الفصل الأول:الإطار التاريخي لسفر أشعيا في قسمه الأول

 

الإطار التاريخي لسفر أشعيا في قسمه الأول

ف 1-39

في القرن الثامن ق. م.، في ملء نبوءة اشعيا التي بدأت مع موت الملك عزيا، سنة 740، انقلبت موازين القوى. كانت ممالك صغيرة تتعايش بعضها مع بعضها قدر المستطاع، فتتغلّب الواحدة على الأخرى في مبارزة أو في نصر بسيط، تأخذ على اثره بعضَ المال ثمّ تمضي. وحدث أكثر من مرّة أن تُرك الأسرى وشأنهم، بل استُضيفوا عملاً بعادات ذلك الزمان وأطلِق سراحُهم. فترة مرّت بعد أن كانت حرب طويلة بين المصريين والحثيين جعلت رحاها تدور في ما يسمّى اليوم فلسطين وسورية ولبنان، مع معركة طويلة عند قادش على العاصي انتهت بتقاسم النفوذ. وتراخت الدولتان العظيمتان بحيث غاب وجودهما تقريباً. تبعثرت مملكة الحثيين الآتين من تركيا، بعاصمتهم حتوشا، وانكفأت مصر وراء حدودها تبني سوراً يقيها هجمات »الآسيويّين« الآتين من الشمال. ولكن منذ منتصف القرن الثامن، برزت قوّة هائلة، شريرة، قاسية، دمويّة، هي القوّة الأشوريّة التي تركت وراءها الخراب والدمار، وجلت السكّان من دمشق والسامرة وسائر المدن. عن هذه القوّة نتكلّم.

1 - أشور مدينة وشعب

نبدأ أولاً فنميّز بين كلمات ثلاث ترتبط بلفظ واحد في العبريّة »أ ش و ر«. أشور موقع جغرافيّ يقع في شمال بلاد الرافدين، الذي يوازي اليوم في قسمه الأكبر أرض العراق. فيه يمرّ نهر دجلة، كما نقرأ في سفر التكوين حين الكلام عن الفردوس: »واسم النهر الثالث دجلة، ويجري في شرق أشور« (تك 2:15). سُمّيت البلاد أشور أو، في اللغة الحديثة، »أَشُورْيَة«، لأنها تكوّنت حول عاصمة اسمها أشور، هي اليوم قلعة شرقات على الجانب الأيمن لنهر دجلة، وهي تبعد قرابة مئة كيلو متر إلى الجنوب من الموصل الحاليّة.

هذه المدينة اكتشفها ريتش سنة 1821 وقام بالتنقيبات فيها أندره من سنة 1903 إلى سنة 1914([1]). وُجدت فيها النصوص العديدة والوثائق التي توزّعت على حقبة امتدّت من الألف الثالث ق.م. إلى القرن الثالث ب.م. متى بدأت هذه العاصمة بالوجود؟ لا شكّ في القدم. كانت مدينةً هامة وعاصمة مقدّسة كما يقول أرشيف إيبلا([2]) السابق لسرجون الأول([3]). توالت الهياكل والقصور على مرّ الأجيال على ضفاف نهر دجلة، في ما سُمّي »قلب المدينة«.

سُمّيت هذه العاصمة أشور على اسم إلهها »أشور« بهيكله العظيم المبنيّ إلى الشمال من المدينة حيث يلتقي ساعدا دجلة. هناك عُبِدَ »جنيُّ«([4]) المكان منذ أزمنة لا يذكرها أحد، لأنها بعيدة الغور في التاريخ. ارتفعت الزقورة([5]) غربيّ الهيكل، وبجانبها القصر القديم الذي يعود إلى حقبة أكاد. قرب السور وُجد هيكل أكيتو، هيكل عيد رأس السنة الذي تأثر به الذاهبون إلى السبي بعد سنة 587 ق. م. وسقوط أورشليم، لإنشاد الله الملك في شعبه، رغم احتلال البلاد على يد الفرس.

مع أن مدينة أشور نعمت بأسوار هائلة، إلاّ أنها سقطت سنة 614 ق. م. في يد المادايين الذين نهبوا المدينة ودمّروها. ولكنها ما زالت كلِّياً من الوجود، بل صارت عاصمة مقاطعة في زمن الفراتين الذين برزوا منذ القرن الثالث ق. م.

أشور اسم إله واسم مدينة، وهو أيضاً اسم شعب، هو الشعب الأشوريّ والمملكة الأشوريّة. ونورد هنا بعض النصوص من الكتاب المقدّس نقرأها أولاً في سفر الملوك الثاني: »وجاء فول(6[6]) (تغلت فلاسر)، ملك أشور، لغزو الأرض، فأعطاه منحيم ألف وزنة من الفضة ليساعده على تثبيت ملكه« (2 مل 15:19). الأرض المذكورة هنا هي مملكة اسرائيل، في شمال فلسطين، بعاصمتها السامرة. وفي آ 29، نقرأ: »وفي أيام فقح، ملك اسرائيل، جاء تغلت فلاسر ملك أشور«. أو: ملك أشورية، وملك الأشوريّين. ويتحدّث اشعيا مراراً عن أشورية وملكها. قال في آية عمانوئيل: »فقبل أن يعرف الصبيّ كيف يرفض الشرّ ويختار الخير، تُهجَر الأرض التي يُرعبك ملكاها، فعلى يد ملك أشور يجلب الربّ عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك، أياماً لا مثيل لها، منذ انفصلت أفرايم (أو مملكة إسرائيل في الشمال) عن يهوذا (أو المملكة الجنوبيّة بعاصمتها أورشليم)« (اش 7:16 - 17). ولكن نفهم مع النبيّ أن سيّد الأحداث ليس الملك الأشوريّ، بل الله نفسه. الملك أداة يستعملها الله ليجلب الخير. والقوّة الأشوريّة التي كانت مضرب مثل، يشبّهها النبيّ »بالذباب« (آ 18) الذي يصفر له الربّ فيأتي من أرض أشورية. ويجعل اشعيا الدولتين العظيمتين، لا الواحدة تجاه الأخرى في حرب ضروس، بل الواحدة التي ترتبط بالأخرى، فيكون التبادل على جميع المستويات، مروراً بأرض فلسطين، أرض الربّ: »وفي ذلك اليوم يكون طريق من مصر إلى أشورية (أشور)، فيجيء الأشوريّون (أشور) إلى مصر، والمصريون (مصر) إلى أشور، ويعبد المصريون الربّ الاله مع الأشوريّين (أشور) (اش 19:23). ويتابع النص: »وفي ذلك اليوم تكون إسرائيل ثالثاً لمصر وأشور، وهذا بركة في وسط الأرض. ويمنح الربّ القدير بركته قائلاً: مبارك شعبي مصر (المصريون)، وصنعة يدي أشور (الأشوريّون) وميراثي إسرائيل« (آ 24 - 25).

2- الأشوريّون قوّة ضاربة

عرف الأشوريّون على مدّ تاريخهم ثلاث حقبات: القديمة، حوالي القرن الرابع والعشرين ق. م. كانت حقبة مجيدة، ممّا دفع ملك ايبلا إلى أن يوقّع معاهدة تجاريّة مع ملك أشور. ثم صارت أشورية جزءاً من الامبراطوريّة الأكاديّة التي بدأت مع سرجون الأول. ولكن كان مصير اشور كمصير أكاد حين اجتاح البرابرة مدينة أشور، فلبثت مدمّرة حتى القرن العشرين ق. م.، وشكّلت أشورية مقاطعة في امبراطورية أور، العاصمة القريبة من البصرة الحالية، في جنوب العراق. ولكنها تحرّرت سريعاً بعد سقوط إبّي سين سنة 1929 ق. م. وأخذت طريق التجارة تاركة السياسة للآخرين.

بدأت الحقبة المتوسطة في بداية القرن الخامس عشر ق. م. مع السلب والنهب والخضوع لساوستاتار (1480-.146) ملك ميتاني([7])، فدخلت أشورية في عصر من الظلمة انتهى مع أشور أو باليط (1353 - 1313) الذي أعلن نفسه الملك العظيم وصار قوّة كبيرة، فارتبط مع أمينوفيس الرابع (1330 - 1334) بعلاقات دبلوماسية وتجاريّة. في أيام هددنيراري الأول (1295 - 1264) امتدت اشورية إلى الغرب، وفرضت الجزية على منطقة دجلة العليا، وضمّت أرض ميتاني. ولكن هجمة شعوب البحر أعطت دفعاً للقبائل الأراميّة التي حصرت أشورية في أرضها الأولى وحاولت الدفاع عنها دفاع المستميت طيلة قرنٍ من الزمن.

وانتهت هذه الأزمة في القرن العاشر، في الحقبة النيوأشوريّة أو الأشوريّة الجديدة. بدأت الحرب على الدويلات الأراميّة في بلاد الرافدين العليا مع فرض الضرائب. ثم امتدّت الفتوحات ولكن داخل بلاد الرافدين مع أشوردان الثاني (934 - 912) وهددنيراري (911 - 891) وتوكولتي نينورتا الثاني (890 - 884) وأشور بانيبال الثاني (883 - 859).

مع شلمنصر الثالث (858 - 824) قرّرت أشورية أن تمدّ سلطانها إلى ما وراء الفرات فاحتلت مملكة بيت عدني([8]) الأراميّة. ودفعت الجزية دويلاتٌ سورية الشماليّة. أما دويلات سورية الوسطى والجنوبيّة، فانتظموا في حلف برئاسة هددعازر، ملك دمشق، واورخيليتا، ملك حماة، وآحاب ملك إسرائيل. وكانت معركة في قرقر، سنة 853، انتهت بهزيمة شلمنصر الثالث، ورجوعه إلى أرضه سنة 849. ولكن قُتل هددعازر الذي كان محور التحالف، فهجم الأشوريّون على دمشق ولكنهم لم يستطيعوا الاستيلاء عليها، سنة 841، فانتقل شلمنصر الثالث إلى مملكة إسرائيل، فخضع له ياهو، الملك الذي وضع يده على السامرة بقوّة السلاح.

في نهاية القرن التاسع، استعاد هددنيراري الثالث (810 - 788) سياسة جدّه شلمنصر الثالث، فهاجم مملكة أرفاد (التي ضمّت مدينة حلب) سنة 805/804. ثم توجّه إلى الجنوب، فحاصر دمشق، فاستسلم ملكُها ودفع الجزية.

سنة 744، كانت ثورة في البلاط الملكي، أوصلت تغلت فلاسر الثالث إلى العرش. احتلّ أرفاد، ثم غلب حلفاً معادياً بقيادة عزريا ملك يهوذا. وهكذا دفعت الجزية معظم الدويلات الصغيرة في سورية ولبنان وفلسطين. ونجت مملكة يهوذا العائشة في عزلتها، ولكنها ستدفع الجزية مع الملـك احـاز (2 مل 16:7) لقاء عون على الهجمة الأراميّة الافرائيميّة.

3 - الحروب الأراميّة والأشوريّة

كل هذا التاريخ الذي ذكرنا، أوصلنا إلى منتصف القرن الثامن، ونبوءة اشعيا في أرض يهوذا، مع الأخطار المحدقة بالمملكة في أكثر من مناسبة.

ونبدأ كلامنا بالمواجهة بين مملكة إسرائيل والأمبراطوريّة الأشوريّة. سبق وذكرنا مناحيم، سنة 738. غير أن الحوليات الأشوريّة تتوسّع توسّعاً في هذه المواجهة. فمنذ سنة 853 ق. م.، حسب صخرة كورخ([9]) الكبيرة، التي نقش عليها في نهاية السنة السادسة لشلمنصر الثالث أسماء 12 ملكاً من الشرق([10])، تحالفوا عليه وواجهوه في موقعه قرقر، ساعة كان جيشُه يسير في وادي العاصي. يُذكر في هذه اللائحة ملوك حماة ودمشق وإسرائيل. أعلن الأشوريّون في حولياتهم أنهم انتصروا، ولكنهم في الواقع هُزموا وانكفأوا إلى أرضهم. وفي السنة الثامنة عشرة لشلمنصر الثالث، سنة 841، كانت محاولة ثانية، وجدت الدويلات متفكّكة، لا متحالفة. أراد ملك دمشق أن يقاوم، فهُزم واجتاح الأشوريّون أرضه. وخضع ملوك صور وصيدا وإسرائيل ودفعوا الجزية. هذا ما تقوله الحوليّات الأشوريّة، وتصوّره مسلّة سوداء ترينا ياهو، ملك اسرائيل، راكعاً أمام الملك الأشوريّ، ومقدّماً له الجزية)[11]). وتعدّى الأشوريّون دمشق فاجتاحوا حوران ووصلوا إلى حدود مملكة إسرائيل التي نجت من الاجتياح. ولكن وقتها آتٍ في القريب.

والمواجهة الثالثة حصلت يوم اجتاح هددنيراري الثالث مملكة دمشق، فاحتلّ العاصمة والقصر الملكي سنة 803. في هذه المناسبة، حمل يوآش، ملك إسرائيل، الجزية إلى ملك أَشُورْية([12]). هذا ما لم تذكره النصوص البيبليّة. أما اجتياح تغلت فلاسر الثالث سنة 838 ودفع الجزية بيد مناحيم، فذكرته الحوليات الأشوريّة(13[13])، كما النصّ البيبليّ في 2 مل 15:18 - 20. دفع مناحيم المال أيضاً طلباً لمساندة ملك أَشُورْية لمملكته المتعثّرة.

بعد الإشارة إلى سقوط السامرة بيد شلمنصر الخامس ودمار مملكة إسرائيل (2 مل 17:3 - 6)، يُذكر اجتياح سنحاريب([14]) في أيام ملك يهوذا، حزقيا: نقرأ الدمار الذي خلّفه الجيش الأشوريّ، وحصار أورشليم حيث بدا حزقيا وكأنه في قفص (2 مل 18:13 - 36). ولكن الحدث انتهى بشكل لم يتوقعه أحد. قتل ملاك الربّ في ليلة واحدة 185000 رجلاً، وعاد ملك أشور إلى أرضه (2 مل 19:35 - 36).

ويُطرح السؤال: لماذا ذكرت نصوصٌ وأُغفلت أخرى؟ الجواب: اعتادت المدوّنات الملكيّة أن تؤكّد أن الانتصارات تعكس عطف الإله سيّد الأرض، والهزائم هي نتيجة غضبه. أعلن ميشع، ملك موآب، على مسلّة ذيبان: »بنيتُ هذا المقام لكموش في قريمو، مقام خلاص، لأنه نجّاني من كل الهجمات، ونصرني على جميع خصومي. كان عمري ملك اسرائيل، فضايق موآب أياماً عديدة، لأن كموش كان غاضباً على أرضه[15])). وعديدة هي المدوّنات التي أْعلنت بأن رفع الدمار القاسي على المدينة كان نتيجة حماية إله السلالة الملكيّة. في هذا الإطار، نقرأ مدوّنة زكور الأراميّة، التي تعود إلى القرن التاسع: »حينئذ جمع برهود، بن حزائيل، ملك أرام عليّ 16 (؟) ملكاً... كل هؤلاء الملوك حاصروا حزراك ورفعوا سوراً أعلى من سور حزراك، وحفروا خندقاً أعمق من خندقه. فرفعتُ يديّ نحو بعل شمين (بعل السماوات)، فأجابني بعل شمين. حدّثني بعل شمين بواسطة الرائين والعرّافين، وقال لي: »لا تخف. فأنا الذي ملّكتك، وأنا أقف معك، وأنا من ينجّيك من جميع هؤلاء الملوك الذين أقاموا عليك حصاراً...«([16]).

مقابل هذا، لا يتردّد ملوك الشرق الأدنى، في حوليّاتهم، في القول بأن الاله تخلّى عن الملك السابق. والمثال اللافت على ذلك، مدوّنة كورش الذي انتصر انتصاراً ناله بفضل حماية إله بابل: »مردوك، السيد العظيم، حافظ البشر، نظر بفرح إلى أعماله ([17]= كورش) الصالحة وقلبه المستقيم، وأمَره بأن يمضي إلى مدينته بابل. سيّره في طريق بابل، ومشى دوماً بجانبه كصديق وصاحب... وأدخله إلى بابل دون حرب ولا قتال. ونجّى مدينة بابل من الضيق، وسلّم إلى يده نبونيد الملك الذي لا يخافه (= الله)«. إذن، دلّ النصر على حماية الإله، والهزيمة على أن الآلهة تخلّوا عن ملك ترك إلهه. وراح الخبر البيبليّ أبعد من ذلك، فرتّب التاريخ كله من خلال علاقات بين الله والبشر[18])). فالخبر يتوزّع بحسب رسمة من الخيانة لله مع ما يتبع هذه الخيانة من شقاء، إلى العودة إلى الله وإرسال مخلّص يحمل الخلاص للشعب.

انتصار قرقر هو في الدرجة الأولى، انتصار آحاب. غير أن هذا الملك هو نموذج الملك الشرّير. قيل عنه مرّة أولى: »فعل الشرّ أمام الربّ أكثر من جميع من تقدّمه« (1 مل 16:30). وفي آ 33: »وأغاظ الربّ إله اسرائيل أكثر من جميع سابقيه من ملوك إسرائيل«. لهذا، لم يُذكر هذا النجاح الذي لا يوافق نظرة الكاتب الاشتراعيّ. أما ياهو فهو موضوع العطف الإلهيّ، بعد أن اختاره الله، ومسحه نبيٌّ شاب بأمر أليشع (2 مل 9:1، 6). فما كان بالامكان أن يصوّر خاضعاً لملك أَشُورْيَة، ساجداً أمامه وذليلاً، وهو يدفع الجزية. لهذا لم يذكر الكتابُ المقدّس هذه الحادثةَ. ونقول الشيء عينه عن حفيده يوآش الذي كان من سلالة اختارها الله، وإن كانت أمانته محدودة. فإغفال المعلومات يتجاوب مع اهتمام بمراعاة التوافق بين الأمانة لله والنجاح الحربيّ، بين الكفر والهزيمة.

في هذا الإطار، نفهم المناخ الذي قيلت فيه نبوءة اشعيا. المدّ الأشوريّ يهدّد ممالك سورية وفلسطين وفينيقية، منهم من خضع فدفع الجزية صاغراً، ومنهم من قاوم، فكانت النتيجة الخراب، كما حدث للسامرة سنة 722/721: »توقّف (هوشع) عن دفع الجزية السنويّة، كما في السابق، فقبض عليه شلمناصر، وأرسله مقيّداً إلى السجن. ثمّ صعد ملك أَشُورْيَة على الأرض كلها، صعد على السامرة وحاصرها ثلاث سنين. وفي السنة التاسعة لحكم هوشع، احتلّ ملك أَشُورْيَة السامرة وسبى بنى اسرائيل إلى أَشُورْيَة. أسكنهم في حلح وعلى الخابور، نهر جوزان، وفي مدن ماداي« (2 مل 17:4 - 6).

وتحالفت دمشق مع السامرة وممالك أخرى لصد الهجمة الأشوريّة. ولما رفضت يهوذا التحالف، »صَعِدَ رصين ملك أرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم لمحاربتها. فما قدرا أن يستوليا عليها« (اش 7:1). ولكن الخسارة كانت كبيرة لملك يهوذا الشاب، آحاز. خاف، فحمل جزية كبيرة إلى ملك أشور. في هذا الوقت تدخل أشعيا: »لا يحدث ذلك ولا يكون« (آ 7). أراد الحلف أن يزيل آحاز ويجعل مكانه »ابن طبئيل« (آ 6)، ذاك الموظّف الكبير في بلاط أورشليم. ما كان العدوُّ فقط في الخارج، بل في الداخل أيضاً. بدأ جزء كبير من شعب أورشليم يبتعد عن سلالة داود التي خسرت الكثير من شعبيّتها، ويتطلّع إلى ابن طبئيل الذي قد يكون رئيس حزب داخل القصر الملكي سبقه يربعام حين قام على سليمان. وقد يكون حاول ابن طبئيل متطلّعاً إلى مصر العدوّ التقليديّ للأشوريّين.

الخاتمـــــة

عاش أشعيا قريباً من البلاط الملكيّ في أورشليم، بعد أن كان، على ما يبدو، قريب الملك. وعايش الأحداث التي عايشها الملك وعظماؤه وشعبه، وكلّها مرتبطة بالهجمة الأشوريّة باتجاه البحر المتوسط. سواء تكلّمنا عن الحرب الأراميّة (دمشق) الأفرائيميّة (السامرة عاصمة مملكة إسرائيل) التي أرادت أن تخضع أورشليم وتُدخلها في حلف يواجه الخطر الآتي من بلاد الرافدين. أو تكلّمنا عن هجمة أشور في أيام تغلت فلاسر الثالث الذي احتلّ دمشق سنة 734، وفي أيام خلفه شلمنصر الخامس الذي حمل الحرب إلى فينيقية وفلسطين، فحاصر صور، ثم حاصر السامرة التي سقطت سنة 722، ولبثت أَشُورْيَة في فلسطين، متطلّعة إلى أرض يهوذا تعيث فيها خراباً، »فصار الشعب في الظلام وفي أرض الموت« (اش 9:1). وفي النهاية، حاصر سنحاريب أورشليم، ولكنه ترك الحصار ومضى، بعد أن أصاب جيشَه الوباء. كل هذا عرفه أشعيا أو رآه بعينيه أو سمع عنه. ولكن إيمانه أقوى من قوّة الملوك، لأنه يستند إلى كلمة الله. لهذا تكلّم في كل مناسبة، مرّة ليدعو آحاز إلى الاتكال على الله، ومرّة ليعلن بأن المدينة لن تسقط، والربّ مقيم فيها. بفضله نجت عاصمة الهيكل مرّتين من الخراب. ولكن إلى متى؟ وراح الأشوريّون، وخلفهم البابليون، فاحتلّوا أورشليم سنة 587 ق. م. وأجلوا سكانها، كما أجلى الأشوريّون سكّان السامرة. وفي الجلاء، سيفهَم شعب الله أن رسالته ليست سياسيّة ولا عسكريّة. رسالته أن يحمل اسم الله وينادي بعبادته وحده دون سائر الآلهة، آلهة الخشب والحجر. أترى شعب الله سيعرفون؟ أتراهم سيفهمون (اش 1:3)؟



[1] الاسمان هما Dict. Enc. de la Bible (DEB), Brepols, 1987, p. 158. C. J. RICHC, W. ANDRA

[2]اكتشفت أول ما اكتشفت سنة 1968، هي تل مرديخ الذي يبعد قرابة 55 كلم إلى الجنوب من حلب. أول ما وُجد فيها تمثال نصفيّ للملك إبيت ليم. مدينة تعود إلى الألف الرابع. رج Dict de la civilisation mésopotamienne (DCM), Paris, Robert Laffont, 2001, p. 261 - 263.

[3]( (3 سرجون الأول الأكادي: شارو-كين: الملك الشرعيّ. أشهر ملوك بلاد الرافدين. ملك، علىما يبدو، من سنة 2315 إلى سنة 2279، وهذا ما يوازي تقريباً 55 سنة voir DCM, p. 754

)[4] LE GENIE روح أو كائن أسطوريّ يُعتبر سيّد مكان من الأمكنة، يقيم عادة في الوديان وقرب الأنهر

)[5] ziggurat :البناء المرتفع. ذاك معنى اللفظ في الأكاديّ. بناء من طوابق عديديطأ قمّته الاله حين ينزل على الأرض، وهكذا حلّت الزقورة محلّ الجبل في التقليد الفينيقيّ والعبري والأوغاريتيّ DCM,p.918

[6] (6) فول اسم تغلت فلاسر الثالث (745 - 727) ملك أشورية. أخذ اسم »فول« حين امتدّ ملكه إلى بابل، في جنوب بلاد الرافدين.

[7] (7) ظهر الاسم أول ما ظهر في طيبة (مصر)، في قبر امنمحات (بداية القرن 15). الجدّ هو »مايتا« كما في النصوص المسماريّة. سماهم المصريون »نهارانا« أي بلاد النهرين، والحثيّون »أرض الحوريّين«، وجيرانهم »سوبرتو« أو أرض الشمال. هذا الشعب الحوريّ وصل مع ملوكه إلى البحر المتوسط

[8] (8) مملكة أراميّة وُجدت في القرن التاسع على الفرات الأوسط.

[9] (9) Monolithe de Kurkh

F. BRIQUEL - CHATONNET, Les relations entre les cités phénicienne [10]

etles royaumes d’Israël et de Juda, Studia Phœnicia XII, Orientalia Lovaniensia Analecta 46, Louvain 1992, p. 79 – 86

[11] J.B. PRITCHARD, The Ancient Near East in Pictures Relating to the

Old Testament, Princeton University, 1954, no 351

[12] نقرأ اسمه على نصب تلّ الرماح: يوأشو (ك و ر) ساما ر ي ن ا.

[13] نصب إيران، مدوّنات تغلت فلاسر الثالث، ملك أشورية. نُشرت سنة 1994. ثم حوليّات كلحو التي نقرأها في الموضع عينه مع اسم الملك: ما ني صي ام م ي (اورو) سا ما ر ي ن ا.

A. Kirk GRAYSON, Assyrian Rulers of the Early First Millenium BC II (858 - 745), The Royal Inscriptions of Mesopotamia Assyrian Periods, vol 3 (Toronto, 1996).

[14] حوليّات سنحاريب على أسطوانة المعهد الشرقيّ في شيكاغو (أميركا)، العمود الثالث، سطر 18 - 49. D. LUCKENBILL, Ancient Records of Assyria and Babylonia, Chicago, 1927, II, 240.

[15] J. BRIEND et M. J. SEUX, Textes du Proche-Orient ancien et histoire d’Israë, Paris, Cerf, 1977, p. 90 - 91.

[16] المرجع السابق، ص 96.

[17] المرجع السابق، ص 153: أسطوانة من الطين وُجدت في بابل

[18] في هذا الاطار نفهم الفرق بين سفر يشوع وسفر القضاة. كان يشوع خادم الله مثل موسى، فما عرفت مسيرته سوى النصر. أما بعد موت يشوع، فسيطرت عبادة البعل والعشتاروت، لهذا تعثّرت مسيرة القضاة بين الخيانة والعقاب من جهة، والتوبة والخلاص من جهة ثانية. نحن لا ننسى أننا في إطار التاريخ الاشتراعيّ الذي يُشرف على أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك

(19) وتبقى مسألة هامة في كتاب الملوك: كيف استطاع منسّى، الملك الكافر أن يملك 55 سنة، ساعة مات يُوشِيَّا، الملك التقيّ شابا؟ هنا استنبط كتاب الأخبار حدثاً له رمزيّته: سُبيَ الملك منسى إلى بابل بسبب لا أمانته. ولكنه تاب هناك، عاد إلى الله، فأعاده الله إلى أورشليم. وهذا ما حدث لشعب يهوذا الذي مضى إلى السبيّ: هو يستطيع أن يعود إلى الله، فيعيده الله إلى أرضه. رج F. BRIQUEL - CHATONNET, “Les guerres araméennes et assyriennes dans les livres des Rois”, in Etudes d’Egyptologie 3 (2003), Actes du colloque du Collège de France, 2002, p. 49 - 61.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM