الفصل الثاني:عمانوئيل إبن العذراء

 

الفصل الثاني

عمانوئيل إبن العذراء

أش:7:10-16


قليلة النصوص التوراتيّة التي أشبعها الباحثون درساً وتأملاً مثل نص اش 7:10 - 16 الذي

يتحدّث عن ولادة عمانوئيل. فالتاريخ يتداخل في القول النبويّ، بل يكون الإطار الذي فيه يُقال كلام أشعيا. والعهد القديم بأنبيائه يجد امتداده في العهد الجديد مع إنجيل متّى الذي قرأ الحبل بيسوع المسيح في حشا مريم في سِفر يسبق ولادة المسيح بثمانية قرون من الزمن. والنص العبري الماسوري الذي خرج من يد المعلّمين اليهود مشكَّلاً في بداية القرن التاسع المسيحي، لم يُنقل نقلاً حرفياً في اليونانيّة السبعينيّة، بل وصلت به إلى مسيرة روحيّة نقلتنا من الكلام عن صبيّة متزوّجة، هي امرأة الملك، إلى عذراء سيكون الحبل عندها عملاً عجيباً من عند الربّ.

مدى واسع نحاول أن ندخله فنتطلّع إلى سياق النص قبل أن ندرس الإطار التاريخيّ. وفي النهاية نتوقّف عند الكلمات الثلاث المهمة: الآية (أ و ت)، الصبيّة (ع ل م ه) أو البتول (كما في اليونانية: بارتينوس). وتدعو (ق ر ا ت). مَن الذي يدعو الصبيّ؟ مَن الذي يعطيه اسماً؟ ربّما يقودنا الجواب الذي نقدّمه، لا إلى ولادة طفل في حشا أمه، بل إلى ولادة الملك يوم يعتلى العرش، فيتبنّاه الله بعد أن تتماهى »ع ل م ه« مع مدينة أورشليم، فلا تعود تخاف خطراً.

1 - كتاب عمانوئيل

اعتاد الشرّاح([1]) أن يقرأوا في اش 1 - 12 أقوالاً حول يهوذا وأورشليم، وفي ف 13 - 27، أقوالاً على الأمم الغريبة. والقسم الثالث في ما دُعي اشعيا الأول (ف 28 - 39) يتضمّن التهديدات والمواعيد بالنسبة إلى مملكة إسرائيل: »ويل لإكليل الكبرياء على جبين سكارى إفرايم: (28:1)([2])، كبرى القبائل في السامرة. وتطلّع النبيّ أيضاً إلى مصير أورشليم: »ويل لأريئيل المدينة التي سكنها داود« (29:1). ولكن بعد الشقاء سيتحنّن الربّ على أورشليم ويستجيب لها حين يسمعُ صرختها (30:19).

أ - قولان نبويّان (آ 10 - 13)

في المحطّة الأولى نقرأ كتاب عمانوئيل في ف 7 - 12، مع مقدّمة في ف 6، وخاتمة في نشيد (ف 12): »أحمدك يا ربّ لأنك غضبت عليّ، وغضبُك ارتدّ عنّي فعزّيتني« (12:1). أما المقدّمة فدعوة اشعيا حيث اندمجت البداية مع النهاية. فالدعوة لم تأتِ في بداية السفر، كما كان الأمر بالنسبة إلى إرميا أو حزقيال، بل بعد أقوال امتدّت على خمسة فصول. عاد النبيّ، أو بالأحرى كاتبُ النبوءة، فقرأ النداء الأول على ضوء ما حصل للنبيّ بعد أن أعلن الكلمة، حيث الناس يسمعون ولا يفهمون، ينظرون ولا يُبصرون (6:9). مهما كانت الظروف، على النبيّ أن يواصل الرسالة: »قل لهذا الشعب« (آ 10).

مع ف 7، نقرأ خبرين متوازيين ومتكاملَين فيهما يلتقي اشعيا النبيّ بالملك آحاز. كل خبر يدخل في مقدّمة تاريخيّة، ثم يحمل قولاً نبوياً هاماً.

يسبق القول الأول (آ 4 - 9) مقدّمة تاريخيّة (آ 1 - 3) تحدّد موقع الحدث وتعطيه المعنى العميق في إطار الخلاص الذي ينتظر أورشليم: »إن كنتم لا تؤمنون (ت أ م ي ن و) فلن تأمنوا (ت أ م ن و)، أي لا تطلبوا الأمان والسلام من عظماء هذا العالم. الإيمان بالله وحده يفعل والثقة.

والقول الثاني الذي هو »قول عمانوئيل« في المعنى الحصري، يبدأ مع آ 10 - 12: »وعاد الرب وقال لآحاز«. أما القول النبوي (آ 13 - 16) فيجد ذروته: »ها إن العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل« (آ 14).

إذاً، مع آ 10، يبدأ حوار جديد بين اشعيا والملك. هل هذا الحوار تمّ حيث كان الحوار الأول، أي »آخر قناة البركة العليا في طريق حقل القصّار«([3]) (7:3)؟ هل نعتبر وجود مسافة بين القولَين؟ لا شيء يدلّ على اختلاف في الظروف. ثم إن بلاغ اشعيا هو هو. في القول الأول، »قال الربّ لاشعيا«. فالنبي هو الوسيط بين الله والملك. يحمل إليه كلام الله في لغة البشر: »قل له: تنبّه واطمئنّ« (آ 4). في القول الثاني، بدا الله وكأنه يتوجّه مباشرة إلى الملك، فالنصّ يبدأ: »وعاد الرب وقال لاحاز« (آ 10). في أي حال، مرات عديدة لا يميّز اللهُ عن النبيّ. فحين يتكلّم النبيّ، فهو يأخذ صوت الله وقوله، لكي يوصلهما إلى الملك. ثم كيف يتكلّم الله ولا فمَ بشريًا له. لهذا، هو يأخذ فم النبي ويضع فيه كلامه، كما قيل لإرميا([4]).ئ؟

فمن خلال الربّ، اشعيا هو الذي يتكلّم. ففي آ 11 نقرأ: »من عند الربّ إلهك«، لا: من عندي، أنا الربّ. وفي آ 11: »لا أجرّب الربّ«. بدل: لا أجرّبك أيها الربّ. وفي آ 11: »تُضجروا إلهي أيضاً«. في آ 3، قرأنا: »قال الربّ لاشعيا: أخرج، قل«. وهنا نجد الحوار عينه. ولكن لا يُذكر أشعيا الذي هو ترجمان الربّ.

ب - آية يرفضها الملك (آ 13 - 14)

وعرض النبي آية، بدت في نظر النبيّ تواصلاً مع إيمان يطلبه الربّ من الملك ومن شعبه، وتسنده بواقع ملموس يمكن التحقّق منه. ولكن من لا إيمان له لا يجسر أن يطلب آية. فالآية تفرض موقفاً يجب أن يقفه الملك. ولكن منذ الآن، عزم أحاز على التوجّه إلى تغلت فلاسر. في الملك الأشوريّ وضع ثقته، فكيف يترك هذه اليد المنظورة ليتطلّع إلى يد لا تراها العين البشريّة، بل عين الإيمان.

نقصَ الملك الإيمان بكلام الله. نقصته الثقة بقدرة الله التي لا تحدّها حدود: »من أعالي السماء، حتى أعماق الهاوية«. لا على الأرض فقط، بل على مستوى الألوهة، كما على مستوى الموت. تهرّب أحاز من فعل الإيمان الذي طُلب منه. بدا وكأنه لا يريد أن يجرّب الربّ، في خط ما نقرأ في سفر التثنية (تث 6:16). نشير هنا إلى أن ما قدّمه النبيّ باسم الله، ليس علامة استُنبطت بعد أن رفض أحاز. فآية عمانوئيل حاضرة منذ البداية. ولكن من نسي الاتكال على الله، لا يمكن أن يطلب آية. وإن أرسل له الربّ آية، فهو لا يعرف أن يكتشفها، أن يقرأها، فتبقى مغلقة عليه([5]5).

وبّخ النبيّ الملك توبيخاً قصيراً، ولكن احتفالياً. بدأ كلامه: »إسمعوا«. وهو ما توجّه بشكل مباشر إلى الملك آحاز، بل إلى »بيت داود« (آ 13). أتُرى فشل الملك، فوجبت العودة إلى الجذور، لا إلى الملك الحالي، بل إلى ذلك الآتي وجذوره في بيت لحم. وإذ عاد النبي إلى »بيت داود«، ليكون شاهداً على ما يحدث، دلّ من جهة على خطورة التهديد. ومن جهة ثانية، على أهميّة الآية.

ومن هم الناس الذين »يزعجهم« (م ك س) الملك؟ أوّلهم النبيّ الذي تعب من هذا الملك الخائف، المتردّد. ثم شعب أورشليم الذين بدأوا يميلون عن سلالة داود، بسبب اختلافهم مع آحاز حول سياسته الأشوريّة. فالوضع في يهوذا لم يَعُد يُطاق، لهذا نظر الوجهاء إلى تبديل السلالة. فقد يكون طابئيل موظفاً كبيراً في القصر، فيعدّ انقلاباً. وهكذا يأتي الخطر على آحاز من قبل الناس، ومن قبل الله أيضاً، لأنه يعارض بموقفه مخطّط الله، بل دلّ على تمرّد وثورة حين رفض أن يطلب آية([6]).

ج - ولكن يقدّمها الله (آ 14 - 16)

رفض الملك، ولكن الله نفسه يعطي الآية. نحن بعيدون هنا عمّا يقال عن يوم الربّ في نبوءة عاموس([7]). لا نقرأ في »الآية« المذكورة هنا إعلاناً عن عقاب يردّ على موقف الملك. فالآية هي امتداد للقول الذي قرأناه في آ 4 - 9: هي تكفل المواعيد التي ذُكرت في القول الأول([8]8).

هو حَبَلٌ وولادة. حَبَلٌ تحقّق وتمّ، وولادة منتظرة في مستقبل قريب، وهذا ما تدلّ عليه صيغةُ اسم الفاعل: »ها الصبية حبلى ومولّدة ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل« (آ 14). هي فتاة عرفها آحاز ومحيطه. هي حبلى، والولد الذي تضعُه يكون آية تكفل المواعيد. والاسم الذي أعلن هنا »ع م ن. إيل« (معنا الله) يُشير إلى علاقة داخليّة بين الآية والوعد. فالولد، بواسطة اسمه وبالتالي بواسطة شخصه، يمثّل الخلاص ويكفله. لا شكّ في أن اسم عمانوئيل يفسّر هنا. ولكن 8:8 - 10 يقدّم تفسيراً يرتبط بالمواعيد المعطاة بالرغم من المحن العابرة التي تعرفها المملكة.

قد نكون هنا أمام تأكيد، أو أمام تمنّ. ولكن المدلول مدلول خير. فحين نعلن أن »الله معنا«، نعلن عهداً بين الله وشعبه. فنذكر وعداً بالحماية التي يؤمّنها الربّ للمؤمنين. وولادة عمانوئيل تكون حتماً علامة سلام أرسله الله إلى أورشليم وإلى شعب يهوذا.

د - علامة قريبة (آ 15 - 16)

»زبداً (ح م ا ه) وعسلاً (د ب ش) يأكل« ( آ 15). ذاك هو طعام هذا الولد. ما قال النصّ كما اعتادت التوراة أن تفعل، لبناً (ل ب ن) وعسلاً (تث 32:13 - 14: 1 صم 17:29). مثل هذا الطعام يدلّ على الوفر والغنى والسخاء. هنا نذكر ما قاله التقليد اليهوديّ (خر 3:8، 17؛ 33:3) عن »أرض تفيض لبناً (ح ل ب) وعسلاً«. وهذا ما يدلّ على الخصب والغنى. وإذا جعلنا 7:22 جانباً، لا يرتبط »اللبن والعسل« بخراب الأرض والمجاعة. هذا يعني أن عمانوئيل ينال طعاماً مختاراً، غنياً ووفيراً. هو يعلّم عمانوئيل التمييز بين الخبر والشرّ(9).

طعام عمانوئيل نجده في فلسطين، لأن الربّ حاضر هنا، قد نستطيع أن نسمّيه »فائق الطبيعة«. وفي أي حال، يلتقي مع الحكمة »التي ذبحت ذبائحها ومزجت خمرها، وهيّأت مائدة طعامها« (أم 9:2). وتقول: »حيّد إلى هنا، يا جاهل«. وتقول لمن يعوزه الفهم: »تعال، كُلْ من طعامي واشرب الخمر التي مزجتُ« (آ 4 -5 ). مثل هذه الحكمة علّمت سليمان التمييز بين الخير والشر (1 مل 3:9).

جاءت معرفة الخير والشرّ في آ 15، فدلّت على مزيّة خاصة بعمانوئيل. أما في آ 16، فهي معلَم كرونولوجيّ: الوقت الذي فيه يبلغ الولدُ سرّ الرشد(10).

وها هي النبوءة المرتبطة بولادة عمانوئيل، وهي نبوءة تقودنا إلى مستقبل قريب. لا نتوقّف عند عمر التمييز الذي تتحدّث عنه آ 16. فنحن ما زلنا في إطار ضيّق. والولد في آ 16 هو عمانوئيل، لا شأر يشوب. وسنّ الرشد ليس قطعاً »التمييز السياسيّ«. لأن هذا ما يؤخّر تتميم الآية. فبعد ولادة الولد بسنوات قليلة، وقبل أن يبلغ سن الرشد، تحصل أحداثٌ حاسمة بالنسبة إلى وضع أورشليم الحاليّ: تهجر الأرض (أ د م ه) المزروعة الممتدّة في مملكة إفرائيم (بعاصمتها السامرة) وأرام (بعاصمتها دمشق). هذا ما يتمّ في القريب العاجل كعربون لتحرير يهوذا: وعدَ الربّ بعودة إلى زمن داود وسليمان، ساعة كانت المملكتان مُتَّحِدَتَين في شخص الملك، وإن بقي الجيشان والشعبان متباعدَين(11).

2 - الإطار التاريخيّ

اعتلى الملك تغلت فلاسر العرش سنة 745 ق. م.، فكان الأول في سلالة من المحاربين سيكوّنون في نصف قرنٍ من الزمن امبراطوريّةً واسعة تشكّل لجيرانها تهديداً كبيراً. فكان لهؤلاء الجيران أن يختاروا بين اثنين: إما أن يخضعوا بملء ارادتهم ويدفعوا الجزية. وإمّا أن يجتمعوا فيكوّنوا حلفاً قوياً يقف في وجه امبراطوريّة منظّمة على المستويين الحربي والاداريّ. وكانت مملكتَا إسرائيل ويهوذا موقعين ستراتجيين هامَّين على المستوى الجغرافيّ: بهما يصل المحتلّ إلى البحر. وهما الطريق العاديّة إلى مصر التي تشكّل القوّة الضاربة في جنوب لبنان وسورية وفلسطين.

سنة 738، أجبر مناحيم، ملك إسرائيل، على أن يدفع الجزية لملك أشور، وإلاّ يخسر عرشه. طلب من الأغنياء، »فدفع كل رجل منهم خمسين قطعة من الفضة، ورجع ملك أشور عن أرض إسرائيل« (2 مل 15:20) وعن عاصمة السامرة.

عندئذ كان حلف بين أرام واسرائيل لوقف المدّ الأشوريّ، وحاولاَ إدخال يهوذا معهما لكي يكون جانبهما. وإذ رفض، واجهته المعاداة من جيرانه. قدّم 2 أخ 28:5 - 8 بعض التذكرات التاريخيّة: هجم ملك أرام وأخذ الأسرى. ثم ملك إسرائيل الذي قتل من قتل، وكان سبيٌ كبير »من النساء والبنين والبنات، وأخذوا منهم غنائم كثيرة وجاؤوا بها إلى السامرة« (آ 8).

وكان تهديد لمملكة يهوذا في الجنوب، في مدينة إيلات، قرب خليج العقبة. وقام الفلسطيّون بعدّة هجمات على مدن الساحل (2 أخ 28:18). أحسّ آحاز بالخطر يأتيه من ثلاث جهات. فدعا أَشُورْيَة لمساعدته، لا حبّاً بأَشُورْيَة، بل ليخلّص ما يقدر على تخليصه. ووصل الأشوريّون إلى فلسطية التي صارت لهم قاعدة ستراتيجيّة. وأخذوا القسم الشمالي الشرقيّ من إسرائيل وجعلوه مقاطعة إسرائيل. وكادت المملكة تضيع كلها لو لم يُقتل فقح ويحلّ محله هوشع الذي قدّم خضوعه فنجا من الكارثة، بانتظار أن يتمرّد فتُدمّر السامرة سنة 722 -721.

نحن لا نقول إن ما دُعيَ »الحرب الأراميّة الافرائيميّة، على يهوذا، كانت لها الأهميّة الكبيرة. فالنصوص الأشوريّة لا تذكرها، أو هي تشير إليها بشكل عابر، غامض. فكل هذه الممالك الصغيرة تشكّل لقمة في فم الأشوريّين، بحيث جاؤوا إلى غربي الفرات كما في نزهة. ولكن هذا الحدث جعل الملك يطرح سؤالاً حول هويّته وهويّة شعبه. أن يهاجمه أرام، أمرٌ معروف، ولكن أن يهاجمه إسرائيل، فهذا يعني أن وصال الأخوّة انقطع. وأين هو الإله الذي يجمع القبائل الاثنتي عشرة؟

وساعة استعدّ المتحالفون للمرحلة الأخيرة، وحاصروا آحاز في عاصمته، توقّفوا عن القتال. ما الذي حدث؟ هل قاوم آحاز فأجبرهم على التراجع؟ بل بالأحرى هجمة تغلت فلاسر في الشمال، أجبرت الملكين على العودة، فقال هوشع: »أنفخوا البوق في جبعة، وفي النفير في رامة. إرفعوا صوت النذير في بيت أون«، التفتوا وراءكم، يا بنيامين« (هو 5:8). أجل، »بيت افرايم صار خراباً« (آ 9). هكذا بيّن النبيّ أن إسرائيل دخل في محاولة عابثة، فانحنى أمام ضغط أرام وقطع رباط الأخوّة.

حين التقى آحاز بأشعيا، ما كان بعدُ قام بالخطوة الحاسمة التي بها يدعو أَشُورْيَة إلى عونه. ولكنه اتخذ قراره لكي يحافظ على عرشه واستقلاله. فالحلف آتٍ ومعه »الملك« الذي يحلّ محلّه. اتسمت سياستُه بالمنطق والفهم. ولكنها كانت قصيرة النظر. فحماية أشور لن تكفل له مدة طويلة الاستقلالَ، ولكنه ساوم باحثاً عن تسوية، فكان الخاسر الأكبر. وفُرض عليه أن يُشرك ابنه في الحكم وهو على العرش.

ووقف أشعيا تجاه آحاز. سياستُه واقعيّة. نظر إلى الأحداث كما ينظر إليها الإنسان، ولكنه رآها بعين نبيّ عرف مخطّط الله ومعنى التاريخ، انطلاقاً من حياة حميمة مع الله. لذلك أعلن أن الفشل ينتظر الحلف الأراميّ الافرائيميّ. وهذا يعني النجاة ليهوذا. وأن المواعيد التي أعطيت لنسل داود، تبقى حاضرة مهما كانت طبيعة الأحداث التي تهدّدها. وإذ نتذكّر أن النصَّ دوّن في شكله النهائيّ بعد المنفى، نفهم هذا الكلام تشجيعاً للعائشين في المنفى.

وأعلن النبيّ أيضاً أن حرب الأخوّة بين مملكتي الشمال والجنوب لا يمكن إلاّ أن تقود إلى الكارثة. وأن أَشُورْيَة ليست شعباً عادياً يشبه شعوب سورية وفلسطين ولبنان، بل هي دولة تسيطر على الإنسان كله، كما تحاول السيطرة على جميع الشعوب، وكأنها تريد أن تحلّ محلّ الله. كل هذا سوف يتوضّح شيئاً فشيئاً، فيُجبَر آحاز على تبديل طرق العبادة في أورشليم، فأحلّ مذبحاً »أشوريّاً« محلّ المذبح القديم. قال 2 مل 16:17 - 18: »وفكّ الملك آحاز عجلات النحاس التي في بيت الربّ، وأزاح المغاسل عنها... من هيكل الربّ أزال رواق السبت، وأغلق مدخل الملك، تذلّلاً لملك أشور«.

وهكذا كانت المواجهة واضحة بين الملك والنبيّ: لا بين السياسة والإيمان، بل بين سياسة تستند إلى الإيمان، وأخرى تستبعد الإيمان وترتكز على الوسائل البشريّة، متناسية قول المزمور: »الاحتماء بالربّ خير لي من الاتّكال على البشر. الاحتماء بالربّ خير لي من الاتّكال على العظماء« (مز 118:8 - 9). ويتواصل كلام المزمور وكأنه قيل في هذه الحقبة من تاريخ الشعب: »أحاط بي جميع الأمم، باسم الربّ أزيلهم. أحاطوا بي ثم أحاطوا بي، باسم الربّ أزيلهم، أحاطوا بي كالنحل، ثم خمدوا كنار الشوك. باسم الربّ أزيلهم. دفعوني دفعاً لأسقط، لكن الربّ نصرني« (آ 10 - 14). أجل، دعا أشعيا إلى الإيمان الملك، فكان كلامُه كلام الروح. ولكن هذا الكلام اتّخذ بُعداً سياسياً في هذا السياق التاريخيّ الذي ذكرناه(12).

3 - آية الصبيّة العذراء

هذا الفصل السابع من سفر اشعيا نقرأه أولاً في مجمل اش 1 -39، بسبب موقعه في كلام عن ملكيّة داود. سلالة تدوم، وأورشليم عاصمتُه لا تنال منها يدُ الأعداء. هي صامدة من أجل الهيكل مركز حضور الله فيها. تلك هي القراءة التاريخيّة، اليهوديّة، التي لا تخرج من الإطار السياسيّ بما فيه من غنى على مستوى الإيمان بالله والاتّكال عليه. أما القراءة المسيحيّة، فنقلت المؤمن إلى نهاية الزمن، إلى ملء الزمن، إذ »أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة« (غل 4:4). وهذه المرأة هي العذراء مريم التي تحدّث عنها الإنجيل في عودة إلى نص اشعيا (7:14): »حدث هذا كلّه ليتمّ ما قال الربّ بلسان النبيّ: ستحبل العذراء فتلد ابناً يُدعى عمانوئيل، أي الله معنا« (مت 1:22 - 23). هذه الصبية التي هي في الواقع التاريخي زوجة آحاز، الملكة الصبيّة، صارت تلك العذراء التي هي »حُبلى من الروح القدس« (آ 20). ومن يعطي الصبي اسمه؟ يوسف يعطيه الاسم البشريّ: يسوع. »أنت تسميه«. ومن يعطيه اسم عمانوئيل؟ هم يدعونه. هي صيغة المضارع الذي يدلّ في اليونانيّة على المستقبل. هي الجماعة المسيحيّة تعرف أن في ولادة هذا الطفل، كان الله حقاً معنا. عمانوئيل. هذا ما ندعوه في معتقدنا: سر التجسد. صار يسوع إنساناً، أخذ جسداً. والاسم الآخر ليسوع يرتبط بسرّ الفداء.

فهذا الاسم يعني: »يخلّص شعبه من خطاياهم« (آ 21). لم نعد هنا على المستوى البشريّ فقط، بل ارتفعنا إلى مستوى الألوهة حيث هذا الصغير، هذا الطفل الموضوع في القمط، هو أكبر من يوحنا المعمدان، أعظم مواليد النساء (مت 11:11).

ذاك هو السبب الذي من أجله لقي اش 7 اهتماماً كبيراً، وكثُرت التفاسير حوله وتنوّعت. وها نحن نقرأ ثلاثة ألفاظ فيه:

أ - الآية

الآية شيء منظور، حاضر، يشير إلى واقع خفيّ، ويكفل أمراً آتياً، مثلاً، نقرأ في 8:18: »ها أنا والأبناء الذين أعطاني الربّ: آيات (ل. أ ت و ت) ومعجزات (و. ل. م و ف ت ي م) في إسرائيل«. لبث الشعب لا يؤمن، وما وصل إلى تعليم حُفظ له، فبقي النبي وأولاده علامة لما سوف يعمل الله. في 20:3، اشعيا هو أيضاً »آية«. حياته هي آية. مشى حافياً، عرياناً، فدلّ على ما حدث لمصر وللنوبة. وطلب حزقيا علامة (37:30). فكان إليه كلام الربّ: »وهذه لك الآية (هـ. أ و ت) من عند الرب، حيث يصنع الربّ الكلمة هذه التي تكلّم« (38:7).

خمس مرّات ترد لفظة »ا و ت«، بالإضافة إلى ما نقرأ هنا في ف 7 (آ 11، 14)(13). نكتشف فيها علاقة ملموسة بين الواقع الحاليّ والواقع الخفيّ. أتكون الآية (العلامة) عجائبيّة؟ ربّما شفاء حزقيا (38:2،7 2). بل نحن أمام واقع طبيعيّ، عاديّ، لا يلفت النظر. ما الذي يُدهشنا حين تحبل الملكة الصبيّة وتلد؟ فالمهمّ قد لا يكون البداية، بل النهاية التي تتمّ. والعلاقة بين الحاضر والمستقبل قد تكون اصطلاحيّة. فالنبيّ لا يقف عند الماضي ولا يخرج منه، كما كان بالنسبة إلى آحاز الذي انتظر خلاصاً قريباً. كما انتظر ولداً يواصل سلالة داود على أورشليم. أما النبيّ فراح بعيداً لكي يدخل في سرّ التاريخ الذي يُشرف الله عليه. وكلمةُ النبيّ لم تتوقّف في العهد القديم، بل وصلت إلى العهد الجديد مع إنجيل متّى، وغذّت تأمّلات آباء الكنيسة والمعلّمين. وهكذا نفهم أن يبدأ القول الثاني بدون إشارة إلى النبيّ. هو الربّ (لا اشعيا) يقول لآحاز (7:10). فالآية التي أعطاها الرب، مستقلّة عن النبي الذي يبدو شاهداً، ويكتفي بحمل كلمة تتعدّاه، فتصل إلى المسيح الذي هو الكلمة وفيه تصبّ كلّ كلمات الأنبياء(14).

ب - الصبية، العذراء

اللفظ العبري »ع ل م ه« يلتقي مع اللغة العربية واللغة الأوغاريتيّة. في الأوغاريتيّة نعرف »غ ل م« الذي يقابل »ع ل م« العبري (مذكّر ع ل م ة)، ويرادف تقريباً »ن ع ر«(15).

أما »ع ل م« فيرتبط بالجذر العربي: »غ ل م«. فالفعل يعني: »انقاد للشهوة«. والغلام هو »الطار الشارب« أو »طريّ الشارب«، »الغضّ الليّن«. والغلامة هي أنثى الغلام. وهكذا نكون أمام عمر المراهقة والاستعداد للزواج إن لم تكن الخطوات الأولى للزواج(16).

النصوص الكتابيّة عديدة حيث تتوازى تقريباً »ن ع ر ه« و »ب ت و ل ه« و »ع ل م ه«. مثلاً، نقرأ تك 24:42 - 43 وكلام خادم إبراهيم الذي أتى ليأخذ عروساً لإسحق: »ها أنا واقف قرب العين والصبية (هـ. ع ل م ه) التي تخرج«. ولكن قبل ذلك تحدّث عن »البنات« (ب ن و ت). وأنهى كلامه: »الصبية (هـ. ن ع ر ه) التي أقول لها« (آ 13 - 14).

ماذا نستنتج؟ من جهة، »ع ل م ه« هي صبيّة في عمر الزواج، أو مستعدّة للزواج والأمومة. نستطيع العودة هنا إلى الأوغاريتيّة مع أسطورة ياريح ونكال (77:7): »هـ. ل. غ ل م ت. ت ل د. ب ن«: »الغلامة تلد ابناً«(17) ومن جهة ثانية، يدلّ اللفظ على فئة اجتماعيّة، على مجموعة تلعب دورها في الاحتفالات والتطوافات، كما على طبقة تقيم في البلاّط الملكي. هنا تذكر نش 1:3: »لذلك أحبتك ع ل م و ت«. وفي 6:8: »ع ل م و ت« عديدات، ولكن »العروس« وحدها كاملة تهنئها الصبايا (آ 9).

في عالم الاسكندريّة، ما استطاع المترجمون أن يجدوا اللفظ الذي يوافق كل الموافقة »ع ل م ه«. فقالوا مرة صبية (neanis) (خر 2:8؛ مز 68:26؛ تش 1:3؛ 6:7) التي تقابل »ن ع ر ه« (عشرين مرة). ومرّة أخرى، قالوا »عذراء« parthenos (اش 7:14؛ تك 24:43) التي تقابل »ب ت و ل ه«: نشير هنا إلى ردّة الفعل لدى اليهود، حين رأوا الكنيسة تجد في اش 7:14 ما يسند الكلام عن بتوليّة المرأة، فقالت، في ترجمة حرفية، قام بها أكيلا في بداية القرن الثاني، »صبية« (neanis) بدل »عذراء« (parthenos).

ج - إعطاء الاسم

نقرأ في النص العبري: و ق ر ا ت. هناك فتحة على القاف والراء. ثمَّ لا نجد شيئاً على الألف والتاء. نستطيع أن نقرأ »قرأتَ، فنضع الفتحة على التاء ونترجم: »وتدعو« اسمه »ع م ن و . إل«: معنا الله. وقد تعطي البتولُ اسماً لابنها. في قمران نقرأ: »و ق ر ا«: »فيدعو«، أو: »فيُدعى«. والمجهول هنا يعني أنّ الله هو الذي يعطي اسماً للصبيّ. هذا ما يتوافق مع السريانيّ »و ن ت ق ر ا«. بعد المؤنث »البتول تحبل وتلد«، تأتي صيغةُ المذكّر الذي ندعوه المجهول الإلهي. وحده الله يعطي الاسم لهذا المولود العجيب. والترجوم يقدّم »و ت ق ر ي« الذي ترجمه بعضُهم: »(هي) تدعو«. ولكن الصيغة تعني المخاطب المفرد المذكر: »أنت تدعو«. كما تعني الغائب المؤنث المفرد.

وتتوزّع الترجمات اليونانيّة واللاتينية: »تدعوه أنتَ« (أو: أنتِ) في أكيلا، سيماك، تيودوسيون والاسكندراني والفاتيكاني، وشرح ايرونيمس Kaleseis . والسينائي قال : »هو يدعو«. »هي تدعو« الملك أو الملكة. أما اللاتينية العتيقة والشعبية (فولغاتا) فجعلت المجهول (Kalesetai): »يُدعى«. وأخيراً، تبع إنجيل متّى عدداً من المخطوطات السريانيّة فقال: »يدعون« (هم وهن): (Kalesousi)

»تدعوه أنتَ«. قد توافق العبري الماسوري. »يُدعى هو« (أي يدعوه) قد يوافق الترجوم(18) ويترافق مع السرياني. أما اللفظ المتاوي: »يدعونه«، فيبدو قريباً من المجهول: »يُدعى«. إذا كان العهد القديم يجعل آحاز يعطي الاسم أو »ع ل م ه«، فيُبقيَا على مستوى البشر، فالعهد الجديد جاء في صيغة الجمع: »يدعونه«. يعطونهم (Kalesei) اسماً. هي الكنيسة اكتشفت سنة 85، يوم دوّن إنجيل متّى، أن ذاك الذي وعد بها الكتاب بأن يكون مع شعبه في وقت الضيق، هو اليوم مع كنيسته. لا شكّ في أنه ترك في الجسد تلاميذه، ولكنه أظهر لهم بما لا يقبل الشك: »ها أنا معكم طوال الأيام، إلى انقضاء الدهر« (مت 28:20).

الخاتمـــة

تلك كانت مسيرتنا في قراءة الفصل السابع من اشعيا لنتعرّف إلى عمانوئيل الذي تلده الصبية العذراء. كلام الله لا يكون مجرّداً وبعيداً عن الواقع اليومي. وإن دعا النبي إلى الإيمان من أجل أمان ينتظره الشعب وسلام. فلأنّ الحرب تحيط بالبلاد. وإن هو أعطى آية تدلّ على ديمومة السلالة الداودية، فلأنّ الخوف كان كبيراً بأن يموت الملك في الحرب الأراميّة الافرائيميّة ولا يكون بعده وارث. والعهد الجديد انطلق من واقع آخر هو مولد يسوع المسيح من مريم العذراء، البتول. قبل أن يعرفها يوسف كانت حبلى بشكل عجيب. ولكن كيف يقدر الانسان أن يفهم هذا الوضع الذي لم يحدث لا قبله ولا بعده؟ حينئذ بدأت العودة إلى الكتاب المقدس الطريق الفضلى. فقرأ متّى كلام اشعيا على ضوء العهد الجديد، وفهمت الجماعة أنّ ما »تمّ في ملء الزمان« جاء في مخطط الله. دخلت مريم في هذا المخطط وقالت: »ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك« (لو 1:38). ومثلها فعل يوسف، »فأخذ امرأته ولم يعرفها« (مت 12:4 - 25). فدلّ على طاعته للملاك أو بالأحرى لله. وهكذا صار اش 7:14 جزءاً من العهد الجديد وقد كُتب من أجلنا »نحن الذين انتهت إليهم أواخر الأزمنة« (1 كور 10:11)(19).



[1] (1)J. VERMEYLEN, Du prophète Isaïe à l’Apocalyptique, t. I, Paris, Galalda, 1977, 35.

[2] (2) نورد نص ترجمة شاركت فيها مختلف الطوائف، جمعيّة الكتاب المقدس، 1993 (الطبعة الأولى).

[3] هو مكان معروف (رج 36:3 = 2 مل 18:17) في أورشليم، غير أن الشرّاح يختلفون في تحديد موقعه، ولكن بما أن الكلام عن »قصّار«، مهنته تحتاج الكثير من الماء، لهذا، يكون ذلك عند عين روحل (2 صم 17:17؛ 1 مل 1:9). والبركة العليا هي بركة سلوام. أوجز اليوناني فقال: »بركة الطريق العليا لحقل القصّار« راجع

S. SIMONS, Jerusalem in the OT, Leiden 1952, p. 334 - 337; L. H. VINCENT; A. STEVE, Jérusalem de l’AT, Paris, 1956, p. 289 - 295; G. BRUNET, “Le terrain aux Fouloux”, in RB 71 (1964) p. 230 - 239.

[4] إر 1:9. ونجد ما يقابل هذا الواقع في العهد الجديد مع حضور الروح القدس الذي يتكلّم بفم التلاميذ. رج مت 10:20.

[5] P. AUVRAY, Isaie 1 - 39, Paris, Galalda, 1972, p. 93 – 103

[6] R. E. CLEMENTS, Isaiah 1 - 39 (NCBC), Eerdmans, Grand Rapids, 1980, p. 85 - 89; R. MARTIN-ACHARD, “Esaïe et Jérémie aux prises avec les problèmes politiques”, RHPhR 47 (1967) 208 - 224.

[7] Dict. Enc. de la Bible, Brepols, 1987, p. 688 - 690; G. Von RAD, “The Origin of the Concept of the Day of Yahweh”, JSS 4 (1959) 97 - 108. Voir R. TOURNAY, “L’Emmanuel et sa Vierge-Mère”, Revue Thomiste 55 (1955) 254

[8] National Crisis, Isaiah 1 - 39, Eerdmans, Grand Rapids, 1990, p. 38 - 43.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM