الفصل الثالث: أرض فلسطين

الفصل الثالث
أرض فلسطين

أ- يهودا المحتلّة
لم يتأثّر فقط يهود الشتات بالحضارة الهلّينيّة، بل يهود أرض يهودا. وكانت صراعات بين متعاملين مع العالم الهلّينيّ ورافضين له، بين أرستوقراطيّة تتعامل مع المحتلّ وشعبٍ بدا غريبًا قبل أن يتدخّل فيدلّ على أمانته وأمانة الأمة اليهوديّة لمبادئ الآباء وشرائع الوطن.

1- التعامل مع مصر واللاجيّين
بعد موت الأمير زربابل (حوالي 515 ق م) الممثّل الرسمي لسلالة داود، حكم أرضَ يهودا سلالةُ رؤساء الكهنة. ولهذا اعتبر هيكاتيس الأبديريّ (ورد في ديودورس الصقلّي) أنّ الجماعة اليهوديّة هي تيوقراطيّة حيث الكهنة يوجهّون الحياة العامّة. لقد ورد حكمه هذا في بداية العهد الهلّينيّ. ولكنّ هناك شواذًا هو الدور الذي لعبته في المجتمع اليهوديّ وفي قضاياه عائلة طوبيّا ثمّ أبناءُ طوبيّا أو الطوبيّائيون. فقد كان موقف هذه العائلة اللا كهنوتيّة ثابتًا في أيّام نحميا (نصف القرن الخاسر ق م) وتأثيرها حاسمًا على الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ في يهودا بل في كلّ أرض فلسطين منذ منتصف القرن الثالث ق م إلى ثورة المكابيّين (167 ق م). ونحن نعرف نشاط أهم قوّاد هذه العائلة بفضل برديّات زينون ومؤلّفات يوسيفوس وأسفار المكابيّين.

أوّلاً: عشيرة طوبيا والطوبيّائيون
أقامت عائلة الطوبيّائيين في أرض طوبيّا وهي إقطاعة في جنوبي جلعاد في شرقيّ الأردن. تعلّقوا بالحضارة الهلّينيّة ولكنهم ظلّوا يهودًا. يعود أصلهم إلى أيّام نحميا بل إلى القرن الثامن ق م. إنّ طوبيّا العبد العمّونيّ كان خصم نحميا ورجلاً شريفًا (نح 13: 4). وهناك طوبيا آخر يذكره زك 6: 10 (حوالي 520 ق م)، كما أنّ هناك أبناء طوبيّائيين وجدوا بين اليهود العائدين من سبي بابل (عز 2: 59- 60؛ نح 7: 61- 62) وقد نجد جَدّ طوبيّا المذكور في زكريّا في كتابات لاكيش: إنّه يتمتّع بمركز كخادم الملك. وهكذا عاد المؤرّخون في نسب طوبيّا إلى أيّام عزيّا أو يوتام (759- 743 ق م).
إذن كان طوبيّا المذكور في برديّات زينون في القرن الثالث ق م سليلَ عائلة شريفة يعود أصلها إلى بلاد يهودا. برز منها ثلاثة رجال في العهد الهلّينيّ هم طوبيّا، يوسف، هركانس.

طوبيّا
إنّه الشخصيّة الفلسطينيّة الرئيسيّة في وثائق زينون التي تذكر اسمه ستّ مرّات. فطوبيّا هذا سهّل وهيّأ سَفَرَ زينون. إستضافه في شرقيّ الأردنّ وشاركه في الأعمال التجاريّة. أرسل هدايا إلى بطليموس الثاني فيلدلفيس (283- 236 ق م) وإلى وزير ماليّته أبولّونيوس. أتام في أرض طوبيّا كشيخ مستقلّ وكان مواليًا لملك مصر. كان قائد مجموعة من العسكر من جنسيّات مختلفة.
كانت سياسة البطالسة الحكيمة تبحث في آسية الجنوبية عن أمراء أقوياء تتحالف معهم وكان طوبيّا واحدًا منهم يساعد مصر على تدبير الأراضي المحتلّة. كان طوبيّا قد بنى في البداية قلعة ليقاوم هجمات بدو الصحراء ثمّ صار رئيس قبيلة محلّيّة لها أهمّيّتها. وقام بوظيفة والٍ فخدم ملك مصر بجنوده وعلاقاته وتأثيره. تشبَّه بأسلافه فارتبط بكهنة أورشليم، وتزوّج أخت أونيا الثاني الكاهن الأعظم.

يوسف
هو ابن طوبيّا ووجه مشع في عائلة طوبيّا على أيّام بطليموس الثالث أورجاتيس (246- 221). امتدّ نشاطه خاصة من سنة 240 إلى سنة 218 ق م.
كان أبنَ أخت عظيم الكهنة أونيا الثاني. ولد في يهودا، في ضيعة العائلة وارتفع إلى مقام زعيم الشعب اليهوديّ. كان تأثيره كبيرًا في أورشليم بسبب ارتباطه بعائلة عظيم الكهنة وبسبب نبل مَحْتِدِهِ وعظمة ثروته. كان ماهرًا في الأعمال التجاريّة وفي السياسة، وقد احتل المنصب الثاني بعد عظيم الكهنة. قاده نشاطه الدوليّ مرّاتٍ عديدةً إلى مصر فارتبط أكثر من أبيه بالإدارة اللاجيّة وكان أساس أمواله نجاحه في التجارة في الإسكندريّة. كان جامع الضرائب الرئيسيّ لسورية الجنوبيّة على أيّام بطليموس الثالث.
يوم اندلعت الحرب الثالثة بين سورية ومصر، رفض أونيا الثاني بعد أن تخرّب للسلوقيّين، أن يدفع الضرائب لخزينة مصر الملكيّة. فهدّد الملكُ بطليموسُ أن يجعل أرض يهودا مستعمرة عسكريّة. حينئذ عيّن مجلس الشعب يوسف، وهو المزاحم السياسيّ لعظيم الكهنة، كرئيس له يهدّئ غضب الملك اللاجيّ. فصار يوسف أبهبر موظف مدنيّ في أورشليم. ونجح نجاحًا تامًّا في مصر فتوسّعت سلطته بحيث كان يجمع الضرائب من سورية المنخفضة وفينيقية ويهودا والسامرة. واستفاد من وحدة عسكريّة فساعدته في تنفيذ عمله بل في أعمال الابتزاز وقتل وجهاء المدن المتمرّدة. توفّي يوسف حوالي السنة 200 يوم كانت فلسطين موضوع منازعة بين البطالسة والسلوقيّين.

هركانس
هو أصغر أبناء يوسف، وقد تفوّق بمهارته على أبيه. يقول 2 مك 3: 11 عنه إنّه كان من عظماء الأشراف. ساند البطالسة مثل أبيه وجَدِّه. ولكنّ إخوتَه وعظيمَ الكهنة سمعانَ الثاني كانوا على رأس الحزب الموالي للسلوقيّين. فشلَ هركانسُ فترك أورشليم وأقام في شرقيّ الأردنّ وظلّ هناك حتّى موته. تصرّف كملك مستقلّ وحارب العربَ جيرانَه. أعاد بناء القلعة العائليّة وحصّنها وحفر لها دهاليز. ظلّ يتدخّل في قضايا أورشليم السياسيّة وحاول أن يعيد سلطة البطالسة ويبدو أنّه استمال إلى أفكاره عظيم الكهنة أونيا الثالث (ابن سمعان). ولكن لمّا اعتلى أنطيوخس الرابع عرش سورية (175 ق م) وتدخل في فلسطين انتحر هركانس

2- يهودا على أيّام السلوقيّين
إنّ الصراع بين السلوقيّ أنطيوخس الثالث واللاجي بطليموس الخامس حوالي السنة 200 ق م هدم البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة في دولة يهودا الكهنوتيّة. ولما انتصر ملك سورية في فانيون (سنة 200 ق م) حلّ الحكم السوريّ محلّ الحكم المصريّ في فلسطين. فالتجأت العناصر الموالية لمصر إلى بطليموس، وبيع آخرون كالعبيد والتحقت أكثرية يهود أورشليم بالسلوقيّين: كانوا قد تعبوا من تسلّط البطالسة ففتحوا أبواب العاصمة أمام أنطيوخس الثالث وساعدوه على طرد الحامية المصريّة. فكافأ الملك السلوقيّ اليهود مانحًا إيّاهم جملة من الامتيازات في مجال الضرائب والحرّيّة الدينيّة وإعادة بناء الهيكل وصيانته. ومقابل هذا، طلب منهم التعاون معه والخضوع له. كلُّ هذه الترتيبات نقرأها في وثيقتين احتفظ بهما يوسيفوس. الأولى هي رسالة من أنطيوخس الثالث موجّهةٌ إلى حاكم البقاع وفينيقية. والثانية قرار يتعلّق بصورة خاصّة بهيكل أورشليم.
وأهمّ ترتيب هو أن يُترك اليهودُ يعيشون حسب شرائع الآباء. هذا الحقّ نجده في رسالة أنطيوخس الثالث إلى زوكسيس بالنسبة إلى المستوطنين اليهود في آسية الصغرى. وعبارة شرائع الآباء هي أوسع من شريعة موسى لأنّها تتضمّن، إضافة إلى الديانة بمجملها، النظم السياسيّة والاجتماعيّة مع سلطة رئيس الكهنة ودور الكهنة في الهيكل ومحيطه، والعمل في المجامع والمحاكم.
ولم تمضِ ثلاثون سنة حتّى ألغى كلَّ هذه الحقوق أنطيوخسُ الرابع إبيفانيوس (175- 164) الخلف الثاني لأنطيوخس الثالث. فمن المعلوم أنّه زحف سنة 167 على أورشليم فاحتلَّ المدينة وهدم أسوارها وقتل وباع عبيدًا الالاف من أهلها. وبنى على هذا الدمار قلعة كبيرة (أكرا) جعل فيها حامية يونانيّة ويهودًا يميلون إلى الحضارة الهلّينيّة. فكانت بمثابة مستوطنة عسكريّة في عاصمة اليهود. وهكذا تحولّت أورشليم إلى مدينة غريبة وسمّيت "أنطاكية". وُفرضت الحضارةُ الهلّينيّة على كلِّ أرض يهودا، ومُنع الختان وممارسة السبت، وأمرت كلّ مدينة أن تقدم ذبائح وثنيّة. وارتفع في ربيع 167 ق م هيكل لزوش الأولمبيّ وسط الهيكل. نحن هنا أمام اضطهاد دينيّ يعاقبُ بالموت كلَّ ممارسة لشعائر العبادة اليهوديّة. ولكن ما الذي حصل لتلغى ترتيبات أنطيوخس الثالث؟
هنا نعود إلى الأحداث التي حصلت في أورشليم بين سنة 180 وسنة 167 ق م. في تلك الفترة أخذت الحضارة الهلّينيّة تدخل في قلب المجتمع اليهوديّ، وكانت صراعات قادت إلى حرب أهليّة ثمّ إلى ثورة المكابيّين مع نتائجها. هذا ما يرويه 2 مك 3- 4.
إرتبطت فترة الهلّينيّة في أورشليم بنشاط الطوبيّائيين الحاضرين دومًا وسط هذه الأحداث. فإذ كان هركانس في شرقيّ الأردنّ، مات اثنان من إخوته في حرب أخويّة وأقام خمسة آخرون في أورشليم بعد أن مالوا إلى السلوقيّين. تُبيِّن النصوص أنّ تأثير الطوبيّائيين كان كبيرًا وهم الذين سيطروا على حركة الأعمال التجاريّة في العاصمة، وكانوا رؤساء الحزب الهلّينيّ فيها. ارتبطت سلطتهم بغناهم، فمارسوها على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ، كما على المستوى السياسيّ. فكان من الضروريّ أن يضعوا أيديهم على إدارة الهيكل. ولهذا ارتبطوا بعظماء الكهنة.
كان للهيكل أهمّيّةٌ اقتصاديّةٌ وسياسيّةٌ كبيرة. فهو مركز دينيّ ومؤسّسة ماليّة في الوقت نفسه. ففي هيكل أورشليم تكدَّست كنوز من الفضّة والذهب. وكان يتغذّى من نصف الشاقل الذي يدفعه اليهوديّ كلّ سنة.
لعب صندوق الهيكل دور بنك خاصّ وخزانة عامّة، وهذا كان نتيجة النظام التيوقراطيّ في يهودا. كان الكهنة مسؤولين عن شعائر العبادة، وكانوا يمسكون بزمام السلطة المدنيّة. ولكنّ الخطرَ يكمنُ في الخلط بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة، وبالأخصّ حين يكون أكثر المودعين من الطبقة الأرستقراطيّة الأورشلميّة التي إليها ينتمي الكهنة الحاكمون.

3- خصومات الأرستوقراطيّين وصراع لمنصب رئيس الكهنة
هناك أمور بارزة في تاريخ العالم السياسيّ في عاصمة اليهود بين سنة 180 وسنة 164 ق م. هناك أوّلاً القطيعة بين هركانس الطوبيّائي وبين والده وإخوته. هم كانوا مع سورية السلوقيّة، أمّا هو فكان مع مصر البطالسة. وتدخَّل صراع مماثل في سلالة الكهنة الشرعيّة أي في عشيرة أونيا الكهنوتيّة. تعاون سمعان الثانيّ مع السلوقيين، أمّا ابنه أونيا الثالث فمال إلى اللاجيّين. لم تعنِ هذه التناقضات إلاّ الطبقة الحاكمة، أي الطبقة العليا في المجتمع اليهودي. وهكذا اتّسع الشقّ بين عائلات المدينة المتصارعة وسائر الشعب اليهوديّ الذي ظلّ غريبًا عن التركيبات والمساومات.
كانت الصراعات على كلّ المستويات، ولا سيّما المستوى السياسيّ والاجتماعيّ. نذكر أوّلاً وظيفة عظيم الكهنة حيث نجد الطوبيّائيين أيضاً. لم يستطع هليودورس أن يضع يده على أموال الهيكل، فاتّهم البَلاطُ السلوقيّ عظيمَ الكهنة آنذاك، أونيا الثالث المتحزّبَ لمصر والمرتبط بعلاقة مع عائلة طوبيّا، بأنّه سببُ هذا الفشل. فلما اعتلى أنطيوخس الرابع العرش، دعا أونيا إلى أنطاكية وعزله. وعيَّن مكانه شقيقه ياسون (كان اسمه يشوع فأعطاه صيغة هلّينيّة). دفع مبلغًا من المال ليحصل على وظيفته، ووعد بأن يزيد متوجّبات اليهود للخزينة السوريّة (2 مك 4: 8). وهكذا حلّ مبدأ البيع والشراء محلّ الوراثة في وظيفة رئاسة الكهنوت. ولم يعد عظيم الكهنة إلاّ موظفًا كسائر الموظّفين يرتبط بإرادة ملك غريب.
وإذا إنطلقنا من 2 مك 4، نفهم أنّ أنطيوخس الرابع خوّل ياسون أن يحوّلَ أورشليم إلى مدينة يونانيّة أصلية ويسمّيَها أنطاكية أورشليم مع وضع ونُظُم كلّ مدينة في أرض هلّينيّة. وهكذا وضع ياسون أسس إصلاح هلّينيّ عميق سيصيب كلّ أرض يهودا. ولكنّ هذا الوضع السياسيّ والحضاريّ الجديد لم يَعنِ إلاّ الطبقة الأرستوقراطيّة الهلّينيّة لا الشعب الذي ظلّ غريبًا عن هذا التيّار وحافظ على نقاوة شرائع الآباء.
وهكذا كان إصلاح ياسون عملاً سياسيًّا لا دينيًّا. تحولّت أورشليم إلى أنطاكية، وتحوّلت بنيتها السياسيّة فلم تعد أمة أو شعبًا، بل مدينة.
وبعد ثلاث سنوات (172- 171 ق م) حصل تبدّل آخر أثار الصراع بين الجماعات الحاكمة في أورشليم، وكان ضحيّة هذا الصراع ياسون نفسه. كما فعل بأخيه جاء من يفعل به. جاء منلاوس (وهو ليس من سليلة كهنوتيّة) وحلّ محلّه بمساندة الطوبيّائيين الموالين للسلوقيّين. إرتبط بالهيكل (وبالتالي بالخزينة) الذي كان حاكمه أخوه معان، فامتلك وسائل النجاح. ولكن ياسون قاومه. حينئذ اندلع صراع بين حزب منلاوس والطوبيّائيين والهلّينيّين المتطرّفين، وبين ياسون مع أكثريّة سكّان المدينة. في البداية انتصر ياسون. ولكنّ السوريّين عزلوا ياسون بعد أن وعدهم منلاوس بزيادة الجزية التي يدفعها اليهود. وهكذا عيّن أنطيوخسُ الرابع منلاوسَ عظيمَ كهنة (2 مك 4: 23- 34).
وتبدّلت العلاقات بين شعب يهوذا وسلطة السلوقيّين. لم يعد رئيس الكهنة صوت الشعب اليهوديّ لدى ملك سورية، فانقلبت الموازين. وبما أنّ منلاوس قاد حركة الهلّينيّة إلى أقصى حدودها، كان انشقاق بين حزب الهلّينيّين وبين الطبقة الكهنوتيّة، بل الأمة اليهوديّة نفسها. بدأ منلاوس ممارسة وظيفته فسرق آنية الذهب من الهيكل (2 مك 4: 32)، وقدّمها إلى أندرونيكوس ممثّل ملك سورية ليربح وُدَّهُ بعد أن تأخّر في دفع المتوجّب عليه. عرف أونيا الثالث، وهو في أنطاكية، بسرقة الهيكل فوبّخ منلاوس على عمله توبيخًا أثّر على اليهود في يهودا (2 مك 4: 33)، واحتمى في دفنة قرب أنطاكية. فلجأ منلاوس إلى أندرونيكوس فقتله (2 مك 4: 34).

4- حرب اجتماعيّة وحرب أهليّة
وتحوّل محور الصراع. تحوّل النزاع على السلطة بين عائلة أونيا وعائلة طوبيّا الهلّينيّتين إلى مجابهة بين الشعب اليهوديّ من جهة وسلطات أورشليم العليا من جهة ثانية. ذهب منلاوس إلى سورية وترك أخاه ليسيماكس ليمثّله في أورشليم، وأمره بأن يأخذ من خزينة الهيكل ما يحتاج إليه من مال. فواجه أهلُ أورشليم، حزبُ الشعب والتقليد، رجالَ ليسيماكس فهزموهم وقتلوا ليسيماكس نفسه (2 مك 4: 24). واتّهموا منلاوس لدى ملك سورية بواسطة ثلاثة رجال أرسلهم مجلس شيوخ أورشليم. ولكنّ الرشوةَ لعبت دورها، فلم يُقتل منلاوس بل الرجالُ الثلاثة الموفدون. وهكذا ثبت سلطانه في أورشليم. وفي سنة 170 ق م سرت شائعة بأنّ الملك أنطيوخس الرابع توفّي خلال حملته على مصر، فحاول ياسون وأتباعه أن يستعيدوا سيطرتهم على العاصمة. فواجه اليهود ياسون كما واجهوا منلاوس الذي ظلّ في وظيفته بعد أن أرسل كميّة من المال إلى أنطيوخس. أمّا ياسون فلم يترك أورشليم قبل أن يَقتل عددًا من سكانها. سجنه ملك العرب الحارث فجعل يفرّ من مدينة إلى مدينة والجميع ينبذونه (2 مك 5: 8- 10). وأرسل الملك السلوقي حملة قمعيّة فسلبت الهيكل سنة 169. وظلّ منلاوس في وظيفته بمعاونة الطوبيّائيين، ولكنّه اختفى يوم طهِّر الهيكل (165- 164 ق م)، ثمّ عاد إلى الظهور في أيّام أنطيوخس الخامس أوباتور (163- 162 ق م). حاول أن يربح وُدّه فكانت النتيجة أنّه أمر بقتله فمات شرَّ ميتة سنة 163- 162 (2 مك 13: 3- 8).
وقام أنطيوخس بحملة ثانية على أورشليم بعد عودته من حملته الثانية على مصر. اشتكى منلاوس وحزب الأنطاكيّين في أورشليم من تهديد حزب اليهود الأتقياء والوطنيّين، وخاف الملك من قلاقلَ داخليّةٍ تهدّد التوازن السياسيّ في المملكة السلوقيّة، فأرسل حملة يقودها أبولونيوس قائد مرتزقة ميسية (1 مك 1: 29) فأعمل القتل في البلاد (2 مك 5: 23- 27). وتبع هذا القمعَ قرارُ أنطيوخسَ الرابعِ بالاضطهاد، وفُرضت العبادة الوثنيّة وحدها في أورشليم وفي كلّ مدن يهودا وقراها.
لم تتأخّر ثورة متتيا أبي الأخوة المكابيّين. أخذت شكل مقاومة للقوّة السلوقيّة الحاكمة، ولكنّها كانت أيضاً نتيجة وامتدادًا لصراع اجتماعيّ وحرب أهليّة عاثا فسادًا لدى اليهود في يهودا. قام أنطيوخس الرابع بعمل جذريّ فجابهته مقاومة جذريّة أبقته مدة طويلة على هامش المجتمع بسبب السياسة القمعيّة.

ب- الحضور الحشمونيّ
كان الفاعلون في الثورة المكابيّة أعضاء عائلة من يهودا ترجع إلى حشمون، وهو السلف الذي سيعطي اسمه لسلالة الحشمونيّين. كان رئيس هذه العائلة يهوديًّا من أورشليم لجأ إلى مودين واسمه متتيا. أمر الملكُ أنطيوخسُ الرابع بأن تُقام الذبائحُ الوثنيّة في كلّ مكان. ثار متتيا وقتل الضابط الملكيّ الموكول إليه بتنفيذ الأمر، كما قتل مساعديه وقلب المذبح، ثمّ لجأ إلى الجبال مع أبنائه الخمسة. وانضمّ إليه عدد من مواطنيه (من جماعة الحسيديم أو الأتقياء). وبعد أشهر من الحرب الشرسة مات متتيا وأوصى بنيه بمتابعة الجهاد. مات اثنان من أبنائه ولكنّ الثلاثةَ الباقين سيكونون قوَّاد حركة مسلّحة: يهوذا (165- 160 ق م) الذي لقّب بالمكابيّ فانتقل لقبه إلى الخلف، يوناتان (160- 142 ق م)، سمعان (142- 135 ق م).
تمرَّد المكابيّون على السلوقيّين وحاربوهم سحابة عشرين سنة، فتوصّلوا إلى تحرير يهودا وأورشليم وطهروا الهيكل. وكانت نهاية النصر يوم احتلَّ سمعان القلعة (أو أكرا) آخر معقل للسلطة السلوقيّة ولعملائها الهلّينيّين في عاصمة اليهود.
دام حكم الحشمونيّين (أو أبناء متتيا والمكابيّين) ثمانين سنة (حتّى سنة 63 ق م) فتوصّلوا بالأخصّ مع يوحنّا هركانس (135- 104) وإسكندر يناي (103- 76)، إلى أن يزيلوا كلّ ضغط خارجيّ، وأن يعيدوا إلى البلاد عبادة الله الواحد. ثمّ وسّعوا أرضهم فصارت توازي مملكة داود وسليمان. من أجل هذا امتدّت حرب الاستقلال في حرب احتلال كان هدفها المعلن دينيًّا محضاً.

1- تحريم المدن اليونانيّة
تمكّن الحشمونيّون من النجاح بسبب ضعف المملكة السلوقيّة ونزاعاتها الخفيّة. فبعد سنة 129 ق م يوم انتصر الفراتيّون على أنطيوخس السابع وقتلوه، وتصرّف يوحنّا هركانس وخلفاؤه بحرّيّة حتّى سنة 63 ق م، يوم ضمّ بومبيوس سورية ويهودا إلى الإمبراطوريّة الرومانيّة. في هذه الفترة نمت إرادة التوسعّ والإمبرياليّة السياسيّة لدى ملوك اليهود. فانتهت معظم حروبهم إما بارتداد المغلوبين قسرًا وإمّا بإفنائهم متتبّعين بذلك شريعة التحريم التي مارسها يشوع بن نون. دمَّر يوحنّا هركانس هيكلَ جبل جرزيم، وخرّب مدينة السامرة المُهَلْيَنَةَ، واستعبد كلّ أهلها. وأجبر الأدوميّين والإيطوربّين على الاختتان. واحتلّ إسكندرُ يناي بيره وجعل أهلها يهودًا بطريقة قسريّة. ولمّا امتنعت بلاّ عن الأخذ بالممارسات اليهوديّة دمِّرت. كان الهدف إزالة الحضارة اليونانيّة وما حقّقته. لهذا دُمّرت مدنٌ ساحليّة مزدهرة وحواضرُ هلّينيّة شيِّدت شرقيَّ الأردنّ.
ويروي يوسيفوس كيف أخذ هركانس السامرة وكيف اجتاح ينايُ غزّة. وهذا يدلّ على شريعة التحريم أو التخلّي عن أسلاب الحرب (أموال، أشخاص، حيوانات) وتدميرها كلّيًّا كأنّها ذبيحة تقدَّم لله (تث 7: 1- 2). ولكنِ اتّخذ هذا الطقسُ الحربيّ القديم (تتحدّث عنه الأسفار التاريخيّة، يش 7: 1؛ 8: 26- 29؛ 1 صم 15: 16- 23) طابعًا متناقضاً في القرن الثاني ق م. من جهة كان يدمَّر كلُّ أثر (ولو كان بشريًّا) للهلّينيّة السياسيّة والثقافيّة في مدن فلسطين. ومن جهة ثانية كان يعني هذا العمل تدمير البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة لمملكة في بداية عهدها. ثمّ هناك تناقض بين ارتدادات يقوم بها يهود الشتات، وارتدادات الحشمونيّين بالقسر والعنف.

2- ضعف الدولة المحتلّة
أثارت هذه الاحتلالات والأساليب الحربيّة النقمة لدى الشعوب المجاورة ليهودا. فاعتبروا أنّ المملكة الحشمونيّة هي دولة السلب والنهب. فاليهود هاجموا السكّان الشرعيّين في مدن ساحل المتوسّط وشرقيّ الأردنّ. وطردوهم، بل قتلوهم، لأنّهم رفضوا الختان وسائر الممارسات اليهوديّة. فمدينة الفلسطيّين غزّة وسائر مدن السامريّين لم يسكنها اليهود يومًا ولم يحكموها، فكيف يسمحون لنفوسهم بأن يستولوا عليها. لهذا كان جدال بين اليهود وغير اليهود نجد صداه في 1 مك 15: 28- 36. يشير هذا النصّ إلى الوضع السياسيّ ليهود فلسطين في نهاية حياة سمعان (+ 135 ق م)، آخر أبناء متتيا الأحياء. هي مسيرة بدأت بحرب من أجل السلام داخل المدن ومن أجل الاستقلال الوطنيّ، فانتهت باحتلالات لتأمين الحماية لحدود سريعة العطب.
توسّعت دولة الحشمونيّين، ولكنّها امتدّت قرابة عشر سنوات بعد موت أشهر قوّادها، إسكندر يناي (+ 76 ق م). فالسنة 63 تشكّل نهاية حكم الحشمونيّين والمملكة التي نجمت عن حرب المكابيّين. فبعد موت ألكسندرة (67 ق م)، زوجة إسكندر يناي، التي أطالت عمر مملكة زوجها بمهارتها سحابة عشر سنوات، بدأت الحرب بين الابنين الطامحين إلى الملك: أرسطوبولس الثاني وهركانس الثاني. وكان نتيجة هذا الوضع أن تدخّل بومبيوس بجيشه فاحتلّ أورشليم بعد حصار قاسٍ، ودخل إلى الهيكل ولم يَمَسَّ كنوزَه، وقلّص مِساحة أرض يهودا وفرض عليها الجزية.

3- الحشمونيّون وسياسة رومة الشرقيّة
لماذا قام بومبيوس بهذا العمل ضدّ اليهود؟ هناك أسباب عديدة: حرب بين الأخوين الحشمونيّين، اهتمام الرومانيّين بالمدن اليونانيّة، احتقار بومبيوس للمعاهدات المعقودة سابقًا بين اليهود والرومانيّين. لقد أراد بومبيوس أن يكون "إسكندرًا جديدًا" فيحتلَّ العالم ويكوِّنَه من جديد حسب رغبته. ولكن تبقى الأسباب السياسيّة هي الأهمّ. فالتعارض بين سياسة بناي الدوليّة وسياسة هركانس (وأسلافه) هو السبب. هناك تبدّل عميق في العلاقات بين سلطة الحشمونيّين في يهودا والإدارة الرومانيّة. كان يوحنّا هركانس قد ثبّت العلاقات برومة، وهي علاقات بدأت مع يهوذا المكابي سنة 161 وعرفت ثلاث معاهدات. ولكنّ أرسطوبولس (104- 103) الذي كان أوّل من أخذ لقب ملك وأخوه وخلفه إسكندر يناي (103- 76) لم يعيدا العلاقات مع رومة. وحين سيعطي يوليوس قيصر إقطاعاتٍ وامتيازاتٍ لهركانس الثاني سنة 47 ق م فهو سيستند إلى العهد المعقود بين رومة ويهودا في عهد هركانس الأوّل (135- 104 ق م). إنّه لا يعترف باحتلالات إسكندر يناي، بل باحتلالات أبيه هركانس فقط.
لماذا أهمل يناي العلاقة السياسيّة مع رومة؟ هنا لا بدّ من العودة إلى الإطار السياسيّ الشرقيّ في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الأول ق م. كان الصراع على أشدّه بين الرومانيّين والسلوقيّين فلعب اليهود بالنسبة إلى رومة قوّة تحريك القتال، ولكنّهم استفادوا أيضاً من حمايتها. ونذكر أيضاً علاقات الصداقة بين هركانس والبطالسة ومساعدات اليهود لعرش اللاجيّين، كما نذكر العلاقات الطيّبة مع برغامس. ولكن تبدّلت الأمور في القرن الأوّل. انهار الحكم السلوقيّ فلم يَعُد عدوّ رومة في الشرق. ثمّ ظهرت قوى جديدة: مملكة البنطس مع متريداتيس، مملكة أرمينيا مع تغرانا الأوّل، ومملكة الفراتيّين. فحاول يناي أن يحدّد موقع سياسته بالنسبة إلى الفراغ الذي تركه السلوقيّون في خضمّ القوى الجديدة في الشرق. فصادق متريداتيس الذي كان عدوّ رومة والمدن اليونانيّة. وتقارب ابنه أرسطوبولس من ملك البنطس. واستقبل يناي في قصره وفدًا فراتيًّا استقبالاً حارًّا. هنا نفهم حرب يناي على المدن الهلّينيّة وفرضه العنصر اليهوديّ في فلسطين بالقوّة أو بالموت. إنّه بذلك دمّر الأساس الستراتيجيّ لسياسة رومة التي كان يهمّها ازدهار المدن الهلّينيّة المزروعة في الشرق.
ونزيد سببًا أخيرًا دفع بومبيوس إلى مثل هذا التصرّف وهو تعاون يناي مع القراصنة. فهؤلاء أضرّوا بالملاحة والتجارة وشاركوا في الحرب ضدّ رومة. ولمّا أُرسل بومبيوس إلى الشرق سنة 67 ق م، فقد أُرسل لمحاربتهم. ومن المعروف أنّ هركانس الثاني اتّهم أخاه أرسطوبولس أمام بومبيوس بأنّه يمارس القرصنة. وهكذا صار نشاط أرسطوبولس موازيًا لنشاط تغرانا ومتريداتيس عدويّ رومة. وقد بدأ بومبيوس فاحتلّ يافا المرفأ الرئيسيّ للحشمونيّين لأنّها كانت ملجأً للقراصنة.

4- إسكندر يناي
إنّ الحركة التي جذبت رومة إلى الشرق لقيت معارضة عند ملك يهوديّ هو إسكندر يناي، توجّه من نقطة ثقل جغرافيّة ودبلوماسيّة وإيديولوجيّة شرقيّة. ولهذا ذهب بومبيوس إلى الشرق من أجل مهمّة سياسيّة محدّدة: أن يحافظ على الحضارة الهلّينيّة بعد انهيار المملكة السلوقيّة. وعمل يناي ما في وسعه ليعيد فلسطين إلى الشرق. من أجل هذا كانت المواجهة محتمّة. استفاد بومبيوس من ضعف الدولة الحشمونيّة بعد موت إسكندر فاحتلّ البلاد بالسلاح، واحتلّها بالسياسة معيدًا بناء ما هدمه الحشمونيّون. وهكذا هيّأ بومبيوس الدرب لهيرودس. فتجذّرت رومة في أرض اليهود وما زالت تسيطر عليها بواسطة الملوك (مثل هيرودس) أو الولاة إلى أن تواجهت مع اليهود في سنوات 66- 70 و132- 135، فجعلت أرض يهودا مقاطعة رومانيّة، وسمّتها فلسطين ملغيةً التقاليدَ الوطنيّةَ القديمة.
وما حصل لفلسطين حصل لمصر البطالسة. وكان وضع اليهود المصرّيين مماثلاً لوضع اليهود الفلسطينيّين. أمّا اليهود العائشون في ظلّ الحكم الفراتيّ فلم تتبدّل ظروف حياتهم السياسيّة والاجتماعيّة. وهذا الفرق يفسّر الدور الذي ستلعبه بابل في مجمل العالم اليهوديّ بعد سحق الثورة الثانية، ثورة ابن الكوكب.

ج- المدن اليونانيّة
من نتائج هَلْيَنَةِ أرض اليهود كان تكاثر المدن اليونانيّة التي بناها خلفاء الإسكندر والبطالسة والسلوقيّون والرومانيّون. وسننطلق من خريطة مملكة الحشمونيّين، كما كانت عند موت إسكندر يناي سنة 76 ق م، لنتعرّف إلى هذه المدن الهلّينيّة.

1- المدن اليونانيّة في قبضة الحشمونيّين
حين مات يناي كان اليهود يملكون على البحر وفي السهل الساحليّ: برج ستراتون (أو قيصريّة)، أبولّونية (أو أرسوف)، يمنية، أزوت (أو أشدود) غزّة، أنتادون، رافية، رينوكوكور (أو العريش). كانت أدومية في قبضتهم مع أدورا ومريسة. وكان لهم في شماليّ يهودا السامرة وجبل الكرمل، تابور، سيتوبوليس، غابا، فيلوتارية. وتوسّعوا في شرقيّ الأردنّ على حساب الأنباط فكانت مدنهم: حشبون، مادبا، ليبا، أورونائيم، عجلائيم، أتونا، زارا. وفي بيره: بلاَّ ووادي الكيليكيّين وأماتوس التي دمرها إسكندر يناي. وفي جلعاد: جدارا، أبيلا، ديون. وفي الجولان: هيبوس، سلوقية، جمالة.

أوّلاً: شاطئ البحر والسهل الساحليّ
يافا
بدّلت قيادتها مرارًا من سنة 323 إلى مهنة 351. كانت مدينة يونانيّة. انتقلت إلى سلطة البطالسة من سنة 301 ق م إلى أنِ احتلّ أنطيوخس الثالث المنطقة (في بداية القرن الثاني ق م). هاجمها يهوذا المكابيّ (2 مك 12: 3- 7) وأخذها يوناتان. ضمّها عان سنة 142 ق م إلى الدولة اليهوديّة وحصّنها (1 مك 14: 25- 34)، فلعبت دورًا هامًّا على أيّام الحشمونيّين.

أزوت (أشدود. يش 11: 22)
مدينة فلسطيّة قديمة تبعد 4 كلم عن الشاطئ. كانت عاصمة محلّيّة وقلعة محصّنة إلى زمان الحشمونيّين. عادَتِ اليهودَ فسلب جوارَها يهوذا المكابيُّ (1 مك 5: 68) وأحرقَها يوناتانُ (1 مك 10: 84). احتلّها يوحنّا هركانسُ وضمّها إلى مملكته، أكثرُ سكّانها من اليهود. وظلّت الحال هكذا إلى أن جاء بومبيوس سنة 63 ق م.

دلتا (أو دور)
مرفأ فينيقيّ قديم يبعد 29 كلم إلى الجنوب من حيفا. كان في العهد الفارسيّ مدينة صيدونيّة مع مستوطنين يونانيّين. وامتلكت في الزمن الهلّينيّ مصنعًا للسفن وصارت قلعة منيعة. حاصرها أنطيوخس الثالث سنة 219 ق م فلم يقدر عليها. وفي سنة 139 ق م واجه فيها تريفون جيش أنطيوخس السادس سيداتيس (1 مك 15: 10- 14). صارت دورا مُلكًا لإسكندر يناي، ثمّ جزءًا من مملكته حتّى نهاية عهد الحشمونيّين. أقامت فيها جماعة يهوديّة في نهاية القرن الأوّل ب م.

أبولّونية
تبعد 15 كم عن يافا. أسّسها خلفاء الإسكندر. إحتلّها يوحنّا هركانس ثمّ إسكندر يناي. سمّيت كذلك بسبب التقابل بين أبولّون والإله راشفا.

برج ستراتون (قيصرّية)
هي مدينة ساحليّة تقع بين تلّ أبيب وحيفا، وقد دعيت قيصريّة في أيّام هيرودس الكبير. أسّسها ملك صيدونيّ اسمه ستراتون في العهد الفارسيّ. نجد أوّل ذكر لها في برديّات زينون. جاءها رجل الأعمال المصريّ الشهير. احتلها إسكندر يناي وظلت في قبضة الحشمونيين ما زالوا في الحكم.

يمنية (أو يبنة)
تبعد 19 كلم إلى الجنوب من يافا. كان فيها جماعة يهوديّة في زمن ثورة المكابيّين. هاجم يهوذا المكابيّ مرفأها وأحرق سفنها (2 مك 12: 8- 9). قاتل في جوارها يوناتان (1 مك 10: 69- 89) وسمعان (1 مك 15: 40- 16: 10). ولكن المدينة لم تسقط في قبضة اليهود إلاّ مع إسكندر يناي. كانت أكثريّة أهلها يهوديّة.

غزّة (يش 11 :22)
مدينة فلسطيّة تذكرها التوراة مرارًا. تبعد 72 كلم إلى الجنوب من يافا، و5 كلم عن البحر. احتلّها الإسكندر بعد حصار دام شهرين (332 ق م)، فكانت أقوى حصن على الشاطئ بعد صور. واحتلّها أيضاً أنطيغونيس سنة 315 ق م. كانت برج مراقبة للبطالسة إلى أن. احتلّها أنطيوخس الثالث سنة 198 ق م. أعاد بناءها وجعلها مدينة هلّينيّة عظيمة فازدهرت التجارة فيها، وكانت مرفأً لإدخال التأثير اليونانيّ على جنوبيّ فلسطين وتصدير البضائع الآتية في قوافل الأنباط.

أنتيدون
مدينة قريبة من غزّة معنى اسمِها: المدينة الزهرة. أسّسها الهلّينيّون واحتلّها إسكندر يناي في الوقت الذي فيه احتلّ رافية.

رافية
مذكورة في ترجوم أونكالوس وترجوم يوناتان المزعوم في تث 2: 23. مدينة قديمة تذكرها المصريّة (سيتي الأوّل) والأشوريّة. تبعد 35 كلم إلى الجنوب من غزّة. لعبت دورًا حربيًّا هامًّا خلال حرب خلفاء الإسكندر. أخذها أنطيغونيس سنة 306 ق م وفشل في الاستيلاء عليها أنطيوخس الثالث سنة 217 بعد أن دافع عنها بطليموس الرابع. في رافية تمّ الزواج بين بطليموس الخامس إبيفانيوس وكليوبترة، شقيقة أنطيوخس الثالث، سنة 193 ق م. سيحتلّ رافية إسكندر يناي سنة 96 ق م.

أشقلون (قض 1: 18)
كانت المدينة الوحيدة التي لم تسقط في قبضة إسكندر يناي الحشمونيّ. هي مدينة فلسطيّة ساحليّة، تبعد 19 كم إلى الشمال من غزّة. تحدّثت عنها لوحات تلّ العمارنة والتوراة وهيرودوتس، المؤرّخ اليونانيّ. كانت مُلك البطالسة في القرن الثالث ق م فأقامت فيها جالية يهوديّة. احتلّها أنطيوخس الثالث وجعلها مركز الحضارة الهلّينيّة. رفضت أن تدخل بالسلم في مملكة الحشمونيّين، وفشل يوناتان مرّتين أمام أسوارها. لما ضعف الحكم السلوقيّ أعلنت استقلالها سنة 104 ق م فعاشت عصرها الذهبيّ.

ثانيًا: أدومية
أدورا (أدورائيم: 2 أخ 11: 9)
من أهمّ مدن أدومية. تبعد 8 كلم إلى الجنوب الغربيّ من حبرون. زارها زينون سنة 209. احتلّها يوحنّا هركانس مع مريسة وكلّ أدومية. جعل فيها القنصل الروماني مجلسًا مواليًا له، ولكنّ المدينةَ حافظت على طابعها اليهوديّ حتّى نهاية ثورة ابن الكوكب.

مريسة (مريشة: يش 15: 44)
كانت مستوطنةً صيدونيّة في أيّام الفرس والهلّينيّين، ومركزًا إداريًّا (كما تقول برديَّات زينون). أمّا مجمل سكّانها فكانوا من الأدوميّين. انطلقت منها جيوش السلوقيّين لتحارب يهوذا المكابيّ، فاجتاحها يهوذا (1 مك 5: 66، 2 مك 12: 35). واحتلّها يوحنّا هركانس مع أدومية كلّها.

ثالثًا: شماليّ يهودا
السامرة
هَلْيَنَها الإسكندرُ الكبير ووطّن فيها 6000 مكدونيّ ليقمع الثورة فيها. احتلّها أبناء يوحنّا هركانس سنة 107 ق م ودمّروها تدميرًا كاملاً.

إيتابيربون
هذا هو الاسم اليونانيّ لجبل تابور. كانت مركَزًا إداريًّا معروفًا وقلعة هلّينيّة وإحدى عواصم الجليل. احتلّها أنطيوخس الثالث سنة 218 ق م. وبعد قرن من الزمن صارت في قبضة الحشمونيّين.

سيتوبوليس (بيت شان: يش 17: 11)
مدينة من غربيّ الأردنّ تقع جنوبيّ بحر الجليل. امتلكها البطالسة في القرن الثالث ق م، ثمّ انتقلت إلى الحكم السلوقيّ حوالي سنة 200 ق م، فبدت مدينة يونانيّة حقيقيّة في أيّام أنطيوخس الرابع (175- 164 ق م). تذكر المراجع أنّها كانت مدينة وثنيّة ولكنّها لم تضمر العداء ليهود (2 مك 12: 29- 31). احتلّها أبناء يوحنّا هركانس سنة 107 ق م، وحَسَّنها إسكندر يناي، وجعلها مركزا إداريًّا هامًّا.
فيلوتارية
اسمها العربيّ خربة الكرك (يقابل بيت يارح). مدينة كنعانيّة على شاطئ بحر الجليل. كانت مَيْتَةً حتّى العهد الفارسيّ وقامت في العهد الهلّيني فكانت مركز البطالسة. احتلّها أنطيوخس الثالث سنة 200 ق م ثمّ إسكندر يناي.
رابعًا: شرقيّ الأردنّ
حشبون (عد 21: 26)
مدينة موآبية في شرقيّ الأردنّ تبعد 30 كلم إلى الشرق من أورشليم. احتلّها يوحنّا هركانس في بداية عهده وجعلها إسكندر ينال من مملكاته. أمّا هركانس الثاني فقدّمها إلى ملك الأنباط الحارث الثالث. ارتبط مصير حشبون بمصير مادبا. وهي مدينة موآبيّة مجاورة.

بلا
مدينة قديمة جدًّا تقع شرقيَّ الأردنّ وتبعد 13 كلم عن بيت شان. يبدو أنّ الإسكندر أسّسها وأعطاها اسم مدينة مكدونيّة: بلا. احتلّها أنطيوخس الثالث ثمّ دمَّرها إسكندر يناي.

ديون (اسم مدينة مكدونيّة)
مدينة قريبة من بلا قد يكون أسّسها إسكندر المقدونيّ. احتلّها إسكندر يناي.

جراسا (جرش الحديثة)
تذكرها كتابة وجدت لدى الأنباط. مدينة شرق أردنيّة قديمة جدًّا. تقع شمالي نهر يبوق وتبعد 55 كلم إلى الجنوب الشرقيّ من بحر الجليل. أسّس المدينةَ الجديدة الإسكندر بواسطة فرديكاس، باني مدينة السامرة أو سبسطة، (له تمثاله الذي يعود إلى القرن الأوّل ق م). احتلّها إسكندر يناي في نهاية عهده.

أبيلا
يذكر المؤرّخ بوليبيس هذه المدينة التي احتلّها أنطيوخس الثالث مع جدارا قريبتها سنة 218 وسنة 200 ق م. تبعد 15 كم إلى الشمال الشرقيّ من جدارا وإلى الغرب من اليرموك. احتلّها إسكندر يناي.

جدارا
مدينة ترتفع 364 م فوق سطح البحر فتساعدنا على رؤية بحر الجليل ووادي الأردنّ والجليل وجبل حرمون. كانت قلعة مهمّة، ولهذا استغرق حصارها عشرة أشهر على يد إسكندر يناي. كانت مركَزًا هلّينيًّا مهمًّا. وفيها ولد الشاعران ملياجريس وفيبوس والفيلسوف فيلوديموس.

هيبوس
مدينة يونانيّة تقع على الشاطئ الشرقيّ لبحر الجليل وتبعد 30 ميلاً إلى الشرق من طبريّا. معنى اسمها اليونانيّ الفَرَس وهي تقابل الآراميّة سوسيتا المذكورة في النصوص الرابانية كمدينة وثنيّة في فلسطين. عرفت رسميًّا: أنطاكية قرب هيبّوس، وهذ يدلّ على ارتباطها بالسلوقيّين. احتلّها إسكندر يناي.

أماتوس (تلّ عماتا)
تبعد بضعة كلم عن موضع التقاء اليبوق بالأردنّ، أقوى قلاع شرقيّ الأردنّ. احتلّها إسكندر يناي ودمّرها.

خامسًا: سياسة بومبيوس: تأهيل المدن اليونانيّة
حين وضع بومبيوس حدًّا للحكم الحشمونيّ سنة 63 ق م، أخذ يعيد تنظيم المناطق التي أخضعها تنظيمًا سياسيّا، ولكن قبل ذلك أعاد بناء ما هدمه الحشمونيّون، ولا سيّما يوحنّا هركانس وإسكندر يناي. حرّر السامرة ومدن الساحل وشرقيّ الأردنّ من قبضة اليهود، وضمّها إلى مقاطعةِ سورية. بدأ بومبيوس بالبناء، وأتمّ العمل كابينيوس، الحاكم الرومانيّ في سورية من سنة 57 إلى سنة 55 ق م. ومن نتائج عمل البناء هذا تنظيم ديكابوليس أو المدن العشر المذكورة في يوسيفوس وبلينوس والأناجيل. (مر 5: 20). كلّ هذه المدن كانت في شرقيّ الأردنّ ما عدا سيتوبوليس التي كانت متّصلةً بالسامرة ومدنِ الساحل. ممّ تألّفت المدن العشر أو ديكابوليس؟ دمشق، فيلدلفية (أو عمّان)، رافانة، سيتوبوليس، جدارا، هيبّوس، ديون، بلاّ، جراسا، كاناتا. وفي أيّام أدريانس، كانت أبيلا إحدى المدن العشر وسيتوسّع هذا الحلف فيضمّ في القرن الخامس ب م 14 أو 18 مدينة. كان له استقلال داخليّ والحقُّ في أن يصكّ العملة. وكان هدف بومبيوس من تنظيم هذا الحلف هو قطع الطريق عن الاتّصال بين العرب واليهود المعارضين لسياسة رومة.
نمت الحضارة الهلّينيّة في المدن العشر التي أنبتت رجالاً عظامًا. من جدارا: تيودورس، معلّم الإمبراطور طيباريوس، منيفيس، الشاعر الكلبيّ (سينيك)، أونوماوس الرواقيّ، ملياجريس الشاعر. ومن جراسا إسطفانس المؤرّخ، أفلاطون البليغ، نيكوماك الفيلسوف. من بلاّ: أرسطو البليغ. من دمشق: المؤرّخ نقولاوس الذي كان صديق هيرودس ومستشاره.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM