الفصل التاسع :عمل المؤرّخ الكهنوتّي

الفصل التاسع
عمل المؤرّخ الكهنوتّي

اعتاد الشرّاح أن يتحدّثوا عن التاريخ الكهنوتي وعن التاريخ الاشتراعي. فالتاريخ الاشتراعي ضمّ أسفار يشوع، القضاة، صموئيل، الملوك. وشدّد على تنظيم الملكيّة، على توحيد مركز العبادة، على ارض الموعد التي تعطى للشعب إذا كان أمينًا، وتؤخذ منه إذا خان ربّه. أما التاريخ الكهنوتي فيضمّ أسفار الأخبار وعزرا ونحميا ويشدّد على مركز أورشليم ودور الكهنة فيها. هذا ما نعالجه في هذا الفصل.

1- عمل المؤرخ
أ- نظرة عامّة
ترك لنا المؤرّخ الكهنوتي كتابين، 1، 2 أخبار ثم عزرا ونحميا. فالأسفار الأربعة تشكل مجموعة واحدة وإن اختلفت بنية كل من الكتابين. يعود سفرا الأخبار بصورة خاصة إلى أسفار صموئيل والملوك. أما سفرا عزرا ونحميا فيستوحيان مراجع قد يعود بعضها إلى الأرشيف الفارسي. وهكذا لا نستطيع أن نثق كل الثقة بمَا ورد في عزرا- نحميا، كما نثق بمَا ورد في كتاب الأخبار. ويطرح علينا سؤال: هل انطلق المؤرخ من مراجع مميّزة ومنفصلة لكي يكتب عزرا ونحميا، ام أنه وجد عمل تدوين وتجميع سابق له، فاكتفى بتحويره وتكميله ليواقف العصر الذي يقدّم إليه؟
يتوافق الشرّاح على القول إن هناك مؤلّفًا أو مسودّة سبقت عزرا ونحميا. ويرى لودس ان ذكريات عزرا ونحميا دمجت، قبل أن يقحمها المؤرخ في كتابه الواسع. اما البرهان الرئيسي فيستند إلى المقابلة بين لائحتين متشابهتين في عز 2 ونح 7. ويعلن ان لائحة نحميا سبقت لائحة عزرا. لهذا فإن نح 7-8 (يعود ف 7 إلى مذكرات نحميا، وف 8 إلى مذكرات عزرا) يدلاّن على أن ضمّ هاتين الوثيقتين حصل قبل العمل التدويني الذي قام به المؤرّخ. ونقول الشيء عينه عن الأوراق الرعية التي دوّنت في الأراميّة (عز 4: 6). فهي قد وُجدت في شكلها الحالي قبل أن يستعملها الكاتب في مؤلفه.
وهناك رأي آخر يورده موفنكل. ينطلق من تحليل مفصّل لنصوص عزرا ونحميا فيصل الى النتيجة التالية: ضمّ مؤلّف المؤرخ في الأصل سفري الأخبار ومذكّرات عزرا. ثم جاء كاب لاحق فزاد مذكرات نحميا. وإن عزرا اليوناني الذي يحتوي عز 1- 10 ونح 8 (أي ما ينسب إلى 1، 2 أخ، ومذكرات عزرا، دون مذكرات نحميا) قد عرف الشكل الأصلي لمؤلف المؤرخ قبل أن تضمّ اليها مذكرات نحميا.
لا نستطيع أن نقبل هذه النظرية التي تجعل أسفار الأخبار وعزرا ونحميا قد دوّنت في شكلها النهائي سنة 160-143 ق. م.

ب- متى دوّن التاريخ الاشتراعي
لقد اختلف الشراح. ولكنّنا نستطيع أن نفترض حدود الحقبة الممكنة. فإذا جعلنا مجيء عزرا يتمّ بعد مجيء نحميا، وإذا وافقت السنة السابعة لارتحششتا حكم ارتحششتا الثاني (مز 8:7)، يكون من المستحيل أن نجعل تدوين مجمل عمل المؤرخ قبل منتصف القرن الرابع ق. م. ثم إن دراسة لوحات الأنساب كما نقرأ في 1 أخ 3 ونح 12 عن تسلسل رؤساء الكهنة، تتيح لنا أن نصل إلى فترة توافق بداية الحكم اليوناني، أي سنة 332. ولا يبدو أن التدوين النهائي للمؤلف يعكس حقبة مضطربة ومؤلمة كتلك التي عرفها اليهود في أيام السلوقيين ولاسيَّمَا في عهد المكابيين.
إذن، نصل إلى زمن يقع في نهاية القرن الرابع أو خلال القرن الثالث. وإذا أردنا أن نحدّد قلنا بين سنة 320 وسنة 250. وإذا أردنا تحديدًا أدقّ نميّز بين زمن تدوين المراجع التي استعملها المؤرّخ في القسم الثاني من مؤلّفه (ذكريات عزرا ونحميا مع امكانية دمجهما قبل استعمالها)، وبين زمن تدوين المؤلّف كله (أي: 1 أخ، 2 أخ، عز، نح)، آخذين بعين الاعتبار الزمن المتأخر الذي ضمّت فيه آخر المواد التدوينيّة.
مثل هذا البحث صار متشعّبًا بل مستحيلاً. إن مختلف مراحل تكوين هذه الأسفار الأربعة تبقى مجهولة بالنسبة الينا. ولأننا لا نجد أية إشارة كرونولوجية تعيننا في بحثنا، يبدو من الصعب أن نذهب الى أبعد من سنة 200 كحدّ أدنى للانتهاء من تدوين المؤلّف.

ج- كيف دوّن المؤرّخ مؤلّفه
إن نظرة إجمالية لهذه الشميلة الواسعة التي اسمها أخ، عز، نح، تتيح لنا أن نلاحظ أن النهج التدويني يقابل نوايا خاصة تساعدنا على اكتشاف هدف الكاتب.

أوّلاً: استقصاء واستبعاد
كانت أمام المؤرخ مراجع، فاختار منها ما هو ضروري ومهمّ من أجل تدوين مؤلّفه. كل اختيار يعني استقصاء واستبعادًا. وما يميّز المؤرّخ الكهنوتي عن أولئك الذين دوّنوا أسفار صموئيل والملوك، بالنسبة لحقبة الملكية السابقة للمنفى، هو استبعاد كل الأخبار المتعلّقة بمملكة اسرائيل بعد انفصالها عن مملكة يهوذا (سنة 933). فني نظر الكاتب، إسرائيل الحقيقي هو مجمل الشعب الموحّد حول داود. ولهذا، فقبائل الشمال قد انفصلت عن شعب الله الحقيقي ولم تعد تدخل في مسيرة التاريخ التي هي مسيرة تاريخ يهوذا. هذا مع العلم انه ظلّ يحنّ إلى تجميع جديد وكامل لشعب الله.
وإذا عدنا إلى أخبار حكم داود وسليمان وملوك يهوذا، نرى ان الكاتب يستبعد كل ما يبدو شهادة سيئة تجاه خدام الله الكبار الذين قادوا شعب الله. ثم إن جميع الأخبار المتعلّقة ببلاط داود الملكي في 2 صم 9-23، قد أغفلها الكاتب: زنى داود مع بتشابع، تعدّي أمنون على أخته (من أبيه) تامار، ثورة أبشالوم. كما أغفل الكاتب الحكم القاسي على سليمان (رج 1 مل 11) الملك الذي غرق في الترف وعبادة الأوثان.
وهذا الاستبعاد لأقسام كثيرة من التاريخ يبيّن السبب الذي لأجله وجدت فجوات مهمّة في مؤلّف المؤرّخ. مثلاً، هو لا يقول شيئًا عن حقبة المنفى. ولا يهتم مطلقًا ببني اسرائيل الذين بقوا حيث هم (2 مل 25). فنراه يصل بدون انتقال إلى قرار كورش والعودة من المنفى (2 أخ 36 ؛ عز 1). ونجد فجوات أخرى في سفرَي عزرا ونحميا، لا نستطيع أن نردمها لأن لا وثائق أخرى في أيدينا. وبين عز 6 وعز 7 هناك فترة طويلة، هذا إذ1 أخذنا بالترتيب الكرونولوجي الذي يجعل نحميا (الذي كان من العوام) قبل عزرا (الذي كان كاهنًا)، لا العكس. وأخيرًا، إن نشاط عزرا الكاتب ونحميا الحاكم يتوقّف فجأة ولا يقول لنا الكاتب لماذا توقّف.

ثانيًا: تعديل وتبديل
وما اكتفى المؤرخ بأن يختار الوقائع التي يريد أن يرويها. بل هو بدّل وعدّل بعض الوثائق التي كانت بين يديه. قدّم اعتبارات خاصة وملاحظات فظلّ أمينًا لنظرته الدينيّة، حتى لو ابتعد عن مراجعه. أما الحالة النموذجية عن هذا الوضع، فنجدها في خبر الإحصاء الذي قام به داود (1 أخ 21: 1). ماذا قدّم المرجع الذي نقراه في 2 صم 24: 1؟ إن غضب الله دفع داود إلى إحصاء الشعب. ثم عاقبه الله لأنه فعل ما فعل. أما في سفر الأخبار فالشيطان هو الذي يوسوس لداود لكي يقوم بهذا العمل.
ليس من الصعب أن نفهم المسألة اللاهوتية الخطيرة المطروحة على الكاتب: نجد في 2 صم جورًا وظلمًا من قبل الله. فقدّم المؤرّخ حلّه بالعودة إلى الشيطان الذي بدأ عمله يتّضح في الفكر اليهودي القديم. وهناك تبديلات كرونولوجية في سفري عزرا ونحميا. فقد أراد الكاتب أن يجعل عزرا الكاتب والكاهن يمرّ قبل نحميا الذي لم يكن كاهنًا، بل شخصاً من العوام.

ثالثًا: زيادات واضافات
وانطلق المؤرّخ من وثائق فأضاف توسيعات وملحقات وتفاسير يعود أكثرها، على ما يبدو، إلى تقاليد شفهيّة أو خطية عرفها. كما يعود القسم الآخر إلى اعتبارات خاصة لدى المؤرّخ أو الى نظرته إلى الأمور. فتنظيم شعائر العبادة وتحديد دور اللاويين قاداه لكي يدخل في خبر داود وسليمَان وملوك يهوذا، مقاطع توسّع هذه المواضيع توسيعًا مستفيضاً (رج 1 أخ 23-27). لم يعرف كتاب الملوك إلا اصلاحًا بسيطًا (الملك حزقيا) مع إصلاح يوشيا. أما كتاب الأخبار فيصوّر اصلاح حزقيا ويتوسعّ فيه أكثر ممّا سيفعل في اصلاح يوشيا. ثم يسبق هذا الاصلاح باصلاحات مماثلة وإن كانت أقلّ أهميّة. مثلاً، اصلاح آسا (2 أخ 15)، إصلاح يوآش (2 أخ 24).
مثل هذا النهج الذي تصرّف بحريّة مع الوثائق الأساسية في عرض الأخبار يجعلنا نستشف البواعث التي وجّهت كاتب التاريخ الكهنوتي. فتوجيهه اللاهوتي يستند إلى نظرات لا يخفيها، إلى نظرات نستشفها حتى ساعة يورد مراجعه ايرادًا حرفيًّا. ثم إنه يخضعها لاهتمامات عملية تنعكس في مؤلّفه. وهذا ما يجعلنا نبحث عن النظرة اللاهوتية قبل النظرة التاريخيّة.

2- المفاهيم اللاهوتية
إذا تفحصنا مجمل التاريخ الكهنوتي، يلفت انتباهنا ورود بعض المواضيع التي يشدّد عليها الكاتب بصورة خاصة. نذكر منها: ملكية داود، الهيكل، شعائر العبادة.

أ- ملكية داود
أول المواضيع الذي يلفت انتباهنا هو ملكيّة داود. فداود الملك هو في قلب كتاب الأخبار في سفريه.
فالخبر الذي يبدأ بعد لائحة الاسناب (1 أخ 1- 9) يقدّم في لوحة متعارضة شاول الذي ذل ومات، وداود الذي مُسح ملكًا (1 أخ 3:11). وفي 1 أخ 11-29 (أي حتى نهاية 1 أخ)، سيكون داود في قلب الخبر. لا شك في أن المؤرخ يرى أن التاريخ لا يبدأ مع داود.
ولكنه يبدأ ايراده لتاريخ شعب الله مع مملكة داود. وحين نقابل ملكيّة داود في كتاب الأخبار وكتاب صموئيل، تلفت انتباهنا الاختلافات العديدة: فتوّة داود، مغامراته في بلاط شاول، مسحته السريّة بيد صموئيل، كل هذا يفصله المؤرّخ الكهنوتي. وخلال حياته الملكيّة، اختفت كل الأخبار العائلية التي تملأ كرونيكة القصر في 2 صم 19-23. ونقول الشيء عينه عن الأحداث التي طبعت بطابعها شيخوخة داود، ومحاولات ناتان وبتشابع ليعيّن الملك خلفًا له، وتعليمات الملك الشيخ لابنه سليمَان (1 مل 1-2).
إذن، تبدو صورة داود صورة مثالية. إنه الملك الملك. هو رأس السلالة التي لا نهاية لها. وهذا الملك قد وجّه كل شيء خلال ملكه، من أجل بناء هيكل أورشليم وتنظيم شعائر العبادة فيه. وتحتلّ استعدادات داود من أجل الهيكل والفرائض المتعلّقة بالوظائف الكهنوتيّة، حيتزًا مهمًّا في 1 أخ 15-26. لقد نقلت الترتيبات الدقيقة في الخدم العبادية التي عرفها زمن ما بعد المنفى، وبالتالي زمن الكاتب، لقد نقلت المخ زمن داود، إلى الزمن السابق لبناء الهيكل.
ونحسّ أن المؤرّخ يتأسّف كثيرًا لأنه لا يستطيع أن ينسب بناء الهيكل إلى داود. ولكنّه يبيّن لنا أن داود نظّم كل شيء تنظيمًا مسبّقًا بحيث اكتفى سليمَان بتنفيذ ما أقرّه والده قبله. فأولوية داود وملكه هي إحدى الأفكار التي تشرف على مسار الكاتب. أجل، إن زمن داود هو الحقبة المثالية في حياة شعب الله والاهتمام الكهنوتي والعبادي الذي نستخلصه من هذه الأخبار، جعلنا نفكّر أن المؤرّخ وضع نفسه في تقليد البنتاتوكس الكهنوتي كما نجده في خر 25-40 وفي كل سفر اللاويين. ولكن يتميّز هذا التاريخ عن البنتاتوكس باختلافة أساسيّة. هو لا يرى في موسى الشخص المركزي (الذي هو محور الكتاب) والمشترع وقائد شعبه. فقد حلّ داود محلّه. ويمكننا القول إن داود احتل مكان موسى في تاريخ الشعب.

ب- الهيكل وسليمَان
وهناك موضوع آخر لا تقل أهميّته عن أهميّة داود في التاريخ الكهنوتي: هو موضوع الهيكل.

أولاً: الهيكل
كان داود قد نظر مسبقًا إلى الهيكل، وهيأ له كل شيء. ولكن سليمَان هو الذي بناه. وسيتكرّس ملك سليمان كلّه لتشييد المكان المقدّس (2 أخ 2-7). وسيشرف على توالي تاريخ ملوك يهوذا، موقف كل من هؤلاء الملوك بالنسبة إلى هيكل أورشليم. والحكم الذي "يتلى" عليهم يتأسّس على الطريقة التي بها أعادوا شعائر العبادة إلى نقاوتها، التي بها قاموا بالاصلاح اللازم لكي يطهّروا المعبد الذي دنّسته عبادة الأصنام.
فالتاريخ هو سلسلة من الاصلاحات تتبع حقبات من الخيانة للوصية الأولى (أنا هو الرب الهك) والوصية الثانية (لا تصنع لك منحوتًا ولا صورة). ودمار الهيكل في وقت المنفى (2 أخ 36) يتبعه عمل إعادة بنائه دون أي انتقالة بين خبر التدمير وحبر البناء (عزا-6). فالكاتب يهتمّ بشرعيّة المعبد الوحيد في اسرائيل تجاه سائر المعابد الممكنة. ليس فقط في الماضي، بل في أيّامه أيضاً.
لهذا رأى عدد من المؤرّخين في المؤلّف الكهنوتي، تعبيرًا عن حرب وهجوم على السامريين الذين تعلّقوا بمعبدهم في مملكة اسرائيل القديمة (التي دمّرت سنة 721 ق. م.) وعارضوا الموقف الذي يحصر شعائر العبادة في معبد أورشليم.
وحين أغفل الكاتب تاريخ ملوك اسرائيل بعد الانفصال سنة 933. وحين شدّد مرارًا وتكرارًا على القيمة الفريدة لهيكل أورشليم. وحين أبرز عداوة الناس الذين ظلّوا في الأرض إلى يذهبوا إلى المنفى) تجاه الأسرى الذين عادوا إلى أورشليم حين إعادة بناء الهيكل والأسوار (عز 4: 6؛ نح 2 :0 - 4: 6)، فقد أراد أن يبرهن أن تاريخ السامريين لا أساس له، وأن ادعاءاتهم ليس لها ما يبرّرها.

ثانيًا: سليمَان
ونعود إلى بناء الهيكل فنجد أن صورة سليمَان تشبه صورة داود. إنها صورة مثاليّة وكاملة، وليست موجودة في الواقع التاريخي. لا يروي المؤرّخ شيئًا يمسّ بهذا الملك العظيم: لا في بداية عهده ساعة أفنى كل مزاحم حقيقيّ أو ممكن، وساعة تزوج الأميرة المصريّة. ولا في نهاية عهده حين أفرط في البذخ والترف، وتزوّج النساء العديدات، وغرق في عبادة الأوثان.
سليمَان هو في نظر المؤرّخ، الملك الذي توجّهت كل أفكاره نحو الهيكل. وخبر تدشين المعبد (2 أخ 8) يتّخذ أبعادًا لم تكن له في كتاب الملوك. ويمكننا ان نتساءل: أما اعتبر كاتب الأخبار ان سليمَان هو أكثر أهمية من داود؟ أما قدّم صورة مثالية رفيعة (تفوّقت على صورة داود) لذلك الذي سيكون باني الهيكل؟ الجواب هو كلاّ. فالكاتب يتحدّث طويلاً عن داود فيكرّس له 19 فصلاً حين لا يكرّس لسليمَان سوى 9 فصول. وحين يعود المؤرّخ إلى الماضي ليتحدّث عن ملوك يهوذا، فالمعيار والمقياس هو داود لا سليمَان (2 أخ 21: 7؛ 27:29 ؛ 3:34؛ عز 3: 10؛ نح 12: 36، 46). ولكن مهما يكن من أمر، فهناك مقابلة دقيقة بين الاثنين: داود هو الملك المثالي الذي نظّم شعائر العبادة ورتّبها. وسليمَان هو الملك المثالي الذي بنى الهيكل.

ج- شعائر العبادة في شعب الله
أولاً: اللاويون
إن شعائر العبادة تلعب دورًا كبيرًا في هذا المؤلّف، وهي بالتالي موضوع مميّز في التاريخ الكهنوتي. غير اننا نلاحظ المكانة الخاصة المحفوظة للاويين في الاحتفال بشعائر العبادة. لقد زالت الوظائف الدنيا التي كانت محفوظة للاويين. فالذين كانوا يحملون تابوت العهد في الماضي، صاروا خدّامًا رئيسيين في شعائر العبادة وشاركوا في كل وجهات الاحتفال الديني، وتخصّصوا في الموسيقى والغناء.
من الذي نظّم هذه الوظائف اللاوية (1 أخ 23-26)؟ داود. هنا يختلف المؤرّخ عمّا تقوله التقاليد الاشتراعيّة والكهنوتيّة في أسفار الشريعة الخمسة. لهذا السبب، افترض عدد من العلماء أن المؤرّخ الكهنوتيّ انتمى إلى أوساط المغنّين من بني لاوي: فهو يتكلّم عنهم بحماس واندفاع، ويشدّد على دور الموسيقى الدينيّة في حياة الشعب. وهناك صور عباديّة ترد عنده مرارًا: تدشين هيكل سليمَان (2 أخ 5- 7)، الاحتفال بعيد الفصح في أيام حزقيا ويوشيا (2 أخ 35،30)، وضع أساسات الهيكل الثاني (عز 3)، تدشين هيكل زربابل (عز 6). يشدّد الكاتب على جوّ الفرح في هذه الاحتفالات، فيجعلنا نشارك في المدائح وأناشيد الشكر.
ونحسّ لدى قراءتنا هذا المؤلّف، ان الكاتب يتعلّق بالتيار اللاوي تعلّقًا يجعله يحطّ من قدر الكهنوت نفسه. فنحن نسمعه وكأنه يقول: إن الكهنة لم يكونوا أمناء مثل اللاويين. إن الكهنة كانوا مهملين في خدمتهم، فاختلفوا عن اللاويين (2 أخ 29: 24؛ 3:30). وخلال الاحتفال بالفصح في ايام يوشيا، قام اللاويون بكل أعمال العبادة بما فيها ذبح الأضاحي، وتلك أعمال كان يقوم بها الكهنة أو رؤساء البيوت. وحين استعد عزرا للمجيء إلى أورشليم مع عدد من رفاقه، ما أراد أن يذهب دون أن يأخذ اللاويين معه. بحث عن بعض منهم ليؤمّن خدمة بيت الله لدى عودته إلى أورشليم (عز 8: 15- 10). والأهمية المعطاة للاويين في هذا المؤلف جعلت الشرّاح يرون ان المؤرخ وضع نصب عينيه فكرة محدّدة في شأن هؤلاء الأشخاص. اراد أن يرفع هذه الوظيفة فتعود إلى ما كانت عليه بعد أن احتقرت وانحصرت في أعمال مادية دنيئة. اراد أن يرفع اللاويين على مستوى الكهنة. نحن هنا أمام إعادة اعتبار. ولكن سواء صحَّت هذه النظرية أم لا، فلا شك في أن المؤرخ اهتم اهتمامًا خاصاً باللاويين واعتبر وظيفتهم اعتبارًا فتحدّث عنهم بحماس واندفاع.

ثانيًا: شعب الله
وإذا عدنا إلى مفهوم شعب الله، رأينا أن المؤرخ الكهنوتي يعتبر أن يهوذا هو اسرائيل الحقيقي. فبعد الانفصال، انشقت قبائل الشمال ومالت إلى الأوثان. ولكنه لايني يذكّرنا بالتحريض الموجّه إلى اسرائيلي الشمال القدماء ليعودوا إلى حضن شعب الله الحقيقي، وليستعيدوا مكانتهم فيه.
وحين يروي تاريخ ملوك يهوذا، يستفيد من المناسبات العديدة ليسمع نداءهم من أجل إعادة تجميع الشعب بالعودة إلى العبادة الوحيدة الحقة التي تقام في هيكل أورشليم. أما الذين لا يهتمون بشعب الله ، أو الذين يتقربون من الشعب لأسباب غير مشرّفة، فهم يحسبون أعداء الله، ولا شيء يربطهم بالجماعة اليهودية الدينية: "لا نصيب لهم، لا حق، ولا ذكر في أورشليم " (نح 2: 20، رج 4: 1- 5). فالله هو الذي يوجّه كل تاريخ الشعب. كل الأحداث هي حصيلة تدخل الله في حياة الشعب، وفي حياة الشعوب.

3- لاهوت التاريخ
نجد تعبيرًا عن لاهوت التاريخ في هذا المؤلف الكهنوتي على ثلاثة مستويات: مستوى المجازاة، مستوى الطاعة لشريعة الله، مستوى اورشليم المدينة المقدسة.

أ- موضوع المجازاة
توسّع المؤرخ في موضوع المجازاة إلى درجة كادت تكون مطلقة. فني حياة الشعب كما في حياة الأفراد، ولاسيمّا في حياة الملك، تبدو عدالة الله فاعلة وهي لا ترحم. فكل خطيئة تجرّ معها عقابها. وكل محنة هي ثمرة غضب الله بسبب خيانة من الخيانات. فالإنسان الأمين، والملك المهتم بالهيكل وبنقاوة العبادة، يعرفان السعادة وبركة الله. وهذا التعليم الصلب يفسّر مرات عديدة التبدّلات التي قام بها المؤرخ في مراجعه التي لم تظهر معنى الأحداث بشكل دقيق.
هنا نذكر مثلين واضحين. الأول، كثرت خيانات منسّى وجرائمه بشكل لم يعرفه ملك قبله (2 مل 21). ومع ذلك دام ملكه كما لم يدُم ملك أحد في يهوذا. فكيف نفسّر هذا الشواذ بالنسبة إلى التعليم عن المجازاة الالهية؟ أما المؤرخ فقد وجد السبب: إن منسى تاب وعاد إلى الرب في نهاية حياته. طهّر الهيكل من الأصنام، وصار عابدًا أمينًا لإله اسرائيل (2 أخ 33). هل استعمل المؤرخ تقليدًا صادقًا يتحدّث عن توبة منسى في أواخر حياته؟ الأمر ممكن. ولكن كتاب الملوك لا يقول في هذا الصدد شيئًا. غير أن هذا الحدث يبدو بارزًا في كتاب الأخبار بحيث إن ملك منسى بدا بشكل مختلف عمّا نعرفه في التقليد الاشتراعي.
والمثل الثاني نقرأه عن الملك يوشيا. هنا حدث أمر معاكس تمامًا لما في مثل منسى. قُتل يوشيا وهو شاب خلال ملاقاته لملك مصر العابر في بلاده (2 مل 23: 39-30). كيف نفهم موت هذا الملك الأمين والبار الذي قام باصلاح شعائر العبادة بغيرة لم يعرفها أحد من ملوك يهوذا قبله؟ كيف نفهم موت هذا الملك الشاب؟ رأى المؤرخ في هذا الموت عقابًا عن خطيئة. وما هي هذه الخطيئة؟ كان على يوشيا أن يسمع كلام ملك مصركما لو أنه من فم الله (2 أخ 36: 0 2- 25). عصا أمر الله فضربه الله.
إن مفهومًا ضيقًا لعدالة الله يفسّر مثل هذا التصلّب في تطبيق مجازاة الله الأرضية والزمنية. فنحن لا نجدُ بعد في التاريخ الكهنوتي أية إشارة إلى مجازاة في الآخرة. وعدالة الله هذه تفهمنا لماذا جعل الكاتب يُحلّ الشيطان محلّ غضب الله في خبر الاحصاء الذي قام به داود، فحلّت الضربة بشعبه (1 أخ 1:21).

ب- الطاعة لشريعة الله
تمثّل الطاعة لشريعة الله مكانة هامة في عمل المؤرخ. إذا كان الله قد تدخّل من أجل شعبه، فعلى الشعب أن يعيش في الأمانة للشريعة. ولكن يبقى من الصعب أن نحدّد بدقة مدلول الشريعة في هذا المؤلّف. مرة نحن أمام شريعة تشير في جوهرها إلى فرائض أعطاها داود من أجل تنظيم الكهنوت وشعائر العبادة. ومرة أخرى نحن أمام شريعة موسى في معناها العام.
في سفري عزرا ونحميا، الشريعة هي ما نجد في كتاب شريعة موسى (نح 8: ا). هنا تساءل الشراح: هل التاريخ الكهنوتي هو امتداد للتقليد الكهنوتي كما عرفتنا به وثائق البنتاتوكس (مدرسة ولهوزن)؟ أم هو بالأحرى في خط التقليد الاشتراعي كما نعرفه في سفر التثنية وفي أسفار التاريخ التي دوّنتها المدرسة الاشتراعية كما في أسفار صموئيل والملوك (موقف فون راد)؟
لا نستطيع أن نختار بين هذين الموقفين. فالتاريخ الكهنوتي بمجملة (1 أخ، 2 أخ، عز، نح) هو حصيلة خطّين لاهوتييّن. فهناك وجهات تذكّرنا باللاهوت الاشتراعي، ولاسيّمَا بالتعليم عن المجازاة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فلاهوت الاختيار والعهد، والنظرة إلى الشعب، كل هذا قد اختفى من عند المؤرخ. ثم إن هناك وجهات أخرى تبدو قريبة من المدرسة الكهنوتية حول الاحتفالي بشعائر العبادة والأعياد، وحول أهمية اللاويين. وهكذا يكون المؤرخ قد انطلق من التشريع الاشتراعي والتشريع الكهنوتي فقدم نظرة شاملة. وقد يكون الكتاب الذي بين أيدينا إعادة نظر على ضوء تعليم الكهنة (بل اللاويين) في مؤلف اشتراعي في أصله. وقد تكون هذه النظرة الأخيرة قد تأثرت بما عمله الكاهن عزرا حين أعاد تدوين أسفار موسى الخمسة، بل مجمل أسفار التوراة.

ج- أورشليم المدينة المقدّسة
أولاً: أورشليم
هناك مدلول أساسي في عمل المؤرخ، وقد يكون الموضوع الذي وجّه الكاتب في تدوين مؤلّفه: إنه موضوع أورشليم المدينة المقدسة.
فعبر كل تاريخ شعب الله، تبدو أورشليم في قلب اهتمامات الكاتب. ففي مقدمة مؤلّفه، توجّهت لائحة الانساب في ف 1- 9 نحو قبيلتين وضعتا في الواجهة: قبيلة يهوذا وقبيلة بنيامين. يهوذا هي قبيلة داود الذي "خلق " أورشليم. وبنيامين هي القبيلة التي تقوم فيها المدينة المقدسة. وهكذا نفهم اهتمام الكاتب بنسل داود من جهة (1 أخ 3) وبنسل بنيامين من جهة ثانية (ف 8- 9) وهو المقيم في أورشليم. وتاريخ داود، وخبر بناء الهيكل مع سليمان، ومسيرة الملوك الذين تعاقبوا في يهوذا، كل هذا يتركّز على أورشليم.
ويورد سفرا عزرا ونحميا كل ما يتعلّق بالعودة إلى أورشليم، بإعادة بناء الهيكل، بترميم أسوار أورشليم، بتنظيم الحياة الدينية والاجتماعية في شعب أورشليم. ونقرأ في نح 11: ا، 18 عبارة "القدس " أي المدينة المقدسة.
إن موضوع المدينة المقدسة يبدو رباطاً يضمّ المواضيع المختلفة التي توسّع فيها الكاتب: داود، الهيكل، شعائر العبادة، حياة الشعب، الشريعة. وتحدّثنا النصوص مرارًا عن "إله أورشليم " (عز 1: 3- 4؛ 7: 5- 19). هذه العبارة تدل على النظرة إلى صهيون، الجبل المقدس الذي اختاره الرب ليقيم فيه اسمه. هذا ما يشير إليه سفر المزامير وتثنية الاشتراع. وعناد نحميا وجرأته من أجل إعادة بناء اسوار أورشليم، يدخلان في خط المؤرخ الذي أورد مذكّرات نحميا حول هذا العمل المجيد (نح 1- 6). فمدينة الهيكل لا يمكن أن تبقى مفتوحة على كل تأثير وثني آتٍ من "الريف "، كما لا يمكن أن تبقى معرّضة للأخطار. يجب أن تنفصل عن أي نجاسة ممكنة لأنها المدينة المقدسة، والمكرّسة لله.
لسنا فقط أمام طمأنينة بشرية ومادية، بل أمام اهتمام ديني. وهذا ما برّر ضرورة إعادة بناء الأسوار وجلب أناس يقيمون في العاصمة فلا تعود مهجورة (كما فعل نحميا). ولا يحتفل بالعبادة الحقة إلا في الهيكل. ولا يمكن أن يكون الهيكل إلا في المدينة المقدسة. انفصل الهيكل والمدينة المقدسة عن سائر انحاء البلاد بجدار لا يمنع الاتصال بين الذين هم في الداخل والذين هم في الخارج. ولكن هذا الانفصال سهّل ممارسة الشريعة ممارسة دقيقة، ولاسيمّا فيما يخصّ اكرام السبت (نح 13: 15- 22). وحين تدشنت الأسوار، طهّرت الأبواب والجدران والشعب كله على يد الكهنة واللاويين، كعلامة لتكريسهم للرب (نح 30:12).

ثانيًا: المسيحانية والاسكاتولوجيا
وطرحت مسألة المسيحانية والاسكاتولوجيا في التاريخ الكهنوتي. فإذا نظرنا إلى المعنى الدقيق لهاتين اللفظتين استطعنا القول إن لا حديث عن المسيح ولا عن انتظار ملكوت الله في أسفار الأخبار وعزرا ونحميا. ولكن هل يكفي هذا القول لكي نعتبر هذه المسألة غريبة عن الفكر اللاهوتي لدى المؤرخ. أعلن رودلف ان العنصر الاسكاتولوجي اختفى من كتاب الأخبار، فبقيت فقط تلميحات إلى انتظار مسيحاني. أما فون راد فأعلن أن المؤرخ أراد في زمن حُرم من الملكية، أن يكون المحامي عن التقليد المسيحاني.
لا شك في أن الكاتب يعتبر أن الجماعة اليهودية تجسّد مثال الملكوت التيوقراطي الذي يرأسه داود. ولكن المملكة هي في أصل المسيحانية. والتيوقراطية المثالية لا تستبعد مطلقًا انتظار تحقيق حكم الله في نهاية الأزمنة.

لقد برز انتظار الخلاص في إسرائيل بأشكال متعدّدة على مرّ التاريخ. فهناك الحقبة السابقة للاسكاتولوجيا. إنها الحقبة السابقة للأنبياء: نحن أمام انتظار ليوم الرب مع مدلول سياسي ووطني. وهناك حقبة اسكاتولوجية أولى، هي حقبة أنبياء القرن الثامن، والحديث عن مملكة شاملة تشبه مملكة داود وتقوم على الأرض في نهاية الزمن. وهناك حقبة الاسكاتولوجيا التي بدأت تتحقّق الآن: هي حقبة المنفى وانتظار العودة مع حزقيال وأشعيا الثاني. وهناك حقبة الاسكاتولوجيا المتعالية: عالم الرؤيا والكارثة الأخيرة. يُنقل ملكوت الله إلى عالم آخر.
أين نضع عمل المؤرخ الكهنوتي في هذه الرسمة؟ ربما في الحقبة الثالثة وفي الحقبة الرابعة. فمملكة داود هي صورة مثالية عن التيوقراطية: الله يحكم لا الملك. أما الملك فيجلس على عرش "الله " (1 أخ 28: 5 ؛ 23:29 ؛ 2 أخ 8:9). وحين أورد الكاتب تاريخ ملكية داود كواقع مثالي من الأرض، لم ينقله إلى عالم متعالٍ كما تفعل كتب الرؤى، بل قدّمه على أنه صورة ملكوت الله بحسب المثال التيوقراطي. وفي نظرته إلى اورشليم المدينة المقدسة، على الأرض، دخل في خطّ سينتقل إلى المستوى الاسكاتولوجي ويصل إلى أورشليم السماوية كما في كتب الرؤيا. ولكن إن كانت هذه النظرة إلى ملكوت الله لا تصل بنا إلى انتظار نعبّر عنه بوضوح، إلا أنه لا يمكن أن نلغي من هذه الأسفار (أخ، 2 أخ، عز، نح) المنظور المسيحاني الذي يرتبط بصورة الملك داود، وبانتظار ملكوت يتركّز على أورشليم المدينة المقدسة.

ثالثًا: هدف الكاتب الكهنوتي
لماذا دوّن الكاتب الكهنوتي هذه الشميلة الواسعة عن تاريخ شعب الله؟ هناك فرضيات عديدة. ولكنها تلتقي كلها في خطّ موجّه هو خط أورشليم المدينة المقدسة.
كل ما سبق تنظيم المدينة المقدسة لا يهم الكاتب. فهو سيستعيد الماضي أو ما قبل تاريخ أورشليم في لوحات انساب (أخ ا- 9) تكفي لكي تبين ارتباط شعب الله بالبشرية، وأهم العناصر في هذا الشعب: يهوذا، قبيلة داود. وبنيامين القبيلة التي تحوي أورشليم. ثم ينتقل إلى المدينة التي "خلقها" داود كعاصمة التيوقراطية الأرضية والنموذج المثالي للمملكة المسيحانية والاسكاتولوجية. ثم يأتي الهيكل الذي بناه سليمان، واصلاحات ملوك يهوذا الأمناء لهذا المثال. كل هذا لم يمنع الدمار الذي أقرّه الله، وذهاب الشعب إلى السبي. وساعة العودة من المنفى سيستند سفرا عزرا ونحميا إلى ثلاثة عناصر هي: بناء الهيكل، بناء المدينة والأسوار، بناء جماعة المؤمنين.
إن إعادة شعب الله إلى المدينة المقدسة وفي غياب الملكية الداودية، يدلّ على نهاية حقبة من تاريخ أورشليم لا تهتمّ بمصير الرجلين اللذين قاما بهذا العمل. نحن نجهل كل شيء عن نشاط عزرا ونحميا فيما بعد. كما نجهل كيف انتهت حياتهما. ما يهمّ الكاتب هو أورشليم، المدينة التي أعدّها مخطط الله منذ بداية العالم، المدينة التي بها عرف الشعب (وسائر الشعوب) ملكية داود التيوقراطية، وتأسيس شعائر العبادة في الهيكل، وتنظيم جماعة مقدّسة وسط الأمم.
فإذ1 أخذنا بهذا الخط الموجّه نستطيع القول إن هدف الكاتب كان تقديم تاريخ أورشليم. وإذ نقول هذا نلاحظ حالاً أنه لم يروِ هذا التاريخ كما يفعل المؤرخ المعاصر بل كان هدفه هدفًا لاهوتيًا: عبّر عن فكره الديني وعن إيمانه من أجل معاصريه، فأعطاهم صورة يرونها بعيونهم. وهكذا نفهم الاسلوب الذي أخذ به: لم يروِ إلا ما رآه ضروريًا ليعبّر عن نظرته إلى التاريخ. فالتاريخ هو في خدمة الايمان. لهذا، أغفل كل الأمور الجانبية مثل تاريخ مملكة الشمال. كما نظر إلى الأحداث من الزاوية اللاهوتية وعلى ضوء قناعته الايمانية. وهكذا نفهم الوجهة الدفاعية بل الهجومية في عرضه التاريخي: هناك صراع مع السامريين، وجهود لكي يبرهن على شرعية هيكل أورشليم وشرعية شعائر العبادة فيه. كان المؤرخ ممثل شرعية ملكية داود وأورشليم. ولم يكن الدافع إلى ذلك الاهتمام الوطني والسياسي بل قناعة دينية عميقة تعرف ما هو شعب الله ، ما هي حياته العبادية، ما هو انتظاره لملكوت الله.

خاتمة:
هذا هو التاريخ الكهنوتي، وقد أراد كاتبه أن يؤوّن تعليمه. هو لم يطبّق التاريخ على العصر الذي يعيش فيه، ولم ينقل الماضي إلى الحاضر بل نقل الحاضر إلى الماضي، بل المستقبل إلى الماضي. لهذا نقل الوضع الديني كما عرفه في ايامه إلى زمن داود. ونقل الخلاف بين اليهود والسامريين إلى ساعة انفصال مملكة الشمال عن مملكة الجنوب، أو إلى زمن إعادة البناء مع عزرا ونحميا. ونقل انتظار ملكوت الله وإقامة التيوقراطية إلى زمن الملكية الداودية وبناء الهيكل. تأمل في الماضي فاكتشف ما يقابل الحاضر والمستقبل. تأمل في الماضي فرأى فيه كرازة حية نستطيع أن نسمعها اليوم نداء إلى الايمان يجعل أمام عيوننا ملكوت الله والمسيح الذي يحمل إلينا تعليمه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM