الفصل الثالث:الشعب السالك في الظلمة

 

الفصل الثالث

الشعب السالك في الظلمة

9: 1-7


ولد النبيّ أشعيا سنة 765 من عائلة شريفة فأتيح له أن يكون قريبًا من الملك ويؤثِّر في سياسة المملكة الخارجيّة. وتنبّأ في عهد يوتام (740-736) وآحاز (736-716) وحزقيّا (716-687) ملوك يهوذا. حضر في عهد آحاز الحرب الآراميّة والإفرائيميّة (سنة 735) وتوقيع الاتّفاق بين مملكة يهوذا والأشوريّين. تعرّف إلى آحاز الملك الذي كان ينتهز كلَّ فرصة ليقوّي سلطته في مملكته. أما أدخل عبادة آلهة أشور في الهيكل ليحظى برضى الأشوريّين (2مل 16: 10-18)؟ وتعرَّف إلى منسّى (687-642) الذي بنى المعابد لكلِّ آلهة الشرق، واضطهد المتعلِّقين بحبال الإله الواحد، وقد يكون قتل أشعيا في من قتل. إذا كان الملك يفعل الشرّ في عيني الربّ، فكيف يكون الملك وكيل الربّ على الأرض والعامل باسمه؟ عاش داود، في بعض أيّامه، بحسب قلب الربّ، ولكنّ الذين جاؤوا بعده خانوا عهد الربّ وتغاضوا عن العنف والظلم وسفك الدماء الذي يملأ البلاد.

من أجل هذا، انتظر الشعب ملكًا يكون أمينًا للربّ، وتحدَّث أشعيا عن ذاك الذي يختاره الربّ ويمسحه بالزيت المقدَّس، فيجعله رئيسًا بعد أن يتبنّاه ويكرِّسه لخدمة شعبه وشريعته. تطلَّع أشعيا إلى البعيد، إلى عمانوئيل، أي الله معنا، إلى حامل السلام على الأرض الذي يجعل الذئب والحمل يعيشان معًا، إلى الولد الذي يتبنّاه الله ويملأه حكمة ومشورة ليقود شعبه بشجاعة فيعيد إليه المجد بعد الهوان، والنور بعد الظلمة، والفرح بعد الحزن.

وانتظار الشعب هذا في زمن أشعيا هو انتظار الناس يوم ميلاد المسيح، بل هو انتظارنا نحن الذين ندعو ربَّ السلام في عالم يغرق في الحرب، وننادي ربَّ الرجاء ليحلَّ في قلوبنا التي أحاط بها اليأس.

وإذ تختلج في قلوبنا هذه العواطف نقرأ نصّ أشعيا النبيّ (9: 1-7 بحسب نسخة الآباء اليسوعيّين أو 8: 23-9: 6 بحسب النسخة العبريّة) عن الملك الآتي باسم الربّ:

»في الزمان الأوَّل أهينت أرض زبولون وأرض نفتالي، وفي الزمان الأخير تكرَّم تلك الأنحاء، من طريق البحر إلى عبر الأردنّ، إلى الجليل موطن الأمم. الشعب السالك في الظلمة، رأى نورًا عظيمًا، والجالسون في أرض الظلمات أشرق عليهم نور زدتَهم ابتهاجًا ووفّرتَ الفرح لهم. كالفرح في الحصاد فرحهم أمامك، وكابتهاج من يتقاسمون الغنيمة.

لأنّ النير الذي أثقلهم، والعصا التي على أكتافهم، كسرتَها مع قضيب مسخِّريهم كما في يوم مديان.

لأنّ كلّ نعال العدوّ في المعركة، مع كلِّ ثوب ملطَّخ بالدماء صارت وقودًا ومأكلاً للنار.

لأنَّه ولد لنا ولد، أُعطي لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه. نادوه باسمه: المشير العجيب والإله الجبّار، أبا الأبد ورئيس السلام يمتدّ سلطانه في سلام لا حدود له، فيوطِّد عرش داود ويثبِّت أركان مملكته على الحقِّ والعدل من الآن وإلى الأبد. هذا ما تفعله غيرة الربّ القدير«.

1- الإطار الجغرافيّ والتاريخيّ

أطلق النبيّ أشعيا كلامه، وعيناه على المناطق التي مرّ فيها الفاتح الأشوريّ: أرض جلعاد الواقعة في ما نسمّيه اليوم شرقيّ الأردنّ (عبر الأردنّ)، وأرض الجليل أي المنطقة المحاذية لجنوبي لبنان، وأرض دور (طريق البحر) أي شاطئ فلسطين من صور شمالاً إلى غزّة جنوبًا.

هذه المناطق صارت بفعل الأشوريّين أرض الظلمات. عبروا فتركوا وراءهم البؤس والشقاء. قادوا السكّان إلى السجن والمنفى والموت. سلبوا ونهبوا وأحرقوا. انتظر الشعب خلاص الربّ بفضل ملك يرسله إليهم. لقد أهينت أرض زبولون ونفتالي فمتى ستكرَّم؟ في الزمان الأخير، يقول النبيّ حين يأتي الربّ.

ولماذا حدث ما حدث؟ تحالفت دمشق الآراميّة والسامرة الإفرائيميّة (نسبة إلى قبيلة إفرائيم المقيمة في شمالي أرض فلسطين) على مملكة يهوذا وهدّد الملكان أورشليم. فدعا ملك يهوذا الأشوريّين إلى مساعدته ودفع لهم المال الوفير. أسرع الأشوريّون فاحتلّوا دمشق وسبوا أهلها، ثمّ اجتاحوا أرض الجليل وأفرغوها من سكّانها. فمات من مات وحُسب الآخرون في عداد الأموات. هل يرجعون إلى أرض الربّ؟

ولكن ما يصعب على الناس لا يصعب على الله، فما من شيء يُعجزُ الله. رفع أشعيا صوته يدعو المؤمنين إلى الثقة بالله: بعد الظلمة يأتي النور، وبعد الضيق الخلاص، وبعد الموت الحياة. فالنير الأجنبيّ الملقى على كاهل الشعب سيُكسر، وستحطَّم عصا المسخِّر الأشوريّ التي تلقي بثقلها على شمالي البلاد.

ويعطي الربّ علامة حاضرة. ولد لآحاز ابن هو ولي العهد. تبنّاه الله وأعطاه شارات الملك: ألبسه الوشاح وسلَّمه الصولجان ليتسلَّط على شعبه ويقوده في طريق النصر والسلام. ولكنّ الأيّام طالت والخلاص تأخَّر، وفنيت قلوب المؤمنين من الضيق. فيقول النبيّ: دامت أيّام مديان سبع سنين ذاق فيها العبرانيّون الكثير من الويلات (قض 6-7)، ثمّ خلَّصهم الله بفضل جدعون. والآن، وإن طال الضيق، فالربّ سيخلِّص شعبه لا محالة، لأنّه إله الخلاص والحياة، لا إله الهلاك والموت. ويمكننا نحن المؤمنين اليوم، أن نصرخ إلى الله من أعماق شقائنا، يمكننا أن نعاتبه ونتذمَّر عليه، ولكنّنا لن ننسى أنّ الملائكة قالوا لنا ليلة الميلاد: ولد لكم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الربّ.

كانوا في التاريخ القديم يشبِّهون اعتلاء الملك للعرش بطلوع الشمس. من أجل هذا، يقول الكتاب إنّ الشعب السالك في الظلمة رأى نورًا عظيمًا عندما رأى الملك الجديد الذي أرسله الله إليه. ونحن المسيحيّين نحتفل بعيد الميلاد في بداية طلوع الشمس الجديدة وسط الشتاء وظلام الغيوم وقساوة البرد. أجل، جاء يسوع نورًا وسط ظلمة الليل، وحرارة في برد هذا العالم، وربيعًا يجدِّد الحياة التي أتلفها الشتاء.

2- النصّ الكتابيّ

في هذا النصّ محطّات ثلاث: الماضي وهو مظلم بما خلَّفه الأشوريّون من شرّ في أرض الربّ؛ الحاضر وهو مشرق بفضل قدرة الله الآتي ظهرت يوم أمسكت بيد جدعون، وهي تفعل الآن بواسطة الملك الجديد الذي يحقِّق في شخصه مواعيد الله. لا، ليست يد البشر هي التي تفعل، بل يد الله التي لا ترتفع يد فوقها؛ المستقبل وهو زاهر، فيمتدّ في المكان والزمان سلطان من اختاره الله. يمتدّ في المكان فلا يكون حدٌّ لمملكته التي تصل إلى أقاصي الأرض. هذا الكلام الذي قيل في الملك داود وسلالته سيتحقَّق في المسيح الذي يجمع في شخصه كلَّ شيء في السماوات والأرض (أف 1: 10). ويمتدّ في الزمان فتدوم سلطة هذا الملك إلى الأبد ولا تكون لها نهاية. كلُّ هذا يتمّ في يسوع الذي قال فيه سفر الرؤيا (11: 15). مملكة العالم لربِّنا ومسيحه، إنّه يملك أبد الدهور.

ولكي يدوم سلطان هذا الملك العجيب، فالربّ لن يعمل الانتقام في من سُمّوا أعداء الله. فالربّ لا أعداء له. فالذي خلق بني إسرائيل فأرسل إليهم أشعيا وإرميا، خلق أهل نينوى وأرسل إليهم يونان يدعوهم إلى التوبة، وخلق جميع الأمم وأرسل عبده نورًا لهم ليوصل خلاصه إلى أقاصي الأرض (أش 49: 6). اعتبر أشعيا أنّ خلاص الربّ سيعود إلى المنطقة التي اجتاحها جيش أشور، ولكنّ متّى الإنجيليّ (4: 15) سيستعيد قراءة هذا النصّ النبويّ فيعطيه أبعاده الحقّة. لن يكون جليل الأمم موطن يسوع فحسب، بل منطلق رسالته التي تصل إلى أقاصي الأرض (أع 1: 8) فتبيّن أنّ المسيح أوتي كلّ سلطان (مت 28: 18) وأنّ لا انقضاء لملكه.

إنّ الربّ سيعمل من أجل السلام، لا من أجل الحرب، ولهذا سيجرِّد الشعوب من أسلحتهم فلا ترفع أمّة يدها على أمّه بعد اليوم. وسيحرق الربّ كلّ عِدد الحرب: نعال العدوّ والثياب الملطَّخة بالدماء. بل سيدفع الناس إلى التخلّي عن سلاحهم فيضربونها سككًا، وعن أسنّة رماحهم فيحوِّلونها إلى مناجل (أش 2: 4؛ مي 4: 3). هذا الكلام سيتحقَّق في شخص يسوع الذي أنشد له الملائكة ليلة ميلاده: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام. إنّ الله يتمجَّد في العلى بقدر ما يعمّ السلام الأرض. وكلُّ ذلك بفضل يسوع أمير السلام الذي يعطينا بموته وقيامته السلام ويقضي على العداوة بصليبه (أف 2: 16). سلام المسيح لا يشبه سلام العالم المبنيّ على العنف والقتل والدمار وعلى القول المأثور: إن أردت السلم فتأهَّب للحرب. سلام المسيح محبّة وتضحية وعطاء، ويسوع لم يأتِ ليقتل الناس، بل ليموت من أجل الناس فتكون لهم الحياة.

3- وُلد لنا وَلد

قال أشعيا: ولد لنا ولد، فاكتفى بعلامة بسيطة معلنًا خلاص الله من أجل شعبه. ولد للملك ابن يرث عرش أبيه فلا تنقرض سلالة داود، وهكذا يبان أنّ الله ما زال راضيًا عن شعبه. نظر أشعيا إلى ابن الملك فامتدَّت عيناه فأبصرتا يد الله تمسحه رئيسًا على الشعب وسمعت أذناه كلام البركة: أنت ابني أنا اليوم ولدتك، أنا اليوم تبنّيتك. وما إن ولد الولد حتّى تبنّاه الله. فما أسرعه في تحقيق مواعيده!

وتصوّر النبيّ الملك الجديد فرآه جالسًا على العرش مجلببًا بالوشاح الملكيّ، معتمرًا بالتاج، وفي يده الصولجان. كانت ولادته عجيبة، لذا سيكون حكيمًا مثل سليمان فيتحلّى بحسن المشورة والموعظة، وجبّارًا مثل داود الذي حلّت فيه قوّة الله فصار أبًا لشعبه يحمل إليهم السلام والرخاء والسعادة والطمأنينة.

ولكن من أين للملك الجديد كلّ هذه الصفات؟ روح الله حلَّ عليه فمنحه كلَّ المواهب، بل جعله شبيهًا بالله لأنَّه يمثِّل الله وسط شعبه. أجل، صار الملك إلهًا جبّارًا، وعرف أنّ العدل والإنصاف أساس عرشه فغار على شعبه وأخذ يهتمّ بأمر المساكين والبائسين.

نقرأ نحن نصّ أشعيا فنجد فيه ملامح المسيح. جاء المجوس من البعيد يسألون: أين الملك الذي ولد لليهود: رأينا نجمه فجئنا لنسجد له (مت 2: 2)؟ ولكنّ جواب الملاك جاء إلى يوسف على دفعتين: ستلد مريم ابنًا تسمّيه يسوع لأنَّه يخلِّص شعبه من خطاياهم، ستلد العذراء ابنًا يُدعى عمانوئيل لأنَّه يدلُّ على أنَّ الله معنا، أنّه اتّخذ جسمًا وسكن بيننا. يسوع هذا قد حلّ عليه روح الربّ ومسحه وأرسله ليبشّر المساكين ويشفي منكسري القلوب (لو 4: 18). هو ابن الله وصورته (ك 1: 15)، هو شعاع مجد الآب وصورة جوهره، الجالس عن يمين إله المجد في العلى (عب 1: 3). إنّه أرفع من الملائكة، وهو يتميّز عن موسى وسائر الأنبياء. يقول الكتاب: كان موسى خادمًا في بيت الله، أمّا المسيح فهو الابن (عب 3: 5-6) وله يخضع كلُّ شيء (عب 2: 8).

هذا هو الولد الذي ولد لنا في تلك الليلة السعيدة. ابن الله صار إنسانًا ليجعل الإنسان ابن الله. أجل، بميلاد المسيح المخلِّص في الجسد أعطي لنا أن نكون أبناء الله فنكوِّن شعب الله الحيّ. بعد الميلاد لا عبد ولا حرّ، لا رجل ولا امرأة، لا يهوديّ ولا وثنيّ، لا حكيم ولا جاهل، بل كلُّنا واحد في المسيح، والله الآب يرى فينا جميعًا صورة ابنه بعد أن صار الابن بكرًا لنا نحن إخوته الكثيرين (روم 8: 29).

خاتمة

في غمرة الضيق الذي يعمّ البلاد والظلم الذي يلفُّ المؤمنين، يرتفع صوت أشعيا داعيًا الشعب إلى الثقة بخلاص الله القريب. ويوم ولد يسوع كان الرومان يحتلّون الأرض المقدَّسة ويفرضون الجزية على المساكين. صرخ الشعب مستغيثًا، فبشَّرهم الملاك: اليوم ولد لكم مخلِّص. ونحن اليوم إذ نحتفل بعيد ميلاد المخلِّص ما زلنا نتطلَّع إلى يوم خلاصنا في الرجاء (روم 8: 24) وننتظر في الإيمان مجيء ربِّنا يسوع المسيح متقوّين بكلِّ ما في قدرته المجيدة من قوّة لنتحمَّل فرحين كلَّ شيء بثبات تامّ وصبر جميل شاكرين الآب لأنّه جعلنا أهلاً لأن نقاسم القدّيسين ميراثهم في ملكوت النور، ملكوت ابنه الحبيب (ك 1: 11-12).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM