الفصل الثامن :سفر دانيال

الفصل الثامن
سفر دانيال


1- المقدّمة
يحتلّ سفر دانيال مكانة فريدة بين الأسفار المقدّسة. دوّن في اللغات الثلاث، العبرانية والأرامية واليونانية. وإذا وضعنا جانبًا النصوص اليونانية، يتألّف سفر دانيال من مدارش أو شروح على نصّ معروف، ومن رؤى، والرؤية هي امتداد النبوءة. جعل التقليدُ العبري سفر دانيال لا بين الأنبياء، بل بين سائر الكتب أي بين الكتب التي ترتكز على الأنبياء الذين يرتكزون بدورهم على أسفار موسى الخمسة.
إذا كان سفر دانيال في التوراة العبرّية بين أستير وعزرا، فهو في اليونانية واللاتينية والسريانية بعد حزقيال. أجل، جُعل سفر دانيال مع أسفار الأنبياء دون أن يبرز تبدّل في طريقة فهمه أو في زمان تدوينه.

2- من كتب سفر دانيال
نسب التقليد اليهودي والتقليد المسيحي (مت 24: 15) هذا السفر الى دانيال الذي هو الشخصيّة الأولي. وقيل: إنّه دوّن في بابل، في القرن السادس ق م. ولكن هذا الرأي تجاوزه الزمن والأبحاث الكتابية.
أوّلاً: من الصعب أن نؤكّد هذا القول، وإلاّ لجعلنا سفر دانيال مع أسفار الأنبياء لا بين سائر الكتب. ثمّ إنّ مديح الآباء الذي نقرأه في سي 49 يذكر إرميا وحزقيال والاثني عشر ولا يشير إلى دانيال. بعد هذا، نجد في نصّ الكتاب ألفاظاً فارسية ويونانية تدفعنا إلى القول إنّ سفر دانيال دوِّن في زمن متأخّر. وأخيرًا، إنّ كاتب هذا السفر يجهل التاريخ البابلي: يجعل بلشصَّر ابن نبوكد نصر وهو ابن نبونيد، ويذكر داريوس ملك المادايين وهو ملك مجهول. ولكنّه يعرف "جيّدًا الأحداث التي حصلت في القرن الثاني ق م.
ثانيًا: اسم دانيال اسم أسطوري ورد مع نوح وأيّوب في حزقيال (14: 14، 20)، وهو يعتبر من أحكم حكماء الأرض (حز 3:28). ونعرف اليوم بفضل آداب أوغاريت (رأس شمرا، شمالي اللاذقية) أنّه وُجد بطلْ شعبي هو دانيال الملك سيذكره أيضاً سفر أخنوخ المنحول.
أخذ الكاتب هذا الشخص وجعل منه يهوديًا متعمّقًا في اللغة الكلدائية وآدابها، خبيرًا في تفسير الأحلام. رُفع إلى مرتبة حاكم بابل، وُشبّه بالآلهة. إذًا، لسنا أمام شخص فرد، بل أمام نموذج اليهوذاوي ألتقي الثابت في إيمانه وممارساته الدينية. تسلّم إلهام الله ومساعدته، فجابه أعظم الملوك وسيطر على جماعة السحرة. أوحى الله إليه مسيرة التاريخ وتعاقُب ممالك هذا العالم التي ستندثر الواحدة بعد الأخرى. وأوحى إليه أيضاً خلاص شعبه وانتصار الله ومؤمنيه وإقامة مملكة أبدية.
ثالثًا: في الواقع، إنّ كاتب سفر دانيال هو كاتب مجهول جمع عناصر كتابه من موادّ متنوّعة. فالقسم الإخباري (ف- 6) يشكّل مجموعة من التقاليد انتقلت من مكان إلى آخر قبل أن تسطَّر كتابة. ثمّ إنّ الكاتب لم يهتمّ بأن يدوّنها بطريقة زمنية أو منطقية. أمّا القسم الجلياني (ف 7- 12) فهو يحتفظ بآثار تدلّ على أنه كُتب في أوقات متباعدة. من هذه الآثار، وجود لغتين هما العبرانية واليونانية، وانتقال صيغة الكلام من الغائب إلى المتكلّم.
3- متى كتب سفر دانيال
إذا توقّفنا عند النصّ، وجدنا أنّ كاتب سفر دانيال نبي عاصر سبي بابل. هكذا قرأه الكتابَ المعلّمون اليهود والمسيحيّون. ولكن منذ القرن الثالث ب م رأى بورفيروس الوثني أنّ هذا السفر دوّن في عهد أنطيوخس أبيفانيوس. ونحن نلاحظ أنّ رؤية ف 10- 11 تواكب تاريخ الشرق الأوسط حتّى السنة 164. وبعد هذا (11: 40 ي) ننتقل إلى تعليم عن الرجاء ينفتح على الدينونة الأخيرة وقيامة الموتى (12: 1- 4). هذا التعليم يقابل المسائل الروحيّة التي واجهها العالم اليهودي في ذلك الزمان.
إنّ ابن سيراخ الذي دوّن حوالي السنة 190- 180 ق م لم يعرف سفر دانيال. أمّا سفر المكابيين الأوّل الذي دوّن بين السنة 134 والسنة 104، فهو يعرفه ويذكر رجاسة الخراب على مذبح المحرقات (27:9؛ 11: 37؛ رج 1 مك 1: 54). ولمّا تُرجم سفر دانيال عرفه الكتابُ الثالث من الأقوال السيبيلية (دوّنت حوالي السنة 145- 140). يشير سفر دانيال إلى تدنيس الهيكل في 7 كانون الأوّل سنة 167 (11: 31) وإلى قتل اليهود المؤمنين (11: 33) وإلى ثورة المكّابيين وانتصاراتهم الأولى في السنة 166. هو لا يشير إلى موت أنطيوخس، الملك المضطهد (خريف164)، ولكنّه يلمّح إلى تطهير الهيكل في 14 كانون الأوّل سنة 164.
إذًا نقول إنّ الكتاب دوّن في السنة 164، بعد أن أعيدت شعائر العبادة إلى الهيكل المطهّر. وقد ترجم إلى اليونانية حوالي سنة 145.
هناك أحداث في الكتاب تلمّح إلى أحداث معاصرة: ضغطُ السلطات الوثنية على اليهود لتجعلهم يأكلون من الأطعمة التي تحرمها الشريعة (1: 5-8؛ رج 2 مك 18:6 - 31). فرضُ عبادة الأوثان (3: 1- 2) وتقديم البخور أمام الملك المؤلّه (6: 6- 10). كل هذا جعل اليهود في خطر الموت استشهادًا (3: 19- 21؛ 17:6- 18). ويعلن دانيال موت المضطهد من خلال شخص بلشصّر (5: 22- 30) أو من خلال الرؤى (7: 11، 24- 26 ؛ 8: 25؛ 9: 26- 27؛ 11: 45). وإذا كان الكاتب لم يهتمّ إلاّ قليلاً بثورة المكّابيين العسكرية (11: 34)، فلأنّه انتظر تدخّلاً مباشرًا من الله الذي يقلب الحالة رأسًا على عقب ويقيم ملكه ويخلّص شعبه. هذا هو موقف الحسيديم الذين ذهبوا إلى البرّية قبل أن يلتحقوا بيهوذا المكابي (1 مك 28:2- 38، 42- 43)، وقد يكون صاحب سفر دانيال واحدًا منهم.

4- هدف سفر دانيال
دوّن الكاتبُ هذا السفر في وقت ضيق لم يكن مثله منذ وُجدت أمّة على الأرض (12: ا)، فاهتمّ بأن يحافظ على الإيمان ويُشعل جذوة الرجاء عند الذين قلقوا أو ضعفت عزيمتهم بسبب عنف الاضطهاد. لهذا، فهو يشدّد على قرب النهاية وعلى مجيء الملكوت القريب. قال الملاك لدانيال: إنّ الرؤيا تتمّ في الوقت المحدّد (8: 17). ويقول النصّ عن أنطيوخس: وبعد الأسابيع الاثنين والستين يُقتل شخص مكرّس (مسيح) ولا يدافع عنه أحد. ثمّ يأتي رئيس مع جيشه، فيدمّر المدينة والهيكل. ولكنّ هذا الرئيس يموت بضربة من الغضب الإلهي، ولكنّه يقوم بحرب مدمّرة حتّى موته كما تقرّر (9: 26 ؛ رج 11: 27، 27، 35، 40). ويقول دانيال لبلشصّر: وفي أيّام هؤلاء الملوك، يُقيم إله السماء مملكة لا تُنقض إلى الأبد، ولا ينتقل ملكه إلى شعب آخر. هذه المملكة تسحق وتفني كل الممالك الثابتة وتضع حدًّا لوجودها. أمّا الله فيثبت إلى الأبد (2: 44 ؛ رج 33:3؛ 4: 31). ونقرأ في رؤيا دانيال (13:7- 14): رأيت في رؤى الليل فإذا بمثل ابن البشر آتيا على سحاب المساء، فقُدّم إلى القديم الأيّام، وقُرّب إلى أمامه. فأعطي له سلطان ومجد وملك لتتعبّد له جميع الشعوب والأمم والألسنة. يدوم سلطانه إلى الأبد، ولا يكون له انقضاء، ومملكته لن تدمَّر.
5- بنية سفر دانيال
أوّلاً: دانيال في التوراة العبرية (تحدّد نصها في نهاية القرن الأوّل المسيحي على يد المعلّمين اليهود في يمنية ووُضعت الحركات فيما بعد). كان يتضمّن 12 فصلاً كُتبت في لغتين مختلفتين: من 1: 1 إلى 2: 4 أ في العبرية، من 2: 4 ب إلى 28:7 في الأرامية، وأخيرًا من 8: 1 إلى 13:12 في العبرية. كيف نفسّر هذا الوضع؟ كانت في البداية مجموعة أرامية (ف 2- 7) زيدت عليها مقدّمة وتكملة في العبرية. أمّا النصّ النهائي فيبدو في مجموعتين: الأخبار (ف 1- 6) وبطلها دانيال (ف 2، 4، 6) أو رفاقه الثلاثة (ف 3) أو دانيال ورفاقه (ف 1). ثمّ رؤى مُنحت لدانيال وحده (ف 7- 12).
ثانيًا: دانيال في التوراة اليونانية. وصلت إلينا ترجمتان لدانيال، الترجمة السبعينية وترجمة تيودوسيون. وكلتا الترجمتان زادتا على النصّ الأصلي نصوصاً ليتورجية تكيّفت مع الإطار الإخباري، وهي صلاة عزريا ونشيد الفتيان الثلاثة (3: 24 ي). كما زادتا في نهاية الكتاب قصة سوسنة (13: 1 ي)، وخبر دانيال وكهنة بال (14: 1- 22)، ودانيال والتنين (23:14- 42). يبتعد نص السبعينية عن النصّ العبري، ويبدو أنّه نُقل عن أصل سامي يختلف عن الذي بين أيدينا. أمّا نصّ تيودوسيون فقريب من النصّ العبري الماسوري. ويبدو أيضاً أنّ النصوص الليتورجية والأخبار المزادة تعود إلى نصّ عبري.
ثالثًا: من أين جاءت موادّ الكتاب؟ يلمح ف 2 إلى سياسة زواجية انتهجها أنطيوخس الثاني مع بطليموس الثاني (سنة 255) أو أنطيوخس الثالث الذي حاول أن يرتبط ببطليموس الخامس ويعطيه ابنته كليوبترة زوجة له سنة 194. والحيوان الرابع (ف 7) الذي يمثّل مملكة اليونان يملك عشرة قرون (ترمز إلى عشرة ملوك). وزاد الكاتب القرن الحادي عشر وطبّقه على الملك المضطهد فبدا كلامه نبوءة قديمة (7: 24 ب- 25). وجنون نبوكد نصّر وارتداده (ف 4) يشكّلان خبرًا مستقّلاً يعود إلى ما قبل السنة 168. إذًا استقى الكاتب مواده من أخبار تقليدية كان بعضها خطّيًا وبعضها الآخر شفهيًا. وهذه الأخبار نمت في جماعات بابل اليهودية التي اتّصلت بحضارات فارس واليونان أكثر مما فعلته جماعات أرض يهوذا. ونشير هنا إلى أنّ شخصية نبوكد نصّر سيطرت على شخصية نبونيد. وقد وُجد خبر مواز لما نقرأ في ف 2 و 4 في نصّ أرامي في قمران وفي نصّ يوناني. وإنّ هيرودوتس المؤرّخ اليوناني عرف تقليد وليمة بلشصّر (ف 5) ونسبها إلى الملك لابنتيوس الذي يقابل نبونيد.
كل هذه التقاليد جمعها صاحب سفر دانيال، وقدّمها على أنّها سيرة حياة دانيال. كانت هناك أخبار مستقلّة، فجمعها الكاتب وجعلها في أيّام نبوكد نصّر (ف 1- 4) وبلشصّر (ف 5، 7- 8) وداريوس المادايي (ف 6، 9) وكورش الفارسي (ف 10- 12) ورسم حياة شاب يهودي سُي سنة 606 واختير ليكون من خدّام الملك مع ثلاثة رفاق له (ف 1). نجح في تفسير الأحلام، فدخل في الإدارة الملكية (ف 2) حيث تابع الفتيان الأربعة دربهم الصاعد حتّى زمن الفرس. أمّا دانيال فسيصير الوزير الأوّل (ف 1) وحاكمِ بابل ورئيس الحكماء، وهذا ما يتجاوز حدود المعقول. فالهدف من سفر دانيال ليس هدفَا تاريخيًا، بل هدف لاهوتيّ.

6- تصميم سفر دانيال
أ- القسم الأوّل (1: 1- 6: 29): الأخبار
يشكّل ف 1 مقدّمة للقسم الإخباري. يضع أمامنا أربعة أشخاص سيكونون أبطال الكتاب. هم دانيال ورفاقه الثلاثة الذين رأى فيهم الكاتب نموذج اليهودي الأمين. جاؤوا إلى المنفى وأدخلوا إلى البلاط الملكي فما زالوا يمارسون الشريعة في أمور انتقدها الحاكم الهلّيني وهي قضيّة الأطعمة المحرّمة. هذه المسألة صارت هامّة في أرض يهوذا حين سعى أنطيوخس ابيفانيوس أن يفرض عليها الحضارة الهلّينية. ويورد 2 مك 18:6- 31 استشهاد اليعازر الذي رفض أن يأكل لحم خنزير. إذًا، نحن هنا أمام خبر نموذجي يدعو القارئين ليعارضوا العادات الوثنية. وإنّ الحكمة التي أعطاها الرب للفتيان الأربعة، تعود إلى هذه الأمانة الدقيقة لمتطّلبات الشريعة.
في ف 2 يعطينا الكاتب أوّل مثل عن حكمة دانيال "النبي ". عجزت الحكمة الوثنية عن فهم حلم نبوكد نصّر. أمّا الرب وحده، سيّد الزمن والتاريخ، فهو يعرف سرّ المستقبل ويكشفه لأنبيائه. في إطار مُلك نبوكد نصّر، نموذج الملك الوثني، كشفَ دانيال قصد الله الذي سيتمّ في النهاية. أمّا تاريخ الممالك الوثنية فيسير في تدرّج انحداري: الذهب، الفضة، النحاس، الحديد، ثمّ الحديد الممزوج بالتراب. تمثال رأسه من ذهب ورجلاه من تراب. ومن خلال هذه الصورة نكتشف تعاقب الممالك في الشرق: بابل (الذهب)، ماداي (الفضّة)، فارس (النحاس)، الإسكندر (الحديد). وبعد موت الإسكندر انقسمت مملكته (حديد وتراب). كل هذا ينتهي في دينونة الله الذي يضع حدًّا لممالك البشر ويؤسّس مُلكه.
ونقرأ في ف 3 خبرًا نموذجيًا يعظّم أمانة اليهود للإله الحقيقي. يجب أن لا يخافوا من الموت. هم يعرّضون حياتهم للخطر ولا يخضعون لعبادة الأوثان. هذا ما فعله رفاق دانيال. نجاتهم من التنوّر تذكّرنا بكلام أش 43: 2 ب: إذا سلكت في النار لن تحرقك، ولهيبها لا يصيبك. هذا الموضوع كمان عبرة في أسطورة إبراهيم الري نجا من نار الكلدائيين (كتاب اليوبيلات، ترجوم فلسطين). نشير إلى أنّ العبادة الوثنية لم تُفرض في أرض يهوذا على يد سلطة سياسيّة إلاّ في عهد أنطيوخس أبيفانيوس. أمر وهدَّد بالقتل. حينئذ قامت رجاسة الخراب (أي مذبح للآلهة) في هيكل أورشليم حيث كان الهيكل القديم (27:9 ؛ 11: 31؛ 1 مك 1 :54). وينجو الفتيان من الموت فتبدو نجاتهم صورة مسبقة عن القيامة (12: 1- 3).
وتبرز في ف 4 صورة الشجرة الكونية التي سبق وقرأنا عنها في حزقيال (31: 1 ي)، فدلّت على عظمة فرعون وسقوطه. أمّا هنا فوُضعت في إطار حلم رمزي لتدلّ على دينونة الله التي تُذلّ القوى البشرية المتكبّرة. يروي الملكُ نفسُه حلمَه ويعجز سحرة بابل عن تفسيره (كما في ف 2). أمّا دانيال ففهم معناه واستخلص العبرة: الله يحكم على كبرياء البشرية (أش 2: 10- 19) ويدعو الملوك ليعرفوا عظمته ويتّضعوا أمامه.
ويرتبط ف 5 ب ف 2 و 4 فيُعطي مثلاً عن المعرفة التنبؤيّة التي منحها الله لدانيال. لم تعد القضيّة أن يفسر حلمًا، بل أن نقرأ كتابة سرّية رسمتها يد علوية على جدار القصر الملكي خلال ولمحة تدنيسية أعلن فيها بلشصر تعلّقه بالأوثان واحتقاره لله الحي. ما استطاع سحرة بابل أن يقرأوا الكتابة. أمّا دانيال فقرأها وأبرز دينونة الله الذي يعلن سقوط الملك القريب. كان تقليد بلاد الرافدين ينسب الخبر إلى بال شور اشور ابن نبونيد، فربطه الكاتب بنبوكد نصر نموذج الملك الوثني، وأشار من خلاله إلى أنطيوخس أبيفانيوس الذي سلب الهيكل سنة 169 ودنّسه بالعبادات الوثنية التي جعلها فيه (1 مك 1: 54- 59؛ 2 مك 2:6- 4). وليمة بلشصر تُبرز عربدته وتهتّكه، وموته يُنبئ بموت أنطيوخس.
وفي ف 6 بُني خبر نموذجي على الموضوع الذي قرأناه في ف 3. ظلّ دانيال أمينًا لله، وبسبب هذه الأمانة واجه الموت. ولكنّه ينجو بأعجوبة، أمّا اعداؤه فيلقون العقاب الذي يستحقّون. يقدّم النصّ اليوناني نسخة ثانية عن هذا الحدث (23:14- 42). يبدو داريوس ملكًا ضعيفًا وخاضعًا لمتطلّبات حاشيته، لا ذلك المتسلّط الذي تحدّث عنه المؤرّخون. ولكنّ الكاتب لا يهتمّ بالتاريخ الماضي، بل بالواقع الحاضر ليحمل كلمة العزاء إلى اليهود المضطهدين. فمنذ سنة 169 فرض أنطيوخس الرابع على مملكته عبادة إله السماء (زوش الأولمبي). أنطيوخس هو تجلّي هذا الإله على الأرض، ولذلك سمي أبيفانيوس. في هذا الإطار التاريخي نفهم الخبر: إنّه تحريض على الاستشهاد وعلى الرجاء. والنجاة من جبّ الأسود، كالنجاة من النار، تمثّل النجاة من الموت التي هي القيامة. وسيرى فيها الفنّ المسيحي صورة عن قيامة المسيح.

ب- القسم الثاني (7: 1- 12- 13): الرؤى
مع ف 7 يبدأ القسم الثاني. فبعد الأخبار المتعلّقة بدانيال ورفاقه، نجد رؤى دانيال مرتّبة بطريقة تشبه ما نجده في الأخبار (ف 1- 6). تبدو الرؤية الأولى بشكل حلم رمزي يُروَى (آ 2- 14) ويُفسَّر (آ 15- 28). في القسم الأول، كان دانيال يفسّر الرؤى والأحلام. أمّا هنا فالملاك الواقف قرب عرش الله يفسّر له الرؤية. نجد تدخّل الملاك في حزقيال (ف 40- 42) وزكريا (7:1؛ 8:6). وتسير الرؤية بشكل حلم في مشهدين متعارضين. في المشهد الأوّل، تطع الحيوانات من البحر فتدلّ على تعاقب الممالك البشرية كما في ف 2. المملكة الأولى هي مملكة البابليين، المملكتان الثانية والثالثة (حسب الترجمة السريانية قبل سنة 250 قي م) تدلاّن على المادايين (آ5) والفرس (آ 6). المملكة الرابعة هي مملكة الإسكندر التي ورثها السلوقيون. يميّز الكاتب عشرة ملوك (عشرة قرون الحيوان) ثمّ ملكًا حادي عشر يصل معه الشر إلى أوجه. هذا الملك الحادي عشر يمثل أنطيوخس أبيفانيوس الذي أزاح ثلاثة قرون هي ديمتريوس، وأخوه أنطيوخس وبطليموس فيلوميتور (11: 21- 25). تحدّث الكاتب أوّلاً عن عشرهَ قرون قبل اضطهاد أنطيوخس. ثمّ زاد القرن الحادي عشر ليشدّد عزيمة المضطهدين، ويُنعش فيهم الرجاء، وينبئهم باقتراب دينونة الله وموت المضطهد وبداية تمجيد الشهداء (آ 23- 25). يمثّل أنطيوخس آخر هجمة من هجمات الشرّ ضدّ شعب الله، وقد رأى التقليد اليهودي والمسيحي في الحيوان الرابع المملكة الرومانية. وحين يسقط الحيوان والرابع، يبدأ مُلك قدّيسي العلي الذين يُعطى لهم ملكوتُ الله.
هنا نقرأ اللوحة الثانية من رؤية دانيال: الله بشكل شيخ ينصّب في السماء ابن الإنسان ملكًا (آ 9- 10، 13- 14). تعارض قسماته قسمات الحيوانات السابقة. ابن الإنسان هو شخص رمزيّ. ولكنّ التقليد اليهودي قابله بالمسيح الداودي (أمثال أخنوخ وعزرا الرابع). أخذ الكاتب موادّه من عالم البابليين والكنعانيين ومن العالم الكتابي الذي دلّ كيف أنّ الله تغلّب على قوى الفوضى (مز 13:74- 14؛ 89: 10- 11)، وتصوّر تاريخ الخروج (أش 51: 9- 10) وتمثّل صراع الله في نهاية الزمن (أش 27: ا). وسيعود سفر الرؤيا (ف 13) إلى هذه الصور فيمزج في حيوان واحد قسمات النمر والدبّ والأسد (رؤ 13: 1- 10؛ مرا 4:7-6). ثمّ إنّ مجيء المسيح على سحاب السماء سيَرد على لسان يسوع (مر 26:13 ؛ مت 30:24- 31؛ لو 21 : 27؛ مت 25: 31؛ لو 17: 22- 30) كتعبير عن رجائه الخاصّ. وحين يسأله قيافا، يُصبح هذا المجيء صورة عن ظهوره في المجد (مر 14: 62؛ مت 26: 64؛ لو 68:22؛ أع 7: 55- 56؛ رؤ 1: 13). هنا نفهم الأهمّية التي أخذها دا 7 في الوحي المسيحي. سيأتي ابن الإنسان في اليوم الأخير ليدين الخطأة ويخلّص الأبرار. هكذا سمّت الجماعة المسيحية يسوع (كما سمّى هو نفسه) فدلّت على أنّه يخلّص الخطأة (مت 9: 6) ويدشّن العهد المسيحاني (مت 8:12).
ونقرأ في ف 8 لوحة تاريخية أخرى بشكل رؤية رمزية. فبعد الكبش وقرناه (يمثّلان مملكتي ماداي وفارس) يأتي تيس له قرن مخيف (مملكة الإسكندر). ولمّا تحطّم هذا القرن (أي مات الإسكندر)، ظهرت أربعة قرون (خلفاء الإسكندر). وأخيرًا ظهر قرن صغير (هو أنطيوخس ابيفانيوس) الذي دفعته كبرياؤه ليرتفع بوجه الله ويزيل عبادته ويضطهد شعبه. ولكنّ سقوطه أعلن بصورة احتفالية في قرار إلهي.
ويتّخذ التعليم الجلياني (أو الرؤيوي) منحى جديدًا. ينطق من نصّ نبوي يعتبر تعليمًا مرقّمًا دوَّن فيه الله مسبّقًا علامات النهاية المنتظرة. هذه النظرة إلى النبوءة تساعدنا على البحث عن نور يضيء الأزمات الحاضرة ويَعِد بحلّها. جعل إرميا (25: 11- 14؛ رج 29: 10) سقوط بابل ونجاة الشعب الإسرائيلي بعد فترة رمزيّة تتألّف من سبعين سنة (أو عشرة سبوت من السنين، أو عشر دورات سبتية، رج لا 2:25- 7؛ تث 15: 1- 11). ففسّرت الأخبار (2 أخ 36: 21) في هذا الإطار زمن سبي بابل. وحوّل سفر دانيال السبعين سنة إلى سبعين سبتًا من السنين أي عشر دورات يوبيلية (لا 8:25- 18)، وبعدها تأتي النهاية وخلاص البشر.
وإذ يريد الكاتب العبريّ أن ينهي كتابه (ف 10- 12) يستعيد تعليمه في لوحة جليانية واسعة. جعلنا في إطار ظهور ملائكي (10: 1- 11: 1) حسب عادة الرؤيا. وشرح الملاك للرائي مسيرة التاريخ حيث يتحقّق قصد الله. يرسم قسمٌ أوّل (11: 1- 39) كلَّ تاريخ الشرق في خطوطه الواسعة، منذ زمن الفرس إلى عهد أنطيوخس أبيفانيوس. ثمّ تأتي لوحتان تدلاّن على المستقبل. الأولى (11: 40- 45) ترسم نهاية المضطهد، والثانية تصوّر نهاية الزمن مع القيامة ومجازاة الأبرار (12: 1- 4). وتعود بنا نهاية هذه الفصول (12: 4- 13) إلى إطار الرؤية وتقدّم لنا أقوالاً رمزية عن زمن النهاية.

ج- القسم الثالث (ف 13- 14): النصوص القانونية الثانية
نذكّر أوّلاً بأنّنا نجد في ف 3 عناصر ليتورجية لا نقرأها إلاّ في اليونانية. العنصر الأوّل (آ 26- 54) هو صلاة توبة يهودية نجدها في دا 15:9 ي وبا 1 :15- 18:3. أمّا العنصر الثاني (آ 52- 90) فهو نشيد مباركة قديم.
ووصلت إلينا قصّة سوسنة (ف 13) في نصين يونانيين اختلفا ولكنّهما عادا إلى أصل سامي واحد. دانيال هو الرجل الذي "يدين " باسم الله ويحكم بالحق. وتجاه شرّ الشيخين سنتعرّف إلى أمانة سوسنة لواجباتها، وهذا ما جعلها مثال المرأة اليهودية.
في ف 14، نقرأ أوّلاً (آ 1: 22) هجومًا على عبادة الأوثان بشكلِ حيّ يدلّ على كذب كهنة الأوثان. ونقرأ ثانيًا (آ 23- 42) حدثًا من صراع دانيال ضدَّ الآلهة الوثنية في بابل.

7- تعليم سفر دانيال
أ- الإيمان والحياة الدينية
تجاه حضارات وثنية تكز فيها الآلهة (5: 4) ويعبد الناس الأصنام (3:2) والحيوانات المكرّسة (14: 23) ويطلب الملك إكرامًا كإكرام الآلهة (6: 8)، يشدّد سفر دانيال على وحدانية الله. هو يبني لاهوتًا دفاعيًا يحارب به الوثنية (ف 14)، ويُبرز عظمة إيمان من أجله نضحّي حتّى بالحياة (ف 3 ؛ 5؛ 29:14 ي). وفي عالم تنشد كلُ الخلائقِ مجد الله الوحيد (3: 52- 90)، يجب على القوى السياسية أن تعترف بسلطان الله المطلق (4: 31- 32؛ 5: 22- 23) لأنّ سلطانها من سلطانه (4: 22، 29؛ 18:5- 19). إنّه وحده سيّد الزمن والتاريخ، وهو يكشف أسرارًا يُمسك بها وحده. وإذا أراد المؤمن أن يتحدّث عن حضوره، يلجأ إلى صور رمزية تحتفظ ببقايا ميتولوجيات تجرّدت من كل ما يتنافى والإيمان اليهودي. الله هو شيخ قديم الأيّام، تُحيط به حاشية من الخدم (7: 9- 10). وهناك العالم الملائكي الذي يتّخذ صورًا جديدة من العالم الفارسي. فملاك الرب يتدخّل لينجّي الفتيان الثلاثة من النار (3: 49، 92) ودانيال من جب الأسود. والملاك المفسّر يشرح لدانيال الرؤى والأحلام (7: 16 ي؛ 9: 21؛ 10: 9- 11؛ 12: 6 ي) كما في حزقيال وزكريا. ثمّ إنّ الله يدير الكون ويتمّم مقاصده بواسطة هذه الكائنات العلوية (4: 14؛ 13:10- 21؛ 12: 1). إنّ الله يستتر، ولكنّنا نتعرّف إلى حضوره وعمله في الأحداث العجيبة التي تحصل من دون تدخّل يد بشرية (2: 34، 45؛ 3: 11- 13، 20- 22؛ 5:5؛ 25:8).
أسّس الشعب اليهودي حياته العملية على وحي قَبِله من الله، فنظّم هذه الحياة حسب متطلّبات الشريعة. لهذا يتعلّق بفرائض الشريعة أفهمَها الوثنيون أم لم يفهموها (مثلاً: المأكولات المحرمّة، رج 1 :8). فالشريعة لا تنظّم فقط حقوق الإنسان (13: 62)، بل تعطي معنى لكلّ المتطلّبات الأخلاقية والعبادية (3: 18، 41 ؛ 23:13). وهي تحدّد روزنامة الأعياد، فلا يحقّ لقوّة بشرية أن تبدّلها. ويُعطي إطارًا للصلاة التي تخضع للعادة المعروفة حتّى في أرض المنفى (6: 11). فهناك صلوات عديدة احتفظ بها الكاتب في نسخته العبرية أو اليونانية نستطيع نحن المسيحيين أن نستعيدها بعد أن نكيّفها حسب متطلبات الإنجيل.

ب- لاهوت التاريخ
الله يحقّق قصده السري عبر التاريخ. والفكرة الشاملة التي عرفها إرميا (25: 1 ي) وأشعيا (41: 25- 29، 45: 1- 6) أخذت هنا كل مداها. ولكي يبيّن الكاتب كل هذا، أبرز في تاريخ الشرق الأوسط تعاقب الممالك التي تكاد بحروبها تسحق شعب الله. فني حلم التمثال (ف 2) وفي رؤية الحيوانات الأربعة وابن الإنسان (ف 7) نقرأ بداية كل من مملكة بابل وماداي وفارس واليونان بصورة اصطلح عليها الفن الجلياني. وما نحسّ به هو جوّ التشاؤم، لأنّ هذا التاريخ ينطلق من أزمة إلى ازمة فيدل على تدرّج انحداري ونمو الشرّ في بشريّة انقطعت عن الله. فالتمثال له رأس من ذهب ورجلان من طين (ف 2). والحيوان الرابع يتفوّق بشروره على كل الحيوانات التي سبقته. التاريخ البشري هو سر الخطيئة التي تسير إلى الذروة، وهو أيضاً المكان الذي تجابُه فيه القوى الخيّرة (الله، وملائكته) القوى المعادية التي يتصوّرها الكاتب في سقوط التمثال (2: 44 ي)، وموت بلشصر (5: 24- 30)، وموت الحيوان (7: 11، 24- 26)، ودمار التيس (8: 23 - 25)، ونهاية الملك المضطهد (27:9 ؛ 11: 40- 45). ويرتبط إعلان الدينونة بظروف مأساوية تتعلّق بحكم أنطيوخس أبيفانيوس. ولكن وراء كل هذا، نستشف كل محن شعب الله، بحيث إنّ النبوءة تحافظ على آنيتها في أوقات الأزمات. ولهذا سيستعيد سفر الرؤيا هذه الصور ويطبّقها على المملكة الرومانية التي اضطهدت الكنيسة. أمّا الشعب اليهودي الذي استعبدته رومة، فقد وجد في سفر دانيال تعليم رجاء وخصوصاً بعد دمار أورشليم سنة 70 ب م.

ج- الرجاء
إنّ دينونة الله التي تصيب اليهود الكافرين والقوى الوثنية المتكبّرة، تشكّل محطّة في كشف قصد الله. فوراء هذه الدينونة، نجد نظرة رجاء إلى مواعيد الأنبياء. لقد عاد الكاتب إلى هذه المواعيد في ف 9 فقرأ نصّ إرميا على ضوء الظروف الحاضرة. وسيقرأ الشعب في منظار مماثل كل النصوص التي تتضمّن المواعيد، ولكنّه ينقلها إلى مستوى يتجاوز حدود التاريخ الأرضي والنجاح البشري. إنّ شعب إسرائيل هو حامل ملكوت الله الذي يشكّل مجيئُه نهاية التاريخ البشري. وفي هذا المُلك الذي يتجاوز البشر والتاريخ، تسحق الممالك المتعاقبة (2: 44). ويتمثّل هذا الملك بصورة ابن الإنسان الذي يجلس كملك أمام الله (13:7- 14)، فيدلّ على تساميه. أمّا شعب قدّيسي العليّ فيكونون سنده الأرضي. ولكي يكون هذا الشعب على قدر الرسالة، يجب عليه أن يتحمّل المحنة التي تنقّيه (11: 35 ؛ 12: 10). هذا هو معنى الاضطهاد الذي أصاب يهود فلسطين والذي يصيب المؤمنين في مجيء العالم الآتي. ولهذا فالعالم الآتي الذي نراه في رؤية ف 7 الرمزية وفي قول 12: 1- 4 يَبرز بشكل عالمٍ متجلٍّ . ما ينتظره المؤمنون هو حلول الحقائق السماوية على الأرض.
ولكي يصل شعب إسرائيل إلى هذا الهدف، سيخضع لدينونة إلهيّة، ولا يشارك في سعادة العالم الآتي إلاّ الذين كُتبت أسماؤهم في الكتاب (12: 2). من يجيب الكاتب على السؤال الذي يطرحه اختبار الاستشهاد؟ فلا يكتفي بأن يحرّض معاصريه ليجابهوا الموت، إذا دعت الحاجة، مؤكّدًا أنّ الله يقدر أن يخلّصهم من النار (3: 38) ومن جب الأسود (6: 22). بل يعلن مبدأ ثابتًا وهو أنّ قدرة الله ستنتصر على قدرة الموت في الذين كانوا ضحايا الموت. ومشاركتهم في مصير البشر العام سيؤمّن لهم مكانًا في العالم الآتي. وهكذا يعلن دانيال بوضوح وللمرّة الأولى في العهد القديم، وعدًا بالقيامة الفردية (12: 2- 3). فيصبح الشيول (أي مثوى الأموات) جهنّم أي موضع غياب الله والطرد من العالم الآتي. وسيشهد 2 مك 7: 9 ي كيف أنّ هذا الرجاء لعب دورًا رئيسا ليسند إيمان الشهداء. ولن يكتفي التوسعّ اللاحق بترديد هذا التعليم، بل سيجد فيه إطارًا لفهم موت يسوع وقيامته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM