الفصل الرابع عشر :سفر القضاة مسيرة الخلاص

الفصل الرابع عشر

سفر القضاة مسيرة الخلاص

حين نقرأ نهاية سفر القضاة والفوضى الّتي تعمّ الشعب، نكتشف من جهة، عمق الخطيئة والضياع الّذي يعرفه المؤمن، ومن جهة ثانية، الحاجة إلى الخلاص. نقرأ في 18:1: »في تلك الأيّام لم يكن لبني إسرائيل ملك«. ويتكرّر الكلام عينه في 19:1. في المرّة الأولى، في معرض الحديث عن قبيلة دان الّتي ضاعت بين عبادة اللّه والتعامل بين الأصنام. وفي المرّة الثانية، في كلام عن جريمة بنيامين في جبعة وما فيها من بشاعة تقشعرّ لها الأبدان. هذا عدا عن تقاتل بين القبائل وقرب فناء واحدة منها بحيث يصبح العدد ناقصًا، يصبح احدى عشرةً قبيلة لا اثنتي عشرة. في النهاية، هي خطيئة الشعب تهدّد الناس في بيوتهم، والقبائل في مواضع إقامتها، فأين هو المخلّص؟ أتراه سيكون القاضي الّذي يختاره اللّه ويرسله؟ أتراه يكون الملك؟ كلّها خلاصات ناقصة. ولن يأتي الخلاص الكامل إلاّ بيسوع المسيح.

1- أقام الربّ عليهم قضاة

في بداية سفر القضاة، نقرأ المعنى الدينيّ لهذا الكتاب، الّذي ينسى بعض المرّات الأُمور التاريخيّة أو الأخبار الّتي احتفظت بها هذه القبيلة أو تلك. فهمُّه أن يبيّن العلاقة بين خطيئة يقترفها الشعب وعقاب يناله. هو غزو، أو حرب بسيطة. ولكن العلاقة الثانية هي الأهمّ: يتضايق الشعب فيحسب أن هذه المضايقة مصدرها الربّ الّذي تخلّى عنهم. يتطلّعون إلى الربّ فيقيم عليهم قضاة (2:16).

فمن هو القاضي؟ في مفهومنا العاديّ، القاضي هو الّذي يعمل في المحكمة. يأتي إليه خصمان فيحكم ويفصل. يبرّئ شخصًا ويوجب على الآخر ما عليه أن يفعل من تعويض أو دفع مال. أو هو يحاول أن يصلح بينهما، بعد أن يعترف الاثنان بخطأهما ويطلبان السلام، لا الخصام.

مثل هذه الوظيفة مارسها قاضٍ واحد، أو بالأحرى قاضية واحدة في سفر القضاة، هي دبّورة. يقول الكتاب عنها: »وكانت دبّورة النبيّة، زوجة لفيدوت، قاضية على بني إسرائيل في ذلك الزمان، وكانت تجلس تحت نخلة دبّورة... وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم« (4:5-4). وفي أي حال، كان الشيوخ يقومون بهذه المهمّة منذ علّم يترو موسى كيف يفعل »ليقضي للشعب« بحيث لا يُتعب نفسه ولا يتعب الشعب معه (خر 18:18). وهذا الدور سيلعبه أيضًا صموئيل الّذي يرد اسمه خارج سفر القضاة... ولكنّه يلتقي مع دبّورة. فهو النبي مثلها. وهو يقضي للناس في المصفاة (1 صم 7:6)، قبل أن يسلّم القضاء إلى ابنيه يوئيل وأبيا (1 صم 8:2-1).

وهناك معنى آخر للقاضي. في العربيّة أوّلا، هو ذاك الّذي يقضي بين الناس ويتدبّر أُمورهم. هو من يتسلّم قضيّة من القضايا فيقوم بها خير قيام. هذا ما فعل جدعون مثلاً، مع أنّ عشيرته هي أصغر عشيرة في قبيلة منسَّى، وهو الأصغر في بيت أبيه (6:15). فهو يشبه داود الّذي كان الأصغر في بيت يسَّى، ومع ذلك اختاره الربّ (1 صم 16:11). في أي حال، يعلّمنا الكتاب المقدّس أن طريق اللّه في اختيار من يختارهم، غير طريق البشر. فهو قلّما يختار البكر. بل يختار من يُحسَب ضعيفًا في هذا العالَم لكي يُخزي من يحسبه الناس قويٌّا. رأوبين هو البكر وقوّة يعقوب وباكورة رجولته (تك 49:3)، ومع ذلك استُبعِدَ على حساب يهوذا الّذي سيكون جدّ داود وبالتالي جدّ المسيح.

والقاضي في اللغة العبريّة هو »ش ف ط«. يعني الفعل: أثبتَ، ثبَّتَ حقٌّا، أعاد حالة سيّئة إلى حالها الأولى. واسم الفاعل (شوفط) عنى عند الفينيقيّين في أوغاريت (راس شمرا) وعند الفونيقيّين، في قرطاجة، الحاكمَ. غير أنّ القاضي في أرض بني إسرائيل يختلف عمّا في العالَم الفونيقي. فهو لا يمارس سلطة ثابتة. وسلطته لا تمتدّ إلاّ نادرًا أبعد من قبيلته. اللّه يختاره من أجل مهمّة محدّدة، يعود بعدها إلى الظلّ ولا يعود يُذكر اسمه. ذاك هو الأمر بالنسبة إلى يفتاح. فابن البغيّ هذا والمطرود من بيت أبيه، لأنّه ابن امرأة غريبة (11:2-1)، سيحارب بني عمّون الّذين غزوا الأرض. وحين تنتهي المهمّة الّتي طُلبت منه، يذكر الكتاب ما عمله لابنته، وكيف خاصمه رجالُ افرائيم لأنّه ذهب إلى الحرب وما دعاهم ليذهبوا معه (12:1). ونرى الفوضى من جديد، لأن يفتاح سيحارب مع قبيلته، قبيلة منسَّى، بني افرائيم، ويقتلون من يقتلون ذبحًا. أجل، لم يكن بعد ملكٌ في أرض إسرائيل. والملك في النهاية هو المخلّص، على مثال ما كانه داود، وما حاول أن يفعله شاول فمات في أرض المعركة.

2- أقام لهم مخلّصًا

تبدأ لائحة القضاة مع ثلاثة يُدعون »قضاةً صغارًا«، لأن ما كتب عنهم قليل. الأوّل، عتنيئيل بن كناز، أخو كالب الأصغر. والثاني، اهود بن جيرا البنياميني، والثالث شمجر بن عنات (3:9، 15، 31). قال الكتاب عن الأوّل: »فصرخوا إلى الربّ، فأقام لهم مخلّصًا فخلّصهم«. فالصراخ الّذي سمعه الربّ هنا، يذكّرنا بصرخة الشعب العبراني حين كان في ضيق العبوديّة، في مصر. فكما كان موسى مخلّص شعبه كلّه، كان عتنيئيل. وكما عرف الشعب العبري راحة من العبوديّة، في البرّية، أربعين سنة، كذلك »استراحت الأرض من الحروب أربعين سنة، ثمّ توفّي عتنيئيل« (3:9).

فعتنيئيل حلّ عليه روح الربّ، كما حلّ على الملك المسيح الّذي تحدّث عنه أشعيا: »روح السيّد الربّ عليّ، لأنّ الربّ مسحني له« (اش 61:1). وهذا الروح حلّ أيضًا على جدعون، فجعله إنسانًا آخر. هذا الّذي بدا مزارعًا على بيدره، لا ينتظر سوى تأمين القمح لبني بيته، بعيدًا عن غزوات المديانيّين، صار القائد الّذي يدعو الناس فيجتمعون إليه ويتبعونه. عن عتنيئيل قيل أنّه مارس القضاء لبني إسرائيل. هذا في وقت السلم. وفي وقت الحرب، هو الّذي يخرج للدفاع عن شعبه. ويقول الكتاب: تغلّب عليهم (3:10). هذا الّذي أرسله اللّه مخلّصًا، قد قام حقٌّا بعمل الخلاص. »أقام لهم مخلّصًا فخلّصهم« (3:9).

غير أنّ هذا القاضي يعرف أنّه مجرّد أداة ضعيفة بيد اللّه. فهو يشبه داود الراعي الضعيف أمام جليات الجبار، بأسلحته الهائلة. فالّذي سيكون ملك يهوذا قبل أن يصبح ملك إسرائيل، لا يملك سوى مقلاعٍ وبعض حجارة جاء بها من الوادي (1 صم 17:40). غير أنّ هذا الّذي حسبه أبوه غير قادر على الحرب، مثل اخوته الكبار أليآب وابيناداب وشمّة (1 صم 17:13)، سوف ينتصر انتصارًا باهرًا، فتنشد له النساء: »قتل شاول الألوف، وداود عشرات الألوف« (1 صم 18:7). والسبب لا يعود إليه، ولا إلى قوّته وبطشه. فقوّته ليست قوّة السيف والرمح والترس، ولا قوّة الخيل والمركبات، كما قال المزمور، لهذا قال لجليات: »أنا أجيئك باسم الربّ القدير«. وأضاف: »ليعلم جميع الّذين هنا أنّ الربّ لا يحتاج إلى السيف والرمح ليخلّص شعبه« (1 صم 17: 45-47).

هذا ما فهمه جدعون الذي بدأ صلاته إلى الرّبّ قبل أن ينطلق: »إن كنتَ أنتَ مخلّص بني إسرائيل على يدي« (6: 36). والربّ هو الذي يخلّص في النهاية. وهو يحتاج إلى يد بشريّة تكون أداة في يده. أجل، كان هذا القاضي يدَ الربّ، كما الفأس في يد من يضرب بها (اش 10: 15). والنصر الذي ناله، يدلّ على قدرة الربّ، لا على قدرة البشر. ولكن قد يظنّ الإنسان أن النصر من عنده، وأنّه إن حشد الرجال نال ما أراد. لهذا، كان لا بدّ من إفهام جيل القضاة هذا الواقع: »فقال الربّ لجدعون: الرجال الذين معك أكثر من أن أسلّم بني مديان إلى أيديهم، لئلاّ يفتخر عليّ بنو إسرائيل ويقولوا: أيدينا خلّصَتْنا« (7: 2). وكانت عمليّة أولى سقط عددُ الجيش من اثنين وثلاثين ألف رجل إلى عشرة آلاف (آ4). ولكن قال الربّ: »ما زال الرجال كثيرين« (آ5). وهكذا صار العدد ثلاثمئة رجل (آ7). وسيفهم بنو مديان أيضًا أنّ اللـه استعمل سيف جدعون، فدفع إلى يد هذا القاضي كلّ معسكر العدو. قال الربّ لجدعون: »أنا أدفع بني مديان إلى يدكم« (آ7). وهو قال للرجال: »الربّ دفع محلّة بني مديان إلى أيديكم« (آ15). وحدث هنا في المعركة، ما حدث في سقوط أريحا مع يشوع بن نون. اكتفى الكهنة أن ينفخوا بالأبواق (يش 6: 1ي)، فسقطت المدينة بين أيديهم. لا يهتمّ الكاتب بأن يتحدّث عن الحيلة التي قام بها جيش يشوع، منذ أرسل القائد الجواسيس. وفي حرب جدعون، لا يتحدّث النصّ عن عامل المفاجأة. ترك الأسباب البشريّة، واعتبر كلَّ خلاص يتمّ لهم، مهما كان صغيرًا، وكأنّه عطيّة من قبل الرّبّ.

3- خلاص أول وخلاصات آتية

الخلاص نجاة من خطر كاد يقود إلى الهلاك. قد يكون حماية في الأحوال العادية، وقد يكون تحرّرًا كما هو الحال في ذاك الخلاص الأول الذي اختبره العبرانيّون حين كانوا عبيدًا في مصر. أنقذهم الربّ فمنحهم الحياة، افتداهم فداء كما يفتدي الإنسان أخاه الذي وقع في الأسر أو صار عبدًا. وكل ما فعله موسى من »ضربات« حلّت في مصر، اعتبرها الشعب سعيًا من اللـه للتجاوب مع صرخاتِ مَن يعيشون في الضيق. فالرب رأى وسوف يعمل. والرّب سمع وسوف يلبّي. هذا ما يُسمّى الخروج، الخروج من مصر والانتقال إلى سيناء، والوصول إلى أرض فلسطين. وتحوّل الخارجون من العبوديّة وقد كانوا قومًا من الرعاع، إلى جماعة ليتورجيّة تسير في البريّة بشكل طواف وراء الربّ الذي حضر عليها، في الليل بشكل عمود نار وفي النهار بشكل عمود غمام.

ذاك هو الخروج الأوّل. وسوف يحدّثنا أشعيا عن خروج ثان، لا من مصر، بل من بابل. ذاك هو الخلاص النموذجي الذي به ترتبط كلّ الخلاصات. فما عاشه الشعب مع موسى حين عبر البحر الأحمر، سوف يعيشه مع يشوع في عبور نهر الأردن. وكما تقوّى موسى بالربّ، كذلك قيل ليشوع، كما سيُقال لجدعون ولغيره: »أكون معك، لا أخذلك ولا أهملك. تشدّد وتشجّع« (يش 1: 5-6). إذا كان مفهوم الخلاص يعني الانتقال من حالة إلى أخرى، ومن موضع إلى موضع، فموسى قام بالمرحلة الأولى حين نقل الشعب العبراني من مصر إلى البرّيّة، إلى مشارف موآب. وإذا كان يعني الوصول والبلوغ إلى الغاية، فيشوع قام بالمرحلة الثانية حين حلّت القبائل التي رافقت موسى، في أرض كنعان.

وعاد الكاتب الملهم يقرأ في كلّ ما يتمّ للشعب من أمور، خلاصًا وراء خلاص يقدّمه الربّ للمؤمنين. في هذا الإطار، نقرأ ما فعله هؤلاء القضاة الذين كانوا اثني عشر، فدلّوا على ملء الشعب من خلال ملء عدد القبائل، الذين كانوا في خطّ موسى، فتابعوا عمله في شعب لم تتحدّد بعدُ أطرُه السياسيّة، شأنه شأن سائر الشعوب الذين حوله. هم قضاة وهم مخلّصون. والربّ ما نظر إلى حياتهم »الفاضلة« كي يختارهم. والكتاب المقدّس لا يُخفي ما في حياتهم من أخطاء. فأهود الذي اعتبره الكاتب »مخلّصًا« (3: 15) هو ذاك المحتال الذي خالف الأمانة وطعن عجلون في بطنه وقتله وأغلق الباب وراءه. وجدعون الذي أعطاه الربّ علامتَي الجزة ليدل على أنّه معه (6: 12-16)، سيصنع صنمًا من الحلى التي قُدّمت له (8: 22-27) فيشبه هرون حين صنع للشعب عجلاً في البرّيّة (خر 32: 1ي). وشمشون الذي قيل أكثر من مرّة أنّ روح الرّبّ حلّ عليه (14: 6، 19؛ 15: 14)، وأنّه هو الذي يبدأ بخلاص بني إسرائيل (13: 5)، خان شعبه فمضى إلى الفلسطيّين وهناك أحبّ أكثر من امرأة، كما خان ربّه حين كشف السرّ العميق لقوّته: تكرّسه للرّب. صار هذا التكرّس مادّيٌّا في نظره وفي نظر الفلسطيّين، من خلال شعر طويل. هاك سرّ كبير بين اللـه وشمشون، والرّب سيغفر لهذا القاضي بعد توبته، وسيكون موته بداية خلاص لشعبه بانتظار أن يتغلّب داود على الفلسطيّين ويجعل بعضًا منهم في حرسه الخاص.

خاتمة

تلك هي مسيرة سفر القضاة. انتقل الكاتبُ من واقع الشعب المؤلم، حيث تحاول كلّ قبيلة أن تتدبّر أمرها. وقدّم النظرة اللاهوتيّة التي تربط العقاب بالخطيئة، والخلاص بالتوبة إلى إله يستعدّ دومًا لأن يغفر. وحدّثنا عن قضاة حكموا الشعب أو بعض أقسامه، وخلّصوه من الأعداء ساعة احتاج إلى الخلاص. فهذا القاضي هو أيضًا المخلّص، في خط موسى ويشوع، ثمّ في خطّ داود وسائر الملوك، بانتظار الملك المسيح الذي سيرسله الربّ: »أنا مسحتُ ملكي على صهيون، جبلي المقدّس« (مز 2: 6). هذا الملك يُعطى ميراث الأمم، ويملك على أقاصي الأرض، ويتعبّد له الملوك والحكّام، ويقبّلون قدميه علامة الخضوع. انتظر الشعب من هذا الملك الآتي من السماء والمرتبط بالأرض، أن يحمل الخلاص لفقراء شعبه وللبائسين والمعذّبين والمضايقين. ولكن مثل هذا الخلاص يتعدّى قوى الإنسان. فلا بدّ من انطلاق من خلاصات عديدة لكي نتعرّف إلى الخلاص النهائيّ الذي قدّمه يسوع المسيح منذ ميلاده في مذود بيت لحم. قيل للرعاة: »وُلد لكم مخلّص هو المسيح الربّ« (لو 2: 11). هذا المخلّص رفض أن يكون قاضيًا ومقسِّمًا (لو 12: 13-14). رفض أن يكون حاكمًا وملكًا (يو 6: 15). فمملكته ليست من هذا العالم، ولا يمكن لأحد أن ينال الخلاص إلاّ باسمه (أع 4: 12).

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM