الفصل الرابع عشر : دعوة الله لأحبائه 55: 1-11

الفصل الرابع عشر

دعوة الله لأحبائه

11-1:55

 

حين كان المنفيّون في قلب المحنة، على أثر دمار أورشليم وحريق الهيكل، كانوا يظنُّون أنَّ الله لا يرى، بل يتجاهل وضعهم. ويعتبرون أنَّ ذاك الذي خلق الكون، ضاعت قدرته. والذي اختار شعبًا له، ضاعت أمانته في مسيرة التاريخ. ذاك كان موضوع أش 40-48. تواقح الناس، تشكَّكوا، اجتذبتهم آلهة بابل. ولكن بقيت بقيَّة الأمناء، فانتظروا تبدُّلاً عجيبًا. عرفوا الاضطهاد، فإذا هي التعزية، قاسوا الظلم وها هو الخلاص يطلُّ عليهم. وما يصيبهم من خير، يصيب صهيون. لن تبقى تلك العاقر، بل يكون لها الأولاد العديدون. لن تكون تلك الخائنة لأنَّ حبَّ الربِّ يستعيد عهده. ولا يكتفي بأن يدعو شعبه ليكتشف حبَّه، بل يدعو جميع الشعوب لكي يروا الخلاص الذي أجراه الله. في هذا الإطار، نقرأ أش 55: 1-11، ونستعدّ للتجاوب مع دعوة الله إلينا، شرط أن نكون أحبّاءه.

 

1- بنية النصّ ودراسته النقديَّة

 

أ- بنية النصّ

نستطيع أن نقرأ ف 55 من جوانب ثلاثة: إمّا نقرأه في ذاته، أو بالنسبة إلى الفصل السابق، أو بالنسبة إلى مجمل »كتاب التعزية«. بالنسبة إلى ف 54، يبدو ف 55 امتدادًا عاديٌّا: بما أنَّ عباد الله يعرفون حياة سعيدة في أورشليم التي أعيد بناؤها، فالنبيّ يتوجَّه إليهم الآن، لكي يحدِّد لهم طبيعة هذه السعادة وشروطها. وإذا قرأنا ف 55 في ذاته، نراه متماسكًا بحيث إنَّ بنيته تبدو قريبة من رسمات معروفة في التيّار الاشتراعيّ([1]). وبالنسبة إلى كتاب التعزية، يبدو ف 55، الختام، لأنَّه يقف في توازٍ مع ف 40. ففي البداية والنهاية، نجد إعلان خروج جديد، وفاعليَّة كلمة الله، وتسامي الله الذي يتجاوز كلَّ شيء، فتحقِّق قدرتُه كلَّ شيء([2]).

ما عاد الكاتب يتوجَّه إلى أورشليم في صيغة المؤنَّث المفرد، ولا إلى داريوس الفارسيّ، في صيغة المذكَّر المفرد، بل إلى الشعب في صيغة المذكَّر الجمع. وجاء مَن([3]) ربط 55: 1-5 بالنوع الحكميّ: دعوة إلى عشاء كما في أم 9: الحكمة أرسلت جواريها. تعالَ كلْ من طعامي. أمّا مالوجيــن([4]) فــدعـــا آ3ب-5 قــــول خلاص. ولكنَّه أقرَّ أنَّ ما اقترحه فون فالدو(5[5]) هـو اقـتـداء بـكـلام بائعيـن فـي المدينة يدلِّلون على ما عندهم، أمر صحيح. ورأى مالوجين (ص 86-87) في آ6-13 خاتمة المجموعة التي تبدأ في ف 40. فاعتبر أنَّ المقطع يقابل المقطع على مستوى الموضوع كما على مستوى الترتيب:

* موضوع عودة الربّ (55: 6-7) = 40: 1-2؛

* الوعد بالخروج من الأسر (55: 12-13) = 40: 3-5؛

* فروقات جذريَّة بين الربِّ والإنسان (55: 8-9)؛

وصدق كلمة الله (55: 10-11) = 40: 6-8.

ترك مالوجين اختلافات ظاهرة. فإنَّ 40: 1-9 توجَّه إلى إسرائيل المنفيّ في بابل. أمّا 55: 6-11 فتحدَّث عن جماعة لا تُحصى، لا عن إعادة بناء الهيكل، بل عن استعمال الهيكل، وكأنَّه حاضر.

ويمكن أن نقرأ هنا أربعة مقاطع:

- الله يدعو المنفيّين ليأخذوا الطعام القويّ، طعام التعليم الذي يمنح الحياة، بل ملء الحياة (آ1-3أ).

- الله يؤكِّد للمنفيّين أنَّهم يستعيدون أمجادًا تميَّز بها داود (آ3ب- 5).

- الله يحثُّ المنفيّين ليجعلوا ثقتهم فيه، ليستندوا إلى وفرة عطاياه وغفرانه لأنَّ كلمته لا تخيِّب أحدًا (آ6-11).

- الله يكرِّر وعده بتحرُّر يصل صداه إلى أقاصي الأرض وإلى منتهى الزمان (آ12-13).

 

ب- الدراسة النقديَّة

في آ1ب أضاف النصُّ الماسوريُّ              ، وكلـوا وتعالوا، اشتروا. تبعه أكيلا وسيماك وتيودوسيون والشعبيَّة اللاتينيَّة. ولكنَّ عددًا من المخطوطات القمرانيَّة حول أشعيا، ومخطوطان بحسب ''كتِيب'' (وهذا ما تسنده السبعينيَّة والسريانيَّة) تلغي هذه الكلمات. تساءل كوتشر([6]) إن كانت قراءة قمران هي نتيجة تشتُّت في القراءة. ودافع وسترمان([7]) عن التكرار في النصِّ الماسوريّ، على أنَّه أمر طبيعيّ، لدى بائع في المدينة. غير أنَّ قمران يحافظ محافظة أفضل على الوزن، وهذا سند مهمّ([8]).

في آ4أ يرد         (الأمم) مرَّتين في هذه الآية. ترجمت السريانيَّة والترجوم والشعبيَّة اللاتينيَّة كلَّ مرَّة في لفظ. في السريانيَّة: لعمما ثمَّ لاموُةُا.

بما أنَّ العبريَّة تفضِّل المرادفات على التكرارات، اقترح عدد من الشرّاح ومنهم فريق شتوتغارت بأن تُحذَف المرَّة الثانية([9]). أمّا إلينغر فقلب الأولى فصـارت         . غيــر أنَّ قمــران فــي نسختي أشعيا والسبعينيَّة eqnesin (في المرَّتين) تسند النصّ الماسوريّ. ورأى درايفر([10]) أنَّنا أمام سمة خاصَّة في أسلوب الكاتب. ولاحظ إلينغر (حاشية 9، ص 117، حاشية 4) تكرار استعمال

، وإن لـم يكــن بقـدر       و   .

في آ9أ في النصّ الماسوريّ:        : لأن علت (الجبهة في العربيَّة). فـــي السبـعينيَّـــة wV apecei: كــمــا السماوات كانت بعيدة. هذا ما تسنده السريانيَّة مطلا د يك  درُمين شمَيًا من رعُا ثمَّ الترجوم. ضمَّت مخطوطة قمـران أداتين فقرأت:              ، لأنَّ كارتفاع. رج أيضًا سيماك، ما عدا الماسوريّ 86. دافع كوتشر (حاشية 6، ص 321-322) عن النصِّ الماسوريّ العاديّ واقترح بأن تكون     هنا في معنى غير عاديّ ''مِثل''، كما ترى السبعينيَّة والسريانيَّة والترجوم، لا قمران. مثل هذه الترجمة توافق البنية الموازية مع    ، هكذا: »كما علت... هكذا«.

في آ11أ.     ، في صيغة المضارع: تخرج. في السريانيَّة، هي صيغة الماضي نفق أو نُفق: خرجت. ولكن يمكن أن نكون أمام صيغة الحاضر الذي يكون في اسم الفاعل في السريانيَّة: خارجة الآن.

 

2- دراسة المعاني

أ- تعالوا إلى المياه (55: 1-3أ)

حين نسمع هذا النداء وما يليه من كلام، نظنُّ كأنّنا نسمع صراخ حاملي المياه، في المدن الشرقيَّة، أو موزِّعي الحبوب والخمر واللبن. أمّا هنا، فالمتكلِّم ليس بائعًا من الباعة، بل هو نبيّ، أي حامل كلام الله. جعل الله كلمته في قلبه، فخرجت »صوتًا« من فمه. فهو لا يقدِّم مجرَّد زاد من الطعام. والكلمات تحمل معنى أكثر من المعنى العاديّ.

العطاش هم المنفيّون الذين حُرموا من الشراب، بل حرموا من الحرّيَّة، ولاسيَّما الحرِّيَّة لممارسة شعائر العبادة. هنا نفهم أنَّ عطشهم أكثر من عطش إلى الماء. نقرأ مثلاً إش 41: 17:

إذا المساكين والبائسون

طلبوا ماء وما من ماء،

وألسنتُهم جفّت من العطش

استجيب لهم ولا أخذلهم.

وفي 44: 3:

أفيض المياه على العطشان،

والسيول على الأرض القاحلة.

وأسكب روحي على ذرِّيتك

وبركتي على نسلك.

وفي 48: 21:

سيَّرَهم في القفار من قبل

وشقَّ الصخر ففاضت المياه،

فجَّرها من الصخر فلم يعطشوا.

المياه تدلُّ على الحياة التي منحها الربُّ في البرّيَّة بفيض روحه. ويمنحها لأورشليم حيث العين الخارجة من الهيكل صارت نهرًا لا ينضب. قرأنا 44: 3 حيث تترافق المياه مع الروح. وفي 43: 20:

وحوش البرّيَّة تمجِّدُني،

الذئابُ وبناتُ النعام،

لأنّي أجريتُ مياهًا في الصحراء،

لأسقي شعبي المختار.

وفي 49: 10، يصوِّر النبيّ العائدين في البرِّيَّة:

لا يجوعون ولا يعطشون،

ولا يصرعهم حرُّ الشمس،

لأنَّ الذي يرحمهم يهديهم،

وإلى ينابيع المياه يقودهم.

سوف نرى في آ10-11 كيف أنَّ النبيّ يقابل بين المياه والكلمة. ونلتقي هنا مع إر 2: 13: »تركوني أنا ينبوع المياه الحيَّة«. وفي إر 31: 12: »تكون حياتهم كجنَّة ريّانة، ولا يعودون يذبلون من بعد«.

إطلبوا حنطة.         ، وكلوا. فالفعل العبريّ يلتقي مع الاسم. هذا اللفظ يرد في خبر يوسف (تك 41: 56-57؛ 42: 6). أو بالأحرى الحبوب، وأوَّلها الشعير الذي هو ضروريّ لحياة الجسد. وهناك خبز ضروريّ آخر، كلام الله، كما قال عا 8: 11.

ستأتي أيّام، يقول الربّ،

أرسل فيها جوعًا على الأرض،

لا الجوع إلى الخبز،

ولا العطش إلى الماء،

بل إلى استماع كلمة الربّ.

والخمر واللبن، هما أفضل ما في الأرض المقدَّسة، يدلاّن أيضًا على التعليم من عند الربّ، وعلى أفضل بركاته؛ فكما كان الخروج من مصر (خر 3: 7-8) دخولاً في الوفر والازدهار، كذلك يكون الخروج من بابل.

كلُّ هذه الخبرات التي تنقل الإنسان من الموت إلى الحياة، تُعطى مجّانًا. فالمنفيّون مدعوُّون لكي يأكلوا ويشربوا دون أن يدفعوا فلسًا واحدًا. ذُكـرت الفضَّــة         ومرَّتيــن، ولكنّنــا لسنا بحاجة إليها. غير أنَّ البعض رأى أنَّه يجب أن نترجم مرَّة بالفضَّة ومرَّة بالطعام، في خطِّ الأكاديَّة. ولكن سبق وتحدَّثنــا عـن                   مع أهميَّـة التكـرار للبائعين الجوّالين. هنا يقال للنـاس أكثـر من مرَّة: أنتم لا تحتاجون إلى فضَّة؛ أنتم فقراء، لا بأس؛ أنتم أغنياء، احتفظوا بالمال في صرَّتكم. تلك المجّانيَّة ستصل إلى الرسل حيث يقول لهم الربّ: »مجّانًا أخذتم، مجانًا أعطوا« (مت 10: 8). وما الذي وُعد به الناس؟ الحرّيَّة (52: 3)، العودة إلى الأرض المقدَسة (45: 3)، بناء أورشليم المهدَّمة.

لماذا تصرفون فضَّة (آ2): الطعام الذي يقدِّمه البشرُ ندفع ثمنه، ولكن لا قيمة له، فهو يشبعنا برهة من الزمن، أمّا الطعام الذي يقدِّمه الله فلا يُشرى، لأنَّ لا ثمن له، وهو يُشبع إلى الأبد. هنا نسمع كلام الربّ: »إعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي للحياة الأبديَّة« (يو 6: 27، 35). وقال يسوع للسامريَّة: »الماء الذي أعطيه أنا، يصير نبعًا يفيض بالحياة الأبديَّة« (يو 4: 14).

من يطلب طعامًا حقيقيٌّا، يسمع الله. اقتنع النبيّ بهذا الأمر، فردَّد الفعل »سمع« ثلاث مرّات          وأضاف فعلين مرادفين. تعالوا        إلى الربّ. أميلوا آذانكم. فالشبع من طعام دسم (إر 31: 14؛ مز 36: 9-10) يعني أن »نهضم« تعليم الربّ. فإن اتكأ المؤمن إلى هذه المائدة حيث يُقدَّم له كلامُ الربّ، تحيا نفسه. هو لا ينجو من الموت فقط، بل يعيش الانفتاح في جماعة تربطه بالله وبإخوته. أجل، لا يحيا الإنسان بالخبز فقط، بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله (تث 8: 3).

 

ب- عهد أبديّ (55: 3ب-5)

ولكنَّ الوضع ميؤوس منه. يقول لهم النبيّ: الربُّ وعد. وها هو يثبِّت وعده. فيقول لهم: ''أقطع لهم عهدًا أبديٌّا، عهدًا يدوم.                  مع ''أبد'' يشير النبيّ دومًا إلى الماضي، ويذكر عهدًا قطعه وعقده في السابق مع نوح وإبراهيم ويعقوب وموسى وداود. غير أنّ هذه الحقبة الطويلة التي عاشها الشعب، تفهمنا أنَّ المستقبل لن يتبدَّل، بل يقاوم محنة الزمان؛ فسخاء الله يتجلّى دومًا، وهو يُفيض عطاياه على أبنائه.

وما هي هذه العطايا الداوديَّة، تلك التي نعمَ بها داود، أو تلك التي كان سببها؟ بل المعنى الأوَّل بحسب مز 89: 50:

أين ألطافك القديمة يا ربّ،

التي حلفتَ لداود من أجلها بأمانة.

ولكن لا نستبعد المعنى الثاني كما في مز 132: 10:

من أجل داود عبدك،

لا تردَّ وجه مسيحك.

ونقرأ أيضًا في سفر الأخبار الثاني (2أخ 6: 42):

أيُّها الربُّ الإله،

لا تردَّ وجه مسيحك،

واذكر ألطافك لداود عبدك.

فالعطايا التي مُنحت لداود تبقى هي هي الآن، في قلب المنفى البابليّ وفي الضياع. صرخ المهجَّرون إلى الربّ، وصوَّروا حالتهم في مرا 4: 20:

نفس أنوفنا، مسيحُ الرب،

أوقعوه في حبائلهم،

وهو الذي قلنا عنه:

في ظلِّه نحيا بين الأمم.

وفي مز 89: 39-40:

خذلت الملك مسيحك،

ورفضتَه من غيظك عليه.

أنكرتَ عهدك لعبدِكَ،

ومرَّغت تاجه في التراب.

كلامٌ يحمل اليأس! لهذا أتى جواب النبيّ ليؤكِّد دوام عطايا الربّ كما في أيّام داود. فأورشليم التي كانت مـدينــة داود (2صـم 5: 9) ستـعــود إلــى ازدهارها السابق بعد أن دُمِّرت بيد البابليّين. والهيكل الذي هي مقابلة بين أع 13: 34 وأش 55: 3:  . احترق، سيُعاد بناؤه. وأخيرًا هذا السلطان على الأمم، يعود الآن، وإن بوجه آخر. إشعاع أورشليم يصل إلى أقاصي الأرض، لا في العهد القديم، بل في العهد الجديد، وبواسطة يسوع المسيح. في هذا المجال، يقول بولس الرسول لأهل أنطاكية بسيدية: »ونحن نبشِّركم بأن ما وعد الله به آباءنا، تمَّ لنا، نحن أبناءهم، حين أقام يسوع من بين الأموات، كما جاء في المزمور الثاني: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك. وأن يكون الله أقامه من بين الأموات ولن يعود إلى الفساد، فهذا وارد في قوله: سأعطيكم البركات المقدَّسة الأكيدة التي وعدتُ بها داود« (أع 13: 32-34)([11]).

جعلته رقيبًا للأمم (آ4). ترك النبيّ علاقة داود بشعبه، وأبرز دوره في وسط الأمم. فداود هو الشاهد للربّ، وهو »الدالول«       ، وهو السلطـة         .

قال عنه مز 18: 44:

نجّيتني من شعب معادٍ،

وجعلتني رئيسًا للأمم،

وشعب لم أعرفه يتعبَّد لي،

لم يتبدَّل شيء الآن:

يدعو شعوبًا لا يعرفها،

وتتبعه أممٌ لا تعرفه،

الربُّ القدّوس إله،

وهو الذي مجَّده.

في الماضي، كان داود هو الشاهد. والآن هو الشعب. وإن أتت الشعوب إلى أورشليم، فلأنَّها اكتشفت في إعادة بناء الشعب، كيف تدخّل الله. وإذا كان تدخَّلَ هكذا من أجل شعب خاصّ، فهو يتدخَّل أيضًا من أجل جميع الشعوب([12]).

 

ج- أطلبوا الربّ (55: 6-11)

إذا كانت أورشليم، وهي خربة مدمَّرة، تشعُّ بمجد الله، فلأنَّ العودة إلى الأرض المقدَّسة، تشكِّل تجلِّيًا للمخلِّص القدير. فلا بدَ من الاستعداد للقاء به، في الصلاة وفي التوبة([13]). مثل هذه النصائح وصلت إلى المنفيّين في رسالة بعث بها إرميا إليهم (إر 29: 12-14):

تدعونني وتجيئون،

تطلبونني فتجدونني،

إذا طلبتموني بكلِّ قلوبكم،

وأُوجَد بينكم،

وأعيد لكم أمجادكم (أو: سبيكم).

والنبيّ الأشعيائيّ يوجِّه إلى إخوته إرشادات مماثلة (آ6):

أطلبوا الربَّ ما دام يُوجَد،

أدعوه ما دام قريبًا.

ساعةَ النبيّ يتكلَّم، أُعلن الله قريبًا، لأنَّ تدخُّله المحرِّر على الأبواب. ولكن إن انتزعْنا النصَّ من سياقه التاريخيّ، فالقول النبويّ يحتفظ بمعناه الذي يتعدَّى الزمان والمكان. فهذا الإله الذي يجده حتّى الذين لم يطلبوه (56: 1)، يستطيع البشر أن يصلوا إليه (تث 4: 7)، بل صار معهم يوم صار إنسانًا في يسوع المسيح.

ولكن قبل اللقاء بالربّ لكي يخلِّص بني إسرائيل من الخطايا (آ7)، هم يُدعَون إلى لقائه وهو يعمل مع المؤمنين لكي ينجّيهم من عبوديَّة بابل. والاقتراب من الله هو الوجهة السلبيَّة التي هي الابتعاد عن الشرّ. في هذا السياق نقرأ 2أخ 7: 14. وما قاله الربُّ من كلام لسليمان:

الذين تسمُّوا باسمي،

فتضرَّعوا إليّ وصلّوا والتمسوا عوني،

وتابوا عن طرقهم الشرّيرة،

فأنا أسمع من السماء،

وأغفر خطيئتهم وأُخصب أرضَهم.

فزمن الاقتراب من الله، هو زمن توبة الإنسان، الذي يتخلّى عن الطرق السهلة (2مل 17: 13؛ إر 18: 11)، والأفكار التي لا تقود إلى البعيد. فكم سمع النبيّ حوله: تأخَّر التحرُّر من النير البابليّ، وهل هذا ممكن؟ (49: 24). يقولون وهم يائسون:

أتُؤخَذ الغنيمة من الجبّار؟

أيُنقذ الأسيرُ من يد الطاغية؟

وهل يستحقُّ كورش أن يقوم بهذا العمل الجليل؟ فالمؤمنون يخاصمون الربّ. والجواب النبويّ: »ويل لمن يخاصم جابله« (45: 9). ويسألون الربَّ ويتساءلون. ويكون الجواب: »كيف تسألونني عن بنيّ (بمن فيهم كورش)، وتشيرون إليّ في ما تعمل يداي« (آ11)؟ والتجربة: لماذا نمضي إلى أورشليم ونكون هناك كما في سجن؟ ولماذا لا نبقى في بابل؟ لا شكَّ في أنَّ العودة المادّيَّة تبقى ناقصة. فالعودة إلى أورشليم تعني العودة إلى الربّ. وهذا أمر يطلبه الأنبياء ويطلبونه (هو 6: 1؛ 14: 2، 3؛ إر 3: 11، 14: 22؛ 4: ..1.). إنِ التفتَ المؤمن إلى الله، اكتشف مراحمه وحنانه الأموميّ (49: 14-15)، كما يكتشف غفرانه. هذا ما يدعونا إلى العجب.

ولكن لا عجب في ذلك؛ فأفكار الله تختلف عن أفكار البشر (آ8)، وطُرقُه غير طرقهم. عند الإنسان، كلُّ شيء يبقى على مستوى الأرض(14). عند الله، كلُّ شيء يقف عند »قبَّة السماء«. هذا التشبيه يجعلنا نلمس لمس اليد المسافة بين الحقارة والسموّ، بين النجاسة والقداسة. حين تواجه أفكارُ الإنسان أفكارَ الله، فهي تبدو صغيرة، حقيرة. فالضعف والخطيئة يقفان تجاه وجهتي التسامي والإلهيّ، القدرة والكمال. هذا ما نقرأ في مز 103: 11-12:

11    كارتفاع السماء عن الأرض،

ترتفع رحمتُه على خائفيه.

12    كبُعد المشرق عن المغرب،

يُبعد عنّا معاصينا.

هذا التشديد على السموِّ الإلهيّ يعيدنا إلى بداية كتاب التعزية (40: 12-31)، وكذا نقول عن كلمة الله وفاعليَّتها (آ5-8): »كلمة إلهنا تبقى إلى الأبد«.

والبرهان الساطع للسموِّ المطلق للإله العليّ، بالنسبة إلى بني آدم (آ10) هو أنَّ كلمته تفعل ولا تُخطئ. هي مثل المطر (44: 14). فالمياه التي تنزل ثمَّ تصعد لا يمكن إلاّ أن تفعل: تسقي الأرض، تنبت الخضر، تساعد الإنسان لكي يزرع. هذا ما يقوله مز 104: 13-15:

13    تسقي الجبال من علاليك،

ومن ثمرة أعمالك تَشبع الأرض.

14    تُنبت العشب للبهائم،

والخضرة لخدمة البشر.

15    خمرًا تفرح قلبَ الإنسان

وزيتًا يجعل وجهه مشرقًا

وخبزًا يُسند به قلبه.

فالمطر يصل دومًا إلى غايته، وكذلك »كلمة الله«. إذا كان الكلام البشريّ (مِن حلفٍ، أو وصيَّة الإنسان عند موته) لا يرَدُّ، لأنَّه يقال أمام الله الذي يكون شاهدًا له (تك 27: 33-40)، فكم بالأحرى كلام الله! مرّات عديدة كلمات البشر تبقى باطلة، عبثًا (49: 4). لا كلمة الله: »من فمي يخرج الصدق، وكلمةٌ منه لا ترجع« (45: 23).

الخاتمـــــة

تلك كانت مسيرتنا مع النبيّ الأشعيائيّ. مسيرة الرجاء تجاه اليأس. مسيرة القداسة في وجه الخطيئة. الغرس والبناء مقابل القلع والهدم. لا أورشليم بعد الأرملة، الثكلى، بل المدينة التي أعيد بناؤها وتوسَّعت لتضمَّ لا أبناءها القريبين فقط، بل الآتين من البعيد أيضًا. هكذا بدأ كتاب التعزية: »عزّوا عزّوا شعبي« (40: 1). لا مكان بعد للبكاء والحزن. »الربُّ تكلَّم (آ5). إذًا هو يفعل. وهكذا ينتهي: »بفرح تخرجون من بابل... الجبال والتلال ترنِّم أمامكم وأشجار الحقول تصفِّق الأيدي« (55: 12). فلا يبقى سوى المسيرة من أجل عهد جديد، لا مع داود من الأرض، بل مع ابن داود وربِّ داود. فعنده الخلاص الحقيقيّ، النهائيّ. والذين يطلبونه يجدونه. فهو قريب منهم. بل يسير أمامهم فتنقلب الصحراء جنَّة غنّاء. فيسيرون بين السرو والآس كما في تطواف يوصلهم إلى أورشليم الأرض، بل إلى أورشليم السماء. عندئذٍ يكون لهم كلُّ شيء جديدًا (رؤ 21: 5).

 



[1] W. BRUEGGEMANN, «Isaiah 55 and Deuteronomic Theology», Zeitschrift für(1) die altestamentliche Wissenschaft, 80 (1968) 191-203.

قدَّم المؤلِّف البنية التالية: (1) نعمة الله أعطت الحياة والعهد، كما في زمن داود (آ1-5). (2) ضرورة العودة (آ6-9) إلى الله الذي يتحنَّن ويغفر. (3) متانة وعد الله (آ10-11). (4) وهكذا تحوَّلت الحياة والوجود (آ12-13). ثمَّ ذكر كيف أنَّ المؤرِّخ الاشتراعيّ (حوالى سنة 550 ق.م.) (أ) أبرز دور داود (1مل 8: 24-25). (ب) شدَّد على التوبة (1مل 8: 33، 35، 47؛ تث 4: 39، 50)، التي هي انفتاح على الغفران (1مل 8: 34، 36، 39، 50)، ودلالة على حنان الله (1مل 8: 50). (ج) أبرز كلمة الله (1مل 8: 26). (د) بيَّن أنَّ اللعنة يمكن أن تتحوَّل إلى بركة (1مل 8: 33-51؛ تث 28: 25-52؛ 30: 7). راجع أيضًا:

F. ZORELLI, «Invitatio hominum ad salutem messianicam (Is 55)», Verbum Domini, 2 (1922) 358-360.

بولس الفغالي، إسمعوا أيُّها الشعوب البعيدة. أشعيا 49-66، الرابطة الكتابيَّة، 2005، القراءة الربيَّة، 16، ص 57-78، في دراسة مثلَّثة (آ1-3؛ آ6-9؛ آ10-11).

[2] P. E. BONNARD, Le second Isaïe, Son disciple et leurs éditeurs, Gabalda,

Paris, 1972, p. 300.

[3] J. BEGRICH, Gesammelte Studien Zum Alten Testament, p. 56-61.

[4] R. F. MELUGIN, The Formation of Isaiah 40-55, BZAW, 141, Berlin, 1978, p. 25-26.

[5] H. E. VON WLADOW, Anlass und Hintergrund der Verkündigung des Deuterojsaja, Diss., Bonn, 1953, p. 22.

[6] E. Y. KUTSCHER, The Language and Background of the Isaiah Scroll (1QISa), Leiden, 1974, p. 552. (6)

[7] C. WESTERMANN, Isaiah 40-66, Westminster, 1969. (7)

[8] R. N. WHYBRAY, Isaiah 40-66, NCBC, Grand Rapids, 1975. (8)

[9] . ELLIGER, Jesaja II, Neukirchen - Vluyn, 1978, p. 525. (9)

[10] G. R. DRIVER, JTS, 36(1935), p. 404.

[11] J. DUPONT, Etudes sur les Actes des Apôtres, Paris, 1967, p. 337-359.

A. CAQUOT, «Les grâces de David. A propos d’Is 55, 3b», Semitica, 15 (1965) 45-49. Il discute les positions de E. EISSFELDT, «The Promises of Grace to David in Is 55, 1, 5 (Compared with Ps 89)», in Israel’s Prophetic Heritage, New-York, p. 196-207.

هي مقابلة بين أع 13: 34 وأش 55: 3:  .ta osia dauid ta pista

[12] ف 49: 7 و2: 2-4. فما يناله الشعب، ناله عابدُ الربّ (49: 3؛ رج 60: 9). لا شكَّ في أنَّ التجلّي الحقيقيّ يتمُّ في يسوع المسيح، الشاهد الحقيقيّ (رؤ 1: 5). هناك من حاول أن يحدِّد الزمن الذي قيل فيه هذا القول. ولكنَّ محاولته تحتاج إلى نقاش.

[13] بالنسبة إلى آ6-11، رج:     .H. G. TROADEC, “La parole vivante et          efficace”, Bible et Vie Chrétienne, 11 (1955) 57-67

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM