فرحاً أفرح بالرب 61:10-11

فرحاً أفرح بالرب

61:10-11

عاش بنو يعقوب عاراً مضاعفاً: نصيبهم المهانة، فقال لهم المعادون: أين إلهكم؟ وها هم ينالون ميراثاً مضاعفاً: استعادوا الأرض وعاد الفرح إليهم. فالربّ لا يمكن أن يرضى بالجور، وهو يكره السرقة التي رافقها الدهاء. إنه يحبّ الحقّ وسوف يجازي أبناءه خير جزاء، لأنّ أمانته لا تراجع فيها. وسيجدّد من أجلهم عهده الدائم. هذا العهد الذي عُقد مع ابراهيم، وتوسّع مع موسى، وتثبّت مع داود، وعد الشعب بأن يكون مباركاً وسط الشعوب الذين سيعترفون بالإله الحقيقيّ الذي أقام شعبه كما من الموت. إنّ اعلان مثل هذا العمل الجميل والمستقبل العظيم الذي سيولَد، جعل الجماعة المتقبّلة لعطايا الله، تُنشد نشيد المديح. وكما قال الترجوم: بدأت أورشليم تنشد. ثمّ شاركها النبيّ في نشيدها. وها نحن نقرأ أش 61:10 - 11:

10 فرحاً أفرح بالربّ،

وتبتهج نفسي بإلهي.

ألبسني ثياب الخلاص،

وكساني رداء البرّ.

كعريس يستحمّ بالغار،

أو عروس تتزيّن بالحلي.

11 فكما الأرض تُخرج نباتها،

والحقلةُ تنبتُ زرعها،

كذلك الربّ يُنبت البرّ،

والتهليل أمام كلّ الأمم.

1 - تفسير النصّ (61:10 -11)

أ - فرح وبهجة (آ 10)

تبدّل الوضع كلياً. هو الفرح والتسبيح بدل الحداد والكآبة (آ 3). وما أنبأ به أشعيا الثاني يتحقّق الآن.

41:16 تبتهج أنت بالربّ،

وتفتخر بقدّوس اسرائيل.

انطلاقةُ هذا الفرح في الله، ونقطةُ الوصول في الله. فالله هو الأساس وهو الذروة. فقد ألبس صهيون لباس الخلاص، وكساها بمعطف البرّ. وبعد أن نجت أمّة الله، صارت جميلة مثل عروس في أبهى حلاها، كما قال لها أشعيا الثاني:

49:18 تطلّعي وانظري حولك!

بنوك اجتمعوا كلّهم وعادوا.

تلبسينهم جميعاً كالحلي،

وتتقلّدين بهم كالعروس.

بل شابه الشعبُ عريساً في يوم أعراسه: اعتمر التاج مثل الكاهن الأعظم. أجل صار الغار على رأس المؤمنين، بدل الرماد، وتزيّنوا بزينة الفرح، ولبسوا الرداء الذي يليق بأيّام العيد (آ 3).

ب - خلاص ينبت كالزرع (آ 11)

مجيء هذا الخلاص لا يُقاوَم، كما الشجرة تنمو بقدرة الله. فالذي أعطى الأرض إمكانيّة إخراج النبات، والحديقة المحمية أن تُنمي البذار، سيجعل البرّ ينمو مثل شجر السنديان والبطم: ذلك يكون في جنّة الله، في مدينة أعيد بناء أسوارها، وتحلّى سكّانها بالأمانة للربّ. أبواب أورشليم (60:28: في أبوابك تهاليل النصر)، والمدينة كلّها (62:7: تسبحة في الأرض) والمصلّون لله، كلّهم يُصعدون إلى الربّ تسبيحاً تسمعه الأمم وتُعجب به وتنتظر أن تشارك فيه.

2 - سياق النصّ

في 61:1 - 2 نتذكّر ما قاله لو 4:16 ي عن تدشين رسالة يسوع تدشيناً احتفالياً في الجليل. ورد نصّ أشعيا بحسب السبعينيّة، في إنجيل لوقا، فتبدّل بعض الشيء ليتوافق مع النصّ الانجيليّ. وهكذا نكتشف خبرة الإيمان التي هي في أساس هذا النصّ الذي قُرئ وأعيدت قراءته، كما نكتشف مرمى البلاغ الانجيليّ وأصالته.

هذا النصّ الذي قرأنا (61:10 - 11) جزء من أشعيا الثالث الذي دُوّن بعد المنفى والعودة من السبي. عاد المنفيّون إلى أرضهم، وبدأ عمل البناء من جديد، فاصطدم بعدد من الصعوبات والظلامات من قبل الشعوب المجاورة، بل في قلب جماعة أورشليم ويهوذا نفسها. غير أنّ ما يشغل بال النبيّ ويلفت انتباهه قبل كلّ شيء، هو أنّ العائدين خسروا كلّ عزم، يئسوا، فقدوا الرجاء. خاب أملهم، لأنّهم لم ينعموا بتدخّل الله كما انتظروا.

فموقف شعب الله العائد إلى فلسطين، اختلف كلّ الاختلاف عن موقف المنفيّين الذين تحدّث إليهم أشعيا الثاني. هذا أراد أن يُفهم يهوذا المتشامخ بمدينته المقدّسة وهيكله أنّ الانسان عاجز بقواه الخاصة أن يبلغ إلى الخلاص. فالآن، يجب عليه أن يُولد من جديد، في جماعة هي فريسة القنوط، إلى الثقة بتدخّل الله الحيّ. ولكنّ هذا التدخّل لن يتمّ إلاّ مشروطاً: والشرط الأساسيّ هو أن لا يجدّد الشعب الضلال الذي سبّب المنفى، حين حسب فقط حساب القوى البشريّة.

3 - مهمّة النبي وجواب الشعب (ف 61)

يحتلّ ف 61 قلب ف 60 - 62 التي نحوها تتّجه كلُّ أقوال أشعيا الثالث. وعدَ الربّ بأن يتدخّل بشكل خارق وناجع من أجل صهيون. فأعلن ف 60 و62 مجد أورشليم الجديدة. وتمّ تدخّلُ الله بواسطة إعلان النبيّ، فتحوّل «المساكين» (ع ن و ي م) إلى «سنديان البرّ» في وسط الأمم. وجواب هؤلاء هو هتاف الفرح ونشيد فيه يسبّحون الله. وها نحن نستعيد عناصر هذه النظرة الشاملة.

أ - النبيّ

ونطرح السؤال: من هو هذا النبيّ؟ هناك من قربه من «عبد يهوه» (عبد الربّ) الذي يتحدّث عنه أشعيا الثاني. ولكن يبدو أنّ هذا ليس المعنى الأصيل للنصّ. فالسمات التي يعطيها لنفسه (المسحة، الروح في آ 1 - 2) ترسم وجه نبيّ. ثمّ إنّ السياق الذي فيه يظهر هذان الشخصان ومضمون مهمّة كلّ منهما، يتضمّنان عدداً من الاختلافات. ففي 61:1 ي، تقدّم لنا مهمّةُ النبيّ بعد المنفى: عليه أن «يبشّر»، أن «يؤنجل»، يحمل انجيلاً (وخبراً سارّاً)، انجيل السلام والتحرير.

ب - المساكين

صُوِّر المؤمنون ومضمون رسالة النبيّ بواسطة عبارات وصور تُوافق المحيطَ البعد منفاوي وتُقاربه. فشعب الله تألّف في تلك الحقبة من «قلوب منكسرة»، من «أسرى»، من «سجناء». وكلّهم من الحزانى والنائحين. حينئذ نفهم عبارة «سنة رضى» (أو سنة نعمة) التي تدلّ على السنة اليوبيليّة، وفي سياق يعني «الخلاص» بشكل عام تجاه «يوم الانتقام» أو يوم الحكم والعقاب (61:2 ب). غير أنّنا نودّ أن نلفت الانتباه إلى اللفظة الأولى التي استعملها «البلاغ» الانجيليّ: المساكين (ع ن و ي م). هو موضوع أساسيّ في العهد القديم، موضوع «فقراء يهوه» الذي نجده في ملء غناه في العهد الجديد (طوبى للمساكين بالروح، مت 5:3).

«ع ن و» هو «المنحني، صاحب موقف الخضوع، المتواضع، الذي يجد نفسه أدنى من الذي هو قربه. كما يدلّ اللفظُ على العلاقة الدينيّة في وجهتها الأساسيّة: السجود في تواضع وخشية أمام سرّ الله الحيّ وقصده الخلاصيّ.

مثل هذا المعنى يوافق المحيط الحياتي لبلاغ أش 60:1 ي، الذي توجّه إلى شعب احتاج احتياجاً كبيراً إلى انفتاح على قصد الله السريّ، وإلى انتظار عمله بثقة غير مشروطة. في هذا المنظار، اتّخذت لوناً دينياً ألفاظ تُصوّر حالة العائدين بما فيها من حزن وسوء حال (الكآبة، العبوديّة، القنوط). وانكشف هذا الموقف على أنّه الوضع المثاليّ لكي يتدخّل الله بكلّ قدرته الربيّة، وحبّه تجاه شعبه المختار.

ج - جواب الشعب

ونسمع في 61:10 - 11 جواب جماعة المساكين بما فيها من يقين وفرح. فتدخّلُ الله أكيدٌ، لأنّه إله بار، أمين لقصده الخلاصيّ. وإذ نصل إلى هذه النقطة، نقدّم فكرة قصيرة حول أشكال الموقف الروحيّ وتدخّل الله، كي ندرك إدراكاً أفضل روح هذه الفصول بحجمها والمعنى الخاص للقاطعة «أمام جميع الأمم» (آ 11 د).

تأثّر أشعيا الثالث بنبيّين كبيرين عاشا في المنفى: حزقيال وأشعيا الثاني. ولكن نقصَهُ التعليمُ عن «الروح» كما في حزقيال، ونظرة التحوّل التي شدّد عليها إرميا. فالوضع الحاضر يستطيع أن يشرح هذا النقص عند أشعيا الثالث، الذي انطبع بتيار وطنيّ متطرّف، فما شدّد على شموليّةِ سابقِه أشعيا الثاني. سيطر هذا التيّار، ولكنّه في شكله المعتدل، لم يستبعد خلاص سائر الشعوب. فخلاصهم يمرّ عبر اسرائيل وخبرة الإيمان عنده. عندئذ نفهم تشديد أشعيا الثالث على الهيكل، على التوراة كينبوع خلاص، وعلى الأولويّة المعطاة للشعب العبريّ.

4 - بعد اش 61 في سفر أشعيا

من الصعب أن نحدّد متى انتهى جمعُ كتاب أشعيا. فيبدو أنّ مختلف أقسام هذا السفر تمتدّ على حقبة طويلة جداً، من المرحلة النبويّة قبل المنفى إلى مرحلة جليانيّة جاءت بعد المنفى بزمن طويل. فمثلُ هذه الظاهرة لها تأثير على تدوين كلّ فصل، بحيث لا يكشف كامل معناه إلاّ عبر عمل تشريح حتى الدخول في المؤلَّف النهائيّ. ولنقُل حالاً إنّه يصعب علينا أن نحلّل كلّ الغنى التدويني في ف 61. لهذا نكتفي ببعض اعتبارات تساعدنا على استشفاف هذا الغنى.

إنّ خبرة المنفى وما فيها من ألم، دفعت النبيّ لكي يتجاوز انتظار مجيء قريب لملك مسيحاني ذات طابع وطنيّ (أولويّة يهوذا) كما في أشعيا الأوّل: في هذا الإطار، بدا الملكُ المسيح وملكُه في وجهة متخصّصة. وأبرز أشعيا الثاني هذا التطوّر فتحدّث عن مملكة الشمول، التي تنفتح على جميع الأمم بدون تمييز. هذا مع العلم أنّ النبيّ لم يستطع أن يتخلّص بشكل تام من فكرة أولويّة اسرائيل. والعودة من المنفى ولّدت من جديد الأمل باسرائيل قويّ ساعة واصل التيار الشموليّ تأثيره، بشكل من الأشكال. وتضمّنت هذه النظرة خطراً كبيراً هو العودة إلى نمط دينيّ ندّد به إرميا في خطبته على الهيكل.

هذا ما قال الربّ القدير، إله اسرائيل: «أصلحوا طرقكم وأعمالكم، فأُسكنكم في هذا الموضع. لا تتّكلوا على قولكم: هيكل الربّ! هيكل الربّ! فتخدعون أنفسكم. بل بالأولى، أصلحوا طرقكم وأعمالكم، واقضوا بالعدل بين الواحد والآخر، ولا تجوروا على الغريب واليتيم والأرملة، ولا تسفكوا الدم البريء» (إر 7:3 - 6).

كان عمودي إعادة البناء الهيكلُ والشريعة: نظامان خيّران إذا نحن أحسنّا فهمهما. ولكنّهما يحملان الخطر إن اعتبرناهما أداة سحريّة لخلاص نناله بمعزل عن الله. وكانت ردّة فعل «مساكين الربّ»: يقوم جوهر الديانة الحقّة بأن «ننحني» أمام الله الحيّ. وبحسب عقليّة «فقراء اسرائيل»، يستعدّ الانسان منذ الآن أن يتقبّل وحي «عبد الربّ»، البار، المسكين. هو المختار. هو مرسل الله الذي يخلّص جميع الشعب، يخلّص البشريّة كلّها. جهوزيّته التامّة تجاه الربّ هي النموذج الحيّ للانسان الدينيّ. ووجهه ورسالته المنطبعان بطابع فائق الطبيعة (يسوع هو عبد الربّ) صارا الطريق الوحيد للخلاص. فهو من يقيم الملكوت الاسكاتولوجيّ الذي يصوّره أش 24 - 27 بأسلوب جليانيّ، كما في سفر الرؤيا.

الخاتمة

بعد أن جعلنا أش 61 في سياقه، نستطيع أن نكتشف الجدّة والقوّة في عبارة تستعيدها أقوال النبيّ في فم يسوع. نحن أمام إعلان عبد الربّ للمساكين، والتأكيد بأنّ الملكوت تحقّق بشكل نهائيّ، وأنّ الأزمنة الأخيرة حلّت. فمجيء المسيح يُجري في الانسان تحوّلاً جذرياً بحيث يبني نمطاً جديداً من العلاقات مع الله، مع الناس، مع الكون، نمطاً جديداً من ديانة القلب، كما يتحدّث عنها إرميا، ديانة الروح التي أعلنها حزقيال.

وتُصبح هذه العلاقة الجديدة ممكنة، بعد أن تجلّى حبّ الله تجلّياً تاماً ومتعالياً في المسيح، فنعم به جميعُ البشر من دون تمييز. حينئذ ترتّبت علاقة فيها يؤدّي العبادة لله أناسٌ تحوّلوا، وفيها الشريعة الوحيدة التي تلغي القديمة، هي شريعة الروح (روم 8:22 ي).

كلّ هذا يتلخَّص في الوصيّة الجديدة التي أعطاها المسيح لتلاميذه: «أحبّوا بعضكم بعضاً، كما أنا أحببتكم» (يو 13:34). وفي الوقت عينه، ينضمّ جوابُ الانسان إلى معجزات أجراها الله، مع ملء ارتباط الإيمان بما فيه من فرح، لدى المساكين الذين يجدون نموذجهم في العذراء مريم، صورة الكنيسة (لو 1:46 -

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM