الفصل السابع :سفر الحكمة

الفصل السابع
سفر الحكمة

1- المقدّمة
يشكّل سفر الحكمة قمّة الوحي في العهد القديم. دُوّن في زمن متأخّر، في الإسكندرية، موضع اللقاء المميّز بين عالم اليونان وأرض إسرائيل. كاتبه مفكّر يهودي تشرّب من الكتاب المقدّس، واطّلع على التراث الهلّيني. فكّرفي العبرية وكتب في اللغة اليونانية. واختبأ كما اختبأ غيره وراء شخصية سليمان. لا يُذكر اسم الملك الشهير، ولكنّ الكاتب يعبّر عن أفكاره الخاصّة كما لو كان مكانه، ويوجّه كلامه إلى الملوك زملائه. وفي الواقع هو يتوجّه إلى قرّاء آخرين، إلى إخوته اليهود وإلى الوثنيين. حدّث اليهود المضطهدين، ليعيد الشجاعة إلى قلوبهم: سحرتهم المدنيّة الغريبة، فكتب إليهم ليعيد إليهم الثقّة ويدعوهم إلى الافتخار بما عندهم من غنى. وحدّث الوثنيّين ليحبّب إليهم الإله الحقيقي وخالق كل شيء الذي هو أحكم الحكماء وصديق كلّ البشر.
هذا هو سفر الحكمة الذي تجعله السبعينيّة بين أيّوب وابن سيراخ وتسمّيه المخطوطات اليونانية حكمة سليمان لتميّزه عن حكمة ابن سيراخ. أمّا الشعبية اللاتينية فتجعله بين نشيد الأناشيد وابن سيراخ وتسمّيه على لسان إيرونيموس: سفر الحكمة. أمّا السريانية فتسميّه سفر الحكمة العظيم وتجعله قبل سفر يشوع بن سيراخ.

2- من كب سفر الحكمة ومتى كتب
كاتب سفر الحكمة هو يهودي يؤمن بالإله الوحيد القدير ورب الكون السامي. ويكره العبادات الوثنية ويحتقر الأصنام ويمجّ إباحيّة الوثنية وفلتانها. ويفتخر بانتمائه إلى الأمّة المختارة والشعب المقدّس والنسل الذي لا عيب فيه. وهو معجب بماضي هذه الأمّة، ويتذكّر أعمال أبطالها، وهو متيقّن من رسالتها في العالم. ثقافته ثقافة يهودية. فقد قرأ وتأمّل الأسفار المقدّسة ومنها استلهم ليدوّن كتابه. أمّا الحكمة التي يمدح، فهي الموجودة في أرض إسرائيل، وإلى أرض إسرائيل سيعود ليجد الكلمات اللازمة ليصوّر هذه الحكمة.
عندما نقرأ ف 9، نعتبر أنّ كاتب سفر الحكمة هو سليمان. يقول: اخترتَني لشعبك ملكًا... وأمرتَني أن أبني هيكلاً في جبلك المقدّس ومذبحًا في مدينة سكناك (7:9- 8). ولكنّنا نفهم أنّنا أمام خدعة أدبية. فكما نُسب سفر الأمثال (1: 1؛ 10: 1؛ 25: 1) وسفر الجامعة (جا 1: 1، 12) ونشيد الأناشيد (1: 1) إلى سليمان، كذلك نسب سفر الحكمة إلى هذا الملك الحكيم الذي قال فيه 1 مل 5: 12: قال ثلاثة آلاف مثل وكانت أناشيده ألفًا وخمس أناشيد. وأخذ آباء الكنيسة بهذه الحيلة، واعتبروا أنّ سليمان مؤلّف سفر الحكمة. ولكن إذا قرأنا النصّ، وجدنا في الكاتب يهوديًا مصبوغًا بالثقافة الهلّينية. كُتب سفر الحكمة في لغة يونانية أنيقة ولم يترجم من العبرية. فالذين قالوا إنّ أصل الكتاب عبراني لم يقدروا أن يقدّموا إسنادًا متينًا لقولهم. فالكاتب يجيد استعمال اللغة اليونانية بمفردات غنيّة مع بعض الحذلقات والتكلّف. يبدو أنّه قرأ هوميروس والكتّاب المأساويين اليونانيين، وتعرّف إلى معلّمي الفكر الهلّيني.
ولكن من هو هذا الكاتب؟ قالوا هو أونيا الثالث أو فيلون الإسكندراني أو زربّابل أو أبلوس. ولكنّ كلّ المحاولات للتعرّف إلى الكاتب باءت بالفشل. غير أنّنا نستطيع أن نعرف موطنه. لقد تشتّت اليهود في الشرق والغرب، ولكنّ أكبر الجاليات كانت في مصر ولاسيّمَا في الإسكندرية. التي كانت تعدّ مئات الألوف من اليهود. في الإسكندرية تُرجمت السبعينية، وفيها كان اتّصال بين العالم اليهودي والعالم الهلّيني بعد أن صارت مركزًا أدبيًا وعلميًا هامًّا. وَسَعت نخبة من اليهود المثقّفين لتقدّم للوثنيين نظرة عن ديانة الآباء، وبحثت عن نقاط الاتّصال بين الحضارة اليونانية وتقاليد إسرائيل. هذا هو التيّار الذي يرتبط به سفر الحكمة، وهذا يكفينا لنقول إنّ موطن سفر الحكمة هو مدينة الإسكندرية. وإذا لاحظنا كم يشدّد الكاتب على أحداث سفر الخروج كم يفضح عبادة الحيوانات كما عرفتها مصر، نفهم أنّ سفر الحكمة دوّن في مصر.
ومتى دوّن الحكمة؟ لا شكّ في أنّ الكاتب استعمل الترجمة السبعينية التي انتهت في بداية القرن الثالث. ثمّ إنّ الكاتب لم يتعرّف إلى أفكار فيلون الإسكندراني (20 ق م- 54 ب م). هذا يعني أنّ سفر الحكمة دوّن بين السنة 200 والسنة 50 ق م. هل يمكننا أن نحدّد أكثر من هذا؟ أجل. فحين بدأ الكاتب تدوين كتابه كان يهود الإسكندرية عُرضة لمضايقات مختلفة. نحن نعرف أنّ هذه المضايقات بدأت في أيّام بطليموس السابع (146 - 117) وخلفائه، ولاسيّمَا بطليموس الثامن (117- 81). كل هذا يجعلنا نحدّد زمن تدوين سفر الحكمة حوالي السنة 50 ق م.

3- بنية وتصميم سفر الحكمة
بعد أن يدعونا الكاتب إلى اقتناء الحكمة يبيّن لنا أهميّتها في مصير الإنسان، ثمّ يصوّر لنا أصلها وطبيعتها وعملها، ويدلّنا على السبل الكفيلة باقتنائها. وأخيرًا يُظهر لنا الحكمة كما تعمل في تاريخ شعب إسرائيل. ولكن من 4:11 تختفي الحكمة فيحلّ محلّها الله ونسمته وروحه وكلمته ويده وذراعه. وينتهي الكتاب بهذه الكلمات: "يا رب، نظّمت شعبك في كل شيء ومجّدته، ولم تهمله، بل كنت مؤازرًا له في كل زمان ومكان " (22:19).
وإذا أردنا تصميمًا للكتاب وجدنا مقدّمة وخاتمة وثلاثة أقسام.
المقدّمة (1: 1- 15) وفيها دعوة لطلب البرّ (توافق فكرنا وعملنا مع إرادة الله كما تعبّر عنها الشريعة)، وبالبرّ نصل إلى الحكمة والحياة.
القسم الأوّل (1: 16- 5: 13) وعنوانه الحكمة ومصير الإنسان. يتحدّث الكاتب عن حياة الأشرار وضلالهم، ويقابل بين مصير الأبرار ومصير الأشرار. الأوّلون يُكافأون والآخرون يُعاقبون. نحن لن نحكم على المظاهر الخادعة: ليس انعدام النسل عقابًا، وليس الأولاد الكثيرون مكافأة. ليست الحياة القصيرة عقابًا وليست الحياة الطويلة مكافأة. ولكن ما هو أكيد هو أنّ الأبرار والأشرار سيُدانون. يتقدّم الأشرار وتتّهمهم آثامهم في وجوههم. أمّا الأبرار فيقفون بجرأة عظيمة.
القسم الثاني (6: 1- 18:9) يتحدّث عن الحكمة في أصلها وطبيعتها وعملها وعن سبل اقتنائها. إذا أراد الملوك أن يفلتوا من دينونة الله، فليطلبوا الحكمة، فهي تكشف عن نفسها للذين يطلبونها وتؤمّن للملوك سلطانًا أبديًا. ويصوّر سليمان الحكمة وهو قد صلّى للحصول عليها لأنّه يقدّرها حقّ قدرها. ويتكلّم سليمان عن الحكمة، عن طبيعتها وأصلها ونشاطها. إنّها تملك كل الخيور فلا يستغني عنها الملوك. لهذا صلّى سليمان إلى الله لكي يعطيه الحكمة.
القسم الثالث (10: 1- 19: 21) وعنوانه الحكمة والله في التاريخ. من آدم إلى موسى، نرى الحكمة تحمي الأبرار وتعاقب الأشرار. وخلال الخروج من مصر وعبور الصحراء حمت الحكمة شعب إسرائيل وأعطاهم الله ماء. ويقابل الكاتب بين مصير المصريين ومصير بني إسرائيل.
أ- النقيضة الأولى: كانت المياه عقابًا للمصريين وخلاصاً لبني إسرائيل (11: 5-14). كان الله معتدلاً في العقاب الذي أصاب المصريين وسبب هذا الاعتدال هو قدرته ورحمته. واعتدل الرب في معاقبة سكّان كنعان. وسبب هذا الاعتدال هو قدرته. ويستخلص الكاتب العبرة من هذا الاعتدال. رئف الرب بالمصريين فلم يرجعوا عن ضلالهم فقسا عليهم. أمّا خطيئتهم فتقوم في أنّهم عبدوا الكواكب وقوى الطبيعة، بل عبدوا أحقر الحيوانات وأكثرها شناعة. ويعود الكاتب إلى المقابلة بين مصير المصريين ومصير بني إسرائيل.
ب- النقيضة الثانية: نال المصريون عذابًا من الحيوانات التي عبدوها، أمّا بنو إسرائيل فنالوا غذاء من طيور السلوى (16: ا- 4).
ج- النقيضة الثالثة: قَتلَ الجرادُ والذباب المصريين، أمّا الحيّة النحاسية فشفت بني إسرائيل (16: 5- 14).
د- النقيضة الرابعة: عناصر الجوّ ضربت المصريين واعانت بني إسرائيل (16: 25- 29).
هـ- النقيضة الخامسة: حلّت ظلمة مريعة بالمصريين وأعطي لبني إسرائيل نور خيّر (17: 1-4:18).
و- النقيضة السادسة: فقد المصريون أبكارهم، أمّا بنو إسرائيل فعفا الله عنهم برحمته بعد أن نالهم عقاب قاس (18: 5- 25).
ز- النقيضة السابعة: أغرق البحر الأحمر المصريين، وفتح طريقًا لبني إسرائيل (19: 1- 9). أجل، كل الطبيعة تنظّمت من أجل خلاص بني إسرائيل وعقاب المصريين الذين فاقت خطاياهم خطايا أهل سدوم.
والخاتمة (19: 22) تتحدّث عمّا فعله الله من أجل شعبه: عظّمه، مجّده، أعانه.
سفر الحكمة هو كتاب واحد ومتماسك. ولكن رغم هذا التماسك في التأليف اعتبر بعض الشرّاح أنّ الذي كتبه ليس واحدًا بل كثيرون. لاحظوا أنّه يبدأ شعرًا وينتهي نثرًا في جمل طويلة. ولاحظوا أيضاً أنّ ف 6- 10 تشدّد على دور الحكمة في الخلق وفي التدبير، وأنّ سائر الفصول لا تعود تذكر الحكمة. فقدّموا اقتراحات عديدة نذكر منها اثنين. الأوّل يعتبر أنّ ف 1- 5 كتبت في العبرية ونُقلت إلى اليونانية. والثاني يعتبر أنّ السفر كلّه دوّن في اليونانية أمّا الذي كتب ف 11- 19 فهو غير الذي كتب الفصول الأولى. ولكن يتّفق معظم الشرّاح اليوم على القول إنّ مؤلّف سفر الحكمة شخص واحد، ونحن نكتشف فيه حضارة واحدة وشخصية أدبية واحدة. ثمّ نلاحظ بصورة خاصّة طريقتين في الكتابة. الأولى، المقابلة: يقابل بين مصير الأبرار الخالد وحياة الأشرار العقيمة، وبين العقم مع الفضيلة والخصب مع الشر، وبين مصير بني إسرائيل ومصير المصريين. الطريقة الثانية، التوسّع التدريجي في الأفكار. يعالج الكاتب في البداية موضوع الموت ويعود إليه مرارًا فيما بعد، متحدّثًا تارة عن الموت الطبيعي وطورًا عن الموت الروحي أو عن الاثنين معًا.
لا شكّ في أنّ هناك تنوّعًا، والوحدة لا تنفي التنوّع وكثرة المراجع. فهجومه قد يرجع إلى مقال كتبه أحد اليهود الهلّينيين، وصلاة سليمان قد تكون مزمورًا ردّدته جماعة الإسكندرية. ولقد عاد الكاتب أيضاً إلى نصوص الأسفار المقدّسة (التكوين، الخروج، أشعيا، الأمثال، ابن سيراخ) وإلى المدارش (وهي شروح للنصوص الكتابية يلعب فيها التضخيم الأسطوري دورًا كبيرًا) ولكنّه دمج كل هذه العناصر في وحدة عضوية تحمل طابعًا خاصاً. هذا ما كان يفعله المفكّرون الإسكندرانيون في زمانه. إنطلق من المواضيع الكتابية وترجمها وتوسّع فيها مستعينًا بمفاهيم يونانية. إنّه يتوجّه إلى يهود تشرّبوا الثقافة اليونانية ونسوا العبرية او إلى قرّاء يونانيين ليقنعهم بسمو الحكمة اليهودية. فوجب عليه في كلتا الحالتين أن يجعل إرث إسرائيل الروحي في متناول القرّاء. هو لم يهتمّ بأن يجدّد أو يستلهم حضارات أخرى، بل اهتمّ بأن يكون شاهدًا أمينًا للتقليد اليهودي وسط العالم الهليني.


4- لمن كتب سفر الحكمة ولماذا كتب
هنا نطرح السؤال الأوّل: لمن كُتب سفر الحكمة؟ كاتبه الذي يزعم أنّه الملك سليمان، يتوجّه إلى زملائه الملوك (1: 1). قال لهم: أيّها الملوك اسمعوا وافهموا (6: 1). وسطّر من أجلهم مقالة صغيرة تعلّمهم كيف يملكون (8: 9- 15). لا شكّ في أنّه استوحى الفكرة من 1 مل 4:5 حيث نقرأ: وكانوا يأتون من كل الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان. وقد تسلّم هدايا من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته (رج 1 مل 10: 24). وتوافقت هذه الطريقة مع كتيّبات عديدة دوّنت في الزمن الهلّيني عن السلطة الملكية. وهكذا وجّه كاتب سفر الحكمة إلى ملوك زمانه درسًا في السياسة بفم سليمان الملك الحكيم. ولكنّه في الواقع توجّه إلى قارئين من نوع آخر.
توجّه أوّلاً إلى أبناء دينه، إلى اليهود، ليحميهم من سحر العالم الوثني ومن مخاطر الاضطهاد. بعضهم ترك إيمان الآباء (2: 12)، والبعض الآخر دبّ فيه اليأس بسبب العنف الذي يصيبه فسقط في الفتور ووقف مع الجاحدين. أراد الكاتب أن يداوي هذه الحالة المقلقة، فدوّن سفر الحكمة ليشدّد العزائم ويردّ الضالّين إلى الحظيرة. من أجل هذا قدّم لوحتين. في اللوحة الأولى عرض المصير المجيد الذي ينتظر الأبرار. وفي اللوحة الثانية عرض العقاب القاسي الذي يحتفظ به الله للأشرار. وذكّر الشعب على مدّ تاريخه أنّ الله سهر عليه وجعله ينتصر على أعدائه. أمّا الذين تسحرهم الحضارة الوثنية من مناهج فلسفية واكتشافات علمية وتحف أدبية وأسرار دينية، فقد بيّن لهم أنّ ما عند اليهود يفوق ما عند الوثنيين. وإنّه لمن الجنون أن يذهب اليهودي فيطلب عند الوثنيين ما منحته إيّاه بغزارة الحكمة الإلهية. وأخيرًا ذكّر المؤمنين بامتيازات الشعب المختار الذي هيأه الله لينقل إلى العالم كلّه نور الشريعة الذي لا يفسد (18: 4).
تحدّث صاحب سفر الحكمة إلى أبناء دينه وما نسي الوثنيين. كان يونان قد بشّر مدينة نينوى. وها هو سفر الحكمة يتوجّه إلى أبناء الإسكندرية، فيبيّن لهم أنّ الشعب اليهودي ليس شعبًا من البربر، ولا هو عدوّ الجنس البشري، كما يذاع عنه. إلهه هو عقل وحكمة، وهو يحبّ جميع البشر من دون تمييز، ويطب من أبناء شعبه أن يحبّوا هم أيضاً جميع الناس. ثمّ يدعو الكاتب الوثنيين ليتخلّوا عن عبادة الآلهة المتعددة التي هوت بهم في فوضى رهيبة. فليسمعوا صوت العقل، وليتعرّفوا إلى خالق الكون الأوحد. حينئذ ينالون الحكمة الحقيقية التي لا تساويها الحكمة الوثنية. وهكذا يبدو سفر الحكمة نداء رزينًا نستشفّه من خلال مرافعة لَبقة يتحدّث فيها عن الله وروحه وحكمته ونشاطه، فيستعمل الكلمات التي استعملها المفكّرَون الوثنيّون.


5- تعليم سفر الحكمة
ليس صاحب سفر الحكمة لاهوتيًا ولا فيلسوفًا. لم يهتمّ بعرض منهجي لتعليم خاصّ، بل أراد أن يحرّض قرّاءه على البحث عن الحكمة وعن الحياة التي تتطلّبها. هو لا يحدّد أفكاره بدقّة، ولا يرتّبها في نهج فلسفي. فكتابه هو تأمّل نفس تشتعل إيمانًا، ونداءُ مؤمن إلى إخوته. لهذا لم يتحدّث عن كل شيء، بل ترك أمورًا عديدة وقطع كل علاقة بالحلول التقليدية دون أن يتخلّى عنها تمامًا. ومع ذلك يبقى سفر الحكمة كتابًا عظيمًا بعمق تعليمه وجمال لغته.

أ- الخلود
ما هي البشرى التي نادى بها سفر الحكمة؟ خُلق الإنسان من أجل الخلود وعدم الفساد (2: 23). فبعد الموت، لا تزال النفس الأمينة حيّة، لا قي الشيول (مثوى الأموات) كما قال التعليم التقليدي الذي يعتبر أنّ النفوس تقيم بعيدًا عن الله وتبدو أشبه بالظلّ. إنّها حيّة قرب الله في سعادة لا نهاية لها (3: 9). كان سفر الحكمة أوّل من أعلن هذه الحقيقة في التوراة، فلم يقدّم براهين ولا حاول أن يدافع عن موقفه، فاعتبر أنّ ما قال هو اليقين. وهكذا وجدنا الحل للصعوبات التي أثارتها مسألة المجازاة والتي أقلقت النفوس التقيّة في أرض إسرائيل. بما أنّ الرب هو الإله العادل، فكيف نفسّر شقاء الأبرار وسعادة الأشرار في هذه الدنيا؟ أمّا الآن فقد توضّح كل شيء: ما يجري في هذه الدنيا هو استعداد للآخرة. وليست السعادة علامة رضى الرب، كما أنّ الشقاء ليس علامة استيائه. فهدف آلام البارّ أن تنقّيه وتهيئ له مجازاة فضلى. أمّا موته المبكّر فينجّيه من الخاطر التي تهدّد نقاوته وسط عالم شرير ومعاد. وإن لم يترك نسلاً على الأرض، فهو سيقطف في الآخرة ثمرة أعماله. إذًا يبقى شيء هام هو أن نمارس إرادة الله ونعيش في حبّه. الأمين يمتلك منذ الآن الحياة التي لا تزول، والخاطئ يعرف منذ الآن الموت الأبدي.
الحياة والموت هما الشيئان اللذان يقدَّمان للإنسان. هذا ما سبق لحكماء إسرائيل فقالوه. ولكنّ التعليم عن الخلود أعطى هذه المعضلة خطورة جديدة. فالحياة تفرض علينا موقفًا يقرّر مصيرنا إلى الأبد. لقد صنع الله الإنسان من أجل الخلود السعيد، وعلى الإنسان أن يقرّر أن يقبل أو يرفض عرض الله. ويتحدّث الكاتب عن الشيطان الذي أسقط الإنسان الأوّل وأدخل الموت إلى العالم، فيُبرز الوجه الديني لحدث السقوط دون أن يقول إذا كان عدوّ آدم يتابع عمل الخراب الذي بدأ به. ومهما يكن من أمر تدخّل الشيطان، فهو لا يقدر أن يحرم الإنسان من حرّيته. فكل واحد منا يستطيع أن يخلص أو أن يهلك.


ب- الحكمة
إله الحكمة هو إله تقاليد بني إسرائيل: هو الخالق القدير والسيّد المطلق لمصائر الكون. ولكنّ الكاتب يشدّد على بعض صفاته. إنّه الإله الكليّ الحكمة الذي رتّب كل شيء بقياس وعدد ووزن (11: 20). هو يقود كل شيء بعدل، ويجعل العقاب مناسبًا للخطيئة (15:12- 18). ليس فيه ظلم ولا محاباة ولا نزوات. لا فوضى في أعماله ولا بحث عن المظاهر الخارجية. إنّه كلّي الصلاح وصديق البشر، ويريد الحياة لكلّ إنسان. يحب بلا تمييز جميع الكائنات التي خلقها، وهو يقودها برفق وإشفاق (18:12). هو يرحم الجميع، ويتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا (23:11). يعمل بدافع من رأفته ليجعل الخطأة يعودون إليه. فينبّههم بسلسلة متدرّجة من العقابات إلى الخطر المحدق بهم، ويعطيهم مهلة ليتخلّصوا من شرّهم (12: 20). هو لا يضرب بقساوة عدالته إلاّ الخطأةَ المتحجرّين الذين يرفضون نداء رحمته المتكرّر ويتَحَدّون قدرته. حينئذ يندفع غيظه ويثور على الذين يهزأون به ويضطهدون أحبّاءه، فيرسل الكون ينفّذ فيهم غضبه الذي لا يرحم.
أمّا الصفة التي يشدّد عليها سفر الحكمة بصورة خاصّة فهي الحكمة التي تحتلّ قلب الكتاب حتّى ف 11. ما نقرأه عن الحكمة في هذا السفر نجده في سائر الأسفار التعليمية (أم 8: 1- 6:9؛ سي 24: 1ي). أصلها هوهو، وطبيعتها هي هي، فهي بنت إسرائيل. ولكنّ سفر الحكمة يتعمّق في هذه الأفكار التقليدية ويوسّعها، فيعبّر عن أصل الحكمة وطبيعتها بعبارات فلسفية (7: 25- 26)، ويتحدّث عن علاقاتها الحميمة مع الله (3:8- 4؛ 9: 4)، ويشدّد على نشاطها الخلاّق (7: 21 ؛ 8: 5- 6؛ 9: 2- 9). إنّها حاضرة في كل مكان (23:7- 24)، وعارفة بكل شيء (23:7؛ 8: 4)، وتعتني بكل الخلائق (8: 1). دورها دور تقديس (27:7)، ونشاطها نشاط خيّر في تاريخ بني إسرائيل (10: 1- 11: 3) وحبها عظيم من أجل البشر (1: 26؛ 7: 23). تُبادر إلى خدمتهم (6: 12- 16) وتُساعدهم على اكتساب الفضائل. وفوق ذلك ينسب الكاتب إلى الحكمة معرفة شاملة بكل علوم اليونان في عصره (17:7- 21؛ 8:8).
ونتساءل: إذا بدت الحكمة كائنًا مستقلاً ينعم بنشاط خاص، أما تكون أقنومًا وشخصاً؟ الجواب هو كلاّ على مستوى العهد القديم مهما كانت العبارات المستعملة قويّة. فالتوحيد عند اليهود يرفض أن يقول بوجود كائن كلّي القدرة ومتميّز عن الله. ثمّ إنّ سفر الحكمة يتضمّن تعابير تدلّ على اليد (3: 1؛ 5: 16) والذراع (5: 16؛ 11: 21) وعلى الروح والنسمة (23:5؛ 17:6) وعلى الكلمة (9: 1؛ 12: 9) وكأنّها شخص حيّ. ثمّ إنّ الصفات ذاتها والنشاطات عينها تُنسب تارة إلى الحكمة وتارة إلى الكلمة (9: 1- 2)، تارة إلى الحكمة وتارة إلى الروح (1: 4- 7)، تارة إلى الحكمة وتارة إلى الله (7:6 ؛ 12: 15- 18). وهكذا فالحكمة ليست شخصاً. أمّا العبارات التي تصفها فتليق بشخص بحيث نظنها كتبت عن كلمة الله المتجسّد.

ج- تاريخ شعب إسرائيل
وتأمّل سفر الحكمة في تاريخ شعب إسرائيل وفي العبر التي يستخلصها من هذا التاريخ. وهذا التأمّل تقليدي في الآداب النبوية والتعليمية. هذا ما فعله أشعيا (63: 1- 14) وحزقيال (20: 23) وزكريا (7: 9- 14) والمزامير (78، 105، 106، 135، 136) وابن سيراخ (44: 1- 50: 21). وهكذا سيفعل سفر الحكمة في أمانته للتقليد، فيعتَبر مثل سابقيه صدقَ الوقائع التي ترويها التوراة. هو يعتبر كل الوقائع تاريخية، فلا يبرّر أمام الوثنيين طابعها العجيب الغريب، ولا يبحث عن معنى رمزي كما سيفعل آباء الكنيسة فيما بعد.
ولكنّ الكاتب لا يكتفي بإيراد الخبر الكتابي كما هو. إنّه يدرسه (كما يفعل المدراش أو شرح المعلّمين)، ليكتشف كل معناه. هذا القسم من كتابه (ف 16- 19) قد تذوّقه معاصروه، أمّا نحن فقد تجاوزناه. إلاّ أنّه يقدّم نموذج التأويل المدراشي ويُبرز بعض الأفكار العزيزة على قلب الكاتب.
إنّ الكاتب يُغني الخبر التقليدي بأشياء تصويرية يأخذها من أساطير يستقيها من العالم اليهودي أومن مخيلته. هناك أشياء تصويرية تزيد النصّ تشويقًا (18: 1- 2). ولكنّ هناك أشياء تزيد الحدث عظمة (16: 20؛ 3:17- 6) أو حركة (11: 11- 13) أو تغنيه تعليمًا (27:16- 29). وهناك أشياء تساعد الكاتب على حفظ التوازن بين المصريين وبني إسرائيل (3:16؛ 16: 9). وبالمقابل يحذف الكاتب كل ما يمسّ بصلاح الله أو بسمعة الشعب المقدّس مثل تقسية قلب فرعون (خر 4: 21 ؛ 3:7؛ 9: 12) أو تذمّر الشعب في البرّية (خر 2:17- 3 ؛ عد 16: 1 ي)، أو خطورة العقاب الذي فرضته الحيّات (ق حك 16: 5 - 11 وعد 4:21- 9).
وفي حالات أخرى، يحافظ الكاتب على الخبر الكتابي فلا يزيد عليه ولا ينقّص منه، ولكنّه يعطيه تفسيرًا جديدًا ليجعله يوافق نظرته إلى رحمة الله. يقول خر 23: 28- 30 إنّ الله طرد سكان كنعان قليلاً قليلاً لئلاّ تصير البلاد قفرًا. وهكذا خدم الله مصالح شعبه. أمّا سفر الحكمة فيرى في عمل الله موقف شفقة تجاه هؤلاء السكّان. فرغم أعمالهم الممقوتة (3:12- 6) وشرّهم المتأصّل فيهم منذ البدء والذي يمنعهم من الإفادة من الخلاص، أراد الله أن يعطيهم مهلة للتوبة لأنّهم بشر (8:12- 10). إنّها لنظرة عجيبة، ولكنّها لا تتوافق ونظرة سفر الخروج. وتبرز حرّية التفسير لدى صاحب سفر الحكمة في الموازاة الطويلة بين مصير المصريين ومصير بني إسرائيل، التي يفرضها إطارًا لكلّ عناصر الخبر الكتابي الذي احتفظ بها. وهذه الموازاة يتوسّع فيها في سبع نقائض (رقم الكمال). جمع الأحداث خارج الزمان والمكان وقرّب بينها، قرَّب بين المن والبرَد، بين الحيّة النحاسية والجراد، بين قرار قتل الأطفال ومقتل أبكار مصر، وضخمّ الأمور ليثبت مقاله (قال إنّ الجراد والذباب يقتل).
وخلال تنظيمه هذا الدرس، ينطلق الكاتب من بعض أفكار رئيسية يعود إليها ويعود. وهذه أهمّها: الله هو الرحوم ولا يعاقب إلاّ مُكرَهًا. يعاقب الإنسان حيث يخطأ (11: 16). ما يُستعمل لعقاب المصريين يؤمّن خلاص بني إسرائيل (198: 8). المحن التي أصابت بني إسرائيل كانت قصيرة وخفيفة ومن أجل الشفاء (8:11- 10)، أمّا المصريون فعوقبوا من دون شفقة تنفيذًا لقرار اتّخذ بحقّهم (11: 10؛ 16: 4). الطبيعة هي كلّها في خدمة الله من أجل خلاص الأبرار ومعاقبة الأشرار (16: 17- 25). كل ما ورد في التوراة له قيمة أخلاقية ودينية. مثلاً أعطت الحكمة ليعقوب الظفر لتعلّمه أنّ التقوى أقوى من كل شيء (10: 12). وإذا كان المن يذوب عند طلوع الشمس، فلكي يعرف المؤمن أنّ عليه أن يسبق الشمس ليسبّح الله (28:16).
ينطلق الكاتب من الماضي، ولكنّ المستقبل يلفّه الغموض. فرسالة إسرائيل تقوم بان ينقل إلى العالم نور الشريعة. وسيأتي يوم تصل فيه كل الأمم إلى معرفة الحقّ. في هذا الوقت تزول الأصنام. ويدخل الأبرار في الملكوت فيأمرون الأمم ويسودون على الشعوب (3: 8؛ 5: 6). هل نحن أمام صورة عن السعادة الأبدية أو أمام إعلان عن المرحلة الأرضية الأخيرة للملكوت؟ وحين يقول إنّ الأشرار سيُعاقبون، هل هو عقاب يسبق انتصار الله على الأرض، أو طريقة للتعبير عن تدخّل الله من أجل الأبرار، أو صورة عن العقاب الأبدي؟ وماذا نقول أيضاً عن رجاء إسرائيل وانتظار المسيح؟ إنّ الله يعمل بدون وسيط من أجل تجديد العالم. ونقول أخيرًا إنّ الكاتب نظر إلى خلود النفس ولم يقل شيئًا صريحًا عن قيامة الأجساد.

6- سفر الحكمة والعهد الجديد
لم يُقبل سفر الحكمة بين الأسفار القانونية عند اليهود، ولكنّ المسيحية الناشئة أخذت به وتأمّلت فيه. لا شكّ في أنّ العهد الجديد لم ويورد نصوصاً من سفر الحكمة ولكنّ كلاً من القدّيس بولس والقدّيس يوحنّا استلهم آياته للتحدّث عن يسوع المسيح. وها نحن نقدّم بعض المقابلات.
شدّدت الحكمة على معرفة وجود الله وعلى طبيعته انطلاقًا من أعمال الخلق (3:13- 5). وقال القدّيس بولس (روم 1: 20): فمنذ خلّق الله العالم وصفات الله الخفية وقدرته واضحة جليّة تدركها العقول في مخلوقاته. وشدّدت الحكمة على فساد الأخلاق عقابًا على عبادة الأوثان التي مارستها الأمم (14: 22- 31)، فاتّبعها في ذلك القدّيس بولس (روم 1: 21- 32) كما اتّبعها في التحدّث عن طول أناة الله الذي يدعو الناس إلى التوبة (11: 23، 26؛ 12: 2، 10، 19؛ رج روم 2: 4). الله هو القدير وسلطانه سلطان مطلق (12: 12؛ روم 9: 20) وقد كوّن البشرية كما يفعل الخزّاف في طينه (7:15؛ روم 9: 21). ويقول بولس إنّ يسوع المسيح هو صورة الله غير المنظور (كو 1: 15) فيتبع في ذلك سفر الحكمة الذي قال عن الحكمة إنّها ضياء النور الأزلي ومرآة عمل الله النقية وصورة جودته (7: 26). وما قاله سفر الحكمة (17:5- 20) عن الله الذي يلبس البرّ درعًا وحكم الحقّ خوذة ويتّخذ القداسة ترسًا لا يقهر، قد قاله القدّيس بولس عن المسيحي (أف 14:6-17). وأخيرًا نقرأ في عب 1 :3 عبارة قريبة من حك 26:7: الابن هو انعكاس مجد الله كما أنّ الحكمة هي انعكاس الضياء الأزلي.
وإذا انتقلنا إلى القدّيس يوحنّا، وجدنا أنّ تأثير الحكمة فيه عميق جدًّا. فإذا أراد أن يحدّثنا عن علاقة الكلمة بالآب وبالبشر، وجد الطريق في سفر الحكمة. فالأبن يحيا حياة حميمة مع الآب (يو 1: 1- 18) والحكمة تحيا عند الله ورب الجميع أحبّها (3:8؛ 9: 4). يتحدّث يوحنّا عن نشاط الكلمة الخلاّق (يو 1 :3، 10: به كان كل شيء) فيتذكّر ما قيل عن الحكمة التي تعمل في هندسة الكون (6:8) والتي كانت حاضرة حين صنع الله العالم (9: 9). الكلمة عالم بكل شيء (يو5: 25) والحكمة تشارك الله في أسراره (8: 4) وهي العليمة بأعماله (9: 9). ويحدّثنا القدّيس يوحنا (3: 16- 17) عن حب الله للبشر، فلا ينسى روح الحكمة المحبّ للبشر (1: 6؛ 23:7) ولا ينسى الله الذي يرحم الجميع لأنّه قادر على كل شيء ويحب جميع الاكوان ويشفق على جميع الاكوان لأنّها له (11: 23- 26). وحين يعلن يوحنّا أنّ الآب يحبّ الذين يحبّون الابن (يو 14 : 23؛ 16: 27)، فهو يتذكّر ما قاله سفر الحكمة (7: 28): إنّ الله لا يحبّ أحدًا إلاّ من يساكن الحكمة.
ثمّ إنّ كلاً من سفر الحكمة وإنجيل يوحنّا يتصوّر تاريخ الكون والنفوس بالصورة عينها: إنّه صراع بين النور والظلمة، بين الحياة والموت. وإنّ النصر سيكون للنور رغم مظاهر النجاح الذي تحرزه الظلمة.

7- الخاتمة
وسارت الكنيسة على خطى القدّيس بولس والقدّيس يوحنّا فأحاطت بالإجلال سفر الحكمة. لا شكّ في أنّه قامت خلافات حول قانونيته منذ القرن الثالث، ولكنّ هذه الخلافات لم تؤثّر في التفكير المسيحي.
أجل، إنّ سفر الحكمة ما زال يقدّم للمسيحي غذاء روحيًا رفيعًا ولاسيّمَا في فصوله التسعة الأولى عن قيمة الحياة اللامتناهية، عن تسارع الأيّام والسنين، عن عظمة الجزاء المعدّ لنا. أمّا النفوس التي ألمّت بها المحن، فهي تجد في سفر الحكمة أقوالاً معزّية عن مخطّط الله وعنايته، وتدلّ العقول القلقة والضالّة على الطريق الحقيقي الذي يقود إلى الإله الحيّ، وتقدّم للعالم الجائع إلى التسلّط والعنف صورة عن الله القدير الذي يدافع عن الحقّ والعدل ويجازي كل واحد حسب أعماله.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM