بشرى بالخلاص 61:1-9

بشرى بالخلاص

61:1-9

«روح الربّ عليّ، لأنّ الربّ مسحني». بعد أن قرأ يسوع هذا المقطع الأشعيائيّ في خطبة دشّن بها رسالته في الناصرة (لو 4:6 - 30)، قال: «اليوم تمّ هذا المقطع الكتابيّ الذي سمعتموه بآذانكم» (لو 4:21). إذن، أش 61:1 ي خاص بالعهد الجديد كما هو خاص بالعهد القديم. من أجل هذا، يكون المعنى الكامل لأشعيا في انجيل لوقا. أمّا المعنى الأوّل فنقرأه في حركة تقليد الأنبياء، ولا سيّما بعد العودة من منفى بابل سنة 537.

1 - المحيط التاريخيّ

أخذ الباحثون يتّفقون على اعتبار أش 56 - 66 كوحدة أدبيّة متميّزة عمّا سبقها. فحين نقرأ الكتاب قراءة سريعة نشعر بتحوّل في النظرة بعد ف 55. لقد بدأت العودة من المنفى، غير أنّ الآمال التي حرّكتها كرازة أشعيا الثاني (ف 40 - 55) خابت وكادت تقود إلى الفشل. فضَّل معظمُ المنفيّين اطمئنانات الوضع الجديد، فلبثوا في بابل، ورفضوا العودة إلى أورشليم. أمّا في فلسطين، فالانحرافات التي عُرفت قبل المنفى عادت إلى الظهور: هناك رؤساء لا يستحقّون هذا الاسم فيسمحون بمضايقة الأبرار:

كلاب شرهة لا تعرف الشبع،

وهم رعاة يجهلون التمييز.

كلّ واحد منهم مال إلى طريقه،

وسعى وراء الربح إلى النهاية (56:11).

وسيكون الكلام أقسى في آ 10:

فحرّاس هذا الشعب كلّهم عميان

ولا علم لهم ولا تمييز.

كلّهم كلاب بُكم،

لا يقدرون أن ينبحوا.

حالمون، مضطجعون،

محبّون للنوم.

وعادت عبادة الأصنام إلى الظهور، بعد أن نسي المؤمنون أنّ ما أصابهم هو نتيجة خيانتهم للربّ:

أنتم أولاد المعصية ونسل الغدر.

تتحرّقون شهوة أمام الأصنام،

تحت كلّ شجرة خضراء.

تذبحون أولادكم في الأودية،

تحت كهوف الصخر (57:4 - 5).

انتظر المؤمنون أن يتجلّى الله ويشعّ تجلّيه، ولكنّ الظلام يكتنف الشعب، فيئس الجميعُ من الحياة: هناك النائمون، والمتمدّدون في الرماد، والنائمون في لباس الحداد، والعائشون وسط الخرائب (61:2 - 3). ولكنّ الربّ حاضر هنا، وسنةُ رضاه قريبة. يحلّ الغار بدل الرماد، والفرح بدل الحداد، والنشيد بدل الكآبة. ونقرأ في 57:15 كلاماً مماثلاً:

هذا ما قال العليّ الرفيع،

ساكن الخلود، القدّوس اسمه:

«أسكن في الموضع المرتفع المقدّس،

كما أسكن مع المنسحق والمتواضع الروح

فأنعش أرواح المتواضعين،

وأحيي قلوب المنسحقين.

أراد أشعيا الثالث أن يستعيد مواضيع أشعيا الثاني ويعطيها معنى جديداً من أجل زمن البؤس والشقاء: صارت العودة من المنفى صورة روحيّة عن مشية مع الله (58:6 - 12). أمّا العودة العظيمة لأبناء أورشليم فما تمّت بعد. وحدهم الأبرار يرثون الأرض ويصعدون الجبل المقدّس (56:6 - 7؛ 57:13؛ 65:9؛ 66:20). فلا بدّ من المثابرة على الرجاء بأنّ الأشرار سيزولون فيرذلهم جميع البشر (65:1 - 14؛ 66:24).

2 - تفسير الآيات (61:1 - 9)

موضوع هذه الآيات يرتبط بالمسحة والكهنوت والرسالة. هي مهمّة النبيّ ودعوة تتوجّه إلى الشعب. نقرأ خطّين في هذه القطعة: خطّ منفتح في آ 1 - 3 أ، 6 أ، 8 ب، 9، وخطّ يجعل شعب المنفى فوق جميع الشعوب، فينسى أنّه الخادم المستحقّ لأن يتحمّل العار من أجل النداء الذي تلقّاه:

أ - المسحة (آ 1)

روح السيّد الربّ عليّ،

لأنّ الربّ مسحني له (جعلني له مسيحاً).

أرسلني لأبشّر المساكين (أحمل لهم البشارة، الخبر المفرح)

وأجبر المنكسري القلوب

وأنادي للمسبّيين بالحريّة،

وللمأسورين بتخلية سبيلهم (النور بعد الظـلمة).

لا نجد في العهد القديم كلاماً عن مسح النبيّ سوى في 1 مل 19:16 وهنا. في النصّ الأوّل، تلقّى النبيّ إيليا أمراً بأن يمسح حزائيل ملكاً على آرام، وياهو ملكاً على اسرائيل، وأليشع خلفاً له. قال له الربّ: «وامسح أليشع بن شافاط من آبل محولة نبياً بدلاً منك». فالفعل «مسح» الذي طبّق على أليشع جاء بشكل توازٍ. فالبيبليا لا تشير مرّة واحدة إلى طقس مسحة للأنبياء. فالمسحة ينالها الملوك وحدهم (1 صم 10:1، شاول: الربّ مسحك رئيساً على شعبه). في 1 صم 16:13 نقرأ: «فأخذ صموئيل قرن الزيت ومسح داود ملكاً من بين إخوته، فحلّ روح الربّ عليه من ذلك اليوم وصاعداً». في 2 صم 2:4: «رجال يهوذا مسحوا داود ملكاً». هو طقس نجد عنه رسمة سريعة حين مُسح سليمان الملك (1 مل 1:28 - 40). إذن، جاء اللفظ بشكل استعاريّ في 1 مل 19:16 كما في أش 61:1. فأيّ معنى نعطي لهذه الاستعارة؟

إنّ طقس مسحة الملك له نتيجة سريعة: وضع الربّ يده على من مسحه. وخبرُ مسحة داود ينتهي كما يلي: «منذ ذلك اليوم حلّ (استولى) روح الربّ على داود» (1 صم 26:13). ويوضح مز 89:21 - 22 وضع اليد هذا:

وجدتُ داود عبدي،

وبزيتي المقدّس مسحته.

معه تكون يدي،

وذراعي تؤيّده.

وحين يرتدي الملك الروح، يصبح جديراً بأن يتلفّظ بأقوال الله. وحين أراد الملك داود أن يعلن وصيّته الأخيرة، أعطى لنفسه الألقاب التالية: «داود بن يسّى... ممسوح إله يعقوب». ويواصل: «روح الربّ تكلّم فيّ، وعلى لساني كلمته» (2 صم 23:1 - 2). هكذا تتوضّح استعارة المسحة النبويّة: الروح يكرّس النبيّ ويجعله في خدمة الكلمة.

والتشابه بين 61:1 وأوّل أناشيد عبد الربّ (42:1 - 4) لافت للنظر. في 42:1، يتقبّل العابد الروح ليُقيم الحقّ في الأرض كلّها (آ 1 - 4). في 61:1ي، تكرّس النبيّ لكي يعلن «سنة الرضى» (آ 2). ارتدى السلطة فأعلن إعلاناً. في الحالتين نحن أمام صورة ملكيّة. وهذا سبب آخر يدعونا لكي نطبّق على الدعوة النبويّة ما قيل عن المسحة.

ب - المهمة (آ 2 -3 )

2 أرسلني لأنادي بحلول سنة رضاه،

انتقام إلهنا من أعدائه.

3 لأعزّي جميع النائحين في صهيون

وأمنحهم الغار بدل الرماد،

وزينة الفرح بدل الحداد،

ورداء التسبيح بدل الكآبة،

ويُدعَون سنديان الصدق

وأغراساً يفتخر بها الربّ.

تتضمّن أخبار الدعوة مراراً، الارسال في مهمّة. «من أُرسل؟ من يكون رسولاً لنا» (6:8). «أينما أرسلك تذهب، وكلّ ما آمرك به تقوله» (إر 1:7). «يا ابن البشر، أُرسلك إلى بني اسرائيل» (حز 2:3). وفي أش 61: 1 ي، حدّد هذا الإرسالَ عددٌ من الأفعال: بشّر، جبر، نادى (مرتين)، عزّى، منح. من النادر أن نرى الكتاب يعطي النبيّ عدداً من النشاطات المتنوّعة. وليس بعاديّ أن نتوقّف عند وجهة البناء وحدها. ففي أشعيا يقسو قلبُ الشعب (6:10). وإرميا يقتلع ويهدم قبل أن يبني ويغرس (ار 1:10). أمّا في أش 61، فمهمّة النبي هي إعادة البناء فقط وتعزية النائحين. والقاسم المشترك: حمل البشارة والمناداة بها. هذا ما يوافق مهمّته موافقة عجيبة. فالفعل الأوّل في اللائحة (ب ش ر، بشّر) نقله اليونانيّ بلفظ يحمل كلمة «انجيل». فرسول الأخبار المفرحة (م ب ش ر، 41:27؛ 52:7) الذي تحدّث عنه أشعيا الثاني، يحمل جديداً نُدركه منذ الآن. في 61:1 ي، هي أمور آتية. فالكلمة وحدها تؤسّس الانجيل في 61. ومع «سنة الرضى»، أُعلنت بداية جديدة.

وسيروح أشعيا الثالث أبعد من ذلك، فيشدّد على أنّ حامل الرسالة هو شخص فرد. نظر أشعيا الثاني إلى الشعب ككلّ، إلى اسرائيل الذي أخذ سمات يعقوب وصهيون. أمّا أشعيا الثالث فنظر إلى الأشخاص، المساكين، القلوب المنكسرة، المأسورين، النائحين. ما نظر إليهم من خلال فئات مختلفة، بل على أنّهم أعضاء في جماعة المساكين، فكرّس شقاءاتهم. ومهما يكن تنوّع الأوضاع، فالفقر جرحٌ عميق، وقيود ثقيلة، وسحق للذين يحملونه. إلى هؤلاء النائحين كلّهم، قدّم النبيّ نفسه كالمحرّر، فأعلن «سنة رضى»، «يوم انتقام لإلهنا» (آ 2) أي يوم عقاب. عاد تعليم هذا النبيّ إلى موضوعين معروفين: سنة اليوبيل، ويوم الربّ.

تحدّث سفر اللاويّين عن الاحتفال بيوبيل (لا 25:8 - 17). كلّ خمسين سنة، يعود الانسان فيتنعّم بحرّيته وبأمواله: «تنادون بتحرير أهل الأرض كلّها... ترجعون كلّ واحد إلى ملكه وإلى عشيرته» (آ 10). لا شكّ في أنّ هذه الشريعة لم تطبّق يوماً. غير أن أشعيا الثالث ما زال يدعو المؤمنين إلى مثال من العدالة ظلّ حرفاً ميتاً. إنّما هو لا ينتظر من البشر تطبيق هذه الشريعة، بل من فعلٍ يقوم به الله.

وعودة الفقراء إلى أملاكهم يتضمّن «يوم انتقام»، يوم عقاب. غير أنّ وجهة الانتقام لا تتعدّى نصف آية. وهذا الانتقام (أو العقاب) هو عمل الله، لا عمل البشر: فالعمل النبويّ لا يمتزج مع العمل السياسيّ، بل يهيّئ القلوب لأعمال الله، ويذكّرنا أنّ قضيّة المساكين هي موضوع دينونته الأوّل (مت 25:31 - 46).

ج - الرسالة (آ 4 - 9)

4 ويبنون الخرائب القديمة

ويرمّمون منها ما تهدّم،

ويجدّدون المدن المدمّرة

إلى مدى جيل فجيل.

5 الأجانب (الآتون من كلّ مكان، يقفون) يرعون غنمكم،

والغرباء يكونون فلاّحيكم وكرّاميكم.

6 أنتم تُدعون كهنة الربّ،

وتُسمّون خدّام إلهنا.

تأكلون خيرات الأمم،

وباغتصاب أمجادهم تفتخرون

7 لأنّ الأمم ضاعفوا عاركم،

وجعلوا الخزيَ نصيبكم.

ستمتلكون في أرضهم مضاعفاً

ويكون فرحُكم مؤبّداً.

8 فأنا الربّ أحبّ العدل،

وأبغض الاختلاسَ والظلم.

سأمنحكم بأمانة جزاءكم

وأعاهدكم عهداً أبدياً.

9 يُعرف زرعكم وسط الأمم،

وذرّيتكم بين شعوب الأرض.

فكلّ من رآهم يعرف

أنّهم زرع باركه الربّ.

ستقوم الأرض من دمارها (آ 4). والغرباء يقدّمون خدمتهم للمهمات الماديّة من زراعة ورعاية. أمّا بنو اسرائيل فيُدعون «كهنة الربّ»، «خدّام إلهنا»، «ويأكلون خيرات الأمم» (آ 6 أ). طريقة الكلام هذه مُذلّة للشعوب، للوهلة الأولى. ومع ذلك فهي تقدّم نظرة دينيّة شاملة. فماذا في هذه المفارقة؟

ينطلق البرهان من خر 19:6: «وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمّة مقدّسة». ماذا يعني هذا الكلام؟ أيكون كلّ أعضاء شعب الله كهنة؟ يقول الشرّاح إنّ لفظ «مملكة» ولفظ «أمّة» يقابلون «الحكم» والذين «تحت الحكم»: اسرائيل شعب كهنوتيّ ببنيته التراتبيّة. والمملكة أرضٌ لها مَلِك. والمملكة، في العالم القديم، هي ملك شخص يمارس سلطة، والكهنة يمتلكون السلطة، فيجب عليهم أن يعملوا لقداسة الشعب المكرّس لله. تلك هي الصورة المسيطرة قبل المنفى، ساعة انحصر الأفق في الأمّة.

أمّا في نظر أشعيا الثالث، فالصفة الكهنوتيّة تمتدّ إلى الشعب كلّه، واسرائيل يمارس وساطة كهنوتيّة بالنظر إلى البشريّة. لهذا، فالسمات السوسيولوجيّة (الاجتماعيّة) التي تدلّ على الكهنوت اللاوي في قلب الشعب المكرّس، تُستخدم لتصوِّر موقع اسرائيل وسط الأمم. وبما أنّ الشعب يؤمّن حياة الكهنة اللاويّين، كذلك تؤمّن الأمم حاجات الشعب الكهنوتيّ. غير أنّ اللغة الرمزيّة في أش 61:1 ي (التي أشرنا إليها حين تكلّمنا عن المسحة النبويّة، عن إرسال إلى الفقراء وعن اليوبيل) تمنعنا من أن تعطي معنى مادياً لوضع اسرائيل المميّز، كما يقال هنا. بل يجب أنّ نفهم أن مهمة اسرائيل في العالم، تقابل مهمّة الكهنة في اسرائيل. وإذا عدنا إلى أش 66:20 - 21، يتوسّع المنظار أيضاً. سيأتي الغرباء ويسجدون في أورشليم. وهذا لا يكفي. بل إنّ الربّ سيتّخذ من بينهم «كهنة ولاويّين» (آ 21).

استعادت آ 8 ب موضوع «العهد الأبديّ» من أشعيا الثاني (54:10؛ 55:3)، من إرميا (32:40)، من حزقيال (16:60). والعبارة عينها تدلّ في مكان آخر على عهد الربّ مع نوح (تك 9:16). وهكذا تكون عبارة «العهد الأبديّ» مفتوحة على معنى الشموليّة. ففي تلميح إلى دعوة ابراهيم (تك 12:3) مع «نسلهم يكون مباركاً وسط الأمم»، جعلت آ 9 ب البشريّة كلّها قريبة من البركة التي نالها شعب اسرائيل.

الخاتمة

حين قرأنا 61:1 - 9، اكتشفنا حركة انطلقت من المسحة النبوية إلى تكوين شعب كهنوتيّ وسط الأمم. وسيعبر العهد الجديد عتبة جديدة. منذ الآن، يتشكّل الشعبُ الكهنوتيّ من جماعة المعمّدين الذين اتّحدوا بالمسيح. «أنتم نسل مختار، وكهنوت ملوكيّ، وأمّة مقدّسة، وشعب اقتناه الله» (1 بط 2:9). وفي مسيرة هذه «التتمّة»، جعل المنفى المؤمنين عند منعطف حاسم: في ذلك الوقت، حُرم الشعب من الهيكل ومن الليتورجيا، فاستشفّ إمكانيّة كهنوت روحيّ يجعله مسؤولاً عن مديح الله في الكون كلّ

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM