SCRANTO, R.L., SHAW, J.W.; IBRAHIM, L., Kenchreai. Eastern Port of Corinth I. Topography and Architecture, Leiden, 1978, p. 14, 41.

[3] W. DORPFIELD, Der Tempel von Korinth. Mitteilungen des deutschen archaologischen Instituts. Athenische Ableitung, 1887, 11o, p. 297-308.

[4] E. R. GEBHARD, The Theatre at Isthmia, Chicago- London, 1973.

[5] O. BRONEER, Isthmia I. The Temple of Posirdon, Princeton, 1971; Isthmia II. Topography an Architecture, Princeton, 1973.

[6] راجع الحاشية 2.

[7] J. B. SALMON, Wealthy Corinth. A History of the City to 338 BL, Oxford, 1984.

[8] J. MORPHY, O’CONNOR, Corinthian Bronze, RB, 90(1983), p. 23-26.

[9] J. WISEMAN, The Land of the Ancient Corinthians, Studies Mediterranean Archeology 50, Gotenborg, 1978, p. 45-46.

[10] H. D. SAFFREY, Aphrodite à Corinthe. Réflexions sur une idée reçue, RB, 92(1985), p. 359-374.

[11] H. CONZELMANN, Korinth und die Madchen der Aphrodite. Zur Religiousgeschechte der stadt Korinth, NAWG 8(1967), p. 247-261.

[12] J. WISEMAN, Corinth and Rome I, 228 BC- 267 AD, ANRW 7/1(1979), p. 438-548, ici p. 450-462.

[13] المرجع السابق ص 494-495.

Tuscalani 3,53[14] راجع R. FEGER, Cicero und die Zerstoring Korinths, Hermès 8(1952), p. 436-456.

[15] J. MURPHY O’CONNOR, St Paul’s Corinth. Texts and Archaelogy, GNS 6, Wilmington DE, 1983, p. 1-128.

[16] Appianos, Histoire romaine en 24 vol. ici vol 8, p. 136.

[17] J. H. KENT, Corinth VIII/3, The Inscriptions 1926-1950, Princeton, 1966, p. 60, 70.

[18] راجع حاشية 5، ص 135.

[19] Aporoi

[20] M. L. GORDON, The Nationality of Slaves under the Early Roman Empire, JRS, 14(1924), p. 93-111.

[21] H. S. ROBINSON, The Urban Development of Ancient Corinth, Athen, 1965, p. 23.

[22] J. MURPHY O’CONNOR, The Corinth That Saint Paul Saw, BA, 47(1984), p. 147-159.

[23] A. B. WEST, Corinth VIII/2. Latin Inscriptions 1896-1927, Cambridge MA, 1931, p. 18-19.

[24] K. M. EDWARDS, Corinth VI Coins, 1896-1929, Cambridge, MA, 1933, 28-29.

[25] A.M. DUFF, Freedmen in the Early Roman Empire, Cambride, 1928, p. 66.

[26] Duo viriquennales

[27] O. BRONEER, The Isthmian victory Games AJA, 66(1962), p. 259-263; The Apostle Paul and the Isthmians Games BA, 25(1962), p. 1-31.

[28] D.E. SMITH, The Egytian Cults at Corinth, HTR, 70(1972), p. 201-231.

[29] E.M. SMALLOWED, The Jews under Roman Rul from Pompey to Diocletian. A study in Political Relation, Studies in Judaism in Antiquity 20, Leiden, 1981, p. 225.

[30] J. MURPHY O’CONNOR, Corinth in Anchor Bible Dict., vol I, (Double day, 1992), p. 1134-1139.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM