الأحد الثالث من زمن العنصرة

الأحد الثالث من زمن العنصرة

الرسالة : 1 كور 2: 1-10

الإنجيل : يو 14: 21-27

جهالة وحكمة أمام الصليب

يا إخوتي، وأنا، عندما جئتكم أيّها الإخوة، ما جئت ببليغ الكلام أو الحكمة لأبشركم بسّر الله، وإنمّا شئت أن لا أعرف شيئًا، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب. وكنت في مجيئي إليكم أشعر بالضعف والخوف والرعدة، وكان كلامي وتبشيري لا يعتمدان على أساليب الحكمة البشريّة في الإقناع، بل على ما يظهره روح الله وقوّته، حتى يستند إيمانكم إلى قدرة الله، لا إلى حكمة البشر.

ولكن هناك حكمةٌ نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم، وسلطانهم إلى زوال، بل هي حكمة الله السرّيّة الخفيّة التي أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا، وما عرفها أحدٌ من رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد. لكن كما يقول الكتاب:"الذي ما رأته عينٌ ولا سمعت به أذنٌ ولا خطر على قلب بشر أعدّه الله للذين يحبّونه". وكشفه الله لنا بالروح، لأنّ الروح يفحص كلّ شيء حتّى أعماق الله.

الزمن الذي بعد العنصرة هو زمن الروح القدس، الذي رافق الكنيسة في انطلاقتها الأولى، بدءًا بأورشليم واليهوديّة والسامرة، وصولاً إلى أقاصي الأرض. وهو لا يزال يرافق الكنيسة، كما يرافق كلّ واحد منّا. هذا الروح، يرسله الآب فيعلِّمنا كلَّ شيء ويدعونا لنترك الجهالة، ونأخذ بالحكمة، فلا نبقى على مستوى الأطفال والطعام الخفيف، بل يجعلنا من الكاملين الذين نضُجت فيهم الحياة المسيحيّة.

1- جهالة أمام الصليب

أمام بولس فئتان من الناس: فئة أُولى تضع شروطها لكي تعرف المسيح. تريد الآيات. لا المعجزات التي أورد الإنجيل عددًا منها، وترك الكثير لأنّه، لو أورد الكلّ لاحتاج إلى الكتب الكثيرة. فالآيات المطلوبة عجيبة. كأن تظلم الشمس. ويزول القمر. تُبهر العيون فيأتي الإيمان! مساكين هؤلاء الناس. قال فيهم يوحنّا: رأوا كلّ هذه الآيات فما آمنوا. وهكذا دلّوا على جهالتهم. على رفضهم لحقيقة يسوع الذي هو المسيح وابن الله، وذلك في أعلى الصليب.

والفئة الثانية جهلة، لأنّها تطلب الحكمة البشريّة التي تُبقي الإنسان على مستوى العالم. ولا تخرجه. إلى هؤلاء تحدّث بولس في أثينة. قلبوا شفاههم أمام كلام يعلو العقل البشريّ. الصليب! علامة العار. القيامة، ظهور أشباح. مضوا وتركوا بولس وحده. ما أرادوا أن يخطوا الخطوة من أجل جهالة خاصّة: جنون الصليب الذي لا يحرِّكه سوى الحبّ المستسلم لله.

2- حكمة الصليب

الناس يعرفون ولا يحتاجون إلى من يعلّمهم. معرفتهم في ذاتهم كما قالب فلسفات قديمة. فلماذا الخروج من ذواتنا؟ ولماذا البحث عن تعاليم تفوق عقل الإنسان؟ المهمّ أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا، كما في أثينة حين جاء بولس إليهم (أع 17: 21). ولماذا لا نأكل ونشرب؟ فإنّا غدًا نموت؟!

حكمة الصليب من نوع آخر. هي عمل قبل أن تكون كثرة كلام. من أراد أن يتبعني فليحملْ صليبه ولا يبقى على جانب الطريق متفرِّجًا على المسيح وهو يحمل صليبه. وإلاّ ينفصل عن الأعمى طيما، الذي ما إن عرف يسوع حتّى سار معه في الطريق (مر 10: 52). والمسيرة صعبة، والطريق ضيّقة. لا شكّ، مثل هذا الموقف جهالةٌ في نظر العالم. ولكنّها الحكمة الحقّة التي لا تتوقّف لدى ما يُرى، بل ترى ما لا يُرى. بولس ترك حكمة العالم اليهوديّ وأخذ بحكمة الصليب. فلو بقي على المستوى الفرّيسيّ لكان واحدًا من الآلاف الذين انطفأ ذكرهم الآن. ولكنّه خاطر. وسمعان القيرينيّ، قبِل بالصليب دون أن يفهم في البداية، ولكن صار في الإنجيل اسمُه مع اسم يسوع. وعُرف ولداه اسكندر وروفس. الناس ماتوا وماتوا. أمّا القدّيسون الذين حملوا الصليب فهم أحياء وإن صاروا، في نظرنا، في عالَم الموت.

3- طريق الكاملين

الكاملون هم الذين هيّأوا أرضهم لغرس الربّ، فأعطوا ثلاثين وستّين ومئة. لا أولئك الذين تلقّوا الكلمة فما اهتمّوا لها فأكلتها الطيور. ولا الذين نبتت فيهم الكلمة بسرعة ويبست بسرعة. لا عمق عندهم، فكيف يثبتون. الكاملون هم الذين يتركون الحليب كالأطفال، ويأخذون الطعام القويّ. الكاملون هم الذين لا يتوقّفون عند المظاهر، فيريدون المسيحيّة قويّة بقوّة العالَم. مثلُ هذه القوّة ستكون ضعفًا في النهاية. وضعف الصليب يتحوّل قوّة. الكاملون هم الذين لا يذهبون إلى هنا وهناك، يرون ظهورًا، يسمعون أخبارًا مدهشة دون أن تتحوّل حياتهم. متى تشبع عينهم وآذانهم؟ متى ينتهي فضولهم؟

ًحقًّا هم أطفال، كما قال بولس عن الكورنثيّين. لهذا اكتفى الرسول بأن يغذّيهم بالحليب، لا بالطعام كأُناس بالغين، يتطلّعون إلى ملء قامة المسيح. هم جسديّون، مجرّد بشر لم يرتفعوا إلى مستوى الإيمان. يهمّهم اللحم والدم والأهواء اليوميّة والرغبات. لهذا تقول الرسالة إلى العبرانيّين (5: 14): الكاملون هم الذين تدرّبت حواسّهم بالممارسة على التمييز بين الخير والشرّ. هم من ساروا وراء يسوع فخبروا حكمة الصليب وارتفعوا إلى مستوى الإيمان والتعليم الكامل في المسيح.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM