الفصل السادس :يشوع بن سيراخ

الفصل السادس
يشوع بن سيراخ

المقدّمة
سفر يشوع ابن سيراخ هو اليوم من أصعب الأسفار. والسبب هو أنّ المؤلّف دوّنه في العبرية فلم يصل إلينا في نصّه الأصلي، حتّى وإن اكتشفنا ثلثَيْ الكتاب في اللغة العبرية. ظلّت المسيحية عشرين قرنًا تقرأ هذا الكتاب عبر الترجمات اليونانية والسريانية واللاتينية وغيرها.
هذا السفر هو آخر زهرة في الحكمة العبرية قبل تفتّح المسيحية، وهو شيّق في وجوه متعدّدة. فن زاوية الحكمة، يأخذ الكاتب على عاتقه كل إرث شعبه الديني فيتميّز عن الحكماء السابقين. عمله هو خلاصة، وكدت أقول شميلة، رغم طابعه غير المنتظم. وهذا العمل هو جسر يفهمنا بعض تعاليم الرابّانيين (المعلّمين اليهود) القدماء كما يُدخلنا في جو العناصر الحكميّة التي نجدها في العهد الجديد.

1- الكاتب والذين تابعوا عمله
أ- ابن سيراخ
أوّلاً: عصره
كان ابن سيراخ معلّم حكمة في أورشليم في منعطف القرنين 3 و 2 ق م. كانت اليهودية والسامرة آنذاك جزءًا من سورية الجوفاء (البقاع) التي رغب فيها الجيران بسبب الغنى الموجود فيها وما تمنحه من ضرائب. أمّا الجيران فهم: اللاجيون في مصر والسلوقيون في أنطاكية. ظلّ اللاجيون أسياد سورية الجوفاء حتّى نهاية القرن الثالث تقريبًا، رغم هجمات أنطيوخس الثالث التي رُدّت على أعقابها سنة 217 في رافيا قرب غزّة. ولكنّ أنطيوخس الثالث استفاد من صغرسنّ بطليموس الخامس اللاجي الجديد فاحتلّ رافيا سنة 201. سارسكوباس على رأس الجيوش اللاجية لكي يطرده من هناك، فدخل اليهودية في نهاية سنة 199 ووصل إلى منابع الأردن، إلى بانياس. ولكنّ أنطيوخس الثالث انتصر انتصارًا ساحقًا أمّن للسلوقيين السيطرة التامّة على سورية الجوفاء وبالتالي أورشليم. وأمام هذه الحالة قال ابن سيراخ: "ينتقل المُلك من أمّة إلى أمّة بالظلم والعنف والمال " (8:10).
منذ منتصف القرن الثالث ق م كانت عائلة الطوبيائيين تؤمّن جمع الضرائب لحساب البطالسة في أورشليم وفي كل المنطقة. مات يوسف ابن أخي أونيا الثاني الكاهن الأعظم سنة 226، فترك الوظيفة لهركانس، أصغر أبنائه. وعلى منعطف القرن، يبدو أنّ هركانس الموالي للاجيين ترك مصر وأقام في شرقيّ الأردن. أمّا إخوته المقيمون في أورشليم فانتقلوا إلى الجانب السلوقي مع الكاهن الأعظم سمعان البارّ، فكانوا من الذين استقبلوا أنطيوخس الثالث في أورشليم سنة 0198 اعترف السيّد الجديد اعترافًا رسميًا بشرائع اليهود. وسمح لهم بترميم الهيكل وأسواره تحت سلطة الكاهن الأعظم. هذا ما يقوله ابن سيراخ: "سمعان بن أونيا عظيم الكهنة، هو الذي رمّم البيت في حياته، ووطّد الهيكل في أيّامّه. وعن يده وضعت أسس العلوّ المضاعف والحصن الشامخ لسور الهيكل. في أيّامه حُفر خزّان المياه، حوض كالبحر امتدادًا. اهتمّ بوقاية شعبه من الهلاك، فحصّن المدينة لئلاّ تُحاصر" (50: 1-4).
سنة 190، قُهر أنطيوخس الثالث على يد الرومان في مغنيزيا (تركيا). خسر قسمًا كبيرًا من الأراضي التي كان قد احتلّها، ولكنّه احتفظ بسورية الجوفاء وأُجبر على دفع جزية باهظة للذين انتصروا عليه. كيف العمل لدفع هذا الدين؟ تطلعّ خلَفه سلوقس الرابع (187- 175) إلى كنز الهيكل في أورشليم حيث وضع هركانس كل ثروته في حراسة أونيا الثالث الكاهن الأعظم. يروي 2 مك 3: 1 ي كيف فشل هليودورس الذي أرسله السلوقيون في مهمّته. وقد يعود سي 36 (= 33): 1- 22 إلى ذاك العصر. هذه الصلاة ذات الطابع المسيحاني والإسكاتولوجي، تذكّرنا بالمزمور العبري في سي 51: 12 وبالبركات الثمانية عشرة التي يتلوها اليهود في مجامعهم. هي تتميّز بعنفها وقساوتها عن سائر الكتاب بما فيها من صفاء وهدوء: إرحمنا، أيّها الرب إله الجميع، وانظر وألق رعبك على جميع الأمم. إرفع يدك على الأمم الغريبة ولترَ عزتك... أيقظ غضبك وَصُبَّ سخطك، ودمّر المقاوم واقضِ على العدوّ... ليؤكل الناجي بغضب النار وليلقَ مضايقو شعبك الهلاك. هشِّم رؤوس قادة الأعداء الذين يقولون: "ليس غيرنا".
بعد هذه الحادثة، أجبر أونيا الثالث على الذهاب إلى أنطاكية ليغسل التهّمة التي ألصقت به وهي أنّه تعاون مع الحزب اللاجي. ولكن في ذلك الوقت، قتل هليودورس سلوقس الرابع، وانتحر هركانس في شرقيّ الأردن. ولمّا صار أنطيوخس الرابع (175- 164) ملكًا، أقام ياسون الذي قدّم له فضّة أكثر من أخيه أونيا الثالث، كاهنًا أعظم. ولكنّ الوظيفة انتقلت سنة 172 إلى منلاوس شقيق مدير الهيكل الذي كان السبب في عزل أونيا الثالث. هكذا انتهت عائلة صادوق الكهنوتية. كل هذا يعني أن نص سي 23:50- 24 دوّن قبل سنة 172.
وبعد بضع سنوات ستنفجر ثورة المكّابيين على مشاريع أنطيوخس الرابع التلفيقية بين سنة 167 وسنة 164. ولكن لا شيء يشير إلى هذه الحقبة المتأزمّة في سفر ابن سيراخ. وهكذا يبدو أنّ ابن سيراخ كان قد مات قبل الحقبة المكّابية.



ثانيًا: من هو ابن سيراخ
إذا عدنا إلى مقدّمة الكتاب في اليونانية (آ 7- 12) ندرك أنّ ابن سيراخ دوّن مؤلّفه في عمر متأخّر. وهذا ما يقودنا إلى القول إنّه وُلد في منتصف القرن 3 ق م. أمّا الكتاب فلا يقول لنا الشيء الكثير عن مؤلّفه. وإنّ نص 13:51- 30 يفترض أنّ ابن سيراخ توجّه وهو شاب نحو الحكمة، وحين بلغ أشدّه، فتح مدرسة في أورشليم. كان تلاميذه من أبناء العائلات الغنيّة في المدينة، وكان على المعلّم أن يعدّهم للحياة، أن يعدّهم لمسؤولياتهم المُستقبلية في المجتمع. تعلّق هذا الحكيم بتقاليد شعبه كما نقلتها إليه الأسفار البيبليّة. كان رجل صلاة، فعرف أنّ الله وحده ينير الحكيم ويوجّه أقواله وأعماله. ثمّ إنّ شهرته جعلته مستشار العظماء ، فقام ببعض المهمّات في الخارج، مع ما في هذه المهمّات من مخاطر (39: 1- 11؛ 9:34- 13: الرجل الذي سافر كثيرًا يعلم الشيء الكثير). وبيّن 51: 1- 12 أنّه واجه الافتراء والنميمة: أحمدك أيّها الرب الملك، أنقذت جسدي من الهلاك، من فخّ اللسان النمّام، ومن الشفاه المختلقة للكذب. كان يشوع ابن سيراخ متزوّجًا فرزق أقلّه ولد، لأنّ المترجم اليوناني يسمّي نفسه حفيده (المقدّمة 7).
كان حلم ابن سيراخ أن يحلّ محلّ الكتّاب البيبليين السابقين ولاسيمّا الأنبياء. أمل أن يتجاوز مؤلّفه الزمان والمكان فلا ينحصر في عصر من العصور وفي أرض فلسطين وحدها. وقد تمنّى أن يدخل مؤلّفه في "كتابات " التوراة العبرية التي لم تكن لائحتها قد حدّدت بعد (المقدّمة 1- 14). فهو يقول عن نفسه: "أمّا أنت فكنت آخر من حمل المشعل، كمن يلتقط وراء القطّافين. ببركة الرب لحقت بهم وملأت معصرتي ككل القاطفين. لم أتعب من أجلي أنا وحدي بل من أجل جميع الذين يلتمسون التعليم " (33: 16- 18). وقال أيضاً: "وأنا كساقية من النهر ومثل قناة دخلت إلى الجنّة. قلت : أسقي بستاني وأروي زهراتي. فإذا بساقيتي صارت نهرًا، وبنهري قد صار بحرًا. سأضيء بالتعلم مثل الفجر وأجعله يسطع إلى بعيد. أفيض التعليم مثل نبوءة وأورثه الأجيال الآتية. انظروا، لم أتعب لأجلي فقط بل من أجل جميع الذين يلتمسون الحكمة" (16:23- 18).

ثالثًا: ميول ابن سيراخ
الحكماء هم رجال تقليد وحضارة. تقوم وظيفتهم بأن ينقلوا هذا الإرث إلى الجيل الجديد. من هذا القبيل نستطيع أن نتحدّث عن ابن سيراخ على أنّه رجل محافظ، شرط أن لا نجعل منه إنسانًا ذا أفكار ضيّقة ومنغلقًا على كلّ فكر غريب عن أفكار سابقيه.
لا شكّ في أنّ ابن سيراخ يعود إلى الكتابات البيبليّة السابقة وخاصّة في مديح الآباء (ف 44- 49)، ولكنّه لا يعود بطريقة حرفية لا ابتكار فيها. ما يطلبه هو أن يسجَّل تعليمُه في تيّار الإرث الكتابي. وهذا ما نكتشفه حين نتحدّث عن تعليمه.
ظنّ بعض العلماء أنّه من أوائل شيعة الصادوقيين. ولكنّ هذا يعني تضخيم إشارات صغيرة غير مقنعة. قالوا: إنّه لا يتحدّث عن العواقب الأخيرة ولا عن المسيحانية. تهمّه الليتورجيّا ولكنّه لا يُعنى بالكثير من الممارسات اليهودية مثل الختان (ما عدا 44: 20) ورفض الزواجات المختلطة والأطعمة الممنوعة والحفاظ على السبت. ابن سيراخ هو حكيم قبل أيّ شيء آخر .
فرَضت عليه وظيفته أن يطلعّ على التيّارات الثقافية في عصره. وهو يرتبط بعض الشيء بالحكمة المصرية. فنحن نقرّب 38: 24- 33 من هجاء الوظائف في أقوال دواؤف. وهناك تقارب مع حكمة حقبة البطالسة فلا يبدو ابن سيراخ بعيدًا عن الحكمة الشعبية.
وما هو موقفه من التيّارات الهلّينية التي بدأت تتسرّب إلى أورشليم بواسطة السياسة والمال؟ ونتساءل أوّلاً: ماذا كان يغرف من الأدب اليوناني؟ يبدو من الاكيد أنّه عرف مؤلّفات الشاعر تيوغنيس (القرن 6 ق م). ولكن هل نستطيع أن نتحدّث عن تأثير الرواقية، بما فيها من روح شمولية وبحث عن الحرية، على ابن سيراخ؟ الأمر مشكوك فيه. الواضح هو أنّه لا يحمل بعنف على العالم الهلّيني. بل يأخذ ببعض العادات مثل الولائم الأكاديمية. هنا نقابل بين 32: 1- 13 (إذا جعلوك رئيسًا فلا تتكبّر، بل كن بينهم كواحد منهم. اهتمّ بهم ثمّ اجلس) و "وليمة" أفلاطون. ولكنّ نقاط الاتّصال هي ثقافيّة محض وهي لا تصل إلى المجال الديني إلاّ حيث يلتقي الفكر اليوناني بالتعليم البيبلي. فابن سيراخ وعى الخطر اليوناني وسحر التيّار الهلّيني على الشبيبة. فحاول أن يبرز تقاليد شعبه الأساسية لأبناء عصره. فللشعب العبراني تراثه كما للشعب اليوناني. ولن يشتدّ الصراع بين العالم اليهودي والعالم الهلّيني إلاّ في أيّام أنطيوخس الرابع.
ب- حفيد ابن سيراخ
نقرأ مقدّمة للترجمة اليونانية لمؤلّف ابن سيراخ. فحفيده يشرح متى ولماذا قام بترجمة كتاب جدّه إلى اليونانية. وصل إلى مصر سنة 132 ق م، في السنة 38 لحكم بطليموس أورجاتيس الثاني، كما يبدو. وتاج عمله حتّى موت ذاك الملك سنة 116. أمّا هدفه فهو أن يعرّف الشتات اليهودي إلى عمل جده. صارت اليونانية اللغة الدارجة، فقدّم الحفيد كتاب جده للذين يرغبون أن يتعلّموا، أن يُصلحوا أخلاقهم وأن يعيشوا بحسب الشريعة. محاولة نبيلة ولكنّها لا تخلو من الصعوبات التي وعاها المترجم: لا مقابل بين أشياء نعبّر عنها في العبرية وتنقلها إلى لغة أخرى (مقدّمة 21- 22). ثمّ إنّ النسخة العبرية التي وجدها في مصر لم تكن كاملة. نقصتها بعض الأسطر (مثلاً: 23:4 ب؛ 15:42 د) وزيدت عليها أسطر (مثلاً 4: 4 ب- 5 ؛ 10: 15). ثمّ إنّ معرفة الحفيد باليونانية لم تكن كاملة. ففي 27:24 تشير العبرية إلى النهر، إلى النيل. أمّا المترجم فتحدّث عن النور، واللفظتان قريبتان. مقابل هذا، فهو يقدر أن يكتشف إيرادات ضمنيّة للتوراة في كتاب جدّه، ولهذا يعود إلى السبعينية. سي 23:24 ب ج تورد تث 33: 4: لم يكن الحفيد عبدًا لنصّ الجدّ، فحوّل بعض الأفكار مستندًا إلى أوضاع جديدة أو أفكار معاصره. هذا ما نكتشفه في 50: 24. هو لا يذكر سمعان الكاهن الأعظم ونسله، لأنّ الكهنة الصادوقيين عزلوا بعد سنة 172. وقد تختلف نظرته الإسكاتولوجية عن نظرة جدّه (17:7 ب).
قام الحفيد بعمل هامّ، ولولاه لما وصلت إلينا حكمة جدّه.

ج- كتّاب آخرون
هناك كتّاب جعلوا بعض الزيادات على نصّ الحفيد. بعض هذه الزيادات تنقل الأصل العبري (3: 19 ب، 25؛ 11: 15- 16؛ 16: 15- 16)، وهي تعود بالتالي إلى كتّاب يهود عاشوا في الأرض المقدّسة خلال القرن الأوّل ق م.
قال بعض العلماء: كانوا من الفرّيسيين الذين يشدّدون على الأفكار الإسكوتولوجية. وقال آخرون: كانوا من الأسيانيين، وهذا ما يثبته ما اكتشف من نصوص قمران. وهناك زيادات تعود إلى محيط يهودي يتكلّم اللغة اليونانية: مدرسة أرسطوبولس في الإسكندرية. رج 17: 5 وبعض الزيادات التي تربط موضوع الحكمة بموضوع النور. وهناك زيادات في الترجمة اللاتينية تعود إلى أصل مسيحي: جاءت متأخّرة فلم يكن لها أصل يونانيّ. مثلاً تعود 24: 19 (25) إلى يو 6:14، و 9:2 (10) إلى 1 كور 13:13 التي تربط المحبّة بالإيمان والرجاء. نُقلت النسخة السريانية عن العبرّية، ولكنّها ستتأثّر بالفكر المسيحي.

2- ابن سيراخ كيف وصل إلينا
أ- نشرتان لسفر ابن سيراخ
نعرف اليوم سفر ابن سيراخ بواسطة أجزاء في العبرية، بواسطة الترجمات القديمة (وخاصّة اليونانية واللاتينية والسريانية)، بواسطة إيرادات عبرّية في أدب الرابّانيين، وعند آباء الكنيسة اليونانية واللاتينية.
لم نعرف النصّ العبري لابن سيراخ حتّى سنة 1896 إلاّ في ما ندر من الإيرادات في كتابات الرابّانيين. وبين سنة 1896 وسنة 1900 اكتشف ثلثا الكتاب في كنز (مخبأ، غنيزا) القاهرة وهو مجمع القارئين في القاهرة القديمة.
هناك ستة مخطوطات تعود إلى القرن 11 وقد أعطتنا أجزاء هامّة. المخطوط أ: 3: 6- 16: 26. المخطوط ب: 10: 19- 11: 10؛ 15: 1- 16: 7 ؛ 30: 11- 3:33؛ 35: 11- 27:38؛ 39: 15- 51: 30.
إذا قابلنا الأجزاء التي تحتوي المقطع عينه من الكتاب، نجد أنّنا أمام اختلافات هامّة لا تفسّر إلاّ بوجود نشرتين متواليتين للكتاب. واكتشف في قمران سنة 1956 بعض الأجزاء (6: 20- 31؛ 51: 20، 30 ب)، كما اكتشفت أجزاء غيرها في قلعة مصعدة، قرب البحر الميت (27:39- 44: 17). كل هذا يثبت صدق النصوص التي وجدت في القاهرة وصحّة الترجمة اليونانية التي قام بها حفيد ابن سيراخ.
وينقل إلينا التقليد اليوناني نمطين من الترجمة. النمط الأوّل نجده في المخطوطات الكبرى التي دوّنت في الخط الإسفيني (وخاصّة الفاتيكاني والسينائي): يعطينا نصًّا لا زيادات فيه، نصّ حفيد ابن سيراخ. أمّا النمط الثاني فنجده في بعض مخطوطات دوّنت في الحروف الجرّارة، فامتلأت بزيادات وجد بعضها في الأجزاء العبرية (3: 19 ب، 25؛ 11: 15- 16؛ 16: 15- 16). بعد هذا، نستطيع أن نؤكّد أنّه كان نصّان في اللغة العبرية فقابلتهما ترجمتان. أمّا الترجمة اللاتينية التي نجدها في الشعبية فتعود إلى القرن 2 ب م وهي نقل عن النصّ اليوناني مع بعض الزيادات. وقصّة الترجمة السريانية قصّة متشعّبة وهي تحمل إلينا بعض الزيادات.

ب- النصّ الأصلي
أوّلاً: ترتيب الفصول
إنّ اكتشاف النصوص العبرية لابن سيراخ أكّد بصورة نهائية صحّة ترتيب الفصول كما في اللاتينية والسريانية. غير أنّ كلّ المخطوطات اليونانية تقلب 30: 25- 33: 16 أ و33: 16 ب- 36: 13 أ. أمّا النظام الحقيقي الذي تتبعه معظم الترجمات الحديثة فهو التالي:
30: 24 = 30 : 24 أ ب ج يوناني.
30: 25 = 33: 13 ب ج يوناني.
31 = 34 يوناني.
32= 35 يوناني.
33: 1 – 16 أ = 33: 1 – 16 أ يوناني.
33: 16 ب – 33 = 36 : 25 – 40 يوناني.
34 = 31 يوناني.
35 = 32 يوناني.
36 : 31 أ = 33: 1 – 13 أ يوناني.
36 : 13 ب – 31 = 36 : 16 ب – 31 يوناني.

ثانيًا: الأساليب الشعريّة في ابن سيراخ
بعد أن اكتشفنا أجزاء عبريّة من مؤلّف ابن سيراخ، نستطيع أن ندرس فنّ الكاتب الشعري. يكتب ابن سيراخ أشعارًا من شطرين. فحين يكون هناك ثلاثة أشعار، يتساءل الشرّاح: أما من زيادة؟ ولكنّ المسألة ليست بهذه السهولة.
ويلجأ ابن سيراخ إلى أهمّ الأساليب الشعرية التي استعملها كتّاب التوراة العبرية: الجناس، السجع، التقنية، قلب العبارة، التضمين. وهناك من ظنّ أنّ في النص أدوارًا ومقاطع شعرية.

ثالثًا: الفنون الأدبيّة
يستعمل ابن سيراخ الفنون الأدبية المُستعملة في الحكمة البيبلية. إلاّ أنّ تعليمه يعطي نصيحة ولا يكتفي بمراقبة الواقع وحده. في ف 4- 5 و 7- 9 تأتي النصيحة في صيغة النفي: لا تحرم الفقير ما يعيش به، ولا تحزن النفس الجائعة... لا تصرف نظرك عن المعوز... ويلجأ ابن سيراخ ككل الحكماء إلى التشابيه: "الماء يطفئ النار المُلتهبة والصدقة تكفّر الخطايا" (3: 30). "كالحجل الأسير في القفص هكذا قلب المتكبّر" (11: 30). "حمير الوحش في البرّية هي فريسة الأسود. كذلك الفقراء هم مراعي الأغنياء" (19:13 ؛ رج 22: 14- 15، 16، 19، 20، 24...). ويحبّ ابن سيراخ أن يبدأ تشبيهه بهذه العبارة: "خير". مثلاً في 27:10: "من يعمل وهو في بحبوحة خير من الذي يتبختر وفيه حاجة إلى الخبز". وفي 19: 24: "الناقص العقل وهو تقي خير من وافر الفطنة وهو يتعدّى الشريعة" (رج 20: 2، 18، 25، 31...). ونجد أيضاً التطويبات: "طوبى للرجل الذي لم يزلّ بفمه " (14: 1). "طوبى لمن لا تحكم عليه نفسه " (2:14). "طوبى للرجل الذي يتأمّل في الحكمة" (14: 20؛ رج 7:25- 9 ؛ 26: 1...). كما نجد الأسئلة يطرحها الكاتب على القارئ أو السامع: "هل عندك قطعان: فاسهر عليها. هل لك أولاد؟ فأدبّهم. هل لك بنات؟ فاعتن بأجسادهنّ. هل لك امرأة على وفق قلبك؟ فلا تطلّقها (22:7- 26، رج 10 : 9، 19؛ 2:13، 17، 18؛ 3:14، 5؛ 8:18- 9، 16...). وهناك أمثلة عددية: "من الناس صنفان يُكثران من الخطايا، وصنف ثالث يجلب الغضب " (23: 16). "ثلاثة تشتهيها نفسي وهي جميلة أمام الرب والناس: اتّفاق الأخوة والصداقة مع الجيران، وامرأة ورجل متّفقان. ثلاثة تبغضهم نفسي: الفقير المتكبّر، والغني الكذّاب، والشيخ الزاني الفاقد الفهم " (25: 1- 2 ؛ رج 25: 7- 11؛ 26: 5-6، 28 ؛ 50: 25- 26).
ويحبّ ابن سيراخ أن يجعل قارئه يتكلّم: حين يقول: "قد بلغت الراحة وسآكل الآن مع جيراني وهولا يعلم كم يمضي من الزمان " (19:11). يتكلّم الغني فينصت الجميع ويرفعون قوله إلى الغيوم. يتكلّم الفقير فيقولون: "من هذا"؟ وإن ذلّ يصرعونه (13: 23؛ رج 20: 16- 17...). ويجعل ابن سيراخ الحكمة تتكلّم (24: 3- 22). وينصحنا بأن لا نقول هذا القول أو ذاك. لا تقل: "إنّها تكفيني "... لا تقل: "من الذي يتسلّط عليّ " (15: ا-3، 4، 6؛ 9:7؛ 11: 23- 24...)؟
ونجد بداية مثل في شكل قصّة في 3:11: "النحلة صغيرة في الطيور، ولكنّ ما تجنيه رأس كل حلاوة". وفي 51: 13- 30 نجد قصيدة أبجدية (يبدأ الشعر الأوّل بحرف الألف والشعر الثاني بحرف الباء...). وفي 38: 24- 39: 1 هجاء الصنعات: الكاتب، الفلاّح، الحفّار، الحدّاد، الخزّاف... وفي 43: 1- 22 يتحدّث عن الشمس والقمر والنجوم كما فعل أي 38- 41.
ما يميّز مجموعات ابن سيراخ الصغيرة هو اهتمامه بعرض الحجج والبراهين. وهنا نجده قريبًا من أم 1- 9 وأيّوب والجامعة. إنّ حكمته تُعمل الفكر وتبدو مبنيّة بناء محكمًا، وهذا ما لا نجده في أم 10- 30.
ويتضمّن الكتاب نصوصاً غير حكمية. مثلاً، نجد في 27:22- 6:23 صلاة الحكيم على نيّته الخاصّة. وفي 36: 1- 22 صلاة من أجل الشعب. وفي 51: 1- 12 فعل شكر خاص. وينشد ابن سيراخ مديحًا في 39: 12- 35 و 42: 15- 33:43. ومديح الأجداد (ف 44- 49) فريد من نوعه وهو يتأثّر بفن أدبي عرفه أهل اليونان ويحافظ على ذلك الذي أغرم بالحكمة فما تخلّى عنها.

رابعًا: تنظيم الكعاب ومراحله التدوينية
كيف جُمع الكتاب كيف تنظّم؟ هذا يبقى لغزًا علينا. من الواضح أنّ المضمون هو ثمرة زمن طويل من النضج: لقد سطّر ابن سيراخ تعليمه وتفكيره على مدى عشرات السنين.
هناك إشارات دفعت البعض لأن يروا في الكتاب مزيجًا من نسخات متعاقبة. ففي 24: 32- 33 تدلّ كلمة "أيضاً" على أنّ الفصول اللاحقة تشكّل ملحقًا لـ ف 1- 23، وبالتالي نسخة ثانية يكون ف 24 مقدّمتها. وقال آخرون: زاد ابن سيراخ في هذه النسخة الثانية ف 24-50. ورأت فئة ثالثة أنّ النسخة الثانية تنتهي في 42: 14، لأن النشيد للخالق (42: 15- 43: 33) ومديح الآباء (ف 44- 50) هما مقالان متميّزان، وف 51 هو ملحق وضعته يد غريبة. واعتبرت فئة رابعة، أن ف 1- 23 شكّلت النسخة الأولى التي كانت خاتمتها 51: 1- 030 افتتحت النسخة الأولى بنص عظيم عن الحكمة، ثمّ زاد ابن سيراخ ثلاثة ملحقات متعاقبة (24: 1- 13:32؛ 32: 14- 23:38؛ 38: 24- 50: 24 أو 20). ما هو أكيد هو أن 50 : 27- 29 تشكّل خاتمة الكتاب وان ف 51 هو ملحق.
وهناك إشارات أخرى تدفعنا إلى اكتشاف إيقاع في تعليم ابن سيراخ. والأمر واضح في القسم الأوّل من الكتاب: 1: 1- 10 (أو 20)؛ 4: 11- 19؛ 6: 18- 37؛ 14: 20- 15: 10؛ 24: 1- 34 هي مقاطع مخصّصة للحكة. وفي نهاية المجموعة، يبدو 42: 15- 43: 33 (نشيد الخالق) وف 44-50 (مديح الآباء) مجموعتين متناسقتين ومتماسكتين. يبقى أن نجد ترتيبًا في 25: 1- 14:42.
بالإضافة إلى ذلك يربط ابن سيراخ بعض المقاطع التي تبدو مشتّتة ويجمعها بعضها مع بعض لتبدو وكأنّها تقدّم البراهين والحجج. هذا هو وضع 4: 20- 17:6 حول التباسات الوجود؛ 15: 11- 18: 14 حول مفارقات الوجود الذي يحسّ فيه الإنسان بمسؤوليته، 27:22- 27:23 هي صلاة عن الطهارة؛ 25: 1- 18:26: عن الأزواج ؛ 23:26- 37: 15 حول التمييز والاختيار.
هذه بعض المعطيات التي نستطيع أن نستند إليها.

ج- وصول النصّ إلينا
أوّلاً: في العالم اليهودي
ظلّ العالم اليهوديّ الفلسطيني يقرأ نصّ ابن سيراخ العبري حتّى دمار أورشليم على يد الرومان سنة 70 ب م. والبرهان على ذلك هو الأجزاء التي وُجدت في قمران ومصعدة، والتي كُتبت خلال القرن الأوّل ق م. ومن الممكن أن يكون هذا السفر قد أثّر بعض الشيء في جماعة قمران. وانتقلت الترجمة اليونانية لنصّ ابن سيراخ في الشتات اليهودي في الإسكندرية، مع الزيادات التي نعرف، مع أنّنا لا نملك أيّة شهادة من ذاك العصر وبعد سنة 70 بقليل تبدّل الوضع. مَنع رابي عقيبة بين سنة 95 وسنة 135 قراءة ابن سيراخ. وتد يكون السبب سببين: السبب الأوّل هو أنّه لم يدخل في قانون التوراة العبري الذي تثبّت في يمنية (يبنة) في نهاية القرن الأوّل المسيحي. والسبب الثاني هو أنّ المسيحيين كانوا يقرأونه. وكانت سلطة رابي عقيبة قويّة فمنعت الرابّانيين من إيراد نصوص ابن سيراخ. ولكنّ "الحرم " خسر من قوّته شيئًا فشيئًا، فعاد الرابّانيون منذ القرن 4 يوردون نصوص ابن سيراخ (رابي بن ماري، رابي يوسف). وأعلن القدّيس إيرونيموس (مترجم الشعبية اللاتينية) أنّه رأى نسخة لابن سيراخ في العبرية. وبعد القرن 5 اختفى ابن سيراخ من جديد، لأنّ التلمود دخل في المدارس اليهودية.
وفي نهاية القرن 10 والقرن 11 عاد الكتاب إلى الظهور في مجمع القارئين في القاهرة القديمة. كيف نفسّر هذا الواقع؟ في نهاية القرن 8، وُجدت مخطوطات عبرية (بيبلية وغير بيبلية) في مغارة قرب أريحا (وقال بعضهم: إحدى مغاور قمران) استعملتها شيعة القارئين في أورشليم منذ القرن 9. ويبدو أنّ أجزاء مخبأ القاهرة هي نسخ لهذه النصوص. وآخر كاتب يهودي ذكر ابن سيراخ في العبرية كان سعادية بن يوسف غاوون، في القرن العاشر.

ثانيًا: في العالم المسيحي
لم ترد نصوص من ابن سيراخ في العهد الجديد، ولا شيء يؤكّد لنا أنّ العهد الجديد عرفه. ولكنّ هناك نصاً مسيحيًا عن "الطريقين " (ديداكيه 4/5، رسالة برنابا 19/9 أ)، قد يعود إلى ما قبل سنة 100 ب م ويرتبط بنصّ يهودي قمراني. نقرأ فيه من ابن سيراخ 4: 31 (حسب النسخة الثانية، قريب من نصّ المخطوط أ من مخطوطات القاهرة ومن الترجمة اليونانية. أمّا ما في المخطوط ج من القاهرة والترجمة اليونانية فهو يختلف عن هذا النصّ).
وحوالي سنة 200، حين تُرجمت النسخة الثانية مع الزيادات اللاتينية على يد مسيحي من أفريقيا الشمالية، أورد كل من ترتليانس وأكلمنضوس الإسكندراني وقبريانس القرطاجي نصوص ابن سيراخ حسب الترجمات. وخلال القرن الثالث، طبّق تلاميذ أوريجانس على ابن سيراخ أساليب معلمهم النقدية. وهكذا برزت الفروقات بين النصّ القصير وترجمة حفيد ابن سيراخ والنصّ الطويل. وإنّ المخطوطات الكبيرة التي دوّنت بالحرف الإسفيني ووضعت في البيبليا المسيحية نقلت إلينا النصّ القصير. أورد يوحنّا فم الذهب (القرن 4) النصّ الطويل. أمّا إيرونيموس فالنصّ القصير المستند إلى اليونانية. أمّا الآباء اللاتين (بمن فيهم أوغسطينس الذي أورد النصّ القصير في 15: 11- 17 وأعاد النظر في النصّ اليوناني القصير) فيوردون النصّ اللاتيني كما ورد في اللاتينية القديمة وفي الشعبية. وفي القرن 8 ظهرت المتوازيات المقدّسة في فلسطين بتأثير من يوحنّا الدمشقي فأوردت النصّ اليوناني الطويل.
وما زال أمامنا حتّى اليوم النصّ الطويل والنصّ القصير. فالشعبية اللاتينية والشعبية الجديدة أخذت بالنص الطويل. في القرن 16 أوردت بوليغلوتة (متعددة اللغات) القلعة (ألكالا في إسبانيا) النصّ الطويل كما نقرأه في المخطوط اليوناني رقم 248. ولكن الطبعة السكستية (نسبة إلى البابا سكستوس كوينتوس 1585- 1590) التي طالب بها المجمع التريدنتيني فتبعت النصّ القصير كما نجده في الكودكس الفاتيكاني. وتبعت النسخات الحديثة النصّ القصير وضمّت إليه الزيادات (135 شطرًا) في الحواشي.

3- التعليم
بما أن ابن سيراخ عرف في القديم نسختين، فنحن نميّز تعليمْ المجموعة الأصليّة كما نجدها في النصّ القصير، من الزيادات التي عرفها النصّ الطويل.

أ- تعليم النصّ الأصليّ
أوّلاً: الحكمة والحكيم
هذا هو الموضوع الرئيسي في الكتاب الذي يفتتحه كاتبه بالحديث عن الحكمة (1: 1 -10). وتبرز الحكمة في الفصول الأولى (4: 11- 19؛ 6: 18- 37؛ 14: 20- 15: 10) ولاسيمٌا في ف 24. وتعود الحكمة إلى الظهور فيما بعد (33: 16- 20؛ 39: 1 - 11) قبل أن تختتم الكتاب (13:51- 30). على الحكمة والحكيم أن يلتقيا، لأنّ الحكمة من أجل الحكيم.
تأتي الحكمة من الله، ولا يصل إليها الإنسان إن لم يتقبّلها من ذلك الذي هو وحده الحكيم. والله يمنح الحكمة بسخاء كما يمنح الروح (رج يوء 2: 1) للذين يعيشون في صداقته: كل حكمة هي من الرب وهي تبقى معه إلى الآبد... الرب هو الذي خلق الحكمة وأفاضها على جميع أعماله ومنحها لمحبّيه (1: 1- 10).
ولكنّ الحكمة التي تتخذ صورة حيّة، لا تكشف عن نفسها إلاّ بعد وقت اختبار تروز فيه استعداد التلميذ للانصياع لها (4: 11- 19: الذين يحبّونها يحبّهم الرب. رج تث 8: 2- 6). فعلى التلميذ أن يُظهر ثباتًا وخضوعًا ومثابرة. هذا هو الشرط للتنعّم بالحكمة والتعرّف إلى مجدها. ولن يحصل التلميذ على الحكمة إن لم يتأمّل تأمّلاً متواصلاً في شرائع الرب (18:6- 37). على التلميذ أن يكون حبيب الحكمة ويبحث بكلّ الوسائل كيف يقترب منها ويعيش معها. "الذي يمسك بالشريعة ينال الحكمة" (15: 1). إنّها لا تمنع نفسها، بل تتّخذ المبادرة فتغذّي وتُفرح من يتعلّق بها (14: 20- 15: 10).
الحكمة هي حضور الله الشامل الذي يقدّم نفسه بصورة لأبناء شعبه. فهو يجعل نفسه لهم وحيًا ينمو تدريجيًا كما تنمو شجرة الحياة في جنّة عدن. الحكمة تحكي عن نفسها للمؤمنين. فالتوراة (بالمعنى الحصري) أو الشريعة هي وحي الرب لشعبه وأفضل تعبير ملموس عن الحكمة، عن كيانها وأعمالها وتعاليمها. فعلى الحكيم أن ينقل الحكمة ويتوارى. ينقلها ولا يضع لها حدًّا في الزمان وفي المكان (24: 1- 34).
إن ينبوع عمل الحكيم هو في الوقت عينه معاشرة طويلة لإرث شعبه الروحي، وتفكير في الخبرة المتعدّدة الوجوه التي وصل إليها بواسطة اتّصالاته وأسفاره، وموقف جذري بالنسبة إلى الصلاة اليومية. يتوسّل إلى الرب لكي ينقّيه، فينال، إن شاء الله، الحكمة. حينئذ يقدّر قدره خلال حياته على الأرض ولا يُنسى ذكرُه بعد موته (39: 1- 11). ولن ننتظر أيّام الشيخوخة لنصل إلى هذا المثال الحياتي الرفيع. فالشاب يستطيع مثل سليمان (1 مل 3: 4- 15) أن يحسّ بجاذبية الحكمة في الصلاة، أن يشعر في ذاته بصداقة واثقة معها وهي المربّية، وبحبّ أقوى من حبّ الشاب لفتاة تعلّق بها. وهكذا، فالعلاقة بين الحكيم والحكمة هي علاقة حبّ لا علاقة مال (13:51- 30؛ رج أش 55: 1- 3).

ثانيًا: مخافة الرب
يكرّس ابن سيراخ خمسة مقاطع يتحدّث فيها عن مخافة الرب. يرد المقطعان الأوّلان بعد فاتحة كتابه المتكلّمة عن الحكمة (1: 11- 20؛ 2: 1- 18). أمّا المقاطع الثلاثة الأخرى فهي مشتّتة في كل الكتاب. يحدّد المقطع الأوّل (10: 19- 24) الشخص الذي يحقّ له الإكرام. ويشدّد المقطعان الأخيران على أنّ مخافة الرب تفوق كلّ خير (7:25- 11؛ 40: 18- 27).
هناك علاقة حميمة بين الحكمة ومخافة الله. فكلتاهما تحملان السعادة والبركة. وإذا تعمّقنا في الأمور، وجدنا أنّ مخافة الرب هي مبدأ الحكمة (رج أم 1 :7؛ 9: 10) وكمالها وتاجها. فلا حكمة من دون مخافة الرب (1: 11- 20).
وتجاه المحنة التي تفرض نفسها على الذي يريد أن يخدم الرب، ينصح ابن سيراخ بأن نتعلّق بالرب. هذا هو الموقف الأساسي لخائفيه. فمخافة الرب هي محبّته. وهذا ظاهر من الأمانة لأقواله وشرائعه. وحين يمرّ خائف الرب عبر الضيقات، فليثق بالرب ويتّكل عليه (2: 1-18 ؛ رج 51: 1- 12).
والبشر الذين يستحقّون الإكرام هم الذين يخافون الرب، لا الخطأة، لا الذين يتعدّون الشريعة. لا شيء يتفوّق على من يخاف الرب (10: 19- 24)، لا صاحب المال ولا صاحب السلطان. من سارت علاقاته بالآخرين في جوّ من الانسجام يُعتبر سعيدًا. ولكنّ أسعد السعداء هو الذي يخاف الرب (2: 1- 18). هذا يعني أنّ مخافة الرب تجعل علاقاتنا متناسقة معه (7:25- 11). ثمّ إنّ السعادة والاطمئنان يرتبطان بكثير من الخيرات. غير أنّ ينابيع السعادة لا تتساوى كلّها: فوق الصداقة تجد الحبّ الزواجي. ولكن في نهاية المطاف، تبقى مخافة الرب أخصب ينبوع للسعادة (18:40- 27).
ويعود ابن سيراخ في مقاطع أخرى من مجموعته إلى مخافة الرب هذه. وهذه الآيات المعزولة تثبت ما يعنيه ابن سيراخ بمخافة الرب. لا تعني: نرتعد منه، بل نحبّه (34: 14- 20؛ رج 2: 15- 17). ليست المخافة عاطفة وحسب، إنّها أمانة ملموسة وطاعة وممارسة للشريعة (19: 25، 24 ؛ 21: 11؛ رج 10: 24). والكفر وبغض الشريعة يعاكسان مخافة الرب (16: 1- 2؛ 33: 1- 2 ؛ رج 10: 19- 24).
وطريق مخافة الله هي الشرط الاساسي للحصول على الحكمة. "كل حكمة هي مخافة الرب، وفي كل حكمة تجد تتميم الشريعة" (19: 20 ؛ رج 1 :26-27). إذًا، ليس من حكمة إلاّ في مخافة الرب نفهمها على هذه الصورة.
بعد هذا يستطيع ابن سيراخ أن يقول إنّ مخافة الرب تحمل السعادة في الصداقة (16:6- 17) وفي البيت (3:26). إنّها فخر الشيوخ (6:25). وينتهي النصّ العبريّ (50: 29) بهذه الآية: "مخافة الرب هي الحياة".

ثالثًا: الشريعة
يرتبط هذا الموضوع بالحكمة والمخافة. فكل حكمة تفترض مخافة الرب، ولا تكون المخافة حقيقية إلاّ في ممارسة الشريعة. ولكنّ ابن سيراخ لا يشير إشارة واضحة إلى فرائض الشريعة إلاّ في مواضع نادرة.
يشرح الوصيّة الرابعة التي تشير إلى احترام الوالدين (3: 1- 16)، ولكنّه لا يوردها بوضوح. ويذكر أربع مرّات وصيّة من الوصايا: أعط الكاهن حصّته (7: 31)، تخلّ عن الحقد (28: 7)، أعِن الفقير (29: 9)، لا تأتِ أمام الرب بأيد فارغة (35: 6). وهكذا لا يتعلّق ابن سيراخ تعلّقًا مفرطاً بالشريعة. إنّه ذلك الذي ينظر إلى الشريعة بعيون الحكماء.
ويقول ذلك بصريح العبارة في 23:24. فالحكمة التي خرجت من الله وتجذّرت بطلب منه في إسرائيل، نمت نبتة وارفة، وقدّمت نفسها طعامًا وشرابًا في زمن الثمر (3:34- 22). إنّ ابن سيراخ يرى في مثَل الحكمة توسيع الوحي التاريخيّ منذ الخلق حتّى إقامة بني إسرائيل في أرضهم. قال: هذا كلّه هو الشريعة التي تتضمّن خبر مآثر الرب ودساتير الحياة لشعبه. الشريعة هي التعبير المميّز لحكمة الله. وهكذا يلتقي ابن سيراخ مع تث 4: 6- 8. وسيَرد التعليم عينه في با 4: 1 ويبقى ثابتًا في العالم اليهودي. فالشريعة ليست فقط مجموعات القوانين التي لم يهتمّ ابن سيراخ بتفاصيلها. الشريعة هي كلّ الوحي التاريخي، وهذا ما يهمّ ابن سيراخ (16: 26- 17: 14؛ ف 44- 49).

رابعًا: العبادة
هو لا يكرّس إلاّ مقطعًا واحدًا للعبادة (34: 21- 35: 26). هو لا يهتمّ بالتفاصيل الليتورجية كفرائض عباديّة (من رُتب وشعائر). ما يهمّه هو معنى العبادة كما فهمها الأنبياء. ليس من عمل ليتورجي حقيقيّ دون حياة أخلاقية شخصية. فعلى الإنسان أن يجعل أعماله اليومية مطابقة لفعل العبادة الذي يؤدّيه لله. لهذا، "فالذابح من كَسْب الظلم يُستهزأ بتقدمته " (34: 21). تقدمته ناقصة على مثال ذبيحة تحمل عيبًا (لا 22: 20- 21). فلا تحاول أن ترشو الله بعطاياك، فهو لا يقبلها (35: 14). إنّ العبادة الحقيقية تقوم بممارسة الشريعة وبالسخاء تجاه المساكين (35: 1- 4): "من حفظ الشريعة فقد أكثر من التقادم. ومن تمسّك بالوصايا فقد ذبح ذبيحة سلاميّة... من تصدّق فقد ذبح ذبيحة الحمد. مرضاة الرب الإقلاع عن الشر، والإقلاع عن الإثم ذبيحة تكفير".
إنّ الذين يخدمون الحكمة التي تمارس وظيفة عباديّة أساسية في قلب الشعب المُختار أي في الهيكل، في موضع الحضور، "يؤدّون عبادة للقدّوس " (4: 14).

خامسًا: التاريخ المقدّس
تفوّق ابن سيراخ على الحكماء الذين سبقوه، فأدخل في تعليمه تاريخ شعبه. رأى أنّ العالم الهلّيني يسحر الشبيبة، فأراد أن يُبرز إرث شعب إسرائيل العظيم في عالم التاريخ. وكان قد أبرز هذا التراث في مَجال الحكمة التي بدت مثل عطيّة من الرب تتوسّع في قلب تاريخ الله مع الشعب الذي إختاره (3:24 22): فوحي الله التاريخي لشعب إسرائيل هو أكمل تعبير عن الحكمة (23:24).
حين فصّل ابن سيراخ تعليمه الحكمي، لم يَعُد إلاّ نادرًا إلى أحداث محدّدة في هذا التاريخ الماضي (رج 16: 6- 10). وحين رسم المكان الذي جعله الله للإنسان في الخلق، فسّر المسؤولية البشريّة في المجال الآخلاقي عائدَا إلى عهد سيناء (17: 11- 14). إنّ الوحي يضمّ الإنسان وكل تاريخه.
وفي نهاية المجموعة، تعلّق ابن سيراخ بماضي شعب إسرائيل. فرسم وجه أهمّ الأبطال البيبليين من آدم (16:49 آب) حتى نحميا (ف 44- 49). ثمّ زاد صفحة كرّم فيها سمعان البارّ الكاهن الأعظم (50: 1- 24). فمديح الآباء الذي يتبع التسلسل الكرونولوجي هو فنّ أدبي جديد في أرض إسرائيل، وهو يجد صدى له في 1 مك 2: 51 -64؛ حك 10: 1 ي ؛ عب 11: 1 ي.
يمتدح ابن سيراخ هؤلاء الأشخاصِ من أجل ذواتهم، من أجل أعمالهم، ولا يحاول أن يرى عمل الله فيهم. إنّه يعتبرهم أهلاً للمديح، ويقدّمهم مثالاً للمؤمنين. لا شكّ في أنّنا لا نستطيع أن نفتدي بهؤلاء الأشخاص في كل شيء. فهناك من كان جاحدًا لإيمانه أو خاطئًا، مثل الملوك الذين حادوا كلّهم عن الطريق، ما عدا داود وحزقيا ويوشيا (49: 4). وبجانب أبطال بدايات البشرية نستعرض الآباء: موسى مع فرعون وفنحاس، يشوع وكالب، القضاة والأنبياء، والملوك الأخيار منهم والأشرار، ثمّ زربابل ويشوع ونحميا، وأخيرًا سمعان البارّ. ولكنّ المكانة الأولى محفوظة للكهنة. فني أيّام ابن سيراخ تسلم الكهنة أرفع الامتيازات في شعب الله. وقد تمنّى كاتبنا أن تدوم هذه الحالة إلى النهاية (45: 24 – 26؛ 50: 24 النصّ العبري). ولكن يُطرح سؤال لا يجد جوابًا: لماذا أغفل الكاتب اسم عزرا الكاهن وهو الذي لعب دورًا عظيمًا في إعادة بناء الشعب بعد المنفى وفي تكوين الأسفار المقدّسة؟
اهتمّ ابن سيراخ بالتاريخ، فأسّس في إسرائيل فنًّا يشير إلى فلسفة التاريخ الديني.


سادسًا: الخلق
حين يتحدّث ابن سيراخ عن الكون فهو يربطه بالإنسان ليوضح مسألة يطرحها الإنسان عن نفسه أو عن الله.
حين يتكلّم عن الحكمة يراها من خلال العمل الذي تقوم به في العالم: الرب أفاضها كما أفاض روحه (يوء3: 1) على كل أعماله (1: 19). إنّها تملك على الكون كلّه (24: 5- 6) قبل أن تعطى لشعب إسرائيل. إذن هي صورة عن النظام الكوني الذي أراده الله (رج أم 22:8- 31).
ويذكر ابن سيراخ خلق الكون في مكان آخر، ليشدّد على الترتيب الكامل في العالم وعلى الطاعة المُطلقة التي تؤدّيها الكواكب لخالقها (16: 26-30). والإطار الذي نجد فيه هذا الاعتبار هو إطار الحرّية البشرية والمسؤولية الخلقية (15: 11- 18: 14). وإنّ الوظائف المتنوّعة التي تقوم بها عناصر الكون تعود إلى الإنسان. فليس لكلّ الفصول والأيّام الوظيفة عينها. هكذا تتنوعّ ظروف البشر حسب مشيئة الخالق (7:33- 15). وفوق هذا، يكون لخلائق الله في الكون مقاصد متنوّعة: بعضها يحمل الخلاص، والبعض الآخر العقاب. "إنّ كل خلائق الرب صالحة" (33:39). ولكن يتميّز عنها الإنسان الذي هو حرّ ومسؤول عن أعماله الحسنة والسيّئة (39: 12- 35).
وقبل أن يُنشد ابن سيراخ مديح الآباء، يقدّم قصيدة لمجد خالق الكون (42: 15- 43: 33). يعدّد الحكيم المخلوقات كما يفعل الأقدمون (رج أي 38- 41)، ويشدّد أمام كل عناصر الكون على مجد الله الذي يتجلّى، وعلى خضوع كل خليقة لأوامر الرب.

سابعًا: نظرة إلى المستقبل
لا يتحدّث ابن سيراخ إلاّ قليلاً عن المستقبل. وفي ما يتعلّق بالأمّة، فهو لا ينتظر مجيء مسيح يقيم نظامًا جديدًا. إنّه يأمل أن يتابع الكهنوت الصادوقي حضوره على رأس الشعب (50: 24 حسب العبري). يصلّي من أجل إعادة بناء إسرائيل، من أجل تتمة النبوءات، من أجل وحدة الجنس البشري في الاعتراف بالته الواحد الحقيقي (36: 1- 22). إنّه متأكّد من أنّ شعب إسرائيل دائم لا يزول (25:37).
وحين يتحدّث ابن سيراخ عن عواقب الإنسان الأخيرة، فهو لا يقدّم شيئًا جديدًا. يتكلّم عن الموت بلهجة إنسان خاب أمله (14: 11- 19؛ رج 40: 1- 11؛ 41: 1 - 4) وبعد الموت ليس إلاّ الشيول (14: 16) حيث لا يمجّد الإنسانُ الرب (27:17- 28). "ما ينتظر الإنسان هناك هو الدود" (7: 17 حسب العبري). لن يبقى من المائت إلاّ ذكر حكمته (39: 9- 11) أو أعماله الصالحة (41: 12- 13 ؛ 14: 10- 15).

ثامنًا: الحياة في المجتمع
اهتمّ ابن سيراخ، شأنه شأن كلّ معلّم حكمة، بتربية الشبّان الآتين من العائلات الميسورة، وبإعدادهم للحياة. عليهم أن يضطلعوا في المستقبل بمسؤوليات اجتماعية. ولهذا، لن نعجب إذا وجدنا في كتابه عددًا من الاعتبارات والنصائح حول تصرّف الإنسان في المجتمع.
العائلة هي مجال لفَتَ انتباهَه. استند إلى الوصية الرابعة (رج خر 20: 12) فأوصى بالإكرام الواجب للوالدين، لاسيّمَا حين تُضعف الشيخوخة ملكات الوالد (3: 1- 16). واهتمّ ابن سيراخ بالزواج فتحدّث إلى الشبّان ( لم يكن يحقّ للشابّات أن يتردّدن على مدارس الحكمة) فأفهمهم أنّ الزوجْ هو السيّد (33: 20- 40). ولم ينظر إلى المرأة إلاّ من زاوية الزواج. وشدّد على أهمية اختيار الزوجة الصالحة (36: 26- 31) التي يرى فيها أمّ الأولاد وحسب. وفرح بالأزواج السعداء (25: 1) وحذّر طلاّبه من العلاقات الجنسيّة خارج الزواج (9: 1- 9 ؛ 42: 12- 14).
ويرسمِ مطوّلاً مختلف طباع النساء (35: 13- 26: 18). ويقرّأنّ الرجل والمرأة يمكنهما أن يتصرّفَا تصرّفًا مغايرًا للأخلاق (23: 16- 27). وتربية الأولاد قاسية كما كانت عند الأقدمين (23:7 ؛ 22: 6 ؛ 30: 1- 13). وجود البنت في البيت يؤدّي إلى مخاطر جسيمة (24:7- 25؛ 4:22- 5؛ 9:42- 11 ؛ رج تث 13:22- 29). ويطب ابن سيراخ من ربّ البيت أن يكون قاسيًا مع العبيد، ولكن عادلاً وصالحًا (7: 20، 21؛ 10: 25؛ 44: 33). أمّا الأصدقاء، فنختارهم بتؤدة كما نختار الزوجة أو المستشار (37: 1- 6). فهناك أصدقاء صدوقون وهناك أصدقاء كاذبون (12: 8- 18). يقدّر ابن سيراخ الصداقة حقّ قدرها (6: 5- 17)، ويدعونا إلى الأمانة (7: 18؛ 9: 10 ؛ 27: 16- 21).
وينصحنا ابن سيراخ مرارًا بالعطف على الفقراء والمساكين (3: 30- 4: 10؛ 32:7- 36) ويعلّمنا كيف نقرض مالاً وكيف نكفل قريبًا (29: 1-7، 14- 20). وصفات الإنسان المهذّب تدخل في قلوبنا: فينصحنا ابن سيراخ بالتواضع (3: 17 – 24؛ 10: 26- 31)، ويحذّرنا من التكبّر (3: 26- 29 ؛ 10: 6- 18). ويدعونا إلى الاعتدال في الأكل (31: 12- 22؛ 27:37- 31) وفي الشرب (31: 25- 31) وفي الكلام بصورة خاصّة (9 1: 4- 17؛ 20: 5- 8؛ 23: 12- 15 ؛ 13:28- 26؛ 3:32- 13). فنحن نميّز الجاهل من الحكيم حين يتكلّمان (21 : 13- 28).



ب- تعليم الزيادات
أوّلا: التوضيح
عُرفت الزيادات في المخطوطات اليونانية فكانت قصيرة وهدفت إلى توضيح نصّ ابن سيراخ. مثلاً الزيادة في 1: 5 تفسر 1: 6 على ضوء24: 3، 23: "ينبوع الحكمة هو كلمة الله في السماء. وطرقها هي الفرائض الأبدية". وإذ أراد "الشارح " أن يحدّد أنّ إسرائيل هو حصّة الرب (17:17 ب) زاد (18:17): "بكره الذي يغذّيه بالتعليم، ويمنحه نور الحبّ ولا يتخلّى عنه ".

ثانيًا: العناية الإلهيهَ
وهناك زيادات تشدّد على دور العناية الإلهية. حين يفسّر ابن سيراخ أن لا شيء يفلت من نظر الرب الذي يجازي كلّ إنسان، تأتي زيادة (17: 21) فتجعل الله قريبًا: "ولكنّ الرب صالح ويعرف خليقته. هولا يتركها ولا يتخلّى عنها، بل يحافظ عليها" (رج 15:16 – 16 ، 18 ج ؛ 2:18 ب - 3).

ثالثا: الخلاص
ويبرز موضوع الخلاص في زيادات أخرى. فأمام الخطر الذي يأتينا من الأقوياء والمتسلّطين، تَرد زيادة (13: 14) فتفكر: "حين تسمع هذا في منامك، استيقظ وأحبّ الرب كل حياتك، وادعه من أجل خلاصك ". دعانا ابن سيراخ لنعود إلى الرب ونبتعد عن الظلم (26:17 أ)، فجاءت زيادة (26:17 ب) تعمّق الفكرة: "أجل، يقودك بنفسه من الظلمة إلى نور الخلاص ". وحين يشرح ابن سيراخ أنّ الحكمة موجودة في الشريعة، نقرأ زيادة (24: 24) بشكل تحريض: "تقوّ دائمًا بالرب، تعلّق به فيثبتك. الرب القدير هو الإله الواحد ولا مخلّص سواه ".

رابعًا: الحبّ
ويعود موضوع الحبّ مرارًا في هذه الزيادات، ويرتبط بالحكمة أو بمخافة الرب. كان ابن سيراخ قد كتب أنّ الرب يمنح الحكمة لمحبّيه (1: 10 أب)، جاءت زيادة (1: 10 ج د): "حبّ الربّ حكمة مجيدة وهو يعطي الذين يرونه حصّتهم ". ويزيد المُترجم 1 :12 ليكمّل الفكرة القائلة بأنّ مخافة الرب تحمل الفرح: "مخافة الرب عطيّة من الرب وهو يجعل (الإنسان) في طرق الحبّ ". وتدعو الحكمة المؤمنين ليأكلوا من ثمرها (24: 19). وتأتي زيادة مشهورة فتدلّنا على ثمار الحكمة: "أنا أمّ الحبّ الجميل، أمّ المخافة والعلم والرجاء المقدّس. منذ الأزل أعطيت لكلّ أبنائي للذين أختارهم (الرب) ". كان ابن سيراخ قد بيّن أنّ مخافة الرب تتفوّق على أسعد العلاقات البشرية. فجاءت زيادة تبيّن أيضاً أنّ مخافة الرب هي علاقة كغيرها من العلاقات، بل هي أسمى علاقة في الكون: "مخافة الرب هي السبيل الذي به نبدأ أن نحبّه. وبالثقة نبدأ فنتعلّق به ".
وأطول زيادة (26: 19- 27) قد أقحمت في نهاية حديث ابن سيراخ عن المرأة (13:25- 18:26). نجد في هذه الزيادة تفاصيل جديدة وتشابيه مهينة بحق المرأة الضالّة (26: 22- 25). بالمقابل نجد في هذا المقطع ذكرًا لفضائل الزوجة الدينية (23:26، 25) ولاسيّمَا مخافة الرب.

خامسًا: نظرة إلى المستقبل
وأخيرًا جاءت بعض الزيادات، فحاولت أن تتجاوز نظرة ابن سيراخ الضيّقة إلى المستقبل. وإليكَ ملخّصاً للتعليم الذي نجده في هذه الزيادات:
"بعد الموت، يكون لكل إنسان يوم دينونته. يزوره الرب ويبحث في كل أعماله ". بالنسبة إلى الأشرار سيكون ذاك اليوم يوم غضب وانتقام. يُدفَنون في أعماق الأرض ليتحمّلوا مصيرهم من الظلمة والألم. بالنسبة إلى الأبرار، سيكون ذاك اليوم يوم الدخول في العالم الآتي، في العالم المقدّس. سيحصلون على حصّتهم من الحقيقة، ويتنعّمون بالحياة الأبديّة التي هي مكافأة لا نهاية لها، وهي تتضمّن تكريم الله لهم وفرحًا متواصلاً. هناك حالة تتوسّط الموت والمكافأة الابديّة، يتحدّث عنها سي 24: 32 (45 حسب اللاتينية القديمة) وربّما 44: 16 ("في الفردوس").
وإذا أردنا أن نجمل التعليم الذي تقدّمه كلى الزيادات على نصّ ابن سيراخ الأصلي نقول: "نجد موقف الله الأبوي تجاه البشرية، واتّصالاً شخصيًا بين الله والفرد. الله يمنح عطاياه الروحية لمن جعل نفسه مقبولاً. يفهم الضعف البشري ويغفر الذنوب دومًا. ولكن إن ظلّ الخاطئ منغلقًا على التوبة قسّاه الله في ظلمات خلقيّة تخفي عنه نور الوحي الضروري لسعادته. يهتمّ الله اهتمامًا فرديًا بالإنسان. فيجاوب الإنسان على هذا الاهتمام بالمخافة البنوية، بالثقة، بالحبّ الذي يوحّده بالله، بالتوبة التي تعيده إلى الله حين تتحطّم هذه الوحدة بالخطيئة. يتفحّص الله أعمال كل إنسان ويزوّده مع مجازاة تؤمّن له حصته من السعادة أو الشقاء. وفي هذا العالم، من تصرّف حسنًا نال الكرامة والنجاح، ومن تصرّف سيئًا نال العار والخزي وفي العالم الآتي، الانتقام والدمار المباشر للخاطئ، والخلاص والحياة للبار.

بحث ضمن الفصل

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM