الفصل الرابع:ليتورجية شعب الله في نهاية المحنة

 

الفصل الرابع

ليتورجية شعب الله في نهاية المحنة

33: 1-24

حين نقرأ أشعيا في فصوله التسعة والثلاثين الأولى، أو ما دُعيَ »أشعيا الأوّل«، وهو موقف لا نوافق عليه، لأنّ أشعيا هو في النهاية كتاب واحد، جاء في صيغته الأخيرة امتدادًا لذلك الشاعر الكبير الذي تعترف الإنسانيّة بشعره. حين نقرأ أشعيا هذا، نجد مجموعات حول موضوع واحد. منذ زمان عُرف كتاب عمانوئيل (ف 7-9) مع مقدّمته في ف 6 ودعوة أشعيا داخل الهيكل وإرساله في مهمّة صعبة. ونستطيع القول إنّ ف 28-35 هو مجموعة متكاملة تقع بين ما دُعي الرؤيا الكبيرة (ف 24-27) التي تتضمّن عددًا من الليتورجيّات النبويّة، وبين الرؤيا الصغيرة (ف 34-35) التي تصوّر حرب الله على الأمم وانتصار شعبه في أورشليم. أمّا ما بين الاثنين (ف 28-33) فأقوال نبويّة متنوّعة من المواعيد والتهديدات على إسرائيل ويهوذا. لن نتوقّف عند مضمون هذه الفصول، بل نحاول أن نقرأ في ف 33 ليتورجيّا الشكر بعد ستّة ويلات دُكرت. وكأنّ هذه الليتورجيّا تريد أن تمحو الويلات من أجل بداية جديدة:

20 أنظروا إلى صهيون مدينة أعيادنا،

فترى عيونكم أورشليم،

تراها مسكنًا مطمئنًا،

خيمةً لا تُنقل من مكانها.

أوتادها لا تُقلَع إلى الأبد،

وحبل من حبالها لا تنقطع

21 حيث الربّ يُظهر عظمته

وحيث الأنهار والضفاف الواسعة.

ويكون عملنا في ثلاث محطّات: تقسيم النصّ ودراسته، تحليل معانيه، اكتشاف الليتورجيّا التي يتضمّنها.

1- تقسيم النصّ ودراسته

هذا النصّ الذي رأى فيه غونكل(1) ليتورجيّا، نشبّهه بالمزامير، بحيث شرح كيف أنّ هذه القطع المتفّرقة تكوّنت في وحدة متكاملة، مع أنّ لكلّ قطعة بعدها الخاصّ بها. وقال غونكل في تحديده لهذه الليتورجيّا: »سلسلة قطع في أنواع مختلفة، تنظّمت من أجل غرض واحد، في خدمة الله، بأصوات عديدة«(2).

يتضمّن هذا الفصل ثلاثة مقاطع، متّفق عليها منذ غونكل(3) لدى الشرّاح الكثيرين. في البداية (آ 1-6) مزمور الثقة. ثمّ ضيق صهيون ونجاتها (آ 7-16). وأخيرًا، خلاص صهيون في المستقبل وثباتُها ومجدها (آ 17-24). وما يهمّنا هو أنّ واحدًا من هذه المقاطع الثلاثة لا يرتبط بموقع تاريخيّ، بحيث يكون الفصل كلّه فوق التاريخ وغير متعلّق بزمن من الأزمنة، فيُسمّى في ذلك الزمن. ثمّ إنّ معظم الدارسين لا يربطون هذه المقاطع ربطًا مباشرًا بأشعيا. فكأنّي بها أفلتت من يده واتّخذت بُعدًا يتجاوزه ويتجاوز الحقبة التي عاش فيها. وهكذا صار ف 33 لكلّ زمان ومكان، وهو لا يرتبط بالزمان والمكان إلاّ عبر الليتورجيّا التي هي استحضار الماضي وعيشه في حاضر من أجل مستقبل يكون كلّه في يد الله.

أ- مزمور الثقة

اعتبر بعض الشرّاح أنّ آ 1، هي خارج الليتورجيّا، بل نحن نعتبرها في قلب الليتورجيّا؛ فهي تدلّ على المرحلة السادسة في حالة صعبة يحملها المؤمن إلى الربّ في صلاته. في 28: 1 نقرأ الويل للسامرة، في 29: 1، لأورشليم. في 29: 15؛ 30: 1؛ 31: 1، لعدد من الفئات التي تقيم في أورشليم. وهنا في 33: 1 يقال: الويل لعدوّ يجتاح البلاد دون أن يقدر أحدٌ أن يوقفه. ما نلاحظ في هذه الآية وجود »ش د د« و»ب ج د« أربع مرّات: خرّب، نهب أو خان(4). نقرأ »ب و« به: الناهب الذي لا يُنهب (الغائب). ولكنّنا نجد في عدد من المخطوطات صيغة المخاطب: أنت. لا ينهبونك. قال العبريّ: تنتهي (ك ه ت م ك، »ثَمَّ« في العربيّة). أمّا الترجوم: ''متى تبلغ؟''

في آ 2 نقرأ في العبريّ »ز ر ع م« »ذراعهم«. ولكنّ هذا النصّ لا يفي بالمعنى. أترى الربّ يكون معهم أم معنا؟ لهذا صحّح السريانيّ والترجوم وسائر الترجمات فقالت: »ز ر ع ن و«.

في آ 3ب نقرأ: م ر و م م ت ك، ونستطيع أن نترجم »ارتفاعك«. ولكنّ مخطوط قمران جعل الراء محلّ دالّ، فصارت الكلمة عنده »م د و م م ت و«، »من صمته«(5). أمّا السبعينيّة فتحدّثت عن الخوف (فوبوس) منه. أمّا داهود، الشارح اللبنانيّ الأصل، فقسم اللفظ قسمين: م ر م. م ت ك: »من صوت جنودك«6). في آ 4، »ش ل ل ك م«، »سلبكم«: »هل هو السلب الذي جمعتم؟« أو: »السلب الذي جُمع منكم«. قَسَمَ السريانيُّ الكلمةَ قسمين (ا ي ك. ك ن و ش ي ا) في خطّ الترجوم (ك م ا) فقال: »مثل جمع السلب«.

نوقف هنا هذه الدراسة الدقيقة التي نرجو مواصلتها في تفسير لسفر أشعيا، إن شاء الله، وقد توخّينا أن نبيّن للقارئ غنى الدراسات التي تمّت في الغرب، لا في الشرق، حول كلّ لفظ من ألفاظ الكتاب المقدّس. فهو ما أُنزل في لغة عبريّة بدون أيّ تشويه، وإن أحرقوا النسخات العديدة وحاولوا أن يحتفظوا بنسخة واحدة. فاليد البشريّة كتبت بإلهام من الله، ونحن نكتشف ما تركه البشر لكي نصل إلى الخبرة التي عاشها أولئك الذين تأمّلوا في هذه الكلمات وجعلوها موضوع حياتهم وصلاتهم.

بعد ويل على الذي ما زال يمارس العنف، توسّل المؤمن إلى الربّ في وقت الضيق وطلب الرحمة، وانتظر تدخّله. فجاء الجواب بأنّ الربّ معظَّم في صهيون. حينئذٍ جاء جواب الإيمان: »كنزك مخافة الربّ« (آ 6). هنا تجد الطمأنينة والحكمة والمعرفة وغنى الخلاص.

ما قيل من هو المجتاح، المدمّر، السالب. أبقانا أشعيا في موضوع عامّ، ليدلّ على العنف الذي يرافق كلّ مجتمع، وإن حاول البعض أن يجدوا في هذا الظالم ملك أشور الذي يحاصر أورشليم سنة 701 ق. م. في هذه الحال، لا يبقى سوى النداء إلى الرحمة: »إرحمنا يا ربّ، إيّاك انتظرنا« (آ 2).

وتدخّل الربّ، فارتفع صوته. ولماذا لا يكون تدخّله في الصمت، لا في الرعد، كما كان الأمر مع إيليّا في جبل حوريب؟هناك نقرأ: »و م م ه. د ق ه«، »صمتًا دقيقً«. لا حاجة بعد إلى الضجيج ولا إلى الرعود ولا إلى العاصفة والنار، لكي يسمع اللهُ صوته، فصمتُه كافٍ(7).

السالب سلب، وما استطاع بشرٌ أن يسلبه. ولكن مع حضور الله، تحوّل الضعف إلى قوّة، فجمع محبّو الله الأسلاب، وهكذا عادت العدالة إلى أورشليم. واسترجع الشعبُ ما أُخذ منه بالقوّة، على مثال ما قال المزمور: »تضجّ الأمم وتتزعزع الممالك، وعلى صوت الله تموج الأرض« (مز 46: 7). فالربّ وحده يملك إلى الأبد (مز 146: 11).

ب- ضيق صهيون ونجاتها (آ 7-16)

صوّرتْ آ 7-8 وضعًا مؤلمًا. فكلّ محاولات المساومة من أجل السلام فشلت، فصار القتال التحدّي الذي فرض نفسه. وكان ما كان من دمار. ولكنّ الربّ تدخّل: »الآن أقوم، الآن أرتفعُ وأتعالى« (آ 10). اختلف هذا المقطع عن سابقه، في أنّه لم يحصر كلامه في إطار ضيّق، في أورشليم، بل فتحه على العالم.

نقرأ في آ 7 (الماسوريّ): »ا ر ا ل م«، وفي مخطوطات قليلة »ا ر ا ل ي م«. حاول فِلدربرغر(8) أن يفسّر اللفظ انطلاقًا من الجذر »ر ا ه« (»رأى«، في العربيّة) كما في نصّ أشعيا القمرانيّ والسريانيّ (ن ت ح ز ا. ل هـ و ن) واللاتينيّ في الشعبيّة. في الفاتيكانيّ وفي السينائيّ »أرى لديهم«. أمّا قمحي وابن عزرا(9) المفسّران الكبيران فقالا: »الرسول«، في تواز مع »م ل ا ك« في الشطر التالي. وراح داليتش(10) في خطّ قمران، فقرأ »ا ر ي. ا ل«، »أسد إيل« (الله)، فقال: »أبطاله«. أمّا إروين(11) فأخذ بصيغة الجمع »ا ر ا ل ي م«، فرأى في »ا ل م« اسمًا إلهيٌّا، يقابل »ش ل و م« (السلام). وتوزّعت الترجمات: »أهل أريئيل«، أي أورشليم، كما في 29: 1، أو: »الأبطال«. وفي الترجمة »المسكونيّة« العربيّة: »أبطال أريئيل«.

وفي آ 8، هناك »ع ر ي م« حرفيٌّا: »المدن«. أمّا قمران، فقرأ الدال بدل الراء، فصار اللفظ »ع د ي م«، »الشهود«. فدلّت العبارة على »شهود (العهد)«، لا على »المدينة«. ويُطرح السؤال: هل العهد المذكور هنا هو عهد الله مع شعبه، أو اتّفاق مع عدوّ يهاجم الآن أورشليم؟ من اتّخذ المبادرة ونقض هذا العهد؟ الله، الملك، العدوّ؟ ولكن لا جواب.

مع آ 7، تبدّلت اللهجة فصوّر النص خراب البلاد قبل تدخّل الله. في هذا الإطار، تكلّم إيرونيمس عن اليهود الذين رأوا في »أرتئيل« ملائكة، فقال: أتوا يعلنون، بفم النبيّ، دعوة الأمم وغنى الكنيسة، ويبكون زوال الهيكل الذي وجب عليهم أن يتركوه. ما تخلّى إيرونيمس عن التفسير اليهوديّ، بل أعطى عنه اختلافة مسيحيّة: كالرسل الذين أرسلوا ليكرزوا لأورشليم بالسلام، وجدوا تعزية في ظهور الربّ، قبل أن يبكوا على أورشليم التي رفضت بلاغ الإيمان(12).

صوّر النصّ أوّلاً حزن أورشليم: الناس يبكون عند أبواب المدينة أو على الطرقات، ورسلُ السلام يبكون أيضًا بعد أن فشلت مهمّتهم، والأرض مقفرة، ولبنان والشارون والكرمل، خسرت أشجارها. ويأتي جواب الربّ (آ 10) مع ثلاثة أفعال: »قام، ارتفع، تعلّى«، وذلك كما في آ 3، 5. هو يظهر لا في شكل يراه الناس، بل في شكل رمزيّ: الله يعمل في التاريخ، ويتجلّى في أعماله. يبقى على البشر أن يتعرّفوا إليه. أمّا المعادون، فأعمالهم تسقطُ عليهم، بحيث يُحرَقون بالكلس والنار مثل شوك مقطوع.

وتأتي خاتمة هذا القول في آ 13-14: على الجميع، سواء كانوا بعيدين أم قريبين، أن يعرفوا العمل العجيب الذي عمله الربّ. وإذا رفض الخطأة، أخذ الفزع منهم مأخذه. أمّا الذين يقيمون مع الله، فهم يسلكون في طريق العدل، ويتكلّمون كلام الاستقامة (آ 15) على ما نقرأ في مز 15: 2-5.

ج- خلاص صهيون ومجدها (آ 17-24)

هنا يتذكّر النبيّ الأيّام التي كانت فيها أورشليم محتلّة (آ 18-19). »تتذكّر قلوبكم« أو بالأحرى: »تتمتم، تلهج وتتأمّل« (ي ه ج ه). في الماضي، كان المحاسب ووازن الضرائب، ومتفحّص الأبراج. أمّا الآن، فانتهى كلُّ شيء. لن يروا الشعب الشرس الذي لا يُفهَم كلامه، نقرأ »ن و ع ز«. لا يرد هذا اللفظ في الكتاب المقدّس إلاّ هنا. إنّه يرتبط بالعزّ والعزّة والقوّة. هو شعب »غامض الكلام«. حرفيٌّا: »عميق الشفتين«.

في آ 21 نقرأ حرفيٌّا: »لكنّ هناك القدير (ا د ي ر) يهوه لنا موضع أنهار، أنيال (جمع نيل، نهر مصر) واسعة الضفتين (حرفيٌّا: اليدين). لا يسير فيها أيّ قارب بمقذاف، وسفينة كبيرة لا تعبرها«. اعتبر بعضهم أنّ »ي ا ر ي م« قد أضيفت في ما بعد لتوضح معنى »أنهار«، لهذا تُلغى، كما قالت بيبليا شتوتغارت. قد يكون »أنيال« بدل »أنهار« في أيّ حال، ليست مصر، ولا نوأمون (طيبة) أفضل من أورشليم، »وإن كانت جالسة بين الأنيال (الأنهار) وحولها المياه التي هي بحر أمام السور، مياه هي سور«. ويبقى السؤال: لماذا البواخر الضخمة لمدينة صغيرة مثل أورشليم؟ لأنّ النبيّ يراها كبيرة بيد الربّ، فتشبه بمياهها الفردوس بأنهاره الأربعة (تك 2: 10-14). أجل، زالت الأمراض وبالتالي زالت الخطيئة التي تعاقب المرض، كما قال الربّ في خر 23: 25: »اعبدوا الربّ إلهكم، فيبارككم في خبزكم ومائكم، ويرفع الأمراض من بينكم«.

هذا القسم الثالث من ف 33، هو نشيد خلاص. وهكذا يتحقّق ما وُعد به الشعب في آ 14. ولكن من هم الذين يبصرون، ونحن نقرأ صيغة المفرد في العبريّ (ترى عيناك)؟ هو شعب يهوذا فردًا فردًا. وبالأحرى »البارّ« (الأبرار) المذكور في آ 15-16، الذي قام من الموت وشاهد هذه الولادة الجديدة في الانتصار. يرى أوّل انتصار الملك والأرض كلّها، بل انتصار أقاصي الأرض. وفي الوقت عينه، يتأمّل في هزيمة العدوّ.

وفي آ 21، يتطلّع النبيّ إلى الله، سبب كلّ هذه الخيرات، لكي يشكره. فيتصوّر أرضًا رائعة، ترويها المياه، فلا يزعجها أحد ولا تهدّدها السفن الكبيرة. فأورشليم تنعم بالماء الغزير، ولكنّ النيل لن يكون موضع عبور إليها. وهذا ما يعطيها الثقة والطمأنينة، لأنّ الربّ هو من يسوسها ويخلّصها (آ 22).

وتأتي آ 23 في أكثر من تفسير، ونحن نختار واحدًا. تقول: »حبالك«؛ إلى من يتكلّم النبيّ؟ يبدو أنّه يوجّه كلامه إلى العدوّ. كان قد قال في آ 21: لا تقترب السفن الضخمة من أورشليم. ولكن ها هي سفينة اقتربت. هي أشوريّة، إلاّ أنها تراجعت(13). أنكون هنا في إطار الكارثة التي حلّت بالجيش الأشوريّ حين حاصر أورشليم سنة 701؟ الأمر معقول. فسفر الملوك يروي »أنّ ملاك الربّ جاء وقتل من جيش أشور مئة وخمسة وثمانين ألفًا« (2 مل 19: 25). هو الوباء فعل فعله، فأُجبر الملك الأشوريّ على العودة إلى أرضه حيث تآمر عليه ابناه وقتلاه. فجاء بنو يهوذا واقتسموا الغنائم.

2- تحليل معاني النصّ

في هذه المجموعة الخامسة (ف 28-33) التي تجعلنا في الأيّام الأخيرة من وجود يهوذا (640-605 ق.م.)، نحن في أيّام يوشيّا ويوياقيم، مع تفكّك الإمبراطوريّة الأشوريّة، وصعود البابليّين والمصريّين، ساعة يتحرّك يهوذا في نهاية مشاهد الدينونة التي أعلنت عليه قبل ذلك بقرن من الزمن.

كلّ واحد من المشاهد الخمسة يبدأ مع »الويل« (ه و ي)، وكأنّنا أمام نشيد جنائزيّ. »ويلات« هذه المشاهد تمنع من رؤية التجديد والحياة الجديدة، أو الأمل بعودة يهوذا إلى مجده السابق في امتداد التخوم الداوديّة في زمن يوشيّا. أهميّة المدينة المقدّسة (أورشليم) التي تجدّدت، الوعد بمعونة مصر، أو حتّى وعد الله بالحكم على المستبدّ. من الواضح أنّ هذا البلاغ لا يمنح يهوذا مستقبلاً سياسيٌّا. بل تتواصل صورة الأمل الحقيقيّ في التركيز على معونة الله لصهيون كمدينة العبادة، ووعد الله بالنعمة وإفاضة روحه.

نستطيع أن نقابل هذه »الويلات« الخمسة مع »ويلات« على إسرائيل، قرأناها في الفصلين الخامس والعاشر، ساعة تتوازى مشاهد أورشليم مع الفصلين الثاني والرابع وف 66. لكنّنا نلاحظ التعارض مع ف 11. فنحن لا نجد نسل داود في هذه المشاهد(14).

بعد ويل وويل، جاء وعد الله بالحكم على المستبدّ الظالم. ويل له. هو دمَّر وسيأتي وقت يدمّره فيه الله، لا البشر. في هذه الدينونة المروّعة التي ترمز إليها حرب لا تُبقي ولا تنذر، من يستطيع أن يبقى حيٌّا أمام نار الله المحرقة.

في قلب هذه الفوضى العارمة التي لا تترك وراءها سوى الفراغ، الله وحده يمجّد. ويمجَّد في صهيون التي تبقى ثابتة ساعة الاضطراب في كلّ مكان. بالإضافة إلى ذلك، فالأحداث هذه تخدم مقاصد الله. هو يستعملها، أو يُدخلها، ليحرّك العدالة والبرّ اللذين غابَا في الأحوال السابقة.

أجل، هذا الويل الأخير قاد القارئ إلى نهاية الجنازة، فدلّ على الحقبة الأخيرة في وجود مملكة يهوذا. فبعد بكاء على السكّان وعلى مخطّطي السياسة، ينبّهنا ف 33 إلى أوّل الممالك العظيمة: »ويل لأشور قضيب غضبي وعصا غيظي« (5: 10). غير أنّ الحدث ينقلنا من حالة الفوضى والهزيمة، إلى الاحتفال بمكانة الربّ فوق جميع الأرض. فالله هو في التاريخ، ويحدّد تبدّلاته الحرجة، بل هناك مقصد في قلب هذه الفوضى الظاهرة: الربّ يعطي كنوزه في معبده، حيث وفرة الخلاص والحكمة والمعرفة ومخافة الله. هذا يعني كلّ فائدة روحيّة وعباديّة يجعلها الإيمان ممكنة لهؤلاء الذين يعرفون أنّهم يخصّونه.

وتأتي صورة عن الأزمة الماضية حيث المباحثات فتحت الطريق أمام المواجهة الحربيّة مع نتائجها المرعبة. فقرأنا آ 8:

»الطرقات خلت من سائليها،

وانقطع عابرو السبيل«.

وماذا كانت النتيجة؟ نقرأها في آ 9:

»الأرض تنوح وترزح،

ولبنان يذوي من الخجل.

الشارون صار كالبادية،

وتعرّى باشانُ والكرمل«.

حينئذٍ قام الربّ كما من نوم، وهدّد فقال في آ 11-12:

11 »تحبلون بالحشيش وتلدون التبن،

ونفَسي(15) نار تأكلهم

12 وتكون الشعوب كالكلس المحترق.

وكشوك مقطوع يُحرَق بالنار«.

تحرّك روحُ الغضب في مثل هذا الوضع، فصار مثل شرارة في وعاء من البارود. كلّ هذا الوضع يقودنا إلى الحقبة التي تُنهي التسلّط الأشوريّ على يهوذا. في تلك العقود، سيطرت الفوضى، وهزمت بابل الجيش الأشوريّ سنة 626 ق.م. واجتاحت قبائل السيتيّين المنطقة، فما عادت تعرف الجهة التي فيها تقف مصر. هو الغموض يحيط بهذه الحقبة(16).

في هذا الوضع، توجّه الربّ إلى القريبين والبعيدين، لكي يسمعوا (ش م ع) ويعرفوا (ي د ع، آ 13). وفي الآيات التالية يكون لنا الجواب عن نتائج تدخّل الله والتوبيخ الذي ينال الخطأة (ح ط ا ي م)، أي الذين تركوا الله. هم ابتعدوا عن الله، ساعة القوى (والآلهة) الخارجيّة سيطرت على الأمور. وهذا يتضمّن الذين عبدوا آلهة الأشوريّين، ولم يعودوا يبالون بعبادة الربّ. والذين استفادوا من هذا »الضباب« المسيطر ليتناسوا شرائع العدل والاستقامة، لا شكّ في أنّهم يرتجفون حين يفكّرون بأنّ الربّ سوف يسود في أورشليم مع عابديه الحقيقيّين. فما رأوا حينذاك في الربّ سوى النار الآكلة، التي تُحرق إلى الأبد. فهؤلاء الخطأة والمتمرّدون لا يمكن أن يكونوا غير ذلك. فلا يحقّ لهم أن يقيموا في حضرة الله (66: 24) الكلّيّ القداسة (هو نار). وجوهر العبادة هو معرفة عطيّة رحمته التي تمكّننا فنرغب في الحياة قرب الإله القدّوس.

واختار الربّ نوعيّة الأشخاص الذين يقيمون بقربه، في آ 15-16:

15 »السالكون طريق العدل،

المتكلّمون كلام الاستقامة،

الرافضون مكاسب الظلم،

النافضون أيديهم من الرشوة،

16 الغالقون آذانهم عن خبر الجريمة،

المغمضون أعينهم عن رؤية الشرّ«.

ما يفصل الإنسان عن الله، ليس ضعفه وعطوبته، بل التخالف على مستوى الطبع والالتزام. وحده الخاطئ لا يستطيع أن يحتمل حضور الله، أمّا التائب أو العابد فيتبع مبادئ الحياة التي يقدّمها له. فمن التزم هكذا كان له حظّ في الأعالي، حيث يقيم الله الذي يدافع عنه ويؤمِّن له حاجاته.

هذا الحدث هو صورة عن العلاقة الحميمة بين الدين والسياسة في يهوذا القديم، بل هو رسمة عن السياسة. فعلى أشوريّة أن تترك التسلّط على المدينة، مع جميع الامتيازات التي يتضمّنها هذا السلطان. ولكنْ صوِّرت النتيجة في أنّ الربّ يعيد احتلال مدينته، فيدافع عنها وعن بنيتها الاقتصاديّة. ثمّ إنّ المستقبل الذي يقدّمه النصّ ليس إعادة مملكة داود، بل المعرفة أنّ الله حاضر في أورشليم ويمكن أن يُعبَد هناك، كما في آ 22:

»لأنّ الربّ حاكمنا ومشترعنا،

ومخلّصنا هو وملكنا«.

3- اكتشاف الليتورجيّا

طالما قال القائلون إنّ الكتاب المقدّس بعهديه، قد تكوَّن ودوِّن في إطار ليتورجيّ. هذا الأمر واضح بالنسبة إلى البنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة، وواضح أيضًا في إنجيل متّى الذي يُعتبر ابن الليتورجيّا التي عاشتها الكنيسة من أورشليم إلى أنطاكية مرورًا في سهل البقاع وحمص وحماه. وقد قرأ أحد الشرّاح الأسرار في إنجيل يوحنّا. فإن كان الأمر هكذا، فلا نتعجّب إن نحن حاولنا أن نكتشف في ف 33 من سفر أشعيا، نصٌّا ليتورجيٌّا.

ماذا في النصّ الليتورجيّ؟ نظرة إلى الحياة التي يعيشها الإنسان بما فيها من صعوبات. وتأتي كلمة الله فتلقي بضوئها على الأحداث. وينتهي كلّ شيء بحضور الله وعمله الذي يجعل مدينته جنّة وفردوسًا. ذاك كان الوضع في أش 33. أمّا الوضع فبرز في خمسة ويلات متلاصقة. ثمّ كان الويل السادس الذي لخّص ما سبقه، ورفع نظره إلى الله في صلاة حارّة.

»إرحمنا يا ربّ، إيّاك انتظرنا«. تلك هي صلاة المؤمن الخاطئ، اليائس. هو يحتاج إلى الرحمة والغفران (آ 4). ويحتاج إلى من يعيد إليه الرجاء ساعة كلّ شيء يلفّه الغموض والضباب، فلا يعرف المؤمن ماذا يعمل. حينئذٍ تتدخّل كلمة الله: هو حاضر هنا. يكفي أن نعيش في مخافته (آ 6). وحضوره فاعل بحيث تبدو قوى الطبيعة مثل الحشيش والتبن (آ 11)، مثل الشوك المقطوع الذي لا جذور له (آ 12). كلّ هذا يمرّ في النار فلا يبقى منه شيء.

»إسمعوا... واعرفوا«. هكذا يكون الاحتفال في الليتورجيّا. نسمع كلمة الله فنتعرّف إلى الله، بعد أن تعرّفنا إلى عدد من الآلهة الكاذبة. هنا نتذكّر ما فعله آحاز حين مضى إلى ملك أشور. »رأى المذبح هناك فأعجب به. فأرسل إلى أوريّا الكاهن شكل المذبح مرسومًا بجميع تفاصيله« (2 مل 16: 10-11).

في الليتورجيّا، يكون الله حاضرًا. ويخاف أوّل من يخاف الخطأة وأولئك الذين لا إله لهم (ح ن ف ي م)، أي الكافرون بنعمة الله والرافضون عمله في الكون. هؤلاء لا يحقّ لهم أن يدخلوا إلى حيث يقيم الله. كان النجس لا يجسر أن يدخل الهيكل للصلاة. والخاطئ في الكنيسة الأولى يقف عند الباب في موقف التائب. وتتبدّل الأمور. يتذكّر المؤمنون أيّام الرعب والسلب والنهب والذلّ (آ 18-19). ولكن هذا مضى إلى غير رجعة. وصهيون لم تعد موضع الحرب، بل موضع السلام. في الماضي، كان الشارون كالبادية (آ 9). والآن، يمرّ في أورشليم لا نيل واحد، كما في مصر، بل أكثر من نيل (آ 21).

تلك هي الليتورجيّا التي تكوّنت في هذا الفصل من أشعيا. »إرحمنا«. هكذا اعتاد المؤمنون أن يقولوا: »تحنّن يا الله وباركنا. وأنر بوجهك علينا، فيعرف أهل الأرض طريقك، وجميع الأمم خلاصك« (مز 67: 2-3). ونقرأ في مز 123: 3: »تحنّن يا ربّ، تحنّن علينا. شبعنا من الذلّ، كم شبعت نفوسنا من هزء أصحاب الشأن، وإهانة المستكبرين علينا«.

وتتواصل الليتورجيّا، فتحتفل بتجلّي الله في صهيون (آ 2-6):

3 »من دويّ صوتك تهرب الشعوب،

وعند قيامك تتبدّد الأمم«.

ويبكي الشعب على الحالة الزريّة التي وصل إليها (آ 7-9)، وينتظر تدخّل الله عبر النار، فيدلّ على حضوره الذي يطهّر أورشليم (آ 10-16). حينئذٍ تنشد المدينة الناجية نشيدها:

20 »أنظروا إلى صهيون مدينة أعيادنا،

فترى عيونكم أورشليم«.

وتنتهي هذه الليتورجيّا (آ 23-24) بخاتمة تذكّرنا بما في البداية (آ 2-6) كما في ف 26 الذي يبدأ كما يلي:

1 »لنا مدينة منيعة،

حصَّنها الربّ لخلاصنا،

بأسوار ومتاريس«.

الخاتمـــة

تلك كانت مسيرتنا في قراءة ف 33 من سفر أشعيا. في مجموعة تضمّ ف 28-33، تعرّفنا إلى ويل وويل يقدّم لنا الوضع الذي يعيشه الشرق في دمار وخراب وموت بفعل الأشوريّين، يتطلّع المؤمن إلى الربّ من أجل صلاة يقوم بها وحده. ثمّ يدعو الجماعة كلّها إلى الليتورجيّا التي تنطلق من حاضر مؤلم وماضٍ أقسى، وتتطلّع إلى مستقبل تعود فيه إلى بهائها. ولكنّنا بعيدون جدٌّا عن عودة إلى أيّام داود مع جيش وعاصمة وهيكل مبنيّ بالحجارة الكريمة، في البداية كان الفردوس بمياهه علامة بركة الله. والسلام مسيطر فيه. وأورشليم التي تملك أكثر من نهر »نيل«، ولكنّ هذا النهر لا تعبره السفن الضخمة من أجل الخراب. لا شكّ في أنّه جاءت »سفينة« خاصّة، جاء الأشوريّون. ولكنّ أيّامهم انتهت وأورشليم تستطيع أن تنظر إلى الأمام بعد أن غفر الله إثمها، فصارت محطّ أنظار المؤمنين. يأتون إلى الحجّ يرافقهم الفرح فيقال لهم في مز 48:

13 »طوفوا بصهيون ودوروا حولها،

وعدّوا الأبراج التي فيها.

14 تطلّعوا بقلوبكم إلى حصونها،

وتمعّنوا جيّدًا في قلاعها

لتخبروا الجيل الآتي

15 أنّ الله هو إلهنا مدى الدهر،

16 وهو إلى الأبد هادينا«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM