مسيرة الشعوب إلى أورشليم الجديدة 60:1-6

مسيرة الشعوب إلى أورشليم الجديدة

60:1-6

تشكّل ف 60 - 62 كتيّباً له وحدته الخاصّة. إذا وضعنا جانباً 61:1 - 3 (دعوة النبيّ) و61:4 - 9 (نداء إلى الشعب الجديد)، نرى أنّ موضوع أورشليم الجديدة يجد فيها توسّعاً يبدو في أشكال مختلفة. ويستعيد ف 60 قولاً حُفظ في حج 2:6 -9 .

6 هكذا قال ربّ الأكوان:

مرة بعد، بعد قليل،

أزلزل السماء والأرض،

والبحر والبرّ.

7 وأزلزل جميع الأمم

فتأتي كنوز كلّ الأمم

لتملأ هذا البيت مجداً.

8 لي الفضة ولي الذهب،

يقول ربّ الأكوان

9 وسيكون مجد هذا البيت الأخير،

أعظم من مجده الأوّل.

وفي هذا الموضع أعطي السلام،

يقول ربّ الأكوان.

استعاد أش 60 هذا النصّ وطبّقه على المدينة المقدّسة، بعد أن قرأه على نور 49:14- 26 و52:1 - 17:

رنّمي يا أورشليم

أجيدي الترنيم واهتفي.

وسِّعي أرجاء خيامك

لا تخافي، فأنت لا تُخزين ولا تخجلين.

ونقرِّب النصّ الأشعيائيّ من خبر تدشين الهيكل الجديد، سنة 515. «ونجح الشيوخ في بناء الهيكل... ودشّنوه بفرح، وقرّبوا عند تدشينه مئة ثور...» (عز 6:14، 19 - 22). ولكن عبر أورشليم التاريخيّة، كعاصمة مملكة يهوذا، التي تستعيد مكانتها في التاريخ المقدّس بفضل العبادة التي أعيد تنظيمها، انطلق النبيّ من أفق في زمانه، ووجّه نظره إلى أورشليم المثاليّة التي حيّاها في شعر غنائيّ. بعد أن ناداها في آ 1 - 3، وصف التطواف الذي يأتي بجميع الأمم إلى هذه المدينة المقدّسة (آ 4 - 9). وفي النهاية، وصف مجدَها في الأزمنة الأخيرة (آ 10 - 22).

والنصّ الذي نتأمّل فيه يقول: إن كانت الأمم تجيء إلى أورشليم، فهي لا تجيء لترى فيها عاصمة زمنيّة تخضع لها الخضوع السياسيّ. بل لأنّها موضع تجلّي الله (تيوفانيا) في الأزمنة الأخيرة، ساعة يكشف الله مجده على عيون الكون.

1 - يتجلّى مجد الله (60:1 - 2)

1 قومي استنيري، فنورُك جاء،

ومجد الربّ أشرق عليك.

2 ها هو الظلام يغطّي الأرض

والسوادُ الكثيفُ الأمم.

أمّا عليكِ فيُشرق الربّ

وفوقَك يتراءى مجدُه.

الكلام يتوجّه إلى أورشليم، وإن كانت آ 1 لم تقل شيئاً. فإن آ 13 تدلّ بوضوح أنّ الكلام يتوجّه إلى «المدينة المقدّسة»:

إليك يجيء مجدُ لبنان:

السرُو والشربين والسنديان معاً،

فيكون زينة لمقدسي،

ومجداً لموطئ قدميّ.

غير أنّ النبيّ يشاهد المدينة في مجدها الاسكاتولوجيّ. والكلام عن النور في آ 1 - 3، لا يترك مجالاً للشكّ. في 9:1 لمحنا التعارض نفسه بين الظلمة والنور، للكلام بشكل رمزيّ عن مناخ الألم الذي غرق فيه شعب الله «في الزمان الأول» بسبب خطاياه. ثمّ للكلام عن الفرح بسبب الخلاص الذي ناله «في الزمان الآخر».

أمّا هنا، فجميع شعوب الأرض غرقت في الظلمة (آ 2 أ): هو رمز إلى حالة التعاسة بعد أن دان الله البشريّة الخاطئة وحكم عليها. وفي قلب هذه الظلمات، تظهر المدينةُ المقدّسة التي ستكون أوّل من ينعم بنور الخلاص، لتكون وسط البشر العلامة الوحيدة لحضور الله. فصورة النور الذي يُشرق على أورشليم مثل الضحى (آ 3)، نال تحديداً ذات بُعد كبير: «جاء نورك، ومجدُ الربّ أشرق عليك»

ما اختبرَتْهُ أورشليم هو تجلّي مجد الله الذي وعد به الله شعبه (40:5) لكي يعزّيه. «يظهر مجد الربّ، ويراه جميع البشر معاً». ففي بلاغ التعزية، كان إطار هذه التيوفانيا العظيمة، عودة بني يهوذا إلى أرض الموعد، في شكل خروج جديد: الله يسير أمام شعبه في البريّة. أمّا هنا، فالعودة إلى الأرض المقدّسة قد تمّت، ومجد الربّ أشرق على المدينة، كما سبق له وحلّ على جبل سيناء، في زمن العهد الأوّل (خر 24:16 - 17): «عليك يشرقُ الربّ، وفوقك يتراءى مجده» (آ 2 ب).

نستطيع أن نستشفّ الرنّة المسيحيّة لهاتين الآيتين. ففي المعنى الحرفيّ، هما تشيران بشكل مباشر إلى حدث يجب أن يجد فيه كلّ التاريخ الاعداديّ، تمامَه وكماله: فتجلّي مجد الله، ومشاهدته مشاهدة مباشرة بعيون بشريّة، يعنيان اجتياح عالم الأبد في الزمن. ويُدشّن العالم الجديد، حيث لا تحتاج أورشليم بعدُ إلى نور الشمس والقمر لتستنير، لأنّ الربّ يكون لها نوراً. هذا ما قال الربّ لمدينته في 60:19 - 20:

19 لا الشمس تنيرك في النهار،

ولا القمر بضيائه ينير ليلك،

بل أنا أكون بهاءك.

20 شمسك لا تغيب من بعد،

والقمر لا يُصابُ بالنقصان،

لأنّ الربّ يكون نورك الدائم.

وجاء العهدُ الجديد ليتمّ هذا الوعد الذي يتجسّد في ثلاثة أزمنة متعاقبة. في زمن أوّل، تجلّى مجدُ الله بشكل خفيّ في بشريّة يسوع. وعبر معجزاته، استشفّه تلاميذه بحيث عرفوا يسوع وآمنوا به. نقرأ بعد عرس قانا: «أظهر مجده فآمن به تلاميذه» (يو 2:11) ونقرأ في يو 1:14: «والكلمة صار بشراً وسكن بيننا، فرأينا مجده، مجداً ناله من الآب كالابن الوحيد». لهذا استطاع يسوع أن يحدّد نفسه على أنّه «نور العالم» (يو 8:12).

في لحظة من اللحظات، بدا الموت وكأنّه يكسف هذا النور. ولكن مع قيامة يسوع، ظهر من جديد في شكل آخر، في قلب العالم: بكرازة الانجيل، «الله الذي قال: ليشرق نور من قلب الظلمة، ينير الآن قلوبنا لتشعّ معرفة مجد الله الذي على وجه المسيح» (2 كور 4:6). غير أنّ الزمن الثاني هذا، هو مسيرة طويلة فيها تتحقّق مواعيد الله تحقّقاً تاماً.

والزمن الثالث نقرأه في سفر الرؤيا: لقد صوّر الرائي مسبقاً أورشليم الجديدة، في نهاية التاريخ. رآها تنزل من السماء وفيها مجد الله (رؤ 21:10). وإذ أراد أن يصفها، استعاد كلمات النصوص النبويّة. تذكّر أش 60:1 ي في رؤ 21:10 (أراني المدينة المقدّسة، أورشليم)، 23 - 26 (لا حاجة للمدينة إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأنّ مجد الله ينيرها ومصباحها الحمل).

هذه الأزمنة الثلاثة التي تعطي أش 60 معناه النهائيّ، تدلّنا على الموضوع الحقيقيّ حين نحتفل بعيد الغطاس (اعتماد المسيح) والظهور الالهيّ: تجلّى المسيح ثلاث مرات: في حياته على الأرض. في كنيسته. وفي مجيئه الثاني. فسرّ الظهور الذي اندرج في التاريخ بولادة المسيح، يبقى واقعاً آنياً. غير أنّ رجاءنا يبقى موجَّهاً نحو ملئه النهائيّ.

2 - أورشليم علامة حضور الله والوحدة للبشر (60:3 - 6)

3 فتسير الأممُ في نورك

والملوك في ضياء إشراقك.

4 إرفعي عينك حولك وانظري:

كلّهم اجتمعوا وأتوا إليك.

بنوك يأتون من بعيد

وبناتك يُحملن في الأحضان.

5 حينئذ ترين: تكونين منيرة

ويخفُقُ قلبُك ويكبر.

ثروة البحار تنتقل إليك،

وغنى الشعوب إليك يعود.

6 قوافل الجمال تغطي (أرضك)،

ومن مديان وعيفة بواكيرها.

كلّهم يأتون من سبأ،

حاملين الذهب والبخور،

ومبشّرين بأمجاد الربّ.

نتوقّف الآن عند الوجهة الثانية من السرّ: عند المدينة التي فيها تجلّى مجد الله. في اللغة الرمزيّة الدينيّة، في العهد القديم، كان لأورشليم مدلولان اثنان. من جهة، هي عاصمة وطنيّة (بيت يهوذا، نسل داود). وهي العلامة المنظورة لوحدة الشعب، حتى بعد أن انقسم الشمال عن الجنوب، وتكوّنت مملكة اسرائيل (عاصمتها السامرة) تجاه مملكة يهوذا (عاصمتها أورشليم). قال مز 122:3: «أورشليم المبنية كمدينة، توحِّد وتجمع بيننا». صارت شخصاً حيّاً، واتخذت سمات امرأة فمثّلت الشعب نفسه. هي أمّ وبنو اسرائيل أولادها.

49:14 قالت صهيون: «تركني الرب!

تركني ونسيَ السيّد».

15 فأجاب الربّ:

«أتنسى المرأة رضيعها

فلا ترحم ثمرة بطنها؟

لكن ولو أنّها نسيَت،

فأنا لا أنساك يا أورشليم».

الربّ بدا كالأمّ. ومثله أورشليم. فكما كان الملك يمثّل حضور الله على الأرض، ويكون قائم مقام الله، هكذا صارت أورشليم رمز حضور الله الذي يقول لها:

18 تطلّعي وانظري حولك،

بنوك اجتمعوا كلّهم وعادوا.

تلبسينهم جميعاً كالحليّ،

وتتقلّدين بهم كالعروس.

ويتواصل الكلام في ف 49 عن بنات أورشليم وبنيها، وكيف يعودون إليها. أمّا ف 51، فيذكر البنين الذين ربّتهم، الذين ولدتهم (آ 18). هذه المدينة كانت عاقراً لا ولد لها، فعرفت أوجاع الولادة (54:1).

وأورشليم أكثر من عاصمة وطنيّة. هي عاصمة دينيّة. اختارها الله له مقاماً. قال مز 132:14: «هذه هي دياري إلى الأبد. فيها أقيم لأنّي اشتهيتُها». وهذه المدينة تعني بالنسبة إلى بني اسرائيل حضور الله وسط أخصّائه.

عرف أش 60 أوّل هذين الموضوعين: أورشليم هي أمّ. وأبناؤها المشتّتون يجتمعون (آ 4). ونقرأ 60:9:

جزر البحر تنظر إليّ (يقول الربّ)

وسفن ترشيش في الطليعة،

لتحمل بنيك من بعيد،

ومعهم الفضّة والذهب

لاسم الربّ إلهك

لقدّوس اسرائيل الذي مجّدكِ.

اذن، نحن أمام واقع بشريّ صريح، وإن نظر إليه النبيّ في منظار اسكاتولوجيّ: هذه المدينة هي رمز الشعب الجديد الذي سينعم بالخلاص. غير أنّ اللهجة الوطنيّة التي قرأناها في أكثر من نصّ تاريخيّ أو مزموريّ، اختفت هنا بشكل فريد. فلا يأتي فقط اليهود المشتّتون (الأبناء) إلى أورشليم من عمق منفاهم (آ 4). بل يتطلّع إليها الأمم الوثنيّة وملوكها (آ 3). يأتون من كلّ جانب وهم يحملون كنوزهم (آ 5 - 7).

هل نحن أمام ردّة فعل على الوطنيّة الدينيّة المتزمّتة التي حلمت بأن تستعبد الكون لاسرائيل؟ كلا. فالسبب الذي لأجله يأتي جميعُ البشر إلى أورشليم، لا يرتبط بالنظام السياسيّ: مجد الربّ يتجلّى في أورشليم (آ 2 - 3). فهي لجميع البشر علامة حضور الله على الأرض. والجغرافيا الرمزيّة التي تجعل من هذه المدينة قلب الكون، لها بعدٌ دينيّ محض.

لا شكّ في منطق الصور، أن نرى بني المضايقين ينحنون أمامها (آ 14: يسجدون لأسافل قدميك)، ويعيدون بناء أسوارها (آ 10: الغرباء يبنون أسوارك). أمّا النشاط الوحيد الذي يتمّ فيها، فهو خدمة الله وعبادته. وينتج عن هذا العمل الذي فيه قدّس الله مدينته تقديساً كاملاً، أنّ أورشليم الجديدة تقدر أن تكون أيضاً علامة وحدة الجنس البشريّ كلّه بعد أن تصالح مع الله. هذا الموضوع الذي هو امتداد لتشتّت البشريّة في بابل (تك 11:1 ي)، نجده في نصوص نبوية أخرى: أش 22:1 - 4؛ 66:18 - 21 (أجمعُ شمل جميع الشعوب والألسنة ليروا مجدي). رج زك 14:16 (ويجيء الباقون من كلّ الأمم) مز 87:1 ي: مصر، بابل، فلسطية، صور، كوش: «كلّ الأمم وُلدا فيها» (آ 5).

استعاد النبيّ هنا صور الحجّاج الذين كانوا يأتون إلى الهيكل، فأرانا تجمّعين اثنين: تجمّع بني اسرائيل المشتّتين (آ 4). وتجمّع الأمم التي انقسمت بعضها على بعض: مديان، عيفة، قيدار، نبايوت، الجزر، ترشيش. وفي النهاية لبنان (آ 6، 7، 9، 13). أخيراً، اجتمعوا كلّهم في خدمة الاله الوحيد الواحد، الذي كشف مجده فوق أورشليم مثل شمس شارقة. وهو حصراً هدفٌ عباديّ أن يحمل إليها «غنى الأمم» (آ 5)، «الذهب والبخور» من سبأ (آ 6). فالحجّاج الآتون من كلّ مكان، «يُنشدون تهاليل الربّ» (آ 6 ج) وأمجاده.

عرف المسيحيّ في هذه المدينة أورشليم الجديدة. هي «أورشليم الآتية من العلاء». هي «أمّنا» (غل 4:26). هي كنيسة يسوع المسيح التي وُصفت هنا على أنّها موضع ظهور الله حيث تتجمّع البشريّة المصالحة. وحضورُ الله فيها يؤمّن لها قداسة تجعل الناس يأتون إليها. هي تجتذبهم لأنّ أصلها سماويّ، ممّا يتيح لها أن تتجاوز الحواجز بين الأمم والشعوب، وتدلّ على أنّها جامعة، كاثوليكيّة.

في مت 2:1 ي، قدّم خبرُ المجوس موضوع الشموليّة الذي هو جوهريّ في لاهوت الكنيسة. غير أنّ نصّ أش 60 يتطلّع إلى أبعد من حياة يسوع على الأرض. فتجلّى مجد الله على أورشليم، قد حصل بقيامة الربّ، وبسبب ذلك تنفتح الكنيسة اليوم على بني اسرائيل وعلى الأمم الذين تصالحوا (غل 3:28). غير أنّ الكنيسة ما زالت مشدودة نحو ملءٍ نهائيّ لن يحصل إلاّ مع عودة الربّ. وذلك حين تأتي السماء الجديدة والأرض الجديدة. حين تنزل المدينة المقدّسة من السماء كعروس تزيّنت لعريسها (رؤ 21:1 - 2). حينئذ يتمّ الوعد السريّ الذي تحدّث عنه النبيّ، فقال رؤ 21:24: «تسير الأمم في نورها، وملوك الأرض يأتون إليها حاملين كنوزهم».

الخاتمة

شدّدت النصوص على خيرات الأرض التي يقدّمها الشعوب من أجل عبادة الله. أما تجاوزَ الزمنُ هذا الموضوع؟ فعلى الكنيسة أن تقدّم «عبادة روحيّة» تنتمي إلى نظام آخر للأشياء. هذا ما قيل. ولكن يجب أن لا ننسى معنى هذه العبادة. فالوظيفة الجوهريّة في الكنيسة هي أن تكرّس لله ثمرة العمل البشريّ، مع كلّ القيم التي تُنعش اليوم حضارات البشر. تمتم أش 60 الفكرة في لغة رمزيّة قدّمت خبرة الشعائر في العهد القديم. وجاء العهد الجديد فانطلق من إطار المواعيد النبويّة ليُفهمنا أنّ الله تجلّى على أرضنا، بحيث ما عدنا ننتظر سوى مجيء المسيح الثاني الذي يكمّل بشريّتنا بلاهوته، وضعفنا بقوّته، وموتنا بقيا

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM