كلمة الله تحرّك التاريخ 55:10-11

كلمة الله تحرّك التاريخ

55:10-11

توخّى مثَلُ المطر والثلج، أن يُلقي الضوء، بواسطة تشبيه مأخوذ من الطبيعة، على فاعليّة كلمة الله في التاريخ. كُتب الكثيرُ عن الكلمة (د ب ر). ويكفي هنا أن نذكر ميزتين أساسيّتين ومهمّتين جداً على المستوى اللاهوتيّ: تنتمي الكلمة إلى مجال المعرفة، فتجعل الواقع في متناول اليد، واضحاً، شفّافاً. ثمّ، ترتبط الكلمة بعالم الديناميّة: هي خلاّقة، ناجعة في الله، بحيث تصبح قوّة حياة فتبني التاريخ.

بدأ 55:10 - 11 فأبرز قدرة كلمة الله وخصبها:، إنّها تصنع التاريخ وتوجّهه. من هنا فاعليّتها وسلطانها بأن تتبع طرقاً ما كان للانسان أن يتخيّلها. بما أنّ الكلمة من عند الله، فهي تفعل، وتقدر أن تصل إلى النتيجة المبتغاة بشكل لا يتوقّعه أحد.

وأخيراً تتطلّع كلمة الله إلى المستقبل، وتوجّه الأنظار إلى الأمام. وإن هي عادت إلى الماضي (مثلاً إلى الخروج من مصر)، فلكي تجد فيه نموذجاً وكفالة من أجل المستقبل، أو لتسند ثقتها بالله الأمين على مواعيده. لا لتلتذّ بالماضي نفسه وتحنّ إليه. فالعودة إلى الماضي علامة موت.

ونقرأ نصّ أشعيا (55:10 - 11):

10 وكما ينزل المطر والثلج،

ولا يرجعان ثانية إلى السماء،

بل يرويان الأرض،

ويجعلانها تجود فتنبت نبتاً

وتعطي زرعاً للزارع،

وخبزاً للآكل،

11 كذلك تكون كلمتي

تلك التي تخرج من فمي،

لا ترجع فارغة إليّ،

بل تعمل ما شئتُ أن تعمله،

وتنجح في ما أرسلتها له.

1 - الكلمة في أشعيا الثاني

كان ف 55 خاتمة أشعيا الثاني مع مقدّمته في ف 40، ونحن نجد هنا ثلاثة مواضيع: إعلان خروج جديد. فاعليّة كلمة الله. تسامي كلمة الله التي تسمو على كلّ شيء فتحقّق مقاصده.

منذ البداية إلى النهاية، أكّد أشعيا الثاني دوماً، أنّ كلمة الله تقود تاريخ العالم. افتتح مقالَه فأعلن أنّ كلّ شيء يزول، أمّا كلمة الله فتدوم إلى الأبد:

40:6 كلُّ بشر عشب،

وكزهر الحقل بقاؤه

7 ييبس ويذوي مثلهما،

بنسمة تهبّ من الربّ.

8 أمّا كلمة إلهنا،

فتبقى إلى الأبد.

وها هو الآن يتحدّث عن استمراريّة هذه الكلمة ووقعها في 55:11. «فم الربّ تكلّم». هذا يكفي لكي تأخذ عبوديّة الشعب حدّها (40:5). العالم القديم عابر، ولكنّ حبّ الله ثابت، وأمانته لا تتبدّل. هو لا ينسى شعبه، ولو حصل أن نسيَتْ المرأة رضيعها. رسم أحبّاءه على كفّه، فمن يتجاسر أن يمسّ من هم في يد الله (49:15 - 16).

وقدرة الخلق في كلمة الله تفعل في الطبيعة المنظورة وفي التاريخ، فتحقّق كلَّ ما نوته.

46:10 من البداية أنبأتُ بالنهاية،

ومن القديم، بما سيحدث.

وقلتُ: مشورتي هي التي تثبت

وأنا أفعل كلَّ ما أشاء.

11 من المشرق أدعو الطير الكاسر،

ومن البعيد من يحقّق مقاصدي،

قلتُ ذلك وسأتمّه،

قضيتُ به وسأفعله.

وانطلاقاً من هذه الخبرة، سيقول النبيّ ويؤكّد شيئاً فشيئاً أنّ كلمة الله القديرة خلقت العالم: «يدي أسّست الأرض، يميني قاست السماوات» (48:13).

2 - موقع الكلمة (ف 55)

بعد هذه النظرة العامّة إلى أشعيا الثاني، نركّز انتباهنا على ف 55 الذي يشكّل السياق المباشر للآيتين اللتين نتأمّلهما. في هذا الفصل، يدعو الله أخصّاءه لكي يغتذوا من الكلمة إذا أرادوا لهم الحياة.

نلاحظ أوّلاً أنّ ف 55 يبدو مطبوعاً بالوحدة. فمن بدايته إلى نهايته، تتوسّع الفكرة وتنساب، وتتواصل الموضوعات متّجهة نحو هدف محدّد.

تورد آ 1 - 5 دعوة يوجّهها الله إلى شعبه: هو «خبر مفرح» يستند إلى العهد الذي تمّ في الماضي مع بيت داود، وامتدّ الآن فوصل إلى الشعب كلّه. وما ناله شعبُ اسرائيل من عظمة، ستناله جميعُ الأمم. اجتمعت هنا موضوعات مختلفة تعبّر عن «نِعَم» الربّ وعطاياه. هذا هو «الانجيل» و«الخبر السارّ» الذي يقدّم نداء إلى التوبة، ووعدَ الله المجانيّ الذي يطلب اهتداء شعبه ويلحّ في طلبه.

وتدعو آ 6 - 9 المؤمنين إلى التوبة، وتطلب منهم أن يستفيدوا من هذه البشرى: فإعلان الخلاص من قبل الله، يتطلّب جواباً من قبل الانسان. هذا ما نستخرجه من الأفعال التي تَرد كلّها في صيغة الأمر: أطلبوا الربّ. أدعوه. كما تعبّر هذه الأفعال عن إلحاحيّة القرار وضرورته، من أجل الله، وعن فكرة العودة والتوبة، وعن اليقين الواضح بأنّ القرار الذي يتّخذه الشعب هو جواب على نداء الله، لا مبادرة من قبل الشعب.

وتلفت آ 10 - 11 انتباهنا إلى «كلمة الربّ» وسلطانها المطلق ومجانيّتها وأمانتها في قيادة التاريخ. وتصوّر آ 12 - 13 العودة من المنفى التي هي موضوع الوعد بالخلاص.

وهكذا نكون أمام أربعة مواضيع في ف 55: (1) الخبر السعيد من عند الله: تدخّله الخلاصيّ، نداؤه إلى الحياة. (2) قرار الشعب بالعودة إلى الله والتوبة. (3) فاعليّة كلمة الله وأمانتها. (4) الوعد بحياة جديدة في الفرح والسلام.

ورأى بعض الشرّاح أنّ هذه المواضيع ترتبط بفكر اشتراعيْ. لا شكّ في أنّ لها أهميّة حاسمة في نظرة سفر التثنية إلى التاريخ. ثمّ إنّ البراهين المقدّمة تستلهم ليتورجيّة تجديد العهد (ودوره مهمّ في التثنية)، التي تتوخّى دعوة الشعب لأن يتّخذ قراره ويعود إلى الله. وبعبارة أخرى، السياق سياق توبة تُذكر مع عناصرها البيبليّة: مبادرة الله واتّخاذ قرار من قبل الشعب. فتبدو التوبة عودة إلى الله وإلى الحياة، في ثقة تستند إلى الله (وكلمته) لا إلى الانسان.

وهكذا ينظر النبيّ إلى فاعليّة كلمة الله (آ 10 - 11) في سياق العهد والاهتداء إلى الله، في منظار اشتراعيّ يتميّز بقراءته للتاريخ كما يوجّهه الله.

3 - السياق التاريخيّ

يعود أشعيا الثاني إلى السنوات الأخيرة من المنفى البابليّ (550 - 538). ساعة بدأ يُطلّ في الأفق السياسيّ نجمُ كورش. هذا يعني، أنّنا قبل سقوط بابل وعودة المنفيّين إلى أرضهم. إذن، تحدّث النبيّ إلى أناس يعيشون وضعاً صعباً، فيئسوا من الحياة، وما عادوا يفكّرون في العودة. فألحّ عليهم مؤكداً أنّ مواعيد الله متينة، وإن كان المناخ مؤاتياً للتجربة والشك: تجربة القنوط، سحرٌ تمارسه قوّة الأمم، شكّ بأمانة الله ومواعيده.

وهكذا نفهم فهماً أفضل ضياع الشعب، إذا أخذنا بعين الاعتبار، في منطق تاريخ يهوذا، أنّ إمكانيّة المنفى بدت عبثاً، ونقطة استفهام حول قصد الله الخلاصيّ، الذي بدأ مع خروج رافقته عددٌ من المعجزات. لقد بدا هذا المنفى معارضاً لكلّ مواعيد الله الذي لا يمكن أن يتراجع عمّا قاله: امتلاك الأرض، استمراريّة بيت داود ودوام الهيكل. ولكن حصل ما اعتبره المؤمنون عبثاً. فبجانب الشرور التي رافقته، بدا المنفى مسألة لاهوتيّة، مسألة إيمانيّة: هل يهوه ما زال الاله الذي يخلّص؟ هل هو دوماً أمين لمواعيده؟ أتراه بعدُ سيّد التاريخ؟

ما هي الطريق التي سارت فيها نبوءات أشعيا الثاني؟ تجاه يهوذا وأورشليم، ليست الأمم بشيء، وإن بدت في عيون المنفيّين مُغرية، قويّة. فقدرةُ الله باقية وإن بدت فاشلة ففُرض عليها الصمت. في مثل هذا الوضع، يجب على يهوذا أن يستعيد إيمانه بكلمة الله، ولا يشكّ باختيار الله له. يجب أن يعرف أنّه محبوب من الله، ويعيش في ظلّ أمانته. لبث الله صامتاً فترة من الوقت. ولكنّه الآن سيُطلق صوته. وصمته لا يعني، في شكل من الأشكال، ضعفاً ولا خيانة. فقدرة الله حاضرة، وأمانته لا تتزعزع، مهما قال الناس حولنا أو ظنّوا.

ذاك هو السياق التاريخيّ الذي فيه نضع هاتين الآيتين (آ 10 - 11) حول متانة كلمة الله وفاعليّتها.

4 - السياق الليتورجيّ

حين نقرأ أش 55:10 - 11، نجد امتداده وتكملته في مت 13:1 - 23 مع مثل الزارع وتفسيره: أين يقع الزرع، وما هي مسؤوليّة التربة (أو القلب) التي تتقبّل الزرع؟ في النهاية، هموم الدنيا ومحبّة الغنى تخنق الزرع فلا تسمح له أن يثمر.

سأل التلاميذ يسوع: لماذا تكلّمهم بأمثال؟ لقد تساءلت الجماعة المسيحيّة: لماذا وحيُ الملكوت الذي قدِّم لليهود وللأمم، رفضه أولئك وقبله هؤلاء؟ هو شكّ وسبب عثار للسامعين في زمن يسوع، وداخل الجماعات المسيحيّة، بقدر ما كان الوقت يمرّ ويتناقص الأمل باهتداء بني اسرائيل إلى الانجيل. وبشكل عام أيضاً، هي مسألة ما زالت تُطرح الآن، وبأشكال مختلفة، على الجماعة المسيحيّة، من خلال سرّ حضور الملكوت في التاريخ: لماذا عدد المؤمنين قليل مقابل كثرة اللامؤمنين؟ ولماذا الخطيئة في جماعة المؤمنين؟ لماذا تبدو كلمة الله وكأنّها لا تفعل فعلها في العالم؟ وأخيراً، لماذا يتأخّر مجيء الملكوت، وانتصاره، وشموليّته؟

أسئلة عديدة تتنوّع تعابيرها بحسب الظروف. وجواب الانجيل هو نداء إلى الثقة: الملكوت زرعٌ ما زال يسير مسيرته بالرغم من الصعوبات والظواهر غير المشجّعة.

وهكذا نستطيع العودة إلى نصّ أشعيا وإلى نصّ متّى: الكلمة ودورها في التاريخ بالنسبة إلى الأوّل. كلمة الملكوت ومصيرها في قلب البشر كما في الجماعة (متى). في الحالتين، ينطلق الكلام من وضع فيه الكثير من القنوط وخيبة الأمل.

5 - الخاتمة

بعد هذا كلّه، نعود إلى قراءة أش 55:10 - 11 فنستخلص نتيجتين.

* الأولى. بحركة الماء والثلج الدائريّة، أخذ الله على عاتقه دورة الانتاج الزراعيّ الذي يتلخّص هنا في الخبز. ولكن في داخل هذه الدورة الأولى، اتّخذ الله مبادرة حركة ثانية دائريّة، حركة الكلمة التي تُتمّ مقاصده. إذن، يأخذ المثل الأشعيائيّ صورة من الطبيعة مع موضوع كلمة الله في التاريخ. ويتمّ العبور، لأنّ الخلق والتاريخ يخصّان قصداً واحداً هو عمل الكلمة الخلاّقة الواحدة. حينئذ نتذكّر لاهوت يوحنا الرسول: «خرج المسيح من العالم. هو حبّة الحنطة التي زُرعت في الأرض، هو الخبز النازل من السماء». فهو كالكلمة في أش 55:10: يعود إلى الآب بعد أن يُتمّ كلّ شيء. وما يلفت النظر هو أنّ يوحنا يستعمل هو أيضاً ألفاظاً من عالم الطبيعة: النور، الماء، الخبز، الخمر، وكلّها تشكّل قاعدة لرموز نقرأها في إنجيله.

ولكن لا يكفي أن نُبرز البُعد الكوني والبعد التاريخيّ للكلمة. بل بالحريّ، يجب أن نلاحظ أنّ كلمة الله في الخلق وفي مسيرة التاريخ، هي كلمة عهد، كلمة تعبّر عن أمانة الله وعناده من أجل شعبه. وهذه الكلمة تجد كمالها في يسوع «الكلمة الذي صار بشراً فسكن بيننا»، الذي مات من أجل خلاص البشر ومن أجل كلّ انسان.

* الثانية. لا يقدّم لنا النصّ فقط تأمّلاً في موضوع كلمة الله في التاريخ، فيذكّرنا بأنّ هذه الكلمة هي في أساسها كلمة عهد، بل يُبرز أيضاً بقوّةٍ، فاعليّةَ هذه الكلمة وخصبَها الذي لا يتوقّعه أحد ولا يستطيع أحد أن يدمّره. كلمة الله تحمل معها النصر كحبّة الحنطة في الأرض الجيّدة.

صاغ السياقُ أيضاً هذا الموضوع فأغناه وحدّده، ثمّ تحدّث عن فاعليّة الكلمة في سياق اهتداء إلى الله وتوبة. إنّها فاعليّة تتجاوز كلّ تدقيق. هي تتجاوز الانسان، لأنّها من عند الله. والاهتداء يعني في جوهره، عودة إلى الثقة بالله رغم المظاهر التي تبدو مختلفة. «فالانسان لا يعيش فقط بالخبز، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله» (تث 8:3).

وهذا ما يقودنا إلى تحديد أخير: لا يحصر النبيّ كلامه في التركيز على فاعليّة الكلمة. فما يعرضه أيضاً هو طريقة قراءة التاريخ الذي لا يتوسّع بحسب نزوات القوى الكبرى، والذي لا يكون تقدّمُه حيث يظنّ البشر. فتاريخ الخلاص ينمو حيث يستسلم الانسان إلى كلمة ا

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM