أحد الثالوث الأقدس

أحد الثالوث الأقدس

الرسالة : روم 11: 25-36

الإنجيل : مت 28: 16-20

سرّ حبّ الله

يا إخوتي، فأنا لا أريد، أيّها الإخوة، أن تجهلوا هذا السرّ لئلاّ تحسبوا أنفسكم عقلاء، وهو أنّ قسمًا من بني إسرائيل قسّى قلبه إلى أن يكمل عدد المؤمنين من سائر الأمم. وهكذا يخلص جميع بني إسرائيل، كما جاء في الكتاب: "من صهيون يجيء المخلّص ويزيل الكفر عن بني يعقوب. ويكون هذا عهدي لهم حين أمحو خطاياهم". فاليهود من حيث البشارة هم أعداء الله لخيركم. وأمّا من حيث اختيار الله، فهم أحبّاؤه إكرامًا للآباء. ولا ندامة في هبات الله ودعوته. فكما عصيتم الله من قبل ورحمكم الآن لعصيانهم، فكذلك هم عصوا الله الآن ليرحمهم كما رحمكم، لأنّ الله جعل البشر كلّهم سجناء العصيان حتّى يرحمهم جميعًا.

ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه؟ فالكتاب يقول: "من الذي عرف فكر الربّ، أو من الذي كان له مشيرًا؟ ومن الذي بادره بالعطاء ليبادله بالمثل؟" فكلّ شيء منه وبه وإليه، فله المجد إلى الأبد. آمين.

في أحد الثالوث الأقدس الذي فيه نتعرّف إلى أقانيم ثلاثة في اللاهوت الواحد، نودّ أن ندخل في هذا السرّ الذي باسمه تبدأ حياتنا وتنتهي. لن ندرس المعادلة بين الإله الواحد والأقانيم الثلاثة، بل نفهم أنّنا أمام عيلة كبرت لكي تضمّ البشريّة كلّها في الزمان والمكان. والدخول في السرّ لا يعني أن نصطدم بحائط ونقول لا نفهم، بل أن نغوص في سرٍّ عميق عاش منه المؤمنون لا يزالون فتحوّلت حياتهم كلُّها. وهكذا نكتشف ثلاثة أمور: إختيار الله، رحمة الله، حكمة الله.

1- إختيار الله

تلك كانت مسيرة الخلاص التي بدأت مع الآباء، مع إبراهيم رجل الإيمان، وإسحق رجل الرجاء، ويعقوب رجل المحبّة، ويوسف رجل الغفران. بعد أن عاش قبائلُ عديدة قرونًا عديدة حول أورشليم، موقع حضور الله، عادت إلى الوراء. تطلّعت إلى المسيرة التي سارت فيها وإلى أين وصلت؟ وصلت إلى الإيمان بالله الواحد الذي يخبرنا أنّنا على صورته ومثاله. أجل، هو اختيار، هو نظرة عطف من قِبل الله الذي لم يعُد قابعًا في أعلى سمائه. وفي النهاية كان منهم، من قبيلة داود المسيح الذي هو هو الإله إلى الأبد.

فخرٌ كبير أن يحمل الإنسان رسالة. لأنّ الله لا يختارُ شخصًا ولا شعبًا إلاّ من أجل مهمّة يريدها له. فالذين آمنوا إيمان إبراهيم دُعوا لأن يحملوا المسيح إلى العالم. بعضهم قبلوا فكانوا مريم العذراء، والرسل والتلاميذ، بطرس، بولس، أندراوس. ولكنّ القسم الأكبر رفضوا فشابهوا فرعون الذي قسّى قلبه. وفي النهاية، اعتبروا الله ظالمًا. ولكنّ الربّ اختار ولا يندم. وإن تبدّل الإنسان فالله لا يتبدّل، إن لم يكن من أجلنا فمن أجل الآباء، بل من أجل يسوع المسيح.

2- رحمة الله

ما اختارنا الله لأجل استحقاقاتنا. فنحن خطأة. هذا ما قال بولس أيضًا: "ولمّا كنّا ضعفاء مات المسيحُ من أجل الخاطئين في الوقت الذي حدّده الله" (روم 5: 6). وما اختار الله الوثنيّين وأدخلهم في مشروع ابنه بسبب الآباء. فلا آباء لهم مثل الشعب العبرانيّ أو إن كان بينهم من بحث عن الله عن طريق العقل، فالشعب كلّه كان تحت حكم الغضب والعقاب. إختيار الله اختيار الرحمة. هذا ما اكتشفه بولس فقال للمؤمنين الآتين من الوثنيّة: الربّ غنيّ بالمراحم. عاملكم كالأمّ التي تعامل الابن الخارج من رحمها. فلا تتكبّروا أنّ هذا من عندكم. ذاك هو الإله الثالوث الذي نعيّد له: إله الرحمة.

وكما بالنسبة إلى الاختيار، كذلك بالنسبة إلى الرحمة. فالله في رحمته ينادي كلّ واحد منّا. إن كنّا في قطيعه، في رعيّته، فهنيئًا لنا، نسير وراءه كما الخراف تسير وراء الراعي. هو يعرفها، يحبّها، يدعوها بأسمائها. وهي تعرف صوته ولا تريد إلاّ السير وراءه. حينئذٍ تدخل وتخرج وتجد المرعى. ولكن قد نرفض أن نسير وراء إلهنا مثل الابن الضالّ، فنطلب حرّيّة مزيّفة تصل بنا إلى الفقر والتعاسة ورعاية الخنازير ومشاركتهم طعامهم. كلّ هذا رمز إلى ما توصّلنا إليه الخطيئة. وحتّى في ذلك الوقت، الله أبٌ ينتظرنا، وراعٍ يمضي وراءنا ولا يعود إلاّ وهو حاملنا على كتفه. يا ليتنا نكتشف هذا السرّ العميق لدى إله يطلبنا، يبحث عنّا وكأنّه يحتاج إلينا. هو أبٌ هو أمّ. يرحم ويحبّ ويدعونا إلى الرحمة والحبّ.

3- حكمة الله

أمام مخطّط الله، لا نستطيع إلاّ أن نندهش. هذا الإله الثالوث اختار البشريّة قبل إنشاء العالم. جاء الابن في بداية الخلق ليكون الصورة للإنسان والجمال للطبيعة ومن أجل البشر الخطأة قبِل أن يعيش على الأرض. أن يتألّم ويموت. وجاء إلى خاصّته فلم تقبله خاصّتُه، شعبه. جاء إلى العالم، إلى البشر كلِّهم، إلى أيّ عرق ولون انتموا. فما أراد العالَم أن يعرفه. أصنامُه التي يتصرّف بها أهمّ من إله يدعونا إلى الإيمان، وإلى النظر لا بعيون الجسد التي تغشّ مرارًا، بل بعيون إلهيّة ترفع الإنسان إلى مستوى الألوهة، كما قال المزمور: قلت إنّكم آلهة وبنو العليّ كلّكم. الاستماع إلى الأهواء والرغبات الشهوانيّة من حيث المال والطمع والعنف والزنى، أفضل من الاستماع إلى ذاك الذي يقول لنا: طوبى للفقراء بالروح، طوبى للودعاء، طوبى لأنقياء القلوب، طوبى لصانعي السلام.

تلك هي حكمة الله نكتشفها في قلب الثالوث، هي حاضرة وإن تجاهلناها، وفضّلنا حكمتنا البشريّة. نترك العقل وقياساته بحثًا عن السبب والمسبّب. فنتكلّم لغة القلب والروح والإيمان. فالذين قبلوا هذه الطريق علّمهم الله كما لم يتعلّم فيلسوف ولاهوتيّ بحث وقرأ وجدّ. فلماذا لا ندخل إلى مدرسة الثالوث الذي اختارنا برحمته الواسعة. فمعه وحده نستطيع اكتشاف حكمته وغناه ومعرفته.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM