اليوم الثاني - الرقيع وجلد السماء بمياهه 521-832

في اليوم الثاني (521-842) قرأ يعقوب السروجيّ تك 1: 6-8. وها نحن نبدأ فننقل نصّ البسيطة:

6. وقال الله: ليكن رقيع في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه.

7. وصنع الله الرقيع وفصل بين المياه التي تحت الرقيع، وبين المياه التي فوق الرقيع. فكان كذلك.

8. ودعا الله الرقيع سماء، وكان مساء وكان صباح يومٌ ثانٍ.

بعد كلام عن اليوم الأوّل الذي هو أساس الخلق، والذي لم يجر مثل سائر الأيّام، لم يظهر النور في المشرق ليغيب في المغرب. فقد انتشر هذا النور على الخليقة في الوقت الذي أعطيَ له. وهو ما تبدّل. وهكذا خرج يوم واحد من الليل والنهار اللذين تواليا بدون توقّف.

وطبعَ اليومُ الأوّل بطابعه سائر الأيّام إخوته. وضعه الخالق، ثمّ زاحه ليدعو اليوم الثاني. وضع الأمسيات والإصباحات في مسيرتها، بحيث تسير عجلة الزمن كما يريدها الخالق.


مقدّمة

وقال الربّ: "ليكن رقيعٌ في وسط المياه،

وليكن فاصلاً بين المياه والمياه العلويّة.

خرج يوم واحد ومضى دون أن يسير،

ما مشى حين خرج ليعطي مجالاً.

525 لكنّ الربّ وضع ذاك النهار وأخذه،

وصنعه ليكون مقياسًا وخاتمًا للأيّام إخوته.

ما كان المشرقُ قد ولدَه حين أتى،

ولا المغرب دفنه لمّا ذهب.

الصانعُ (الله) وضعه كما شاء وأخذه،

530 ودعا اليوم الثاني وأتى به أيضًا ليُوجَد.

صنع مزاليج للأمسيات والإصباحات وأقامها،

لتفتح كلَّ يوم البابَ العظيم وتُغلقه[1].

تنازل من رفعة القدرة الخالقة،

ونزل قائمًا في درجة أخرى، (درجة) القدرة الصانعة.

 

الله خلق وصنع

535 حين خلق السماوات والأرض كان خالقًا (ب ر ا)،

وصار صانعًا (ع ب د) حين أتقن خلائق خلائق[2].

القدرة الخفيّة خلقت في الرمز خليقة،

وشرعت مصنّعة منها محاسن في ستّة أيّام.

قبل كلّ شيء هو الكائن (الله) الذي يحتاج إلى البرايا،

540 ولم يكن اسمٌ لكيانه إلاّ أنّه موجود.

وحين تنازل وخلق شيئًا من لا شيء،

من هنا أخذ اسم الخالق لأنّه خلقَ.

ثمّ، حين شرع يصنع هذه المحاسن التي صارت،

قبل على نفسه أن يُسمَّى أيضًا الصانع.

545 فهو صانعٌ حين يصنعُ شيئًا من شيء،

وحين يخلق من لا شيء، هو خالق،

خلق الأرض لا مُتقنة ولا مأهولة،

وشرع يتقنها بقدرة صنعه لتصير مأهولة.

قال الله: "ليكن رقيعُ في وسط المياه"،

550 وهذا الصنع لم يكن خلقًا من لا شيء.

من ذلك الشيء الذي أقامه رمز قدرته الخالقة،

صنع الرقيع مسكنًا مأهولاً في اليوم الثاني[3].

 

المياه العلويّة

أمرَ الروحَ الذي رفرف على الأمواج،

فقام يفصل بين مياه ومياه.

555 دخل أمرُه فقسمها ووزنها،

وأقامها في أماكنها كما شاء.

في الوسط، جعل الرقيع حدًّا بين الجانبين،

وفصلهما ليكونا قائمين في حدودهما.

دعا (المياه) العليا وأصعدها إلى مكان رفيع،

560 فأسرعت كأنّها تنساب نحو المنحدر.

تطلّعت المياه العلويّة لتصعد كما إلى العمق،

إلى مكان رفيع في سعي سريع، حثيث.

كما في الوادي جرفت بعضُها بعضًا وهي صاعدة،

المياهُ العلويّة لتمضي إلى المكان الذي أرسلَتْ إليه.

565 ركضت لتصعد بعد أن أرهبها الصوتُ الآمر،

وإذ صعدت بدت خاصيتها انحدارًا.

توجّهت ارتفاعًا وكأنّها وجدت فجوة عميقة،

وتزاحمت فصعدت هادئةً في المكان الرفيع.

ظهرُ الارتفاع العالي كخوض ماء.

570 جرّها فقامت هناك كما في البحار.

ما انحلَّت حين صعدت إلى المكان الرفيع،

بل ركضت بشدّة كبيرة كأنّها إلى هاوية.

وهناك قامت في المساكن الرفيعة، العالية[4]،

كما في هوّة تحيطُ بها الجبالُ الرفيعة.

 

لا اختلاط بين مياه ومياه

575 وها هي هناك هادئة على هامة الرقيع،

ولا تنسكب في الموضع المنخفض المحيط بها.

ما إن أمر أن يكون رقيعٌ في وسط المياه،

حتّى ركضت (المياه) العلويّة إلى موضع رفيع وما تاهت.

وكما تجمّعت تلك السفلى في الموضع السفليّ،

580 تجمّعت هذه أيضًا في الموضع العالي وما انزعجت.

وكما أنّ لهذه طريقًا عسيرًا إلى المرتفع العالي،

عسُرت الطريق على تلك التي نزلت إلى المكان المنخفض.

ولو سعى إنسان أن يُنزل من درجاتها

المياه العالية، لما انحدرت إلى وجه الغمر.

585 وكما أنّ (المياه) السفلى تركض من يومها إلى أسفل،

هكذا تتّجه العليا أيضًا مرتفعة على الدوام.

كما أرسلت إلى أماكنها من قبل صانعها،

هذه تركض ولا أحد يقدر أن يبدّل طريقها.

لا سبيل للعليا أن تنزل إلى العمق،

590 ولا للسفلى أن تبدّل موضعًا حُدِّد لها.

 

الطبيعة تأتمر بأمر الله

لا تستطيع الطبيعة[5] أن تصنع شيئًا من نفسها،

إلاّ ما يأمرها به الخالقُ فقط.

يسهل عليه أن يجعل السمك يطير، لو هو طلب،

والطيور أن تغطس في الماء لو هو أمر.

595 الطبيعة عبدة ولها سيّد وهو يأمرها،

ولا سبيل لها أبدًا أن تعصي أمره.

لا يسهل على النار أن تتّقد إن لم يأمرها،

كما لا يسهل على المياه أن نسيل إن لم يطلب.

هو طريقُ في البحر مشت فيه القوّات،

600 وحيث أراد أغرق الجماعات في البحر،

(صنع) اليبس في المياه، ومن الظروف (أخرج) الأنهار.

لا تقدر الطبيعة أن تدبّر نفسها من دون أمرٍ،

وضع للطبيعة حدًّا فتقوم كما تكوَّنت،

والربّ الذي وضعها يحلّها كما يشاء.

 

خصائص المياه العليا

605 قال في اليوم الثاني: "ليكن رقيعٌ في المياه".

وضع الأمر فقسم المياه وجعل لها حدًّا.

قسم للسفلى موضعًا تقوم فيه،

وللعليا أنشأ مكانًا تُحبَس فيه.

ووُضع الرقيعُ في الوسط فقام بين الجانبين،

610 وهدأت المياه في حدودها بحسب أمره.

الروحُ الذي كُتب أنّه رفرف على الأمواج،

ما رفرف فوقُ حيث تقومُ المياهُ العلويّة.

في وسط المياه قام الروح ورفرف،

ولبث تحتُ وبقيت العلويّة بدون رفرفة.

615 لهذا لا تثمر الدواب ولا الأسماك،

فالريح لا تنفخ هناك في المياه العلويّة.

هي لا تتحرّك ولا تمشي ولا تُثمر،

لأنّها وُضعت هناك لا للثمر، بل تكون هادئة.

لا تهبُّ الريح في هذه البحار العالية،

620 لأنّ ريحًا خادمة لا تدخل أبدًا إلى هناك.

والسحبُ أيضًا لا تتحرّك في المكان الهادئ،

ولا تدنو إلى جواره البروق والرعود.

ليست هنا رياحٌ وهبوت أو إعصارات،

ولا اضطراب كما في هذه المياه التحتيّة.

625 هي هادئة، آمنة، مجتمعة، قائمة وعذبة،

وليس هناك تحرّك وهبوب وريح أبدًا.

النور محبوس، والمياه أسيرة في مكان هادئ،

لون جميل، وجمالُ الشمس ليس مثله.

من تحتها الرقيع الذي هو جسم صلد،

630 وتحته (الرقيع) التحرّكات والهبوب وموضع الاضطراب[6]،

فوقها النور إلهيّ والأمان العظيم،

وأماكن القوّات في تخومهم.

 

إرفع عقلك

طيِّرْ عقلك يا ابن الأدب وتميَّز[7]،

وانذهل واندهش وتطلّع بإعجاب أين هو موضعك.

635 في وسط المياه، بين العلويّة والتحتيّة،

فوقك المياهُ وُضعت وتحتك.

الغمر (ت ه و م) تحتك، وفوقك ها الموج،

تجمَّع وقام، وأنت في الوسط ولا تدهش!

بين بحار وبحار أنت محبوس، أيّها الضعيف،

640 في الموضع الذي هو نصف المياه المقسومة.

ها العلويّة فوق رأسك في المكان الرفيع،

وتحت رجليك التحتيّة، القمرُ العظيم.

شدَّ الرمز (المياه) العلويّة والتحتيّة،

لئلاّ تنشقّ فتطوف عليك، يا ابن الغبار[8]،

645 لو تطلّعت: كم موضعك مهزوز وناقص!

لعفّرت نفسك أمام الكثير من المصاعب،

لو فكّرت! كم أنت محفوظ من المضرّات!

لما استطعت أنت أن تسكت عن التسبيح،

إرفع عينيك وانظر: من الذي خلق هذه:

650 هكذا يطلب الكتابُ من المتميِّز.

إعرف أين أنت، وفكّر في أيّ مكان وُضعت،

وتعجَّب وأدِّ الشكر للقدرة الصانعة.

حين خلقك حبسك بين بحار وبحار،

مثل شيء بهيميّ لئلاّ تتمرّد.

655 وها أنت تشوّش، ها أنت تُقلق، ها أنت تجادل،

وأنت منتفخ ومتكبّر، وفي الرفعة تُؤخذ.

ترابٌ أنت وفي موج البحر وُضعتَ،

فانظر إلى شخصك واندهش واشكر الإله.

الذي أحنى الأعالي، وبسط الأعماق، وجمع البحار،

660 فحمل رمزُه الأماكنَ وتخومَها.

 

الرقيع مظلّة ومسكن

قام الرقيعُ في وسط المياه، في اليوم الثاني[9]،

كما أمره الربُّ في رمز قدرته الصانعة.

وكان حدًّا بين المياه والمياه العلويّة،

فصار مظلّة لهذا الموضع المحبوس تحت.

665 وصار مسكنًا للعمق السحيق في العالم كلّه،

وفي ظلّه تسكن الخليقة كلّها هادئة.

صار تظليلاً (سقفًا) لبيت البشر العظيم،

الذي بناه من لا شيء الرمزُ الإلهيّ.

صار مثل قبّة معلّقة وموضوعة بلا أساس،

670 لا تحملها عواميد، بل الرمز (الإلهيّ).

كان الرقيعُ ليأتي بالليل إلى الأرض،

وجليّ أنّ الليل ظلّه هو.

كان الليلُ الأوّل من ظلِّ،

السحب التي أخفت الغمر عنه.

675 ما كان رقيعٌ في اليوم الأوّل،

ليكون منه الظلام فيحلّ على البرايا.

من ظلام السحب قام الليلُ،

الأوّل، إلى أن أتى الرقيع إلى الوجود.

وهذا الليل الثاني الذي كان منه وما بعد،

680 هو ظلُّ هذا الرقيع الذي تنظر إليه.

مظلَّلٌ (مسقف) البيت ولا كوى في الارتفاع العالي،

ومن تظليله يحلّ الليل على المعمورة.

 

فوق الرقيع نور دائم

وُضع كقبّة، وفوقه النورُ العظيم،

والمياه الصافية وأماكن السماويّين.

685 فوقه، لا وجود لليل ولا للظلال،

ولا جزء من هذه الظلمة السفلى.

ولا نيّرات تُشرق في وقت وتغرب في وقت،

لكنّ نور نهار واحد لا يتبدّل.

ليس هناك أمسيات وإصباحات، ولا أوقات،

690 ولا أيّام وليالْ وسعيٌ سريع.

جمع في الموضع نورًا عظيمًا كالموج،

فشهد بولس وحزقيال واسطفانس[10].

كلّ من بلغ فرأى السماوات مفتوحة،

ورأى من هناك بقوّة، نورًا عظيمًا.

695 وبما أنّه ما تُركت كوى هناك، مظلمٌ موضعُنا،

وها نحن نحيا نصف الحياة في الليالي.

لو لم يجعل في موضعنا سراجًا مستعارًا،

ذاك الصانع (الخالق) لكان موضعنا كلُّه ظلامًا.

 

فائدة الليل

الرقيعُ الذي صار حجب عنّا النور العظيم[11]،

700 فحُبس موضعنا ولعبت به الليالي.

الرقيع الذي صار في اليوم الثاني، كما قلنا،

ولَّد الليل من ظلِّه على البرايا.

وضع الصانع (الله) من أجل سبل العالم،

ليكون من تحته بيت لكلّ التقلّبات.

705 فيه الليالي وفيه النهارات،

والشهور والأسابيع، السنون والأوقات تُدرَك.

أنّ سعي البشر يكون في النهار،

وفي الليل تكون الراحة للعمّال والفلاّحين.

وفيه النور الذي يَدفع الكلَّ إلى عمله،

710 والظلمة لتكون حدًّا للطمّاع فيهدأ.

حسنًا أتقن مسيرة الليل والنهار،

في هذا البيت المملوء سحقًا للموجودين فيه.

فلو لم يكن ليل على المجدِّين،

ماذا يفعل الأجير المسحوق والعامل المتعب.

715 لو لم يكن مساء يردع الطمّاع ليهدأ،

لقتل رفاقه في الأشغال.

ذاك الذي اهتمّ بخلائقه، رتَّبها،

فقاس الأزمنة، ووضع الأوقات لكلّ الأعمال.

ووهب للعالم أن يركض في وقت، وفي وقت يهدأ،

720 في قوت يتعب، ويرتاج من الشغل في وقت.

وبالقياسات وبالأعداد والحسابات،

تسير كلُّ أعمال البشر.

وتكون بداية لما يصنعون وتكون نهاية،

الصباح يشدّد، المساء يريح، الليل يهدئ.

725 الصيف (ق ي ط ا) للسعي، والشتاء (س ت وا) للهدوء من الشغل،

فيُعرَف ما هو وقت كلِّ شيء.

من أجل هذا، الأمسيات والإصباحات بحدودها،

وضع الصانع (الخالق) لتكون ساعية مع أوقاتها.

 

الرقيع ثوب اسمه السماء

أمر فكان الرقيع هذا في اليوم الثاني[12]،

730 لكي يكون ليل في ظلاله، كما سمعتم.

ويكن قائمًا بين المياه والمياه العليا،

فيكون حدًّا لرؤية الإنسان لئلاّ تتيه.

فُرش كثوب[13] تحت مساكن الألوهة،

ومثل تظليل (سقف) فوق مقعد البشر.

735 الرقيع هو سماء بالاسم[14]، ولكنّه رقيع

فمن هو كافٍ لهذه السماوات العليا.

 

وحدهما موسى وبولس العظيم تكلّما عنها،

من يقدر أن يقولها كما هي؟

قال موسى: "خلق الربُّ السماوات والأرض".

740 وبعد يوم قيل: "ليكن رقيع"[15]،

فكان رقيع واختفت به السماوات العليا.

فلا عين بشريّة تقدرُ أن تحتملها،

لمعانها، بهاءها، حسنها.

وذاك البحرَ العظيم، (بحر) النور الذي لا حدَّ له.

745 لا شمس في السماوات العليا، لأنّها شمسٌ كلّها[16].

وها نورها محمول بحجاب ذاك الرقيع.

وحين يخرج من ذلك النور إلى موضعنا،

يُرجف من يراه، يرهبه، ويجعله في ذهول.

في زمن بولس، وقبل (ذاك) الزمن أيضًا، حزقيال

750 رأيا النور الذي تقتنيه السماوات العليا.

 

الرقيع والسماء

في الرمز الأوّل قامت (السماوات) في موضع رفيع،

وكان الرقيع في اليوم الثاني لكي تتخفّى به[17].

يكون الرقيع أيضًا سماوات للبشر،

وسماوات بيت هذا البيت المليء بالعشائر.

755 إذ توقَّر السماوات العليا في حفائها،

فلا يراها إلاّ الكاملون والإلهيّون[18].

 

الرقيع جسم هو، ولهذا فيه ظلال[19]،

ولكنّ السماوات العليا لا جسمَ لها.

هي صُنع عظيم، قائم (في ذاته)، روحيّ

760 مليء بالأنوار فلا يرتدّ الليل هناك.

لا ظلال لهذه السماوات العليا.

ليكون ليل من الظلال، في ذلك النهار،

بدل الظلّ تنبع الأنوار كما تكوَّنت،

لأبناء النور الذين يسكنون هناك في الموضع الأعلى.

 

765 وهذا الرقيع الذي صنع الربُّ في اليوم الثاني[20]،

هو لهؤلاء العلويّين كما الأرض هي لمن تحتهم.

هي سماؤنا وأرض الذين فوقها،

رقّقها (دعمها) لتكون أرضًا للعلويّين.

نحن الجسميّين صنعنا الباري آنية جسميّة،

770 والعمل هناك روحيٌّ هو للروحيّين.

الرقيع الذي صار هو سماؤنا وله جسم،

ومن ظلاله صنع الليل لنا نحن السفليّين.

لنا نحن الجسميّين ينفع العملُ الجسميّ،

وللاجسميّين كلّ عمل روحيّ.

775 لهذا، حين خُلقت السماوات العليا،

قام إتقانها روحيًّا مع الروحيّين.

والقوّات بروح فمِ اللاهوت،

قامت هناك في تخومها، روحيًا.

فلا جسمٌ كثيفُ هناك ولا ظلال،

780 ولا هذا الليل الذي يقوم هنا في موضعنا.

 

الرقيم كرة

كلّ هذا الخلق للأجسام والظلال،

وَضعت كلّها من لا شيء مثل كرة[21]،

لا جسم فوقها ولا تحتها،

ولا حواليها، بل قوّة تُسندها.

785 تتعلّق وتقوم كالطيور، داخل لا شيء،

وفي الوسط العالم القلق والمليء بالاضطراب.

وفوق هذه العجلة التي تحمل الأجسام،

صحراء النور التي فيها تسكن القوّات.

وتحت هذه، هذا الرقيع مثل كرة،

790 حُبست فيها هذه الأجسام المتجسّمة.

سُمِّر كمسكن لإقامة العشائر والأجيال،

ويقطن فيه أجناس أجناس بطبائعها.

رقعته (جعلته رقيعًا) حكمةُ العليّ فصار في اليوم الثاني،

مثل تظليل لعالم البشر كلّه[22].

 

الرقيع والنيّرات

795 خلق الرقيع بدون النيّرات المرتّبة[23]،

وبدون الشمس وبدون القمر الدائرين فيه.

الثوب الكبير حاكه وبسطه بلا صُوَر،

حتّى أتقنه ثمّ صوّره بمهارته.

ولأنّه احتاج أن تترتّب فيه النيّرات،

800 ما كتب بأنّ الربّ رأى أنّه حسن حين صنعه.

من يهتمّ بالتعليم يفهم،

في كلّ قراءات الأنبياء وفي كلماتهم،

كُتب في كلّ الأيّام: "رأى الربّ أنّك حسن".

وما قيل هذا في ذاك اليوم الثاني،

805 صار الرقيع وبما أنّه ما احتاج إلى الصوَر.

بقيت الكلمة وما كُتب: "رأى الربّ أنّه حسن".

استعدّ أن يبجِّله بالزيّنات وبالنيّرات،

فاحتفظ بهذا إلى أن يكتمل، ثمّ قال.

كان جليًّا أنّه نسيانًا ما نسيَ حين خلقه،

 

810 أنّ يصنع معه الشمسَ والقمر وكلَّ النيّرات.

إذ هو ماهرٌ ومليء بالحكمة،

أطال روحه ليقوم ويُتقن في وقته،

ما أراد أن يصنع الشمس والقمر في اليوم الثاني،

فإ لم تكن معجَّلاً تتعلّم هذا وتستنير.

815 خلق الرقيع في وسط المياه وقسمها،

ووضع (المياه) العليا، ووضع السفلى في تخومها.

صنع الرقيع وما أكمله حين صنعه،

كما الأرض ما أتقنت حين خُلقت.

وبما أنّه حفظ حُسنًا آخر يضيفه إليه،

820 ما قيل في اليوم الثاني: "رأته أنّه حسن"[24].

وصار الرقيع في وسط المياه كما أمرَه،

وكان مساء وكان صباحٌ يومٌ ثانٍ.

 

الليل والنهار

أمسك العالمُ الطريق ليأتي "توه وبوه"[25]،

وشرعت تركض كلُّ الأوقات، واحدًا بعد واحد.

825 وجرت الأمسيات والإصباحات لتأتي إلى تخومها،

ووزّعت أوقاتها وأخذَتها في ولاياتها.

وأمسك المساء البابَ الذي يُدخل الليل إلى الأرض،

وأخوه الصباحُ البابَ الذي يعود إلى النهار.

وقاما يقظين، مجدَّين على حراستهما،

830 لا يُسرَقان، ولا يسرق الواحدُ من رفيقه.

قاسَ كلُّ واحد منهما كلَّ ساعاته وأخذها،

ليحتفظ بما له ولا يشكّ في قرينه.

ما حسب الليل أنّ يتجاوز النهار،

ولا النهار أن يقترب من هجعات الليل.

835 وبعدالة، وباستقامة، وبمساواة،

حافظًا على المحبّة وما تطمَّع هذا على ذاك.

أمسكا الطريق وأتى الواحدُ بعد الواحد،

المساء والصباح كما وضع لهما الباري حدًّا.

جرى العالم يومًا أوّل ويومًا ثانيًا،

840 وشرعا يركضان على المعبر ليستريحا[26].

ومضى الأوّل وجرى في عقبه اليومُ الثاني،

ووهبا مكانًا للثالث ليأتي هو أيضًا.



[1] جعل الأمسيات والإصباحات بشكل من السيج تغلق الباب وتفتحه. وهكذا يبدأ يوم بعد أن يُدفَن الذي قبله.

[2] في الأصل، الله هو الكائن الذي يكفي ذاته بذاته (ك ي ن ا)، حين خلق من لا شيء، صار الخالق (ب ر و ي ا). وحين صنع شيئًا من شيء صار الصانع (ع ب و د ا. ذاك الذي يصنع). في تك 1: 1، يقول الربّ فيخلق (ليكن نور، فكان نور). أو هو يصنع (ع ب د) كما في تك 1: 6: "وصنع الله".

[3] ما كانت الأرض مستعدّة لتقبل السكن. فرتّبها الربّ ليقدر الإنسان أن يعيش عليها. قرأنا فعل "ت ق ن" أتقن، أنشأ. وفعل "ي ت ب"، جلس، سكن.

[4] رأى يعقوب أنّ المياه التي كانت على الأرض، صعدت فوق الرقيع، فوق جلد السماء. فشكّلت هناك تجمّعًا تحيط به الجبال.

[5] كلّ هذا يُدهش الإنسان. فهو يخالف الطبيعة ونواميسها. كيف تصعد المياه إلى العلاء؟ هذا مستحيل. بل هي تنحدر. ومع ذلك، ارتفعت المياه العلويّة، وما انحدرت فاختلطت بالمياه السفلى. الجواب: الطبيعة تسمع كلمة الله وتطيعها. فقد بأمر الله السمك يطير، ويجعل الجيوش تمرّ في قلب البحر ولا تغرق (خر 14: 21-28). كما يخرج الماء من الصخر (خر 17: 6). لا شكّ في أنّ للطبيعة حدودًا لا تتعدّاها، ولكنّ الربّ يقدر أن ينزع هذه الحدود إن هو شاء.

[6] رفرف "ر و ح ا" فوق المياه، لا العليا التي فوق الرقيع (الجلد)، بما أنّ هذه الرياح لا تتحرّك، فلا سمك فيها. وتبقى هادئة. لا غيوم ولا بروق ولا رعود، بل نور يتفوّق على نور الشمس جمالاً.

[7] إرفع عقلك أيّها الإنسان وتميَّز واندهش: فوقك الماء وتحتك، والله يجعله في مكانه لكي لا يغمرك. مسكنك صغير وفيه تسبّح الله. أنت من تراب الأرض، فلماذا الكبرياء والاعتداد.

[8] د ح ي ح ا. الغبار أو التراب. في دفاع إبراهيم عن سدوم، دعا نفسه "ق ط م ا" (رماد) وتراب (ع ف ر ا). تك 19: 27.

[9] بدا الرقيع (أو جلد السماء والفلك، بشكل مظلّة (م ط ل ت ا). وورد جذر اللفظ أكثر من مرّة: ط ل ل ا: الظلال. ت ط ل ي ل ا: تظليل البيت مثل سقف. في أش 40: 22 نقرأ عن الله الذي "نشر ( م ت ح) نشر السماوات مثل قبّة (ق ب ت ا) ونشرها مثل مسكن (م ش ك ن ا)، خيمة، يقعدون (ي ت ب)، يقيمون فيها. في هذا الظلّ ترتاح الخليقة. لا أساس لهذه "القبّة" ولا عواميد (كما كان الأقدمون يقولون عن الأرض). هي موطن الملائكة والنور العظيم، كما يشهد الذين رأوا السماوات مفتوحة.

[10] بالنسبة إلى بولس، رج أع 9: 3: "أبرق حوله نور من السماء". وحزقيال رأى "شبه مقبَّب كمنظر البلّور الهائل" (حز 1: 22، ك ر و س ط ل و س. د ح ي ل ا) Cristal. واسطفانس قال وهم يرجمونه: "أنا أنظر السماء مفتوحة (ش م ي ا. ك د. ف ت ي ح ي ن). رج أع 7: 56.

[11] يتوالى النهار والليل. من أجل العمل والراحة. فما يكون مصير الأجير إن لم يكن له ليل يرتاح فيه؟ وإن كان الليل لا يأتي فالطمّاع يقتل العاملين عنده. ولكنّ الربّ يعتني بخلائقه فحدّد لكلّ ساعة وظيفتها.

[12] ذُكرت هنا بعض وظائف الرقيع: تأمين الظلّ من أجل الليل، الفصل بين المياه السفلى والمياه العليا. وضْع حدود لما يستطيع البشر أن يروا فتضيع الرؤيةُ عندهم.

[13] ن ح ت ا. يُذكَر عادة الثوب الذي يبلى (مز 102: 26؛ أش 50: 9). وهنا يبدو كسماط، كما في مز 104: 2: "اللابس النور كثوب، الباسط السماوات كخيمة".

[14] في تك 1: 8 نقرأ: "ودعا الله الرقيع سماء" (ق ر ا).

[15] تك 1: 1 ثمّ 1: 6 صُنع الرقيع في اليوم الثاني أي بعد السماوات والأرض بشكل غطاء.

[16] السماء هو فوق الرقيع، وبالتالي فوق الشمس. لها نورها الخاصّ. فالله خلق النور (تك 1: 3)، وبعد ذلك خلق النيّرين، الشمس والقمر (تك 1: 14). تلك كانت النظرة القديمة. أمّا الواقع العاديّ، فالنور يظهر قبل الشمس، ولكنّه نور الشمس. والمؤمن الذي يصلّي في المساء (ساعة يبدأ الليل) يواصل ليلته في الصلاة فيطلع عليه النور باكرًا. ثمّ تظهر الشمس.

[17] صار الرقيع من عالم المادّة، سماءً للبشر وأرضًا لسكّان السماء.

[18] هنا نفهم أنّ طبيعة السماء وسكّانها، روحيّة هي. أمّا الأرض فهي جسم مع المقيمين عليها. وهكذا لا تمزج الرقيع مع السماء.

[19] في الرقيع ظلال، وبالتالي ليل. أمّا السماء فلا ظلال فيها. هي نهار طويل ينبع منه النور.

[20] صار الرقيع جسمًا (ج و ش م ا) بأمر الله. هو سماء للبشر وأرض لسكّان السماء. يقابل السروجيّ بين "الجسميّ" (المادّيّ) و"اللاجسميّ" (الروحيّ). وهكذا ذكر الاثنان وما به يختلطان.

[21] ا س ف ر ا: Sphère كرة

[22] بدت الخليقة كرةً وُضعت على لا شيء. فوقها، تحتها، حولها، لا شيء سوى قدرة الله تمسك توازنها. تعلّقت هذه الكرة بالفراغ، مثل الطير، وانفرش الرقيع مثل مسكن أو خيمة مأهولة.

[23] خلق الله الرقيع، وما خلق معه الشمس والقمر والكواكب (أو النجوم). وبما أنّ الأجسام السماويّة كانت ناقصة، ما قال في اليوم الثاني: "رأى الله ذلك فإذا هو حسن"، كما قال في سائر الأيّام.

[24] لماذا أخّر الله حكمه؟ لأنّه لم ينهِ الرقيع بعد. هذا لا يعني أنّه نسي أن يخلق الكواكب. ولكنّه أراد أن تتوالى مراحل الخلق في أوقاتها. وهكذا كوّن الرقيع وما أكمل، كما سبق له وفعل بالأرض.

[25] ت و ه. و. ب و ه. في السريانيّة. في العبريّة: ت ه و. و. ب ه و" (تك 1: 2). إذا عدنا إلى العربيّة، نفهم أنّ الأرض كانت تائهة، لا تعرف كيف تتوجّه. أمّا فعل "باء" (العربيّ) فيعني رصع. حافظت السريانيّة على اللفظ العبريّ. والترجمة العاديّة: خالية، خاوية.

[26] أخذ المساء ولاية والصباح مثله، وحرسا بابًا يُفتح في الليل وآخر في النهار. واكتفى كلّ منهما بوقته دون أن يتجاوز وقتَ الآخر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM