دعوة إرميا
إر 1: 4-19
بعد العنوان العام (1: 1-3، كلام إرميا، نجد في رأس الكتاب خبر "رسالة إرميا"، فنفهم أهميّته لأنّه سيضع أمامنا النظرة الدينيّة الأساسيّة للنبيّ. هذا مع العلم أنّ تلاميذ النبيّ أو جامع الأقوال النبويّة، قد أوضحوا فهمهم لرسالة إرميا النبويّة. ذاك هو الخطّ الذي يقودنا في قراءة هذا النصّ.
1- بنية النصّ
يبدأ النصّ بمقدّمة قصيرة: "كانت كلمة الربّ إليّ قائلاً" (آ 4). نجدها أيضًا في آ 11 وآ 13. وهكذا نستطيع أن نقسم النصّ ثلاثة أقسام تبدأ بالطريقة عينها، وتتركّز على كلمة الربّ. ولكن نستطيع دون أن نترك هذه القسمة، أن نقدّم بعض التفاصيل الموضحة. في آ 13، تأتي بعد المقدّمة لفظة "ثانية" (مرّة ثانية). هذا ما يعود بنا بشكل واضح إلى الرؤية الأولى في آ 11-12. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تبدو آ 11-12 ثمّ آ 13-16 كخبري رؤية تخضع لفنّ أدبيّ واضح ومع آ 16 وما بعد، يتوجّه الله إلى النبيّ في صيغة المخاطب المفرد (أنت)، وهذا ما يحدث توقّفًا في القسم الثالث الذي يبدأ في آ 13.
إذن، نستطيع أن نعتبر أنّ 1: 4-19 قد تكوّن من نصوص جاءت مستقلّة في البداية، ثمّ جُمعت من منطلق لاهوتيّ: إرميا هو نبيّ تغذّت حياته بشكل خاصّ من كلمة الله.
2- حوار مع الربّ (1: 4-10)
4 قال الربّ لي:
5 قبل أن أصوّرك في البطن عرفتُك،
وقبل أن تخرج من الرحم،
قدّستُك وجعلتك نبيًّا للأمم
6 فقلت: آه! أيّها السيّد الربّ
أنا لا أعرف أن أتكلّم لأنّي صغير
7 فقال لي الربّ:
لا تقل إنّي صغير.
في كلّ ما أرسلك تذهب،
وكلّ ما آمرك به تقوله.
8 لا تخف من مواجهة أحد
فأنا معك لأنقذك
9 ثمّ مدّ يده ولمس فمي وقال:
ها أنا جعلتُ كلامي في قلبك
10 وأعطيتُك سلطة على الأمم والممالك،
لتقلع وتهدم وتهلك،
لتنقض ولتبني ولتغرس.
تبدأ آ 4-10 بعبارة تقديم تعلن حدث كلمة. أمّا صيغة النصّ فهي صيغة حوار بين الله وإرميا. فالخبرة المترجمة هنا هي خبرة سماع، لا خبرة رؤية رغم ما نقرأ في آ 9. ونلاحظ أنّ الحوار لا يعود إلى وضع محدّد على مستوى المكان أو الزمان. كما لا يشير النصّ إلى الظرف الخاصّ الذي كان فيه النبيّ. وهذا ما يميّز هذا النصّ عن سائر الأخبار النبويّة المشابهة (أش 6؛ حز 1-3). وإذا تابعنا المقابلة مع هذين الخبرين، نكتشف أنّ عنصر الرؤية هو مركزيّ في أخبار الدعوة، وأنّ سماع كلام الله يأتي في المكان الثاني.
أمّا عنصر الرؤية فهو موجز جدًّا في إر 1: 9، وتأتي كلمة الله في آ 9-10 فتقوّي ما سبق وقيل في آ 5. إذن، نستطيع أن نرى فيه عنصرًا أضيف فيما بعد. وهذا ما يؤكّد ملاحظة أخرى: إنّ آ 9 حيث يقول الله لإرميا: "هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك"، تذكّرنا بما قيل في تث 18: 18 حول النبيّ الشبيه بموسى الذي أعلن الله له: "أجعل كلماتي في فمك". هذا الرجوع الواضح إلى تث 18: 18 يشرح أيضًا عنصرًا في آ 7: "كلّ ما آمرك به تقوله". فهذا التفصيل يقطع السياق المنطقيّ بين آ 7 (لا تقلّ إنّي صبيّ) وبين آ 8 حيث يرسل الله النبيّ إلى سامعين، ويعده بأنّه يحميه في هذه المهمّة (الرسالة) الصعبة. أمّا آ 7ب (كلّ ما آمرك به تقوله) فتشدّد على كلّيّة البلاغ الإلهيّ (لا نقصان فيه) الذي يجب أن يُعلن.
هاتان العودتان إلى تث 18: 18، تفترضان أنّ إرميا هو نبيّ. وقد أُقرّ به شبيهًا بموسى. لهذا، لا يبدو معقولاً أنّ إرميا هو الذي ماهى نفسه مع هذا الإعلان الاشتراعيّ (في تث). وهكذا نرى هنا تفصيلاً جاء به مدوِّن تأثّر بسفر التثنية، واعتبر، بعد موت النبيّ، أنّ بلاغ إرميا يشكّل مجموعة تامّة (كلّ تام لا نستطيع أن نحذف منه شيئًا). وهكذا نرى في آ 4-10 مستويين لقراءة النصّ.
تضمّن خبر الرسالة آ 4-8، وظلّت خارجًا آ 7 للأسباب التي قلنا. في هذا الحوار، يتكلّم الله أوّلاً ليؤكّد أنّه يعرف إرميا منذ زمن بعيد، بل قبل أن يُحبل به في حشا أمّه. هذه المعرفة تحدّد الاختيار. فالله يعرف مسبقًا ما سيفعله. أمّا الإنسان فلا يستطيع بعد أن يدرك النداء. وهذا الإعداد السابق أمر معروف في العهد القديم (مز 139: 13-16؛ رج روم 8: 29). ونحن ندرك حالاً أنّ هذا التأمّل في عمل الله تجاه الإنسان، يفترض خبرة النبيّ. إذن، ليس الحوار نسخة عمّا حدث ساعة النداء (تقرير صحافيّ، مسجّلة)، بل هو يقدّم ثمرة خبرة داخليّة فكّر فيها النبيّ، فقُدِّمت لنا بشكل حوار.
ويتوخّى نداء الله مهمّة: بأن يكون إرميا نبيّ الأمم. ونحن لا نفهم هذه العبارة إلاّ انطلاقًا من المعنى لذي يُعطى للفظة " أمّة، أمم" (ج و ي م) في الكتاب كلّه. فاللفظة تعني شعب إسرائيل والشعوب المتّصلة به معًا. وهكذا يُعطى تعليم إرميا في زمن وجب فيه على شعب يهوذا أن يواجه وضعًا سياسيًّا صعبًَا، سيدخّل فيه المصريّون والأشوريّون والبابليّون والموآبيّون وغيرهم من الأمم التي تحيط بإسرائيل. وإذ يتكلّم إرميا، يقوم بعمل سياسيّ وإن تركّز تعليمه على التوبة والعودة إلى الله، وإن كان لتعليمه بشكل خاصّ بُعد دينيّ.
نادى الله، فأجاب إرميا باعتراض: هو لا يعرف أن يتكلّم أي لا يقدر أن يمارس خدمة الكلمة التي هي وظيفة النبيّ الجوهريّة. واعتراض إرميا لا يرتبط بعمره. ليس لأنّه بعد صبيّ، يحاول أن يتهرّب من المهمّة التي يوكله بها الله. فاللفظة العبريّة (ن ع ر) لا تدلّ على الولد، على على الشابّ الذي عمره بين 20 و30 سنة، وهذا العمر يعرض عمرًا آخر هو عمر الشيوخ، عمر الرجال الذين اختبروا الحياة.
وكان جواب الله إبعاد الاعتراض، والتأكيد على المهمّة، وإسناد هذه المهمّة إلى وعد يقول: "أنا معك" (آ 7أ-18). فعبر هذا الحوار الذي يسعى إلى ترجمة خبرة شخصيّة، اكتشف إرميا أنّه مرسل من قبل الله. أنّ الله اختاره ليحمل الكلمة رغم تردّداته في تقبّل هذه المهمّة.
ولمّا أعيدت قراءة هذه الآيات الحاسمة (آ 7ب، 9-10)، جعلت من إرميا نبيًّا شبيهًا بموسى كما قال تث 18: 18. غير أنّنا هنا أمام تفسير لاحق لرسالة إرميا، قام به مدوِّن نظر إلى التعليم النبويّ كلّه. وأدخل ذاك المدوّن إلى حوار مركّز على سماع الكلمة الإلهيّة، عنصر رؤية في آ 9أ يذكّرنا بما في أش 6: 7، ويربط قسمي النصّ المركّزين على رؤى.
والكلمة التي وضعت في فم الله في آ 10، توسّع مهمّة النبيّ فتصل به إلى "الأمم والممالك"، وهكذا تسيطر وجهة دينونة الله. فصار إرميا بهذه الطريقة صورة رفيعة جدًّا في تاريخ الشعب بحيث قابلوه بموسى وما تردّدوا. فإن كان موسى أوّل الأنبياء، فإرميا صار الأخير، صار ذاك الذي يُسمع تعليمه في الأوقات الصعبة. إنّ تعليمه يمثّل الفرصة الأخيرة المعطاة لإسرائيل لكي يُفلت من الدينونة بتوبة حقيقيّة. وتبقى قيمته هي هي حتّى بعد سقوط أورشليم (587) وتشتّت إسرائيل وسط الأمم. في منظار هذه الرفعة التي نالها النبيّ، تأثّر المدوّن الاشتراعيّ فأعطى لتعليم النبيّ بُعدًا مسكونيًّا شاملاً.
3- الرؤيتان (1: 11-16
11 وقال لي الربّ:
ماذا ترى يا إرميا؟
فقلتُ: أرى غصن لوز
12 فقال: أحسنتَ فيما رأيت
فأنا ساهر على فعل ما أقول
13 وقال لي الربّ ثانية:
ماذا ترى الآن؟
فقلتُ: أرى وعاء يغلي
على موقد يتّجه إلى الشمال
14 فقال: من الشمال يهبّ الشرّ
على جميع سكّان هذه الأرض.
أ- الرؤية الأولى (آ 11-12)
رؤية بسيطة جدًّا، وهي تخضع لبنية نجدها مثلاً في رؤى عاموس (7: 1-9؛ 8: 1-3؛ 9: 1-4). وهي تتوقّف عند فعل "سهر"، لأنّ اسم اللوز في العبريّة يعني "الساهر". إذن، توخّت الرؤية أن تذكّر الناسين الغافلين، أنّ الله يسهر على كلمته وهو يتمّها. إذن، لسنا فقط أمام عبارة تقديم تشير إلى الكلمة، بل أمام معنى الرؤية بالذات. فكلمة الله التي سلّمت إلى النبيّ، هي كلمة فاعلة، لأنّ الله يسهر على إتمامها.
ب- الرؤية الثانية (آ 13-16)
إنّ رؤية القدر التي تغلي، تعلن الدينونة التي تنصبّ على الشعب. فالكارثة تأتي من الشمال، وهي الوجهة التي تخرج منها عادة الاجتياحات العسكريّة التي تهدّد وجود يهوذا وأورشليم. وحدّدت آ 16 في أسلوب اشتراعيّ أسباب مثل هذه التقلّبات: إنّ عبادة الأصنام لدى السكّان تبرّر العقاب الذي يقترب.
ج- آ 17-19
ومع آ 17 نجد مقطعًا من الوجهة الأدبيّة، لأنّ الله يتوجّه بشكل مباشر إلى إرميا. وهكذا نبتعد عن رؤية آ 13-16. ولكن هل نجعل من آ 17-19 مقطعًا مستقلاً؟ يبدو أن الجواب هو كلاّ، بقدر ما لا نجد عبارة التقديم التي وجدناه في آ 4، 11، 13. في هذه الظروف نعتبر أنّ هذه الآيات تشكّل تضمينًا مع القسم الأوّل، مع الحوار من أجل الرسالة (آ 4-10). من هذا القبيل، نلاحظ التوازي بين آ 19 وآ 8ب: "لأنّي معك لكي أنقذك".
ولكنّنا نجد أكثر من ذلك في هذه الآيات: ففي آ 17-19 نحسّ برغبة في تجديد نداء الله من أجل المهمّة النبويّة. استلهم الكاتب "اعترافات" إرميا. فذكّرتنا آ 17 بما في 17: 18، وهي صلاة يطلب النبيّ من الله أن يعاقب مضطهديه الذين يرتابون في تحقيق كلام الله (الذي هو موضوع مركزيّ في ف 1). وتستعيد آ 18 سلسلة من العبارات المتوازية في 15: 20 الذي هو نصّ من نصوص "الاعترافات" يتحدّث عن أزمة في دعوة النبيّ. وبداية آ 19 هي استعادة حرفيّة لجزء من 15: 20.
إذن، نلاحظ مع هذه الإشارات، عودة إلى بداية النصّ: فعلى النبيّ أن يثبت رغم المحن، تجاة الرسالة التي أوكِل بها. وهكذا نكون في آ 17-19 أمام توسّع لما في آ 8: "لا تخف منهم، فإنّي معك لأنقذك".
خاتمة
حين نقرأ إر 1، نكتشف أنّ تأليف النصّ قد تأسّس على عناصر خاصّة بإرميا، ولكن أعيدت قراءتها وتنظيمها على يد تلميذ قد ارتبط بالنبيّ من قريب أو بعيد. ومجموعة إرميا، شأنها شأن سائر المجموعات النبويّة، قد لامسها نشاط المدوّنين الذين قدّموا تعليم النبيّ بالنظر إلى حاجات زمنهم.
وحين نتوقّف عند العناصر الإرميائيّة، تلفت انتباهَنا بنية حواريّة نكتشفها في أقسام النصّ الثلاثة. وفي قلب هذا النصّ نكتشف لاهوت كلمة الله التي تتمّ لا محالة. وموضع الرؤية الأولى في قلب المقطع له مدلوله: نحن نعود إلى خبرة إرميا النبويّة: فالنبيّ قد أرسل لينقل كلمة الله. وهي فاعلة وقديرة رغم المقاومات التي تواجهها.
وقد شدّد المدوِّن النهائيّ على سلطة إرميا الذي كلّف بأن يهدم ويبني (آ 10). وموقفه تجاه سامعيه يُصوَّر في الأجزاء القديمة من النصّ. وفي النهاية، كان للنبيّ بُعد مسكونيّ شامل، شدّدت عليه آ 10، 18. غير أنّ كلّ هذا يبقى مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بلاهوت الكلمة