اتّكال على البشر أو احتماء بالربّ

اتّكال على البشر أو احتماء بالربّ

17: 5-8

للوهلة الأولى، يبدو ف 17 من سفر إرميا، وكأنّه مؤلَّف من قطع مبعثرة لا رابط بينها: خطيئة يهوذا وعقابه. ثمّ أقوال مأثورة خلقيّة عامّة وبعد صلاة إرميا، يدعو النبيّ الشعب لحفظ يوم السبت. في الواقع، نحن أمام مسيرة تنطلق من الواقع الذي يعيشه الشعب. هو خاطئ وخطيئته مكتوبة، محفورة، "بقلم من حديد" (آ 1). ولماذا الخطيئة؟ لأنّه جعل ثقته في البشر، في المال والقدرة والسلطان. أراد أن يصير إلهًا. ولكنّ الخبرة علّمته أهميّة الاحتماء بالربّ والخضوع له على مثال إبراهيم. عندئذٍ عاد إبراهيم إلى خبرته الشخصيّة ليطبّقها على شعبه. فليبدأ العودة إلى الربّ في احترام يوم السبت وبالتالي الهيكل مركز حضور الله. حفظ وصيّة أساسيّة مثل هذه، رمز إلى حفظ سائر الوصايا. إذا سمعتم لي "تُسكن هذه المدينة إلى الأبد" (آ 20). وإلاّ "سأشعل نارًا في أبوابها، فتأكل قصور أورشليم ولا تنطفئ" (آ 17). ذاك ما حدث للمدينة المقدّسة سنة 587-586 مع نبوخذنصّر والبابليّين. والنصّ الذي نتأمّل فيه هو قلب هذا الفصل من سفر إرميا: نختار البشر فنتّكل عليهم أم نحتمي بالربّ. ونقرأ 17: 5-8:

5 هكذا قال الربّ

ملعون الرجل الذي يتّكل على الإنسان.

ويجعل البشر ذراعه (سنده)

وعن الربّ يميلُ قلبه.

6 فيكون كالعرعر في البادية

ولا يرى الخير حين يأتي

يُسكن في البريّة الشديدة الحرّ

في أرض ملح لا تُسكن.

7 مبارك الرجل الذي يتّكل على الربّ

فيكون الربّ متّكله

8 فيكون كشجرة مزروعة على المياه.

وعلى النهر يحدّ جذوره

لا يرى الحرّ. إذا أتى

فيكون ورقُه أخضر

في سنة القحط لا يحسّ بالقلق

ولا يكفّ عن صنع الثمار.

 

1- الفنّ الأدبيّ والسياق

"كلمة يهوه". كلام الربّ. هذه العبارة المقولبة تُعلن قولاً نبويًّا. في الواقع، نحن أمام قول حكميّ. فبحسب نهج "معروف في الأدب الحكميّ، تتعارض سعادة الحكيم مع تصرّف الجاهل ومصيره. فالبناء المتوازي بين القطعتين يُبرز هذه المقابلة. من جهة فشل ولا نجاح لدى "الملعون" (آ 5). ومن جهة ثانية، سعادة ونجاح لدى "المبارك" (آ 7). هنا نتذكّر إنجيل لوقا (6: 20-26) حيث نجد أربع مرّات: طوبى، هنيئًا، ثمّ أربع مرّات: الويل. أمّا الصور فأخذت من اللغة الحكميّة.

"فالشجرة المزروعة على المياه"، نجدها في الأدب الحكميّ. كما في أم 3: 18 في كلام عن المرأة:

شجرة الحياة للمتمسّكين بها،

ومن يتمكّن منها فهنيئًا له.

وفي 11: 30 عن الرجل البار:

ثمرة الصدّيق شجرة حياة،

ومن كان حكيمًا ربح الناس

وفي مز 52: 10 نقرأ:

وأنا كزيتونة خضراء،

مغروسة في بيت الله.

وفي مز 92: 13:

الصدّيق كالنخل يزهر،

وكأرز لبنان ينمو.

ولكن يبقى المزمور الأوّل أقرب نصّ إلى هذا المقطع من إرميا، في كلام عن السعادة الحقيقيّة التي ينعم بها البارّ:

فيكون كشجرة مغروسة على مجاري المياه

تعطي ثمرها في أوانه،

وورقها لا يذبل (آ 3)

نجد هذا الموضوع بما فيه من تنوّع في الشرق القديم. فنحن نقرأ مثلاً في "حكمة أمينوفي" (ف 4) المعاصرة للتوراة ما يلي:

هو مثل شجرة تنمو في بستان

يُزهر ويعطي غلّة مضاعفة

يقف أمام سيّده

ثمره حلو وظلّه لذيذ.

ويُطرح السؤال: هل نحن أمام فكرة عامّة، أم أنّ لهذا النصّ صدى في قلب النبيّ؟ لا شكّ في أنّ إرميا أحسّ، في شكل شخصيّ جدًّا، وفي جسمه، أنّ من يستند إلى "ذراع" البشر يستحقّ أن نرثي له. لهذا، كتب حالاً بعد هذا المقطع (7: 9):

القلب أخدع الأشياء

وأخبثها، فمن يعرفه؟

تكلّم النبيّ عن خبرة. ونبّهه الربّ وهو من كان "كحمل وديع يُساق إلى الذبح" (11: 18): إخوتهك، أسرتك يكذّبون عليك. لا تثق بهم حين يقولون لك الأقوال الحلوة (12: 6). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، نحدّد موقع أقوال النبيّ في الظروف التاريخيّة التي تكوّنت فيها فسمعها الناس. إذا إخذنا في عين الاعتبار السياق، يبدو أن "الملعون" الذي أصابه إرميا هو الملك صدقيا (597-586). إستند إلى ذراع بشريّة، إلى سياسة المعاهدات، رغم تنبيهات النبيّ. فكان صانعَ شقائه الخاصّ. فمصيره المأساويّ مع ذبح ولديه وفقء عينيه وسقوطه النهائيّ الذي لا دواء له، كلّ هذا يصوّر خبرة معروفة: من سلّم نفسه إلى البشر، سلّم نفسه إلى الشقاء، لأنّه رفض التسليم لله.

2- ثقة بالبشر واتّكال

البشر. في العبريّة: ب ث ر. اللحم (والدم). عنصر الضعف في الإنسان والعطوبة. فمن يضع ثقته في "البشر"، كما فعل صدقيّا، يحسب حساب سياسة المعاهدات والدبلوماسيّة وعلى القوّة العسكريّة: مدن محصّنة (5: 17؛ رج تث 28: 52). القوس والسيف (مز 44: 7). الجياد والمركبات الحربيّة التي ترسلها "القوى الغريبة". لهذا يجب أن ودّ الملوك المجاورين. في هذا قال أش 31: 1-3:

1 ويل للنازلين إلى مصر طلبًا للمعونة

المعتمدين على الحيل العديد والمركبات

لا يلتفتون إلى قدّوس إسرائيل

ولا يسألون الربّ...

2 فالمصريّ إنسان، لا إله

خيله بشر (من لحم ودم)، لا روح.

ذاك كان الوضع أيضًا في زمن إرميا. يتوجّه النبيّ إلى أورشليم ويقول لها في الفصل الثاني:

18 فما لك الآن تأخذين طريق صلد

لتشربي من مياه النيل

وما لك تأخذين طريق أشور

لتشربي من نهر الفرات.

19 شرُّك يعاقبك وعصيانُك يؤدّبكِ

فتعلمين وتنظرين كم هو شرّ

أن تتركي الربَّ إلهك،

وأن لا تكون مخافتي فيك،

يقول السيّد والربّ القدير.

ويواصل النبيّ في الفصل عينه، فيدلّ على النتيجة التي وصلت إليها المدينة المقدّسة:

36 يا لخفّتك في تبديل سياسيتك!

من مصر سيلحقك الخزي

كما لحقك الخزيُ من أشور

37 فمن مصر تخرجين مستسلمة،

ويداك مرفوعتان على رأسك (أسير حرب)،

لأنّ الربّ رفض من تتّكلين عليهم،

فهم لا خير فيهم.

من يثق بالذراع البشريّة؟ من يستند إلى الازدهار الاقتصاديّ، إلى الغنى والمقتنيات (مز 49: 7ي):

7 أثمة يتّكلون على ثروتهم

ويهلّلون لكثرة غناهم

8 الإنسان، لا يفتدي نفسه،

ولا يكفِّر الله عنها...

14 هذا طريق المتكاسلين،

وآخرة الراضين بأقوالهم.

فقد قال سفر الأمثال (11: 28):

من يتّكل على غناه يسقط.

والصدّيقون كالأغصان يفرخون.

ومن يثق أيضًا؟ ذاك الذي يستند في حياته الخاصّة إلى عون الأقوياء وحماية المقتدرين، ولو كانوا من الإخوة والأصدقاء:

الاحتماء بالربّ خير من الاتّكال على البشر،

الاحتماء بالربّ خير من الاتّكال على العظمة (مز 118: 8-9)

وهناك من يستند إلى نفسه، إلى صفاته الخاصّة من جمال (حز 16: 15) وبرّ (حز 33: 13) ومهارة وفهم كما في أم 3: 5:

بكلّ قلبك اطمئن إلى الربّ

ولا تعتمد على فطنتك.

وقال إرميا في هذا المجال أقوالاً عن الافتخار هامّة في 9: 22-23:

22 يتهلّل الحكيم بحكمته،

والجبّار لا يتهلّل بجبروته

والغنيّ بغناه لا يتهلّل

23 بل يتهلّل المتهلّل بهذا:

بأنّه يفهم، يعرفني

لأنّي أنا إله صانع اللطف

والعدل والصدق في الأرض

بمثل هؤلاء أرضى، يقول الربّ.

ماذا ينتج عن هذا الكلام؟ توبيخ النبيّ للشعب ووضعه أمام فحص ضمير (8: 8):

8 كيف تقولون: حكماء نحن،

وتوراة (شريعة) الربّ معنا؟

ولكنّ كذبًا صنع قلمُ الكاتب الكاذب

9 خزي الحكماء وخابوا ولُكروا (= ضربوا)

نبذوا كلام الربّ

فأين الحكمة لهم؟

وأخيرًا، يتّكل على ذراعه "ذاك الذي يستند إلى النظم والمؤسّسات الدينيّة، فيعطيها قيمة مطلقة، مثل "الشريعة" أي النظام الخلقيّ والعقائديّ الذي تثبّت وما أراد أن يتغيّر. أو الطقوس وشعائر العبادة التي تكفل طمأنينة مبنيّة على الخرافات، على مثال الممارسات السحريّة لدى الوثنيّين. نقرأ في إر 7: 4ي:

4 لا يكن اتّكالكم على كلام الكذب

فتقولون: هيكل الربّ،

هيكل الربّ، هيكل الربّ

14 سأصنع بالبيت الذي دُعيَ اسمي عليه

الذي أنتم عليه متّكلون...

كما فعلت لشيلو

3- اتّكال على الربّ وحده

هذا المقطع، شأنه شأن النصوص التي ذكرنا، يقابل الطمأنينة الكاذبة التي تستند إلى ذراع بشريّة وتنتظر منها السند والعون، مع الطمأنينة الحقيقيّة الوحيدة: نتّكل (ب ط ح) على الربّ. يكون الربّ موضوع اتّكالنا (م ب ط ح). فالفعل يدلّ على من وجد نفسه في راحة وطمأنينة. وما هو الذي يُسند هذا الاطمئنان. لا ما هو بشر، لحم ودم. لا ما هو ضعيف وسريع العطب، بل ما هو أكيد، ثابت، مستمرّ، متين. يهوه هو الخالق الذي صوّرنا. هو الإله الأمين الذي لا غشّ فيه. هو الصديق وصاحب الاستقامة (تث 2: 4). هو "رجاء إسرائيل ومخلّصه في وقت الضيق" (إر 14: 18). وقد صلّى إرميا فقال (16: 19):

الربّ عزّي وحصني،

وملجأي في يوم الضيق

إنّ المقابلة مع النصوص الموازية (ولا سيّما في المزامير) تدلّ على أنّ الفعل "ب ط ح" قريب من فعلين آخرين هامّين. الأوّل: آمن (أ مّ ن) اعتبر الشخص أمينًا، ثابتًا. والشيء متينًا. قال الربّ لإرميا (39: 18):

أنجّيك فلا تسقط بالسيف...

لأنّك توكّلت عليّ.

ودعا المرتّل المؤمن فقال له (مز 37: 3):

توكّل على الربّ واعمل الخير،

تسكن الأرض ويحفظك الأمان

وبنو يعقوب يصيبهم العقاب

لأنّهم لم يؤمنوا بالله،

ولا توكّلوا على خلاصه (مز 78: 22).

من آمن هكذا، بقي واقفًا، لأنّ أساسه متين، ولأنّه يستند إلى الربّ (أش 7: 9). والفعل الثاني: لجأ (ح س ه). طلب ملجأ لدى الربّ الذي هو الصخر الثابت والحصن الذي لا يتزعزع. كما في مز 71:

1 بك يا ربّ احتميتُ،

فلا أخزى إلى الأبد

3 كان لي خالقًا، معينًا

ألتجئ إليه كلّ حين

أوحيتُ بتخليصي يا ربّ

لأنّك صخرتي وحصني أنت.

5 رجائي أنت يا سيّدي الربّ،

وعليك اتّكلت منذ صباي

فمن يقف هكذا أمام الربّ ويستند إليه، هو من "يخاف" الربّ. ورأس الحكمة مخافة الربّ. الربّ وحده هو إلهه. فحيث تجعل قلبك هناك يكون إلهك حقًّا. والثقة المطلقة بالربّ تتجاوب مع بنود العهد في سيناء: "أنا الربّ ألهك، لا يكن لك آلهة غيري" (خر 20: 2-3). أمّا الاتّكال على الآلهة وعلى الأصنام، على القوّة وعلى الغنى، فتجاوز للعهد وخيانة للاتّكال الحقيقيّ. كما في أش 30: 15-16:

15 هكذا قال الربّ الإله، قدّوس إسرائيل:

"في التوبة والراحة الخلاص

وفي الأمان والثقة قوّتكم

لكنّكم رفضتم

16 وقلتم: لا، بل على الخيل نهرب

فاهربوا إذًا.

أمّا الذي يخاف الرب ويلجأ إليه والمسكين والمتروك الذي يستسلم إليه بدون قيد ولا شرط، ودون أن يطلب سندًا آخر، مثل هذا لا يخاف ولا يهرب: سنده متين. هو مبارك. هو سعيد. طوباه.

4- ثمار الثقة بالله

الطمأنينة هي النتيجة الأولى للثقة بالله، لهذا الاستسلام الذي يجعلنا في يديه من أجل كلّ شيء، وهي تستبعد كلّ اهتمام وقلق

أهلّل لله على كلامه،

وعليه أتوكّل فلا أخاف (مز 56: 5)

وفي مز 46: 2:

الله حماية لنا وعزّة،

ونصير عظيم في الضيق

وفي مز 112: 7-8:

لا يخاف من خبر السوء،

وبقلب ثابت يتّكل على الرب.

قلبه راسخ فلا يخاف

حينما يرى خصومه.

وقال أشعيا (12: 2) في نشيد حمده:

والآن، أنت يا الله مخلّصي،

أطمئنّ إليك ولا أفزع.

الربّ قوّتي وتسبيحي،

وبه كان خلاصي.

أجل، من يتّكل على الربّ لا يخاف من الحرّ حين يجيء (آ 7-8) ولا من القحط الذي قد يحمل الجوع بسبب الغلال القليلة. هو يشبه شجرة تجذّرت في الربّ فكانت متينة، عميقة. فالربّ هو السند والأمان لمن لم يترك ينبوع الماء الحيّ لكي يحتفر له آبارًا مشقّقة لا تُبقي على ماء (2: 13). جذور هذا المؤمن تفرز في ينبوع يمنح القوت والخصب في أوانه.

وبمختصر الكلام، مثل هذا الإنسان "ينغرس في بيت الربّ، ويزهر في ديار إلهنا. يُثمر حتّى المشيب ويكون سمينًا غضًّا" (مز 92: 14-15). هو مبارك (آ 6). والبركة تشمل الخصب والحياة، السعادة والنجاح، كما قال مز 1: 3 عن البارّ: "كلّ ما يعمله ينجح". وقالت الرسالة إلى رومة: "كلّ شيء يؤول لخير الذين يحبّون الله" (8: 28)، "يؤمنون بحبّه" (1 يو 4: 16). يثقون بحبّه مهما كانت الصعوبات والأخطار. فالعهد القديم يرتبط بالواقع، شأنه شأن العهد الجديد. لا ينسى حرّ الصيف، ولا القحط الذي يتعرّض له البارّ، "المبارك".

إنّ اللهجة القاطعة التي قرأناها في 17: 5-8 تجعلنا أمام اللعنة أو البركة، أمام ثقة بالبشر أم ثقة بالله. هل هذا الخيار يستبعد كلّ ثقة بالإنسان؟ كلاّ. فالعهد القديم، في موضع آخر، يأخذ بموقف واثق بالإنسان فهو يتكلّم عن سعادة الرجل الذي تزوّج امرأة يمكن أن يثق بها (أم 31: 11) والمحبّة "تصدّق كلّ شيء، ترجو كلّ شيء" (1 كور 13: 7). أجل، من وضع ثقته في الربّ، وتأسّس على حبّه، واستسلم له بكلّيّته، يستطيع بالرغم من خيبات الأمل المتواصلة، أن يمضي بأمان لدى الجميع ويواجه ما يعترض حياته. بما أنّه يؤمن أنّ الله ليس فقط فوق الجميع، بل هو يعمل في الجميع وبالجميع (أف 4: 6) فهو يقدر بملء الثقة أن يلتقي الله في الجميع، ولا سيّما في الإنسان يسوع المسيح الذي لنا فيه الرجاء (1 كور 15: 19؛ فل 3: 3). حين نتّحد به وهو من جعل ثقته التامّة في الآب بدون شروط ولا تحفّظ، نحمل نحن أيضًا ثمارًا ترضيه تعالى (يو 15: 1-6).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM