الله القريب في وسط الشدّة
20: 1-13
نحن هنا في المقطع الأخير ممّا دُعيَ "اعترافات" إرميا. وهي تفهمنا الثمن الذي يدفعه النبيّ ليحمل بلاغ الله. "كنتُ أنا كحمل وديع يُساق إلى الذبح ولا علمَ لي أنّهم كادوا لي مكيدة. قالوا: نُتلف الشجرة مع ثمرتها. نقطعه من أرض الأحياء ولا يُذكر اسمه من بعد" (11: 19). وإذ اشتكى النبيّ مرّة، لم يُسنده الربّ في شكواه في "شفقة" كبيرة على صغير، بل وعده بصعوبات أكثر: "تجري مع الشاة فتتعب، فكيف تسابق الفرسان؟ تتعب في أرض الأمان، فكيف تفعل في غور الأردنّ"؟ (12: 5)، وكان فيه الوحوش المفترسة. وتتلاعب العواطف بالنبيّ، بما فيها من تعارض. من جهة تتمزّق نفس النبيّ حين يُعلن الشرّ وما يتبعه من عقاب. فيا ليته يعيش التشاؤم مثل الأنبياء الكذبة فلا يقع في مشاكل هو في غنى عنها. وفي أيّ حال، هو يحمل في قلبه آلام شعبه، ويتمنّى بعض المرّات أن يفنى الأشرار، المعادون. ولكنّه في النهاية، يُحسّ في أعماقه بالفرح لأنّه يرافق الربّ في حياة حميمة. "وجدت كلماتك فأكلتها. كانت لي كلماتك سرورًا، وفرحًا لقلبي. عليّ دُعي اسمك، أيّها الربّ الإله القدير" (15: 16). والنصّ الذي نقرأ (20: 7-18) يصوّر الصراع بين الله والنبيّ. أخذ الله نبيّه بالحيلة، فما عاد يقدر أن يُفلت من يده. أراد أن لا يتكلّم بعد باسمه، ولكنّه لا يقدر أن يحتفظ بهذه النار في داخله. هي نار يحاول أن يكبتها. هي كلامه لا يستطيع إلاّ أن يقولها. وهكذا تشجّع النبيّ مهما كان قول القائلين. ونقرأ النصّ (20: 10-13):
10 أسمع الكثيرين يهمسون،
والرعب حولي من كلّ جانب:
"دعونا نشتكي عليه"!
ويقول كلُّ أصحابي،
وهم يراقبون سقوطي:
"لعلّه يزلُّ فنقوى عليه
ونأخذ ثأرنا منه"
11 لكنّ الربّ معي كجبّار،
يخيفهم فيعثرون ولا يقومون
يخزون خزيًا ولا ينجحون.
12 فيا أيّها الربّ القدير،
يا من تمتحن الكلى والقلوب،
دعني أرى انتقامك منهم
فإليك فوّضتُ دعواي
13 أنشدوا للربّ هلّلوا للربّ
لأنّه أنقذ نفس المسكين
من يد الأشرار.
تقع هذه الآيات الأربع في قلب مقطع (20: 7-18) ينتمي إلى "اعترافات" إرميا. في هذه المجموعة السيرويّة، التي فيها يحاورُ النبيُّ الله، يصوّر بلغة مؤثّرة الصعوبات التي تواجهه في تتميم مهمّته. وذلك في أربعة أفكار: وصف المؤامرة (آ 10). ثقة بالربّ (آ 11). صلاة إلى الربّ (آ 12). نداء للمديح (آ 13). في الفكرة الأولى يرى النبيّ أعداءه يخطّطون. ومع أنّه خائف ولا إنسان يسنده في البلاط الملكيّ، فهو اتّكل على عون الربّ وتيقّن أنّه الغالب مهما اعتبروا نفوسهم أقوياء. في الفكرة الثالثة، صلّى النبيّ إلى الربّ طالبًا الانتقام. وإذ أحسّ أنّ الله يستجيبه، دعا الحاضرين إلى مديح الله فخلّص الفقراء والمساكين.
1- مهمّة النبيّ
حين يقوم الأنبياء بحمل حقيقة لا تروق للبشر، ينالون الاضطهاد. نجد أنّ إرميا عرف خبرة مأساويّة، بشكل خاصّ. ردٌ قاسٍ يتعرّض له بسبب رسالة نبويّة مثل رسالته. منذ النداء الإلهيّ الأوّل، فهم كم يكون عمله صعبًا ولا يلاقي الشكر وعرفان الجميل. قال له الربّ (1: 10):
أنظر! أمَّرتك في اليوم هذا
على الأمم وعلى الممالك
للقلع وللهدم وللإبادة
وللهرس وللبناء وللغرس.
سبق الله ونبّهه أنّ عليه أن يواجه، أن يقاتل (1: 17-19):
17 وأنت أزِّر نفسك
فتقوم وتتكلّم إليهم
كلَّ ما أنا أوصيك
لا تفزع من وجوههم،
لئلاّ أفزعك من وجوههم
18 وأنا ها اليومَ جعلتُك
مدينة حصينة
وعمود حديد وسور نحاس
على كلّ الأرض.
ملوك يهوذا ورؤسائها،
كهنتها وشعب الأرض
19 يلتحمون معك ولا يقدرون عليك
لأنّي أنا معك لأنقذك،
يقول الربّ.
لا بدّ لإرميا أن يدخل في مخطّط الله ليكون علامة حيّة عن الشقاوات والمصائب التي طُلب منه أن يتنبّأ بها. لهذا وجب عليه أن يعيش البتوليّة التي فرضها الله عليه. قاسم أشعيا زوجته حياتَه ورسالته، بحيث صارت نبيّة، في واقع الحال. ومُنع حزقيال، في خطّ متطلّبات خدمته، أن يلبس الحداد الرسميّ على زوجته، مع أنّها كانت كلَّ حياته "وفرح عينيه" (حز 24: 15-17). أمّا إرميا، فطُلب منه أن لا يتزوّج ليكون بذلك رمزًا إلى تقلّبات عصره (16: 1-4):
1 وكانت إليّ كلمة الربّ قائلة
2 لا تأخذ لك امرأة،
ولا يكون لك بنون وبنات في هذا الموضع.
3 لأنّ هكذا قال الربّ على البنين وعلى البنات
المولودين في هذا الموضع
وعلى أمّهاتهم اللواتي يلدنهم
على آبائهم الذين يلدونهم في الأرض هذه
8 كلّما تكلّمتُ صرختُ
وناديتُ بالويل والدمار
حتّى صار كلام الربّ عارًا
ومهانة ليل نهار
9 فإن قلتُ: لن أذكر الربّ
ولا أتكلّم باسمه من بعد،
أحسستُ بنار محرقة
محبوسة داخل عظامي
أحاول كبتها ولا أقدر.
نلاحظ أنّ التجربة وصلت إليه: يتهرّب من كلمة الله، ويترك دوره كشخص يبدّل مناخ العيد إلى نواح. ولكنّ ذلك كان أقوى منه. لا مخرج له سوى أن يبرّئ ذمّته أمام الربّ. هم يتخيّلون أنّ النبيّ يلعب هذا الدور في لذّة من قلبه، وكأنّه مريض. ولكنّ الله يعلم أنّه عمل ما في وسعه لكي يتجنّب الكارثة. حين قال الويل لشعب يهوذا (ف 15) بحيث صار في "خصام ونزاع مع الأرض كلّها" (آ 10) قال:
11 قل يا ربّ:
أما خدمتُك للخير
أما تشفّعتُ إليك
في وقت الشرّ وفي وقت الضرّ
من أجل المعادي؟
وإذ رأى النبيّ الخطأة المعاندين، بعد أن وصلت بهم الحالة إلى البؤس بفعل غضب الله (ف 17) قال:
16 ما دعيتُ عليهم بالشرّ،
ولا تمنّيتُ يوم البليّة
وأنت تعرفُ ما تفوّهت به شفتاي
لأنّه مكشوف أمام وجهك.
وتواصل الضيق فازداد، فصار النبيّ على حافّة اليأس
لماذا صار وجعي مستديمًا
ودائي عضالاً يقاوم الشقاء؟
4 موتَ الأمراض يموتون
لا يُندَبون ولا يُقبَرون
دمنًا على وجه الأديم يكونون،
بالسيف والجوع يفنون
وتكون جثثهم مأكلاً لطير السماء
ولبهائم الأرض.
حُرم غرميا من تعزية العائلة والمرأة والأولاد، فرأى نفسه حينذاك، محرومًا من كلّ أفراح الحبّ والصداقة. قال له الربّ (16: 8-9):
بيتَ وليمة لا تدخل
فتجلس معهم للأكل والشرب...
ها أنا أبطل من الموضع هذا،
أمام عيونكم وفي أيّامكم،
صوت الطرب وصوت الفرح،
صوت العريس وصوت العروس.
وكان إرميا قد قال (15: 17):
ما جلستُ في مجلس المازحين لاهبًا،
من فعل يدعل جلستُ وحيدًا،
لأنّ الغضب ملأني.
وإلى حزن حياة النبيّ الشخصيّة، أضيف فشلُ كرازته والعداء الذي تجلب عليه هذه الكرازة. فمهمّة إرميا كانت لا شعبيّة اثنين.
السبب الأوّل، ذو طابع عامّ، حمل إليه عداء الشعب كلّه. علم أنّ خطايا الشعب أوصلت إلى الذروة، الغضبَ الإلهيّ، أحسّ بنفسه وهن النبيّ، أن يشجب سلوك الحكّام، وأن يحذّرهم من العقاب الذي يهدّد الجميع. فكلمات النبيّ لم تكن لتسرّ الناس. فاشتكى إرميا إلى الله بسبب الشعر المعادي الذي يشعر به الشعب تجاهه بسبب كرازته (20: 7-9):
7 خدعتني يا ربّ فانخدعتُ.
وغالبتني بقوّتك فغلبتُ
صرت أضحوكة ليل نهار،
وجميعهم يستهزئون بي
أتكون لي كسراب خادعٍ،
كمياه لا تدوم؟ (15: 18).
وفي 20: 14-17، نقرأ:
14 ملعون اليوم الذي ولدت فيه!
يوم ما ولدتني فيه أمّي،
لا يكون مباركًا.
15 ملعون الرجل الذي بشّر أبي قائلاً:
وُلد لك ابن ذكر:
فرحًا فرّحه!
17 الذي ما أماتني من الرحم،
فتكون لي أمّي قبري
ورحمُها حاملٌ إلى الأبد.
إذ أعلن إرميا الشرّ الذي يهدّد إرميا في شكل ملموس، مع هجمة نبوخذ نصّر. وإذ دعا أورشليم لتنحني تحت النير البابليّ وتقبل العقاب (27: 8-11) اعتُبر أنّه خائن. فالذين كانوا للمعاهدة مع مصر، وهي معاهدة ندّد بها النبيّ، اتّهموه بالخيانة. أعلنوا أنّه هارب ومنتقل إلى مخيّم اللكدانيّين فجُعل في السجن (37: 11-16). وفي رواق الحرس حيث جعله الملك، ما زال يتنبّأ (37: 21). قال في 38: 2:
هكذا قال الربّ
من يبقى في هذه المدينة يموت
بالسيف والجوع والوباء
ومن يخرج إلى البابليّين
يحيا وينجو بحياته
تجاه هذا الكلام، أراد الرؤساء التخلّص منه. فقالوا للملك: "اقتل هذا الرجل، لأنّه يُضعف عزيمة المحاربين... لأنّه لا يريد لهذا الشعب خيرًا، بل شرًّا" (38: 4).
السبب الثاني: وما جعل إرميا مبغضًا لدى أشخاص عديدين. مساندته لاصلاح يوشيّا الذي منع المعابد المشتّتة في البلاد، وركّزها في أورشليم. وإرميا كان من عناتوت، من عائلة كهنوتيّة مسؤولة عن المعبد هناك، من أجل هذا غضب عليه أهلُ القربى حوله: يهمسون، يراقبون سقوطي (20: 10). ولكنّ الربّ سبق فنبّهه إلى هذا الخطر (11: 18):
18 أعلمني الربّ فعلمتُ
أراني فرأيتُ أعمالهم
19 كنتُ أنا كحمل وديع
يُساق إلى الذبح ولا علم لي.
وفي 12: 6 كان الكلام واضحًا: "إخوتك وأهل بيتك يقدرون بك. يصرخون وراءك ملء أفواههم. فكيف تأتمنهم إذا كلّموك بالخير"؟
2- ثقة بعون الله (آ 11)
ودلّ النبيّ على الرجاء الذي يعمر في قلبه. فالربّ الجبّار، القدير، هو معه. هذا ما وعده به يوم دعاه. وجدّد وعده أكثر من مرّة فثبّته رغم ضعفه البشريّ وخوفه، هذا ما نقرأ في الفصل الأوّل:
7 فقال لي الربّ: لا تقل إنّي صغير...
8 لا تخف من وجوههم
فأنا معك لأنقذك
18 جعلتُك مدينة حصينة
عمود حديد وسور نحاس
19 يحاربونك ولا يقدرون عليك،
لأنّي أنا معك لأنقذك.
تأكّد النبيّ من عون الربّ، عن الحرب التي يقوم بها هي حرب الربّ. وقضيّته هي قضيّة إلهه. وفي مناسبة أخرى، أملَ في عون مشابه لشعبه، فتوجّه إلى الله (14: 9):
لماذا تكون كالرجل المتحيّر،
كالجبّار الذي لا يقدر أن يخلّص؟
فأنت في وسطنا يا ربّ،
وباسمك دُعينا فلا تخذلنا.
ولكنّه بعد ذلك تيقّن أنّ الربّ تخلّى عن شعبه بسبب خطاياه، فما عاد يحسب كثيرًا لعون الله تجاهه، لأنّ حزنه ينبع من صدقه في إعلان كلمة الله:
وجدتُ كلماتك فأكلتُها
كانت كلماتك في سرورًا
وفرحًا لقلبي
لأنّ اسمك دُعي عليّ (15: 16).
3- صلاة إلى الله (آ 12)
نجد هذه الصلاة القصيرة في 11: 20. في إطار مؤامرة عناتوت ويتبعها جواب من الربّ يهدّد المضطهدين. هنا نجد أساس هذه الصلاة، حتّى النهي في ظروف أخرى، وما اهتمّ دومًا أن يطلب العقاب لخصومه. ورأينا كيف توسّل من أجل شعبه طالبًا له الغفران. ولكن أكثر من مرّة، كما هو الأمر هنا، جاءت صلاته طلبًا للانتقام من معاديه:
أفرزهم كغنم للذبح،
وخصّصهم ليوم القتل (12: 3)
أذكرني وتفقّدني،
وأنتقم لي من مضطهديّ،
لا تأخذهم بطول حلمك (15: 15)
إجلب عليهم يوم الشرّ،
واسحقهم سحقًا مضاعفًا (17: 18)
هذه العبارات وما يشبهها، تواترت في المزامير، ولكنّها لا ترضي أذنًا مسيحيّة. أجل، لم يصل إرميا إلى مناخ الإنجيل. ففي زمن انحصرت المجازاة على هذه الأرض، اعتُبر انتصار الأشرار هزيمة الله، دعت بهم برهانًا مباشرًا يدلّ على تدبيره العادل. فقضيّة النبيّ تتماهى مع قضيّة الله. لهذا، توسّل إرميا إلى الربّ: "إعلم أنّي لأجلك احتملت التعيير" (15: 15).
4- نشيد المديح (آ 13)
وينتهي هذا المقطع بدعوة ملحّة لمدح الربّ وإنشاد أعماله: هو مخلّص المساكين. هكذا نفهم طلب الانتقام من قبل إرميا: يجب أن تنتصر عدالةُ الله وبرّه. فإن فشلت "حرب" النبيّ، فشلت حرب الله، فماذا ينتظر الربّ أن يفعل. هي صرخة أطلقها الذين ماتوا من أجل المسيح في سفر الرؤيا: "إلى متى، أيّها السيّد القدّوس الحقّ، لا تدين سكّان الأرض، وتنتقم منهم لدمائنا"؟ (رؤ 6: 10). تأكّد النبيّ مسبقًا أنّ النصر آتٍ، فأنشد الشكر إلى الربّ الذي يساند المساكين ويكون الأمل الدائم للذين يعرفون الضيق. هذا الوضع نجده في سفر الرؤيا: إنتصر المجاهدون، وعلامة انتصارهم "ثوب أبيض" ناله كلّ واحد منهم (آ 11). يبقى عليهم أن ينتظروا إخوتهم.
الخاتمة
من خلال الصور والاستعارات التي يجب أن تحلّيها المحبّة، بدا إرميا في حاشه وآلامه صورة معبّرة عن المسيح والكنيسة والمسيحيّ. هو صورة المرسَل المضطهد، صورة الشهيد (مت 10: 28). ويستطيع كلّ مؤمن أن يجد نفسه في هذا النبيّ بقدر ما يشكّل الإيمانُ التزامًا يفرض عليه أن يشهد وبالتالي يقبل التعيير (آ 32: من اعترف بي).
ونحن أيضًا قد نتمزّق بانشدادات قد تصبح مأساويّة: إذا اتّجهنا إلى حبّ العالم الذي نعيش فيه، حبًّا عميقًا، نجد نفوسنا مجبَرين على رذل أكثر من موقف دنيويّ وأقوال، بحياة مسيحيّة تشهد للإنجيل (كذب، رشوة..) فنكون وحدنا تجاه تيّار يعتبرنا "أغبياء". يعتبروننا أنّنا "متفلسفون" مثل ذاك البارّ في سفر الحكمة، الذي أراد أن يسير عكس التيّار. عندئذٍ نودّ أن نتهرّب فنكون مثل الجميع، عجينًا مع عجين، لا خميرًا في عجين.
تلك كانت تجربة إرميا. وتجربة العديدين الذين يتركون إيمانهم ويسيرون مع "الغنم" مع التيّار المسيطر. الناس يعبدون العجل. ونحن نجمع له الحشيش ونطعمه. ولكنّ يسوع نبّهنا: أنتم في العالم. ولكنّكم لستم من العالم. لهذا نبقى في "الجبهة" الحربيّة، نبقى جاعلين رجاءنا كلّه في الربّ، سامعين كلام يسوع: لا تخافوا (مت 10: 31).