تقديم

سنة 1988، كان في لوفان، من أعمال بلجيكا، مؤتمر حول إشعيا النبيّ. نُشرت أعمالُه في السنة التالية، بعنوان: كتاب إشعيا، الأقوال النبويَّة وإعادة قراءتها. وحدة هذا السفر وتشعُّباته([1]). وبرز خطّان اثنان. الأوَّل وهو الخطُّ التقليديّ، اعتبر أنَّ سفر إشعيا يرتبط بالنبيّ الذي عاش في القرن الثامن([2]). أمّا ما الذي جعله يتكلَّم عن كورش ابن القرن السادس، فهو مفهوم النبوءة حيث الرائي يرى المستقبل قبل حدوثه. استُعيد هذا الخطُّ في العصر الحديث، فرأى مساندوه أنَّ النبوءة لبثت شفهيَّة قبل أن تصبح كتابة. وتلاميذ إشعيا وتلاميذ تلاميذه أعادوا قراءة ما تركه هذا الشاعر العظيم وطبَّقوه على الزمن الذي يقيم فيه، بحيثُ لم تعُد النبوءة الإشعيائيَّة نتاج مؤلِّف واحد، ولو كان من أعظم الأنبياء، بل نتاج مدرسة امتدَّ عملها سحابة قرنين من الزمن ونيِّف.

والخطُّ الثاني انطلق منذ القرن الثاني عشر مع ابن عزرا المتوفّي حوالي سنة 1164([3]) الذي تساءل: هل هناك كاتب واحد لنبوءة إشعيا أو أكثر من كاتب؟ وبعده راح التيّار يقوى مع دودارلاين([4]) سنة 1775، ومع إيخورن([5]) سنة 1780-1783. هذان الكاتبان أكَّدا أنَّ ف 40-66 دُوِّنت بيد كاتب آخر، عاش بعد ذلك الزمن، بعد مئة وخمسين سنة، وذلك خلال السبي البابليّ. فصارت هذه الفصول: إشعيا الثاني. سنة 1892، برهن دوهم([6]) أنَّ أناشيد عبد يهوه دوَّنها كاتب آخر. وكذا قال عن ف 56-66 التي رأى فيها كاتبًا ثالثًا، بحيث دعا هذا القسم: إشعيا الثالث.

اقتنع البروتستانت بهذا الموقف. وتردَّد الكاثوليك([7]) بعض الشيء قبل أن يتَّخذوا موقفًا. ولكن جواب اللجنة الحبريَّة البيبليَّة الذي جاء سلبيٌّا في 29 حزيران1908([8])، جعل الباحثين الكاثوليك يتخوَّفون من الحركة العصرانيَّة([9]) ويعودون إلى نظرة محافظة جدٌّا([10]). ولكن حين حُلَّت المسائل اللاهوتيَّة التي لم تعد تربط الإلهام بالأمور الأدبيَّة والتاريخيَّة، عاد الكاثوليك إلى الكلام عن وحدة سفر إشعيا. وكان انفتاح مع شروح فالدمان([11]) سنة 1926، وفيشر([12]) سنة 1939، وكيسان([13]) سنة 1943.

أمّا الأسباب الرئيسيَّة لفصل 40-55 عن 1-39، فهي تاريخيَّة في الدرجة الأولى. فالنبيّ لا يتحدَّث بعدُ إلى سكّان أورشليم، بل إلى المنفيّين في بابل (43: 14؛ 48: 30). فأورشليم دُمِّرت وهي تنتظر من يُعيد بناءها (44: 26-28؛ 49: 14-23). وبابل لم تعد تلك الحليفة كما قال كتاب الملوك، بعد أن دمَّرت أورشليم وسبت السكّان. في إشعيا الأوَّل (ف 1-39) كلام عن السلالة الداوديَّة. أمّا في إشعيا الثالث (ف 56-66) فتعود النبوءة إلى أرض يهوذا وأورشليم مع صعوبات عديدة لا يعرفها إشعيا الأوَّل.

لا مجال للكلام عن الإطار الأدبيّ ولا عن الإطار التعليميّ والرعائيّ. كلُّ هذا قاد الباحثين إلى الكلام عن ثلاثة كتّاب للنبوءة الإشعيائيَّة، بحيث استطاعوا الكلام عن إشعيا الأوَّل (ف 1-39) وإشعيا الثاني (ف 40-55) وإشعيا الثالث (ف 56-66).

في هذا الإطار نقدِّم بعض الدراسات الإشعيائيَّة التي ظهرت في مجلَّة بيبليا خلال هذه السنوات الأخيرة في إطار الاستعداد لتفسير إشعيا في سلسلة »المجموعة الكتابيَّة«. كما سبق لنا أن قدَّمنا كتابَي شروح لسفر إشعيا في سلسلة »القراءة الربِّيَّة«، اسمعي أيَّتها السماوات (رقم 16). اسمعوا أيُّها الشعوب البعيدة (رقم 17).

مواضيع فيها البحث مع ألفاظ عبرانيَّة ويونانيَّة وسريانيَّة لمن يحتاج إليها، كما فيها النظرة الرعائيَّة، والنصوص الآبائيَّة من عالم أنطاكية، سواء السريانيّ منه أو اليونانيّ.

ذاك هو الكتاب الذي نقدِّم بعنوان: النبوءة الإشعيائيَّة، سواء كانت من نتاج إشعيا أو من نتاج تلاميذه وتلاميذ تلاميذه. في أيِّ حال، هذا السفرُ هو كلام الله بحسب إيماننا، وهو نتاج الجماعة المؤمنة حين دوَّنت ما دوَّنت في اللغة العبريَّة، ثمَّ نقلته إلى اليونانيَّة في الغرب وإلى السريانيَّة في الشرق. وما زلنا حتّى الوم نغتني منه على مستوى الإيمان، وننشرح حين نقرأ ما تركه لنا أكبر الشعراء في تاريخ البشريَّة.

الخاتمة

النبوءة الإشعيائيَّة، ذاك هو كتابنا. قرأناه في ثلاثة أقسام بحسب الأحداث التاريخيَّة التي نستشفُّها من خلال هذا الكلام النبويّ. أمّا اللفظ الأساسيّ فهو المنفى. فما دعوناه القسم الثاني هو كلام يرتبط بالمنفى البابليّ الذي عاشته يهوذا بعاصمتها أورشليم. والقسم الثالث حمله 'نبيٌّب إلى العائدين من المنفى ليعيد إليهم الثقة بربِّهم أمام الصعوبات المتراكمة على شعب من الفقراء. وعنونّا القسم الأوَّل: قبل المنفى، لا على أنَّه ارتبط بشكل مباشر بحقبة سابقة للمنفى، بل على أنَّ الوضع الاجتماعيّ كان مختلفًا جدٌّا عن إطار إشعيا الثاني والثالث.

ففي هذا القسم الأوَّل، الشعب يقيم في أرضه. له ملكه من نسل داود، وهو ينتظر ملكًا يكون بحسب قلب الله، يمسحه الربُّ ويرسله فيكون 'مسيحهب عاصمته أورشليم قلبُ الدنيا وإليها يأتي المؤمنون خلال أعيادهم. إطار من السعادة حيث يجلس كلُّ واحد، في أمان، تحت كرمه وتينه، لا يرعبه أحد. كلُّ هذا تبدَّل بعد مئة سنة ونيِّف. وهكذا نلاحظ امتداد النبوءة الإشعيائيَّة بعد موت النبيّ الذي عُرف في القرن الثامن واعتبر من العائلة الملكيَّة الداوديَّة.

الوضع تبدَّل كلُّه في القسم الثاني. والنبيُّ أي ذاك الذي حمل كلام الله إلى المنفيّين، لا يذكر اسمه، بل يدعو نفسه 'صوت صارخ في البرِّيَّةب حيثُ يقيم المبعَدون عن أرضهم، على مثال أجدادهم الذين كانوا في برِّيَّة سيناء، منطلقين إلى أرض يقيمون بها، والتي دعوها فيما بعد أرض الموعد، لأنَّ كلَّ عطيَّة صالحة إنَّما هي من عند أبي الأنوار.

في إشعيا الثاني، الشعب بعيد عن أرضه، فبدا مثل الجثث في الوادي، كما قال النبيّ حزقيال. فهل تراه يقوم من سباته، من رقاده؟ تلك هي مهمَّة النبيّ في ذلك الوقت العصيب. في إشعيا الثالث، عملَ الروح في هذه 'الجثثب فصارت شعبًا كبيرًا جدٌّا واستعاد المغامرة التي عاشها أجداده. شدَّدوا أيديهم المسترخية، وثبَّتوا ركبهم المرتجفة (35: 3)، رجعوا إلى صهيون مرنِّمين 'وعلى وجوههم فرحٌ أبديّب (آ35). ولكن حين وصلوا بدت الصدمة عنيفة، لماذا هذه العودة وما فيها من صعوبات؟ كانوا يعيشون في الماضي، وكأنَّ كلَّ شيء يكون 'كما أخبرنا آباؤناب (مز 78: 3). فلماذا البقاء في أرض صارت لغيرنا؟ إنَّهم هنا من أجل رسالة: جمْعُ الشعوب حول الله في عاصمته أورشليم، في عبادة للإله الواحد. لا مجال للعودة إلى الماضي بالنسبة إلى المؤمن، لأنَّه لن يجد الربَّ هناك. فالله ينتظرنا الآن ويحدِّثنا الآن بكلامه البشريّ. تلك كانت خبرة الرسل والنسوة بعد القيامة: أرادت مريم أن تلمسه، والرسل أن يروا أثر الجراح. كلُّ هذا انتهى. بل في البداية توقَّفوا عند القبر الفارغ لعلَّ الميت يخرج منه أمامهم. ولكنَّ الربَّ طلب منهم أن يسبقوه إلى الجليل. فمن هناك ينطلقون كما انطلق هو. وتلك يجب أن تكون خبرتُنا: لا ننظر إلى الماضي فنتحسَّر عليه. ولا نتوقَّف عند الطعام والشراب، كما يقول الرسول (رو 14: 17)، فملكوت الله أمسى من هذه الأمور المادِّيَّة التي نبحث عنها قائلين: ماذا نأكل، ماذا نشرب، ماذا نلبس؟ (مت 6: 31). ونحن نطلب أوَّلاً الملكوت والباقي يُعطى لنا (آ33). نحن نتساءل: ما هي الرسالة الني نقوم بها؟ لماذا نحن وُجدنا في هذه الأرض التي نعيش عليها؟ سؤال طرحه العائشون في الأرض بعد العودة. ونحن نطرحه على نفوسنا.



[1] J. VERMEYLEN, The Book of Isaiah, Le livre d’Isaïe, Les oracles et leurs relectures. Unité et complexité de l’ouvrage (BETL 81), Leuven, 1989, X-472 p

[2] J. VERMEYLEN, « Isaïe » in Dict. Enc. de la Bible (= DEB), (Brepols, 1987), p. 619-921, ici p. 620); J. STEINMANN, Le prophète Isaïe, sa vie, son œuvre et son temps, Paris, 1950; R. MARTIN-ACHARD, « Esaïe et Jérémie aux prises avec les problèmes politiques » in Revue d’Histoire et de Philosophie Religieuses (= RHPR), 47 (1967) 208-224; J. BECKER, Isaias, Der Prophet und sein Buch, Stuttgart, 1968.

بولس الفغالي، المدخل إلى الكتاب المقدَّس، الجزء الثاني، من الشريعة إلى الأنبياء، المكتبة البولسيَّة، 1995، المجموعة الكتابيَّة، 1، ص 369-394

 

[3] R. LEVY, Deutero-Isaïah, Londres, 1925, ch. 2. Voir Abraham ben Mur Ibn Ezra (1090-1164), Commentary of Ibn Ezra Book on Isaïah, Texte hébreu. Traduit en anglais par M. FRIEDLANDER, 2éme éd. New-York, Feldheim, 1966

[4] J. C. DÖDERLEIN (1775), Esaiak, ex recursione textus Hebraei, Altorfi, 1789, p. XII-XV

[5] (J. G. EICHHORN (1819), Die Hebräischen Propheten Göttingen 1816-1819; Id, Einleitung in die Alte Testament, (Leipzig, 1783) 3, p. 76-97; O. EISSFELDT, The Old Testament: an Introduction, The Old Testament: an Introduction, tr. By P. R. ACKROYD, New-York, 1965, p. 304

[6]B. DUHM (1892), Das Buch Jesaja übersetzt und erklärt, HKAT 311, Göttingen, 1902; 5th ed, 1968; O. T. ALLIS, The UnityLondon, 1955; Id, Who Wrote Isaiah?, Grand Rapids, Erdmann, 1958

[7] A. CONDAMIN, Le livre d’Isaïe, Paris, 1905

[8] الكنيسة الكاثوليكيَّة في وثائقها، المكتبة البولسيَّة، 2001، ص 750-751، عدد 3505-3509: جواب لجنة الكتاب المقدَّس، 29 حزيران 1908، طبعة كتاب إشعيا وواضعه. نقرأ هنا السؤال الرابع (ص 751): 'هل يمكن الحكم بأنَّ البرهان اللغويّ المستند إلى اللغة والأسلوب، والمعتمَد للطعن في هويَّة واضع سفر إشعيا، هو من القوَّة بحيث يلزم إنسانًا رزينًا، طويل الباع في الطريقة النقديَّة واللغة العبريَّة، أن يسلِّم بعدد الواضعين لهذا السفر عينه؟ جواب: كلاّ. ثمَّ السؤال الخامس: 'هل هناك براهين قويَّة تستطيع، ولو مجتمعة، إثبات أنَّه لا لزوم لنسبة سفر إشعيا إلى إشعيا وحده، وإنَّما إلى اثنين أو إلى بضعة واضعين؟ جواب: كلاّ.

[9] modernism نستطيع القول: الحركة المستحدثة. وندعو المستحدثين modernists

[10] Rome and the Study of Scripture (7th ed: St Meinard, 1962, p. 119)

[11] F. FELDMANN, Münster, 1926; voir A. FEUILLET, “L’origine de la seconde partie du livre d’Isaïe et les caractéristiques littéraires et doctrinales d’Is XL-LV (abstraction faite des Poèmes du Serviteur) », Etude d’exégèse et de théologie biblique, Paris : Gabalda, 1975, p. 97-117.

[12] J. FISCHER, Bonn, 1939.

[13] E. J. KISSANE, The Book of Isaiah, 2 (Dublin, 1943).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM