الرعاة الأردياء والراعي الصالح

الرعاة الأردياء والراعي الصالح

23: 1-6

هذا المقطع هو جزء ممّا سمّي "كتاب ضدّ الملوك" (21: 11-23: 8). وهو يسبق بشكل مباشر "الكتاب ضدّ الأنبياء" (23: 9-20). يعتبر النقد الداخليّ الذي لا مجال للتوسّع فيه الآن، أنّ "الكتاب ضدّ الملوك" يُعتبر ملحقًا أضيف بعد سنة 587 على نواة أولى من الأقوال النبويّة أملاها إرميا على باروك.

أمّا موضوع هذا القسم "حول الملوك" ففيه بعض التماسك. أوّلاً، هناك سلسلة من الأقوال النبويّة اللاشخصيّة إلى بيت يهوذا الملكيّ، تدعو البلاط إلى ممارسة العدالة (21: 11-22: 25)، وإلاّ يسلّم إلى الدمار لأنّها تخلّى عن العهد مع الله وعبد آلهة أخرى (22: 6-9). ثانيًا، نقرأ ثلاثة أقوال ذامّة على يوآحاز (22: 10-12)، على يوياقيم (22: 13-19)، على يوياكين (22: 20-30). ثالثًا، نجد قولاً مسيحانيًّا يقابل بين هؤلاء الرعاة (الملوك) الأردياء، والمسيح الآتي الذي سيكون الراعي الصالح (23: 1-8). هذا النصّ الأخير هو الذي نتوقّف عنده الآن.

1- موضوع الرعاة في الكتاب المقدّس

حين أراد الأقدمون أن يعطوا صورة عن ممارسة السلطة في الشعب، لجأوا بشكل طبيعيّ إلى صورة الراعي. ونحن نجد هذه الصورة في كلّ الآداب من سومر وأكاد إلى العالم الرومانيّ واليونانيّ حيث استعمل هوميرُس عبارة "رعاة الشعب" ليدلّ على الممسكين بزمام السلطة السياسيّة.

وفي التوراة، أخذت هذه الصورة الرمزيّة، صورة الراعي الرئيس منحى خاصًّا بالنظر إلى حياة الرعاية التي عاشها الآباء الأوّلون. وبالنظر إلى موسى، المشترع الأوّل في الشعب (خر 3: 1). وإلى داود النموذج الأوّل لكلّ ملك في الأرض المقدّسة (1 صم 16: 11؛ مز 78: 70)، ورئيس سلالة ستجد ذروتها مع المسيح المنتظر. إنّ لقب الراعي الرئيس قد وُجد في مصر وأعطي للإله بشكل سامٍ. ووُجد أيضًا في أرض إسرائيل حيث الربّ هو أوّلاً الراعي، ثمّ الملك الذي يقوم مقام الله في رعاية الشعب. وقبل الشرح نقرأ النصّ (23: 1-6):

1 ويل للرعاة الذين يبيدون،

ويبدّدون غنم رعيّتي، يقول الربّ.

2 وهذا ما تكلّم به الربّ إله إسرائيل

على أولئك الرعاة الذين يرعون شعبي:

أنتم بدّدتم غنمي،

طردتموها وما تفقّدتموها

فأعاقبكم على شرّ أعمالكم.

3 وأجمع بقيّة غنمي

من جميع الأراضي التي طردتها

وأردُّها إلى حظائرها، فتثمر وتكثر

4 وأقيم عليها رعاة يرعونها،

فلا تخاف من بعد ولا تفزع

ولا يكون فيها مفقودة، يقول الربّ.

5 ستأتي أيّام، يقول الربّ

أقيم من نسل داود ملكًا صالحًا

يملك ويكون حكيمًا،

ويُجري الحقّ والعدل في الأرض

6 في أيّامه يُخلَّص شعبُ يهوذا

ويسكن بنو إسرائيل في أمان

ويكون اسمه: الربّ صدقنا، برّنا

 

2- كلام على الرعاة الأردياء (23: 1-2)

يبدأ الله فيتّهم الرعاة، أي ملوك شعبه. هو يلومهم لأنّهم تركوا "غنم الرعيّة" يهلك. لأنّهم أخطأوا حين تركوا الخراف التي يحنو عليها، تتشتّت وتضيع (رج مز 74: 1؛ 95: 7؛ 100: 3).

إنّ موضوع الرعاة الأردياء يرد مرارًا في الكرازة النبويّة. فيهم فكّر إرميا في هذا "الكتاب ضدّ الملوك" حين قال لأورشليم: "الريح سترسل رعاتك ليرعوا" (22: 22)، أي ستأخذهم إلى البعيد. ومن خلال تسمية الرعاة يؤنّب الربّ أيضًا كلّ حامل سلطان (أي: الموظّفون الكبار) حين يعلن: "تمرّد الرعاة عليّ" (2: 8). "صار الرعاة بلداء: لم يطلبوا الربّ. لهذا لم ينجحوا. وكلّ قطيعهم تشتّت" (10: 21). إذن، يجعل النبيّ "قوّادًا" الشعب مسؤولين عن شقاء المنفى العظيم.

هذا الموضوع قد توسّع فيه أيضًا أشعيا الثاني. وسيجد ذروته مع حزقيال. "حرّاسنا كلّهم عميان. لا يفهمون شيئًا. كلاب بكم لا يستطيعون النباح. يحلمون وهم مضطجعون، يحبّون النوم. كلاب نهمة لا تعرف الشبع. رعاة لا يفقهون شيئًا. يتبع كلّ واحد طريقه الخاصّة، ويبحث كلّ واحد عم مصلحته" (أش 56: 10-11). ونذكر بداية حز 34: 2-10: "ويل لرعاة إسرائيل الذين يرعون أنفسهم. أليس على الرعاة أن يرعوا الغنم؟ تأكلون اللبن، وتلبسون الصوف، وتذبحون الخراف السمان، ولكنّكم لم ترعوا الغنم. الضعاف لم تقوّوها، والمريضة لم تداووها، والمكسورة لم تجبروها، والشاردة لم تردّوها، والمفقودة لم تتطلّبوها. وإنّما تسلّطتم عليها بقسوة وقهر...".

3- تدخّل الله (23: 3-4)

هذا هو وعد الخلاص والتحرير. فالقطيع المشتّت ستجمعه يد الله. "أجمع بقيّة غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها، وأردّها إلى مراتعها، فتثمر وتكثر" (آ 3). هذه الفكرة نجدها أيضًا في إر 31: 8، 10: "هاءنذا أعيدهم من أرض الشمال، وأجمعهم من أطراف الأرض... الذي فرّق إسرائيل يجمعه، ويحفظه كما يحفظ الراعي قطيعه". ونقرأ في 50: 19: "أعيد إسرائيل إلى مرتعه، فيرعى في الكرمل وباشان، وتشبع نفسه في جبل أفرائيم وجلعاد".

وقال أشعيا ما قاله إرميا. أمّا حزقيال فعرض بوضوح مخطّط الله. قال أش 40: 11: "يرعى الربّ قطيعه كالراعي. يجمع الحملان بذراعه، ويحملها في حضنه، ويستاق المرضعات رويدًا". وقال حز في 34: 11-16: "هذا ما قال الربّ الإله: هاءنذا أهتمّ بنفسي بغنمي، فأجعلهم يمرّون أمامي. كما يفتقد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المنتشرة، كذلك أفتقد أنا غنمي وأنقذها من جميع المواضع التي شُتّتت فيها يوم الضباب والظلام..."

ويصبح الوعد بتدخّل إلهيّ أمرًا ملموسًا في الحديث عن الرعاة الجدد: "أقيم عليها رعاة يرعونها، فلا تخاف من بعد، ولا تفزع، ولا يكون منها مفقود، يقول الربّ" (آ 4). ونجد تعبيرًا آخر عن هذا الكلام في إر 3: 15: "أعطيكم رعاة على وفق قلبي، فيرعونكم بفهم وحكمة".

4- الراعي المسيحانيّ (23: 5-6)

ويبدو المقطع الذي ندرس مطبوعًا بشكل واضح بالطابع المسيحانيّ، حين يُورد القول النبويّ الخاصّ الذي يدلّ على الملك الداوديّ المقبل، دون أن يلجأ بشكل واضح إلى صورة الراعي. "ها إنّها ستأتي أيّام، يقول الربّ، أقيم فيها لداود نبتًا صدّيقًا، ويملك كملك حقيقيّ، ويكون حكيمًا، ويجري الحكم والعدل في الأرض. في أيّامه يخلّص يهوذا، ويسكن إسرائيل (أرضه) في طمأنينة. وهذا اسمه الذي يُدعى به: الربّ برّنا" (آ 5-6). ستعود هاتان الآيتان في سياق من تقليد اللاويّين في 33: 15-16، فتذكران الكهنوت الذي سيستمرّ عملُه في أورشليم. هذا يعني أنّه كانت قراءة جديدة لنصّ قديم.

واحتفظ حزقيال بصورة الراعي لكي يعبّر عن الفكرة عينها. "وأقيم عليها راعيًا واحدًا ليرعاها، عبدي داود: فهو الذي يرعاها، وهو يكون راعيها. وأنا الربّ أكون لهم إلهًا وعبدي داود يكون في وسطهم رئيسًا... يسكنون الأرض في طمأنينة، ولا أحد يذعرهم" (34: 23-24، 28ب).

إنّ مهمّة زربّابل العابرة لم ترضِ الآمال التي أشعلتها هذه الأقوال النبويّة، وهو الذي عاد مع أوّل العائدين من المنفى. كلّ ما فعلته هو أنّها دلّت على تواصل السلالة الداوديّة بعد المنفى. ولكن منذ ذلك الوقت، تأسّست كلّ الآمال على المسيح المقبل.

إستعمل نصّ إرميا هنا لفظة "النبت" التي ستدلّ دلالة واضحة وملموسة على المسيح المنتظر. كان أشعيا قد قال: "يخرج قضيب من جذر يسّى، ينمي فرع من أصوله... في ذلك اليوم، أصل يسّى يقوم راية للشعوب (لكي يجمعها)، إيّاه تترجّى الأمم ويكون مسكنه مجيدًا" (11: 1، 10). واستعاد زكريّا هذا الموضوع، فاستعمل مرّتين لفظة "النبت" (3: 8؛ 6: 12).

أمّا الاسم الرمزيّ الذي أعطي للمسيح الآتي، "يهوه برّنا"، فهو يشكّل تلاعبًا على الكلمات في مقابلة مع اسم آخر ملك من ملوك يهوذا، مع صدقيا الذي يعني" "يهوه برّنا".

5- يسوع المسيح وصورة الراعي

المسيح هو الذي يحقّق مواعيد الراعي الصالح. فهناك مقاطع عديدة في العهد الجديد تتجاوب مع الرجاء المسيحانيّ الذي عبّر عنه الأنبياء: مثل الخروف الضالّ (مت 18: 12-14؛ لو 15: 4-7). مثل الراعي الصالح، ومثل الباب الذي فيه يدخل الرعاة (يو 10: 1-18). وهناك عبارات مختلفة نقرأها في الأناجيل: "تحنّن يسوع على هذا الجمع الغفير، لأنّهم كانوا كخراف لا راعي لها" (مر 6: 34). "ما أرسلت إلاّ للخراف الضالّة من بيت إسرائيل" (مت 15: 24). "إنّ ابن الإنسان جاء يطلب ويخلّص ما هلك" (لو 19: 10).

في هذا المعنى أنشدت عب 13: 20: "ذاك الذي صار يوم عهد أبديّ، راعي الخراف العظيم". وذكرت 1 بط 2: 25 المسيحيّين فقالت: "ضللتم كخراف. أمّا الآن فقد عدتم إلى راعي نفوسكم وحارسها".

يسوع هو الباب الذي به يدخل الرعاة الذين عيّنهم هو لكي يرعوا باسمه غنم الله: بطرس ورفاقه الذين تسلّموا مهمّة الرعاية في الكنيسة (21: 15-17). والذين جاؤوا بعدهم في كلّ كنيسة محلّيّة في "هذا القطيع الذي أقامهم فيه الروح القدس وكلاء ليرعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أع 20: 28). وفي النهاية نجد صدى لأقوال الأنبياء ضدّ الرعاة الأردياء في هذا التنبيه الذي وجّهه بطرس إلى رعاة الكنيسة: "أرعوا رعيّة الله التي سلّمت إليكم، وتعهّدوها بحسب الله، لا عن اضطرار بل عن اختيار، لا لمكسب خسيس بل باندفاع القلب. لا كمن يتسلّط على ميراث الله، بل كمن يكون مثالاً للرعيّة. وحين يظهر رئيس الرعاة، تحصلون على إكليل المجد الذي لا يذوي" (1 بط 5: 2-4).

خاتمة

حين لا يكون الرعاة على قدر واجباتهم كما في 22: 13 فيظلمون الآخرين ويستخدمونهم بلا أجرة ويأكلون حقوقهم لكي يوسّعوا ديارهم، عندئذ يأخذ الربّ الأمور على عاتقه. يمسك الأمور بيده. ونقرأ الصورة في صف 3: 3-4

3 أعيانها في وسطها أسود مزمجرة،

قضاتها ذئاب جائعة في المساء،

لا يُبقون شيئًا إلى الصباح.

4 أنبياؤها فاجرون، غادرون،

كهنتُها يحلّلون كلَّ حرام،

ويخالفون الشريعة.

يتصرّف الله بواسطة ذاك الآتي من داود، كما نقرأ في حز 34: 23:

أقيم عليها راعيًا واحدًا، وحيدًا،

ليرعاها كعبدي داود

فهو يرعاها ويكون لها راعيًا صالحًا

يخضع هذا الداوديّ للملك الحقيقيّ في الشعب، لله، فيؤمّن العدالة والنظام في المجتمع. ويكون برٌّ الله سائدًا في قسمَي الشعب اللذين أعيد بناؤهما قبل أن يجتمعا، يرى العهد الجديد أنّ هذا البرّ يحمله المسيح لكلّ أعضاء الشعب المختار، كما في الرسالة إلى رومة (1: 17). أو إلى كورنتوس (1كور 1: 30؛ 2 كور 5: 21): "لأنّ (يسوع) الذي ما عرف الخطيئة، جعله الله خطيئة (أو ذبيحة خطيئة) من أجلنا، لنصير بها أبرارًا عند الله".

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM