بيت لجميع الشعوب 56:1-8

بيت لجميع الشعوب

56:1-8

هذه الآيات الأولى التي تفتح القسم الثالث من أشعيا (ف 56 - 66)، تورد قراراً نبويّاً بالغ الأهميّة. ففي جماعة أورشليم، خلال العقود الأولى التي تلت نهاية المنفى (538 ق م)، تخوّفت مجموعة الغرباء. صاروا عديدين بسبب الاجتياحات العديدة فتخوّفوا: أترانا نُقبَل في قلب الشعب المختار؟ قال هؤلاء: «الله يفصلنا عن شعبه، لا محالة» (آ 3). وقال الخصيان الذين مُنعوا من حياة زوجيّة عاديّة: لا احترام لنا ولا تقدير. وهكذا نُستَبعد من الجماعة.

سألوا النبيّ، أو جاء من يسأل النبيّ عنهم. هذا النبيّ الذي لا نعرف اسمه هو من تلاميذ المدرسة الأشعيائيّة. حمل إليهم من قبل الله قولاً لا نجد مثله في الانفتاح والشموليّة، في كلّ العهد القديم. ما اكتفى بأن يهدّئ الخواطر وينزع القلق من الذين أحسّوا نفوسهم متروكين، بل فتح أمامهم طرقاً من النور. وإذ فعل ما فعل، أعلن موقف يسوع الذي ما اهتمّ فقط ببني اسرائيل، بل أيضاً بالغرباء: لا يظنّ أحدٌ أنّه رُذِل من جماعة الخلاص. كلّ بني آدم هم من هذه الجماعة (آ 1 - 2). إذن، الغرباء والخصيان أيضاً (آ 3 - 8)، شرط أن يتعلّقوا بالله، ويحفظوا السبت، يوم الراحة المكرّس للربّ، وأن يكون سلوكُهم في هذا الخطّ من العبادة.

1 - الحقّ والعدل (56:1 - 2)

1 هذا ما قال الربّ:

إحفظوا الحقّ واصنعوا العدل،

فخلاصي اقترب أن يجيء،

وبرّي أن يظهر.

2 هنيئاً لمن يعمل ذلك،

ابنُ آدم الذي يتمسّك به

ويحفظ السبت فلا يُدنّسه،

ويصون يده من عمل كلّ شرّ.

سبق النبيّ (أشعيا الثاني) فأعلن أكثر من مرّة، قبل نهاية المنفى أنّ خلاص الله صار قريباً. هو يصل. وبرّه سوف يُكشف. قال:

يظهرُ مجدُ الربّ،

ويراه جميع البشر معاً (40:5).

برّي قريبٌ وخلاصيّ آتٍ،

وذراعاي تحكمان الشعوب.

حتّى الجزُرُ تنتظرني،

وعلى ذراعي تعتمد (51:5).

لا شكّ في تدخّل الله القريب لخير شعبه. وقد بيّن ذلك من قبلُ، حين وضع حداً للنير البابليّ. وهو سيواصل عمله فيمنح عطاياه بسخاء. ولكن إذا أراد المؤمن أن يستفيد منها، عليه أن يفتح قلبه ليتقبّل. كيف يكون ذلك؟ يحفظ الحقّ ويصنع العدل. أو: الصدق. يكون صادقاً في أقواله وأعماله. هذه التوصية المضاعفة نقرأها أكثر من مرّة في الكتاب، سواء في أسفار الأنبياء أو المزامير أو النصوص التشريعيّة. مثلاً قال عاموس: «تحوّلون العدل إلى علقم، وتُلقون الحقّ إلى الأرض» (5:7). وقال سفر اللاويّين: «لا تحابوا عظيماً، بل احكموا للآخرين بالعدل» (19:15؛ رج مز 37:6؛ 106:3 ...).

الحقّ والعدل صفتان إلهيّتان في درجة أولى. يمنحهما الله للمسؤولين في الشعب. قيل عن داود: «كان يحكم بالعدل والانصاف» (2 صم 8:15). كما يمنحهما للشعب كلّه. نقرأ عن الله في هذا المجال: «الحكم بالعدل قاعدة عرشك، والرحمة والحقّ قدّام وجهك» (مز 89:15). كلّ هذا من أجل خير الشعب ومن أجل فرح ينتظره من إلهه.

هنيئاً لمن يجعل من صفتَي الله هاتين أمراً خاصاً به. فمن أقام في الحقّ والعدل أقام في العهد الذي عرفه الربّ. هذا ما نقرأ في آ 4 - 6. ليس من الضروريّ أن يكون الانسانُ ابن يعقوب ليدخل في هذا العهد. يكفي أن يكون ابن آدم. أن يكون انساناً. هذا يُفهمنا منذ الآن أنّ الغرباء (كما نقرأ في القول اللاحق) لا يُستَبعدون من جماعة الخلاص. فإذا أرادوا أن يدخلوا في العهد، وجب عليهم أن يقبلوا متطلّباته. فهذا يكفي. وتُذكر هنا متطلّبات مع فعل واحد: «حفظ». يحفظ يديه من كلّ عمل مشين. يحفظ السبت ولا يدنّسه. السبت ممارسة قديمة جداً وقد عرفها الأنبياء. فقال فيها أشعيا: «شعائر السبت لا أطيقها» (1:13). وهوشع: «أبطل أعيادَها وسبوتها» (2:13). نجد أنّ السبت سيتّخذ أهميّة كبيرة خلال المنفى (587 - 538): فممارسة السبت وسط الوثنيّين علامة تميّز المؤمنين بالربّ (يهوه). ففي تلك الحقبة، يجب السهر بعناية لئلاّ ندنّس هذا اليوم المقدَّس.

2 - أبناء الغريب (56:3 - 8)

إن مارس أبناء الغريب هاتين المتطلّبتين، ينضمّون إلى الربّ. والخصيان يُستقبلون على الرحب والسعة في جماعة الخلاص.

3 لا يَقُل أبناء الغريب

الذين انضمّوا إلى الربّ:

«لا بدّ أن يفصلني الربّ عن شعبه».

ولا يقُل الخصي:

«ها أنا شجرة يابسة».

4 لأنّ الربّ قال

للخصيان الذين يحفظون السبت،

ويختارون ما يرضيني،

ويتمسّكون بعهدي:

5 «أعطيهم في بيتي وداخل أسواري،

جاهاً واسماً

يكونان خيراً من البنين والبنات.

أعطيهم اسماً أبدياً لا ينقطع ذكره.

6 أمّا بنو الغريب

الذين ينضمّون إلى الربّ ليخدموه،

وليحبّوا اسم الربّ،

ليكونوا له عبيداً،

جميع الذين يحفظون السبت ولا يدنّسونه،

ويتمسّكون بعهدي،

7 أجيء بهم إلى جبلي المقدّس

أُفرحُهم في بيت صلاتي،

وتكون محرقاتُهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي،

لأنّ بيتي يُدعى بيت صلاة لجميع الشعوب».

8 وقال السيّد الربّ

الذي جمع شتات بني اسرائيل:

«سأجمع آخرين إلى هؤلاء،

إلى أخصّائي الذين جمعتُهم».

في الماضي، استغلَّ الغرباء شعب اسرائيل (62:8: لن يأكل أعداؤك قمحك، ويشرب الغرباء خمرة تعبك). وها هم يخدمون من أجل إعادة المدن (60: 10) وفلاحة الحقول (61:5). بل يصيرون أعضاء في شعب الله. فيُدعون ليقاسموه إيمانه وصلاته، وكلّ خير يمنحه الله لأولاده. في هذا المجال، بدا نصّ أشعيا جديداً كلّ الجدّة. فإذا أردنا أن نقدّره حقّ قدره، نعود إلى الوراء لنرى وضع الغريب في بني اسرائيل.

أ - وضع الغرباء

كانوا يُعاملون معاملة مختلفة: إن أقاموا بينهم كالجار مع جاره. أو عبروا عبوراً موقتاً، فما عُرفوا حقاً. فالمقيمون ينضمّون بسهولة إلى جماعة اسرائيل. ونبّه كتابُ العهد بأن لا يُضايَقوا: «لا تظلم الغريب ولا تضايقه، فأنتم كنتم غرباء في أرض مصر» (خر 22:20؛ رج 23:9). وسفر التثنية أوصى الجميع بهم. العُشر يكون «للغريب واليتيم والأرملة الذين في مدنكم» (14:29). والشرائع الكهنوتيّة أقرّت لهم بحقوق وواجبات مماثلة لما لبني اسرائيل. نقرأ في عد 9:14: «إن دخل بينكم غريب، فعليه أن يصنع فصحاً للربّ. فريضة واحدة تكون للدخيل والأصيل في أرضكم». وكما يصوم الأصيلُ يصوم الغريب (لا 16:29)، وكلاهما يُصعد محرقة أو ذبيحة (لا 17:8 - 10). بل إنّ سفر اللاويّين طلب من بني اسرائيل أن يُحبّوا الغرباء كما يُحبّون أنفسهم (19:33 - 34). وحين قسم حزقيال الأرض، احتفظ بحصّة للغرباء (47:22 - 23): يكونون لكم كالأصيل. يقاسمونكم الميراث.

أمّا العابرون فيُقبَلون كضيوف موقّتين، ولا يُحسد وضعهم. كانوا يُعتبرون أقلّ من البشر. بل أعداء نستطيع أن نفعل بهم ما نشاء. وإن نعموا في الأرض بضيافة طالت أو قصرت، فما كانوا ينعمون بحقّ من الحقوق. لا يحقّ لهم أن يشاركوا في الفصح مع المقيمين. بل كانوا يُستبعَدون (خر 12:43). وما كانوا يستفيدون من الإعفاء من الدّين (تث 15:3) ولا من الدين بدون ربا (تث 23:21). وحين لا يعرف اسرائيليّ ما يعمله بحيوان فاطس، وبالتالي طعام نجس في عينيه، فهو يعطيه للمقيمين، أو يبيعه للعابرين (تث 14:21). وحزقيال الذي تساهل مع المقيمين من أجل الدخول إلى الهيكل، منع هذا الدخول منعاً باتاً عن «لا مختونين» في الجسد وفي القلب (44:7 - 9). أمل بعضُهم أن يدخلوا في الجماعة ولكن بعد ثلاثة أجيال، مثل الأدوميّين والمصريّين (تث 23:8 - 9). أمّا الآخرون فلا أمل لهم (تث 23:4) مثل العمونيّين والموآبيّين. وفي نهاية القرن الخامس ق م، أراد المُعلِّمان عزرا ونحميا أن يمنعا بني اسرائيل من اتّخاذ امرأة لدى هؤلاء الشعوب (عز 9:1؛ نح 9:2).

ب - يفرحون في بيت صلاتي

إذن، وُجد في اسرائيل، قبل المنفى وبعده، تيّارٌ من الحذر، بل من العداوة، تجاه الغرباء العابرين. ولكنّ أشعيا يُعلن هنا أنّهم يستطيعون أن ينتموا إلى الإله الحقيقيّ وينضمّوا إلى جماعة الخلاص. وإذ فعل هذا القول النبويّ ما فعل، التقى مع نصوص مفتوحة مثل 1 مل 8:41 - 43 التي هي صلاة دُوّنت بعد المنفى، يُدعى فيها الله إلى استجابة صلاة الغرباء في هيكله. «وكذلك الغريب الذي لا ينتمي إلى اسرائيل شعبك، إذا جاء من أرض بعيدة من أجل اسمك... فاسمع من السماء، واعمل بجميع ما يلتمس منك هذا الغريب». أو سفر راعوت الذي كُتب في الحقبة عينها: هذه الموآبيّة، التي ما انتظرت نظرة عطف من بوعز لأنّها غريبة، عابرة (را 2:10)، صارت أهلاً لأن تكون جدّة داود.

بعد الخصيان (آ 4 - 5)، ها هم الآن الغرباء وقد استعادوا مكانتهم كمجموعة، لا كبعض أفراد منعزلين مثل عبدمالك، ذاك الحبشيّ الأسود الذي ضحّى بالكثير من أجل إرميا. فرغم «عيب» يلتصق به لأنّه غريب وخصيّ، نال من الربّ بركة خاصة (إر 38:7- 13؛ 39:15 - 18). أجل، لم نعد أمام حالات استثنائيّة حدثت مرّة وانتهت. بل هي النصوص أعلنت ذلك فبدت وكأنّها تشريع يجب أن يُتبَع.

فالغرباء بمن فيهم العابرون، لهم مكانتهم في قلب شعب الله. هم يدخلون حين ينضمّون إلى الله، راغبين في خدمته، في حبّه، في العمل كخدّام له، في حفظ السبت، في التمسّك بالعهد (آ 2، 4). في هذه الظروف، يبادر الله ويأتي بهم إلى جبله المقدّس، في صهيون، ويجعلهم يفرحون في الهيكل. فالعبادة الحقّة هي انفجار الفرح. على مذبحه يقبل الله ذبائحهم ويرضى عنها. وإذ تصبح هذه الديانة شاملة، تبقى أيضاً طقوسيّة (أش 18:7؛ 19:18 - 25).

غير أنّ السياق كلّه يقول لنا مرّة ثانية ما ذكّرنا به الأنبياء دوماً: الفعلة العباديّة تدلّ على عطاء القلب وسخاء اليدين. حينئذ ينال هيكل أورشليم أجمل أسمائه: «بيت صلاة لجميع الشعوب». هذه العبارة الفريدة بعمقها، التي نجد ما يقترب منها (مز 65:3: إليك يا سميع الدعاء، يجيء جميع البشر)، تعبِّر حقاً عن إرادة الله: أن يتّحد بجميع البشر من أجل سجود واحد، بحيث يكونون واحداً في الحبّ عينه. لهذا نفهم أن يكون يسوع أعجِبَ بهذا الكلام. فعلَّم الآتين إلى الهيكل فقال: «بيتي بيتُ صلاة لجميع الأمم» (مر 11:17).

حين يستضيء شعبُ الله بمثل هذه النصوص، لا يعود في الدرجة الأولى كياناً سياسياً، بل جماعة دينيّة تُدعى منذ الآن لكي تنمو وتنمو، وتتوسّع لتصل إلى أقاصي الأرض. لهذا فالأقوال التي حيّت دخول الخصيان والغرباء في جماعة الخلاص، انتهت بخاتمة تتطلّع إلى وصول جماهير البشر، في مسيرة لا تنقطع للدخول في هذه الجماعة (آ 8).

الخاتمة

الله الذي هو الفادي الوحيد الذي نستطيع أن نثق به، قد جمع منذ الآن مشتّتي اسرائيل، وهو لا يزال يجمعهم، وسوف يجمعهم بدون نهاية. والمباركة العاشرة في المباركات الثماني عشرة، التي هي صلاة هامّة في العالم اليهودي، تذكّر الله وتطلّب منه دائماً: «انفخ بالبوق العظيم من أجل خلاصنا. ارفع الرايات لتجمع المنفيّين منّا. إجمعنا معاً من أربع زوايا الأرض. فبارك أنت، أيّها الربّ، يا من تجمع المطرودين من شعبك اسرائيل»! غير أن نظرة أش 56:1 - 8 جاءت أكثر اتساعاً. فقد أفهمتنا أنّ الله لا يجتذب إليه فقط اليهود، بل المهتدين الجدد. وهو لا يرضى بالوحدة لشعب من الشعوب. بل يريد وحدة العالم حول هيكله ومدينته المق

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM