الفصل الثالث عشر:مقدّمة إلى سفر القضاة

الفصل الثالث عشر
مقدّمة إلى سفر القضاة

يقدّم لنا سفر القضاة، أولئك الذين يقضون بين الناس ويتدبّرون أمورهم، الذين هم حكّام موقتون. وُجد منهم في قرطاجة، كما هم "موظّفون" كبار في نصوص ماداي على الفرات، مع سلطات واسعة. يقدّم لنا هذا السفر اثني عشر اسمًا، كان لهم دور في حياة قبيلة واحدة أو عدد من القبائل في الفترة الممتدّة من يشوع بن نون ودخوله مع بعض القبائل إلى فلسطين، إلى تأسيس الملكيّة مع شاول ثمّ مع داود.

ربّما يتدخّل "القاضي" من أجل العدالة بين الأفراد، كما فعلت دبورة تحت نخلتها الشهيرة. ولكنّ القاضي هو في النهاية "المخلّص" (3: 31؛ 6: 15؛ 10: 1). أو بالأحرى هو يد الله التي ما زالت تخلّص شعبه بوسائل لا يستند إليها البشر مرارًا. كان جدعون من قبيلة صغيرة. وكان هو أصغر إخوته. ويفتاح ابن امرأة بغيّ طرده إخوته من بينهم. وشمشون ومغامراته لا تشرّف كثيرًا شخصًا جعله الله مكرّسًا له منذ حشا أمّه. ومع ذلك، بهؤلاء الناس عمل الله، وهو الذي ضعفه أقوى من قوّة الناس وجهله أحكم من حكمة الناس.
مسيرة الكتاب
هذا الكتاب الذي بدأت موادّه تتكوّن في كلّ مجموعة من المجموعات أو قبيلة من القبائل، بشكل يكاد يكون مستقلاً، صار كتابًا واحدًا بعد المنفى، فشدّد على روح الجماعة التي بدأت تتفكّك بحيث اتّخذ كلُّ واحد طريقه الخاصّ فتردّد القول أكثر من مرّة: "لم يكن ملك". أين هو الملك ليجمع الشعب في مشروع واحد حول معبد واحد؟
جُعل سفر القضاة في "التاريخ الاشتراعيّ" حيث دوِّنت الأحداث أو أعيد تدوينها في خطّ سفر التثنية مع تشديد على أرضٍ خسرتها مملكة إسرائيل سنة 722 ومملكة يهوذا سنة 587. ويرتّبه التقليد اليهوديّ في "الأنبياء الأوّلين" الذين هم أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك.
وسيظهر أنبياء في سفري الملوك بشكل خاصّ. مثل ناثان وجاد وأشعيا وإيليّا وأليشاع. ولكنّ القراءة للأحداث هي قراءة نبويّة. حيث كلمة الله تحكم على البشر وعلى أعمالهم.
يأتي سفر القضاة في ثلاثة أقسام أساسيّة: مقدّمة (1: 1-3: 6). جسم الكتاب (3: 7- 16: 31). ملحقان بشكل خبرين (ف 17-21).
جاءت المقدّمة في خطّين ولكلّ خطّ مرماه. الأوّل (1: 1- 2: 5) يقدّم لنا صورة واقعيّة عن إقامة القبائل في فلسطين. نحن بعيدون عن سفر يشوع الذي يبدو بشكل "خبر ملحميّ". فيه احتلَّ هذا البطل الأرض كلّها من الشمال إلى الجنوب. وقسّمها على القبائل. في سفر يشوع تسيطر شخصيّة يشوع، بحيث لا نرى القبائل إلاّ في النهاية في شكيم. أمّا في سفر القضاة، فلا وجود لرئيس، بل كلّ واحد يفعل ما يروق له. وسوف نرى ما فعله ميخا الذي بنى معبدًا، وتصرُّف أفرائيم التي تحاول أن تسيطر على سائر القبائل، ومحاولة أبيمالك بن يروبعل أو جدعون لتنظيم الملكيّة.
الخطّ الثاني (2: 6- 3: 6) يُلقي نظرة "لاهوتيّة" إلى الحقبة السابقة للملكيّة. يبدأ الشعب فيتنكّر للربّ وللعهد، فيتركه الربّ وشأنه. وحين يعرفون الضيق يصرخون إلى الله، فيقدّم لهم الخلاص بواسطة رجل (أو امرأة مثل دبورة) يختاره. تعرف القبيلة (أو القبائل) الراحة مدّة جيل (40 سنة) أو نصف جيل أو جيلين. وبعد ذلك يعود الشعب إلى دوّامته. والربّ يحنّ عليه في كلّ وقت، ولأنّه لا يقدر أن يتركه. فإن كان الشعب غير أمين لله، فالله لا يقدر إلاّ أن يكون أمينًا لأنّه لا يستطيع "أن ينكر نفسه" (2 تم 2: 13). هذا الخطّ الثاني سوف يتكرّر ليفهم القارئ الهدف الأساسيّ من سرد هذه الأحداث. فسيّد التاريخ هو الله، لا البشر. وحين يكون الشعب أمينًا له ولعهده، ينال الخلاص. وإلاّ الضيق من جيران كان يمكن التعايش معهم. ويطبّق جسم الكتاب (3: 7- 16: 31) هذا الخطّ: جمود، ضيق، صرخة، استغاثة، نجاة. كلّ مرّة يقال: "وفعل بنو إسرائيل الشرّ في عيني الربّ" (3: 7؛ 4: 1...).
القضاة اثنا عشر، وهذا الرقم هو عدد الكمال. فيه يدلّ الكتاب أنّ الربّ قدّم ملء الخلاص. ولكنّ الشعب لم يتجاوب معه. منهم أهود (3: 12-30) هذا البطل الآتي من بنيامين. عملَ وحدَه حين قتل ملك عجلون قبل أن يدعو قبيلة له للتخلّص من الضيق ودفع الجزية. ودبورة النبيّة التي من أفرائيم خلّصت شعبها من يابين ملك حاصور وسيسرا قائد جيشه (ف 4-5). وشابه جدعون موسى في دعوته (ف 6-9). من قلب الضعف أمّن الخلاص من المديانيّين. ويفتاح ذاك المنبوذ من قبيلته، قبيلة منسّى، خلّص شعبه من العمّونيّين (10: 6-12: 7). وشمشون ابن قبيلة دان (ق 13-16) الذي خان الربّ وكشف سرّه، ولكنّه تاب في النهاية، فقبلَ الله توبتَه وأعاد له قوّته الأولى.
ونهاية الكتاب (ق 17-21) تتضمّن ملحقين. في الأوّل (ف 17-18) نقرأ خبر ميخا الذي بنى معبدًا وجعل فيه صنمًا. ولكنّ ذلك كان لخسارته وخسارة أمّه. وشاركه "اللاويّ" بعبادة الأصنام فنسي غيرة جدّه فنحاس. وفي الختام، حملت قبيلة دان اللاويّ والصنم فدمّرت مدينة سالمة، لايش، في سفح حرمون. نجد أنّ مدينة دان التي بنوها ستكون أوّل من يغزوها الأشوريّون في بداية القرن الثامن. تلك عاقبة عبادة الأصنام والحرب التي لا شيء يبرّرها.
والملحق الثاني (ق 19-21) يعرف العنف والقتل والحرب التي كادت قبيلة تبيد بكاملها، وذلك لنزعِ الشرّ من "أرض الربّ". ولكن أعيد بناء بنيامين رغم الظروف والقسَم الذي أقسمت به سائر القبائل. أترى يعاد بناء الشعب كلّه في جماعة واحدة بعد العودة من المنفى؟ من أجل هذه جُمعت موادّ سفر القضاة لتكون عبرة لمجموعات متفكّكة بدأت تترك الأرض وتعيش في الشتات، وتعبد الآلهة الكثيرة على حساب الإله الواحد. غياب الملك هو الشرّ الكبير. واللاويّون الذين يمثّلهم "اللاويّ" (17: 7؛ 19: 1) لم يكونوا على قدر مشروع الله في شعبه. في شكل موقّت أقام الربّ قضاة لشعبه. ولكنّ عملهم لم يَدُم طويلاً، فعاد بنو إسرائيل إلى شرّهم. فلا بدّ من ملك. ولكنّ الملوك، هم أيضًا، صنعوا الشرّ في عيني الربّ مع أنّهم نالوا روح الربّ. لهذا سيختار الله لنفسه "مسيحًا" يحلّ عليه روح الربّ (أش 11: 2) فهو المخلّص الحقيقيّ والنهائيّ. كما قال في مجمع الناصرة: "روحُ الربِّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأنادي للأسرى بالحرّيّة، وللعميان بعودة البصر إليهم، لأحرّر المظلومين، وأعلن الوقت الذي في يقبل الربّ شعبه" (لو 4: 18-19).
الإطار اللاهوتيّ في سفر القضاة
نحن لا نبحث أوّلاً عن وجهة تاريخيّة، بل هي لمحات سريعة تعطينا أكثر من عبرة دينيّة. لا تماسك بين القبائل والأفراد. كلّ يعيش كما يشاء ولا يهتمّ للجماعة التي ينتمي إليها، ولا للشعب الذي حمّله الربّ رسالة. ولكن تبقى أوقات الحجّ إلى شيلو، بيت إيل، الجلجال، المصفاة. عندئذٍ تشعر القبائل بأهمّيّة وحدتها لمجابهة الخطر المشترك.
لا شكّ في أنّنا لا نرضى بما تمارَس من أخلاق في هذا الكتاب. من خيانة أهود وحثنه بالعهد (4: 18-23). ففي هذا الإطار، يُسمَح لكلّ شيء من أجل "خلاص" يتمّ. هنا نتذكّر يهوديت حين قتلت أليفانا. وياعيل تلك المرأة استضافت سيسرا، ولكنّها داست حقوق الضيافة. يستعدّ الإنسان لأن يضحّي بنفسه وببيته ليحافظ على ضيفه. أمّا ياعيل فقتلته وافتخرت بما عملت (4: 18-22). بل أنشدوا عملها وتصوّروا ألم والدة سيسرا التي تنتظر ابنها (5: 24-27). وأبيمالك قتل سبعين أخًا له (9: 5) ليستأثر وحده بالملك. ويفتاح الذي ذبح ابنته وفاء لنذر أرعن (11: 34-40) شابه هيرودس حين وعد ابنة هيروديّا برأس يوحنّا المعمدان على طبق. وجريمة جبعة لا يمكن أن يتصوّره عقل (19: 22-25). لماذا هذه اللوحة السوداء؟ لكي يفهم القارئ إلى أين تصل به الخطيئة إن هو ترك الله. أما حان للشعب أن يعود، بعد أن عرف ذلّ العبوديّة في المنفى؟ هو عالَم خاطئ ينتظر الخلاص، كما قال بولس الرسول مردّدًا كلام المزمور (14: 1-3): "... وما من أحد يعمل الخير... ضلّوا كلّهم وفسدوا جميعًا..." (رو 2: 10-11). بالخطيئة عمّ الموت ووصلت البشريّة إلى الهلاك، ولكن "بطاعة إنسان واحد يصير البشر أبرارًا" (رو 5: 19). انتظر جيل القضاة مخلّصًا ومخلّصين، أمّا مؤمنو العهد الجديد فينتظرون المخلّص الذي لا مخلّص بعده. "فما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص" (أع 4: 12).
هذا على مستوى الحياة اليوميّة بحسب الحقّ والعدل. وعلى مستوى شعائر العبادة، تطلّع الكاتب إلى إصلاح يوشيّا الذي ركّز العبادة في هيكل أورشليم.
في هذه الديانة التي يبني فيها كلّ فرد (وكلّ جماعة) معبده، صار الربّ للإنسان خادمًا لمصلحته. فيستفيد ميخا من معبد يجعل فيه ابنه بانتظار مجيء اللاويّ إليه. أمّا الشعب، فلا شيء يمنعه من اتّباع البعل والعشتروت. لا شكّ في أنّهم يعبدون الربّ، ولكن بصعوبة، لأنّه لا يرضى بصورة ولا بتمثال. فيذبح جدعون على صخرة وكذلك يفعل منوح. أمّا ديانة بعل وغيره من الآلهة، فالاحتفالات الشعبيّة تملأ القلب بهجة. ثمّ إنّ بعل هو إله الخصب والمطر، أمّا يهوه فإله الصحراء... وسوف ينتظرون هوشع لكي يقول لهم إنّ الربّ هي الذي يُعطي كلّ خير، هو الله في الصحراء، كما في فلسطين، بل في الأرض كلّها. وجدعون نفسه، الذي اختاره الله، صنع صنمًا في النهاية. بل مزج الأفود، تلك الشارة الكهنوتيّة، مع صنم، وهكذا يستفيد من مساعدة الله دون أن يتخلّى كلّيًّا عن البعل. هي ديانة تلفيقيّة، تأخذ من هنا وهناك، فتقدّم للمؤمن ما تحتاج إليه غزيرته وحياته اليوميّة. ولكن كيف يكون الصنم في رفقة مع الربّ، وإن اعتبر بعضهم أنّ يهوه أقوى من سائر الآلهة، والجواب الأخير نجده مع بولس الرسول: "لا نمزج بين الصنم ويسوع المسيح. لأنّنا ساعتئذٍ نشرب كأس الله وكأس الشياطين قال: "اهربوا، يا حبّائي، من عبادة الأوثان" (1 كور 10: 14). ثم "ذبائح الوثنيّين هي ذبائح للشياطين لا لله" (’ 20). لا شكّ في أنّ الوثن لا كيان له. وذبيحة الوثن لا قيمة لها. ولكن حين نبحث عن الخلاص خارج الله، يكون لنا الهلاك. وحين نطلب الحياة مع الوثن، نصل في النهاية إلى الموت. ذاك ما حدث للقبائل في زمن القضاة، بانتظار الكارثة الأخيرة سنة 587 ق.م. وهذا ما يمكن أن يهدّد جماعاتنا. لهذا نقرأ هذا الكتاب ونعرف أنّ ما كُتب فيه إنّما هو لتعليمنا (رو 15: 4).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM