الفصل 3: طبقات المجتمع في كنيسة كورنتس

طبقات المجتمع في كنيسة كورنتس

منذ القديم طُرح السؤال: إلى أيّ طبقة انتمى المسيحيّون في كورنتس؟ قال تيّار أوّل: كانوا من الطبقات الدنيا. فإن استطاع العهد الجديد أن يصبح كتاب الإنسانيّة، فلأنّه خرج، على المستوى البشريّ، لا من طبقة عالية صارت إلى الانحطاط، بل من قوّة "سفلى" حرّكها حاضر الله والمستقبل. "ما أظهرتَ هذا للحكماء والفهماء، بل للأطفال" (مت 11: 25-26). والتيّار الثاني جاء معارضًا للأوّل: "لم يكن المسيحيّون، هذا إذا نظرنا إلى جماعة كورنتس كنموذج للجماعات الهلّينيّة، من الطبقة الاجتماعيّة المضطهدة. فالذين ترأسوها كانوا من نخبة المدن الكبرى".

حكمان متعارضان. يدلاّن على وجود أكثر من طبقة اجتماعيّة في كنيسة كورنتس: هناك أعضاء يوجّهون الجماعة. وهناك عدد كبير من الطبقات الدنيا، من الصنّاع، والعمال، والعبيد...

ونقرأ النصّ الأساسيّ في 1 كور 1: 26-29: "وتذكّروا أيّها الإخوة، كيف كنتم حين دعاكم الله. فما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر، ولا من الأقوياء والوجهاء. إلاّ أنّ الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفًا ليخزي الأقوياء، واختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنّه لا شيء، ليزيل ما يظنّه العالم شيئًا، حتّى لا يفتخر بشرٌ أمام الله".

في قراءة أولى، نعتبر أنّ الوجهاء والحكماء والأقوياء في المجتمع، ليسوا العدد الكبير. وهذا يرتبط بتكوين مدينة كورنتس الذي كان عدد العبيد ضعف عدد الأحرار. وبما أنّها كانت مدينة الصناعة التجارة، كثر فيها أهل الصنعة الآتون من الشرق، والعمّال الباحثون عن العمل في مدينة تأسّست منذ مدّة قصيرة ونعمت بحماية السلطة الرومانيّة. وفي قراة ثانية، هي القراءة اللاهوتيّة، هدف الرسول أن يبرز الغنى الذي يحمله الإنجيل في ضعف الصليب أمام قوّة السلطة، في "جهالة" الصليب أمام حكمة اليونانيّين. في "عار" الصليب أمام الوجهاء الآتين من الطبقات العالية الذين قلبوا شفاههم حين حدّثهم الرسول عن قيامة يسوع من بين الأموات (أع 17: 32). "سنسمع كلامك في هذا الشأن مرّة أخرى".

* * *

ما هي الوظائف التي احتلّها المسيحيّون في كورنتس؟ في أع 18: 8، نعرف أنّ كريسبوس، أحد المسيحيّين الأوائل، كان رئيس المجمع في جماعة كورنتس اليهوديّة. واهتداؤه إلى المسيحيّة لعب دورًا كبيرًا في تأسيس الجماعة. فبعد أن آمن هو وأهل بيته وكان كثير من أهل كورنتس يسمعون كلام بولس، "فيؤمنون ويتعمّدون". سمعوا أنّ كريسبوس تعمّد فتشجّعوا وأخذوا بالخطّ الذي أخذه. عنه يتحدّث بولس، لأنّه كان من القلائل الذين عمّدهم (1 كور 1: 14). ولكنّه لا يذكر موقعه في المجتمع. فاهتمامه غير اهتمام لوقا الذي دوّن سفر الأعمال وتحدّث مثلاً عن ليدية تاجرة الأرجوان في فيلبّي وعن سيّدات شريفات أخريات اهتدين إلى الإنجيل.

وذكرت الرسالة إلى رومة أراستس "أمين صندوق المدينة" (16: 23). "الإيكونومس". أي الذي يهتمّ بالبيت وينظّمه. بعضهم يعتبره في وظيفة رفيعة انتخبوه لها. وآخرون رأوا فيه موظّفًا من الموظّفين، أو عبدًا أعتِق.

نقرأ عن هذه الوظيفة في غل 4: 2 مع "الوصيّ" على الابن القاصر، الذي يهتمّ به بعد موت والده: "الأوصياء والوكلاء". وبولس يعتبر نفسه "وكيلاً" مع سائر الرسل في 1 كور 4: 1. الوكيل يكون في خدمة كبير (الأب. وهنا المسيح). ولكنّه يمتلك سلطات واسعة. نلاحظ المرّة الوحيدة التي فيها يتحدّث بولس عن "وجيه" في روم 16: 23. أما أكيلا وبرسكلّة، فلا نعرف أنّهما من أهل صنعة بولس إلاّ انطلاقًا من أع 18: 3. إنّما نعرف الوضع الاجتماعيّ حين يكون للرجل عبيد. في روم 16: 10: الذين في بيت أرستوبولس. وفي آ 11: في بيت نركيسوس. رج فل 4: 22: "من بيت قيصر".

ما يهمّ الرسول هو موقع المؤمن داخل الجماعة، قبل الموقع الاجتماعيّ. ولكن إن ذُكر كريسبوس مع غايس الذي يمتلك بيتًا اسعًا يقدر أن يستضيف الكنيسة، فهذا يعني أنّه من "وجهاء" هذا العالم.

* * *

ويذكر بولس "البيت". اعتمد كريسبوس فاعتمد أهلُ بيته (أع 18: 8). وكذا نقول عن استفاناس (1 كور 1: 16؛ رج 16: 4). ليسوا الأولاد فقط. بل العبيد أيضًا. ونحن نعرف أنّ الذي يمتلك العبيد يكون من الطبقة الرفيعة. ذكر لوقا في سفر الأعمال عددًا من البيوت انتقلت إلى الإيمان الجديد: بيت كورنيليوس قائد المئة (أع 10: 2؛ 11: 14). بيت ليدية في فيلبّي (16: 15). سجّان فيلبّي (16: 3). أصحاب البيوت هم من الطبقة الرفيعة. والعبارة ما زالت حتّى اليوم في مجتمعنا: هذا ابن بيت. فبيته ليس كسائر البيوت، ولا محتده ولا مركزه الاجتماعيّ.

كما تُذكر الخدم التي تؤدّى للجماعة: فيبة في كنّخريّة. بيت استفاناس ودوره في التبرّع من أجل كنيسة أورشليم (روم 15: 31؛ 1 كور 8: 4؛ 9: 1-12). نحن هنا أمام مساعدات مادّيّة. وهذا يعني مستوى من الغنى. ونحن نفهم ذلك من دعوة بولس لأهل كورنتس بأن يتبرّعوا لجماعة أورشليم. هو يدعوهم إلى العطاء: المسيح الغنيّ افتقر لأجلنا. فماذا ينتظر الكورنثيّون الأغنياء (2 كور 8: 8). ونبّههم الرسول: من زرع قليلاً حصد كثيرًا. ومن زرع كثيرًا حصد كثيرًا (ص كور 9: 6). فماذا ينتظر الأغنياء في الجماعة لكي يعطوا ويكثروا العطاء. وفي الاحتفال بالعشاء السرّيّ، الأغنياء يصلون باكرًا مع زادهم. وبعد ذلك يأتي العمّال والعبيد الذين ينتهي عملهم في الساعة السادسة مساء، بينما الدعوات إلىالعشاء تكون في الساعة الرابعة. وأخيرًا الذهاب إلى المحاكم (1 كور 6) يعني مصالح ماليّة فيها الظلم والسلب، وهذا أمر يؤسَف له.

والمسيحيّون يسافرون. والسفر في الماضي، كما اليوم، يدلُّ على مستوى من الرفاهيّة. أكيلا وبرسكلّة هما في رومة، في كورنتس، في أفسس (روم 16: 3؛ 1 كور 16: 19؛ أع 18: 18-19). فيبة (روم 16: 1). أراستس (أع 19: 22). استفاناس وأخاتيكُس وفورتوناتُس (1 كور 16: 15-18). وهناك سوستانيس. وإذا كان لخلوة عبيد يعملون لحسابها في التجارة، فهذا يعني أنّها تسافر أكثر من مرّة لإدارة أعمالها.

* * *

كيف بدت إذن بنية الجماعة المسيحيّة في كورنتس؟

أسّس يوليوس قيصر من جديد، مدينة كورنتس، سنة 44، بعد أن دمِّرت سنة 146. جعل منها مستوطنة رومانيّة، وجعل فيها بالدرجة الأولى عددًا من العبيد المعتقين كما يقول سترابون. وكان فيها عناصر قدامى من الجيش. في أيّ حال، هم مواطنون رومان. أسماؤهم رومانيّة (أكليلا، فورتوناتُس، غايس، لوقيوس، كوارتُس، تيطس، يوستوس) ولغتهم لاتينيّة.

انطلقت كورنتس على المستوى الاجتماعيّ، كما على المستوى الاقتصاديّ. وما يشهد على ذلك المباني الكبيرة التي تكتشفها اليوم الحفريات. وما يدلّ على الغنى، تنظيم الألعاب مرّة كلّ سنتين. هي "ألعاب البرزخيّة" (نسبة إلى برزخ كورنتس) تجاه الألعاب الأولمبيّة التي تنظّمت في أثينة.

واستند غنى كورنتس، في الدرجة الأولى، إلى التجارة. قال سترابون: كورنتس مدينة عظيمة وثمينة. ومع التجارة، المال. تحدّث بولترخس في "الأخلاقيّات" عن ثلاثة مراكز مصرفيّة: باتراس، كورنتس، أثينة. واستند الغنى أخيرًا إلى الصناعة ولا سيّما المعادن من برونز وغيرها.

وأتى بولس إلى هذه المدينة. أكثريّة المسيحيّين من الطبقات الدنيا. ولكن نلاحظ أنّه عمّد "الوجهاء": كريسبوس، غايس، استفاناس. هؤلاء لعبوا دورًا هامًّا في الرسالة. اقتفى أثرهم الآخرون، ولا سيّما العبيد الذي يعملون لديهم، أو الموالي المرتبطين بهم.

كيف استطاع بولس أن يربح إلى المسيحيّة مثل هؤلاء "الوجهاء"؟ نحن لا ننسى أنّ بولس رومانيّ، وينعم بالحقّ الذي ينعمون به. ثمّ إنّ عمله أعطاه بعض الاستقلاليّة المادّيّة، فما احتاج أن يرتبط "بكبير" لكي يؤمّن حياته. وأخيرًا، بولس هو ذاك المثقّف الذي يحبّ أهل اليونان أن يستمعوا إليه وإلى غيره، على ما قيل عن أهل أثينة "وكان الأثينيّون جميعًا والمقيمون بينهم من الأجانب يصرفون أوقات فراغهم كلّها في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا" (أع 17: 21).

تلك نظرة سريعة إلى المجتمع المسيحيّ في كورنتس، حين أتى إليها بولس الرسول. تنوّع المؤمنون بالتوازي مع سكّان المدينة. أكثريّة عمّاليّة في المدينة وكذلك في الجماعة. عبيد كثيرون في كورنتس. وكذلك في الجماعة المسيحيّة. لهذا لم يكن الحكماء كثيرين، ولا الوجهاء ولا الأغنياء. ولكن وُجد بعض منهم اعتادوا أن يتدبّروا أمور هذا العالم، فسلّمهم الرسول تدبير الكنيسة والاهتمام بفقراء أورشليم. ولكن تبقى معلوماتنا ضئيلة عن الجماعة في كورنتس فلوقا ذكر بعض الأشخاص الذين اهتمّوا بالرسالة فكانوا صلة الوصل بين الرسول والمدن التي مرّ بها. وبولس أراد قبل كلّ شي أن يزرع الصليب في عالم اعتبر نفسه حكيمًا بحيث "يتفوّق" على الله. ولكنّ الربّ أباد مثل هذه الحكمة. وترك الغنى وهو الذي صار فقيرًا. وتخلّى عن الوجاهة وسموّ المحتد فاعتبر نفسه ذاك الآتي ليخدم ويبذل نفسه عن الآخرين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM